اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "رواية أشواك الجليل" الفصل الثاني عشر
 

هذيان الواقع

      

"إنها كذبة وضيعة! خدعة لئيمة تستهدف شخصي الكريم وجنابي الموقر وفخامة سيادتي ونيافة قداستي وحضرة سعادتي وجلالتي المعظم!! إنها ادعاءات باطلة سأقف في وجهها ما حييت، أو ما بقي من عمري، وسأكافحها بما تبقى لي من أعضاء، سأراقبها بعيني اليسرى حتى أكشف مكامنها وأقطع دابرها بيميني وأدوسها بحذائي".

"يا أيها القمر! أيها القمر القاحل!! لن تكون كوكباً أزرق! ولن يكون لون جدرانك أبيض ناصعاً! ولن يسكنك طير أليف! ولن يحكمك حيوان داجن!! وما قوافل الموتى هذه إلا بعض من وباء الجنون الذي يتفشى في هذا الكوكب المائل إلى الزرقة مؤقتاً".

"لن ينال مني هذا الإحباط وما يتملكني من حزن على ما سقط من ضحايا!! لن ينال ذلك من عزيمتي وعزتي وجلالتي! فلن أكلّ ولن ألين أو أهدأ حتى أصل إلى صاحب الكذبة الأولى، لأدق عنقه!".

قال صالح هذه الكلمات وهو ينظر إلى حفنة من الفتية تلتف حوله لتصفق وتصيح بعبارات تأييد وشعارات ترددها حتى يطلب منهم بإشارة بيده أو بإيماءة برأسه أن يتوقفوا ليتابع خطابه المرتجل الذي أعده خصيصاً ليفهمه الآخرون.

أخذ يزداد انسجاماً كلما علت الأصوات واستمر الهرج والمرج بين الحضور وهو يشتم ويصيح ومن حوله يصفقون ويلوّحون بأيديهم وبقمصانهم ومناديلهم حتى اقترب أحد الشبيبة منه وقال في أذنه بعض الكلمات أعلن الخطيب بعدها أن الاجتماع قد انتهى، لأنه على موعد مع جلالة فخامته المعظم بالوراثة، قائد الدولة والمسؤول عن قوت الأمة وأمن البلاد وسلامتها.

ثم استأذن وتسلمه اثنان من الشبان كانا يدفعان عجلات الكرسيّ المتحرك الذي كان يجلس عليه وانطلقا به سريعاً كأنهما ينتزعانه من تلك الحلقة المقفلة حوله إما خوفاً منه أو عليه. وابتعد الثلاثة عن المكان مخلفين وراءهم السخرية والضحك صرخات حشود تصيح بأعلى صوتها "دعوه هنا لنضحك بعد!!".

بعد ثوان وأثناء المسير اختلطت تلك الصيحات بصوت عجلات قطار. أمر صالح مرافقيه بالتوقف وتغيير مسارهم والتوجه نحو سكة الحديد. فنظر كل منهما إلى الآخر ثم انطلقا مسرعين وهما يقولان: "سمعاً وطاعة سيدي!".

توقفا هناك حتى عبرت كل عربات القطار الواحدة تلو الأخرى، ولما انتهى الأمر سأله أحدهما قائلا: "ظننتك ستحاول مرة أخرى وضع ساقك أمام القطار لتمنعه من حمل مزيد من اللاجئين إلى هنا، حتى لا يتفوقوا في العدد على أبناء البلد فينافسوهم على لقمة العيش والمسكن".

أجابه صالح بدون تفكير: "تعلم يا ابن القبيحة أنك لو كنت أقل سذاجة لأدركت أني مستعد لوضع ساقي الأخرى أمام القطار لتغيير مساره لعلّه يتجه جنوباً هذه المرة بدل الشمال، ويعيد جميع ركابه كلاً إلى دياره. ولكني عدلت عن هذه الفكرة وأفضل تأجيل الأمر حتى أعثر على صاحب الكذبة الأولى وأدق عنقه".

ما كاد ينتهي من هذه الكلمات حتى تلقى صفعة على خده الأيمن، فأدار الأيسر ليتلقى الصفعة الثانية والثالثة والرابعة... واستمر الأمر على هذا المنوال دون تخليه عن اتباع قول السيد المسيح فسلم أمره لربه حتى فرغ الشابان من ضربه.

سأله أحدهما: هل تألمت؟ أجاب بالنفي لأن الرجال لا يتألمون. ثار الضحك والسخرية مجدداً. ثم صفعه الآخر وسأله: ألا تشعر بالألم؟ أجابه صالح بالنفي مرة أخرى وهو يحبس الدمعة بين جفنيه و يحاول امتصاصها بأهدابه فقطب حاجبيه ورفع جبينه.

ازداد الضحك، وعلق أحدهما على ذلك بالقول: " قدرة احتماله لا تعرف الحدود"، وأضاف الآخر: "وذكاؤه أيضاً لا يعرف الحدود". قاطعهما صالح من جهته وهو يرفع يمينه ويقول: "أعترض! فإن لذكائي حدوداً! من لا يعرف الحدود في هذا العالم هو الغباء، فالحماقة أخذت تميز بني البشر في هذا العصر، إلى جانب تفوقهم على الحيوانات في اعتماد الوحشية وقانون الغاب".

قال كلماته الأخيرة وسط صمت ساد في الحضور، وما كاد ينتهي حتى انفجر الشابان بالضحك والسخرية مجدداً. سالت دمعة على خده من عينه اليسرى، فاستعاد يده المشرعة في الهواء خلسة كي يمسح بها الدمع مستغلاً الجلبة القائمة من حوله، وانتهى من شروعه السري حين انكفأ الشابان وجلسا بجانبه.

ما كادا يجلسان حتى طلب منهما العودة به إلى المنزل لشعوره بالإعياء والتعب. بعد المماطلة والتشاور قام الشابان فأمسك أحدهما بالكرسي وحمل الآخر صالح من إبطه الأيسر، وما كاد يثبت جلسته حتى توجه إليهما بالحديث قائلاً: "قد نصادف الآن أحد الفتية الذين خطبت فيهم منذ قليل، وقلت إني على موعد مع الزعيم. أرجو أن لا تخبرا أحداً أنكما صفعتماني. صوناً للعزة والكرامة".

أخذا يدفعانه في طريق العودة إلى بيت الصفيح وهو مسهب بالتفكير لا يسمع أصواتهما ولا يأبه بضحكاتهما التي لا تنتهي بل ركز جل اهتمامه على اندفاع الأشجار بطريقة غريبة إلى الخلف. اصطفت أشجار الكينا على جانبي الطريق على مقربة بعضها من بعض، وهو ينظر إليها برهة ثم يتكئ برأسه على راحته متجهم الوجه يتساءل:

"لماذا يصرون جميعاً على خداعي؟ يقولون أشياء غريبة لا تنسجم مع الواقع. أعرف أنها مؤامرة ضدي شخصياً وهي تستهدف حضرة جنابي الموقرة وضخامة سعادتي ومعالي سيادتي ونيافة جلالتي المعظمة،  يحاولون إيهامي بأن عجلات الكرسي هي التي تسير بي نحو المنزل مع أني واثق تماماً من أن أشجار الكينا المتراصة هي التي تزحف إلى الوراء وأنا باق مكاني بلا حراك".

"اتضح لي الآن أن جميع الناس يتحركون ويسيرون ويذهبون ويأتون من حولي، ظننت أنهم يسعون في بادئ الأمر لإرضائي وسعادتي لكني سرعان ما تنبهت إلى أن كل ما يدور حولي يستهدف خداعي وإبقائي على هذا الكرسي اللعين مستريحاً ومسترخياً لا أهتم بما يدور حولي".

قال هذا ثم صرخ بأعلى صوته، "الجميع يدور حولي، حول العرب والمسلمين. الكرة الأرضية لا تدور حول نفسها كما يدعون ولا تدور حول الشمس كما يكذبون بل تدور من حولنا. حتى الكواكب الأخرى التي يقولون إنها تدور في الفلك حول الشمس هي في الواقع تدور حول الأرض التي تدور من حولنا!!

توقف الشابان عن دفع الكرسي ونظر أحدهما إليه وهو يبتسم بامتعاض، فأبعد صالح بصره يتجنبه، ونظر إلى أحد المجاري المفتوحة في المخيم، وكأنه أحس بقسوة الإهانة التي في نظرات مرافقه، لكن ذلك لم يمنعه من الاسترسال في ما كان يقوله، فأضاف كأنه يضع خاتمة أو خلاصة لقوله:

"الفارق أن الجميع يتقن الخداع والإيحاء بأن كل شيء لا يدور من حولي واتجاهي، أما الآن فأستطيع رؤية الأشياء بوضوح وعلى نحو أفضل رغم ولادتي بعين واحدة، ما يؤكد أني مميز ومختلف عن بقية البشر. لذا أستطيع بعين واحدة فقط رؤية ما يعجز كلاكما عن رؤيته بأعين أربع".

"إليكم المثال القاطع. هل ترى أعينكم ذلك الحجر الذي يزحف ويتحرك في بقعة الوحل القريبة من المجرور؟ إنه حجر يتحرك، هل ترونه؟" نظر الشابان نحو الاتجاه الذي أشار إليه صالح فوجدا أن حجراً يتحرك فعلاً بعد أن توقفت أشجار الكينا عن التراجع إلى الخلف.

مر شخص ثالث في تلك الأثناء قادماً من الجهة المقابلة، وقد سمع ما قاله صالح، فتوجه نحو الحجر الغريب ودار من حوله دون معرفة سبب وجوده أو سواده أو الطوفان من حوله، ثم انحنى لمعرفة ما فيه.

انطلقت صيحة مدوية خرجت من حنجرة صالح كأنها خليط من الألم والاستغاثة والاحتجاج. تحرك عن كرسيه حتى سقط أرضاً وهو يكرر لا تلمس الحجر بذراعك اليسرى كي لا تُقطع وتطير إلى المجهول. اقترب الشبان الثلاثة بهلع نحو صالح لمساعدته وإعادته إلى الكرسي.

ما إن انتهى الفتية من ذلك حتى عاد الشاب الثالث مجدداً نحو الحجر المتحرك ليمسك به بحذر وهلع شديدين. انطلقت من تحت الحجر ضفدعة. بكى صالح بصمت دون أن يستمع إلى الفتى الثالث يقول: ما بتر يدك اليسرى هو قنبلة تدحرجت فحاولت إعادتها من حيث أتت ولكنها انفجرت قبل أن تتمكن من ذلك. أما هذا فليس إلا حجراً يثقل ضفدعة.

استمر صالح بالبكاء خلسة لبعض الوقت وكأنه حرم من روعة الغموض، ثم مسح دمعه وقال: "إنهم مخادعون ماكرون يقلبون الحقائق، يدفعون بشجر الكينا إلى الخلف ويجعلون الحجارة تطفو على وجه الماء وتتحرك.

يدّعون أن ساقي قد بُترت في معركة الدفاع عن الشرف والكرامة مع أني وضعتها أمام عجلات القطار أملاً بوقف تدفق اللاجئين فداس عليها وانطلق بعيداً عن تقرير المصير، فما شأني بالدفاع عن شرف وكرامة لم تعرفهما أمي، وما جدوى الشرف والكرامة إذا كان القطار يتابع سيره نحو الشمال غير آبه بالجنوب وما فيه من كرب وأحزان"؟

بدا أن صبر الفتى الثالث قد عيل أيضاً، ولم يعد يحتمل ضحك مرافقيه وسخريتهما، فطلب منهما الانصراف ليتركاه مع صالح، واعداً بتولي إيصاله إلى المنزل. لم يتردد الشابان في مغادرة المكان بعد أن تأكدا من أن العرض قد انتهى وأن صالح أخذ طريق منزله برفقة أحد القلة القليلة ممن لا يعتبرونه أخرق.

ابتعد الشابان وهما يتابعان بنهم واستهانة صرخات صالح وحركاته شبه المسرحية التي استمرت حتى وجد نفسه عند المنعطف المؤدي إلى مكان إقامته فانتفض في كرسيه وكأنه شاهد شبحاً ثم التفت إلى مرافقه يصرخ بوجهه: "ألم أطلب منك دفعي نحو القصر الجديد في تل الوديان؟ اتفقنا ليلة أمس على أن نتحاور في أمور الناس...".

قاطعه الفتى قائلاً: "أنت لم تتفق أمس مع أحد ولم تعرف أميراً منذ الولادة، أما القصر الجديد الذي يشيد عند تل الوديان فليس إلا كنيساً قديماً مبنياً هناك قبل أن تولد". قال هذه الكلمات وهو يطرق على باب خشبي موصد وسط أحد الأزقة المتشعبة. كان صالح ما يزال يهذي حين فتحت له الباب سيدة جليلة ما كادت تراهما حتى حمدت الله على أنه عاد اليوم دون تعرضه لأذى.

وأردفت تشرح لرفيق ابنها كيف أن أحد الصبية أتى إليهما أمس يقول إن صالح قد علق من ساقه على جذع شجرة عند الطريق المؤدي إلى الطريق الموحل، وقد ترك معلقاً هناك حتى وصلت إليه مع مجموعة من الأفاضل أمثالك وحللنا وثاقه ووضعناه على الكرسي الذي كان هذه المرة ولحسن الحظ قريباً من المكان ولم يختف كبقية المرات.

أُدخل صالح إلى الغرفة الوحيدة من بيت الصفيح، ووضع على فراش ممدداً أرضاً وغطته السيدة الجليلة ثم غادر الشاب بعد أن سمع آخر الكلمات التي كان صالح يهذي بها على الدوام... "لن تكون كوكباً أزرق ولن يسكنك طير داجن ولن يحكمك حيوان أليف".

استسلم صالح للنوم وما كاد يغمض عينيه حتى عادت مخيلته لتصحو من جديد وتجود عليه هذه المرة بوجوه وعناق وجموع تسعى لقتله ودموع قلة قليلة تنهمر ممن لا يهوون سفك الدماء ولا يؤمنون بذبح الإنسان لأخيه الإنسان. فاقترب منه أحدهم وقال: "يا صالح.. لقد تضرعت لله تعالى ودعوته أن يخفف عنك عذاب الموت". كان شاحب الوجه ضئيلاً، أشعث الشعر له عين واحدة فقط ما جعله أقرب إلى ملامح صالح نفسه حتى شعر أنه ينظر إلى نفسه.

 أراد صالح أن يعيد على مسامعه مجدداً أنه لا يدري إن كان الله يقبل دعاء غير الطاهرين أمثاله، وإلا لما كانت حاله على ما هي عليه، لكنه تردد وجحظت عيناه بالرجل فناداه بقوة وهو يسأله، هل يمكن لألمي أن يحزنك؟

       توقف كل شيء عن الحركة وعمّ السكون. اغرورقت عين الشاب بالدمع وسمع صالح زخات انهمارها كهطول مطر غزير، ومع ذلك سمع صوت الشاب بوضوح وهو يقول بحزن عميق... "أريد الأرض كوكباً أزرق جدران منازله بيضاء ناصعة، تسكنه طيور أليفة يأمرها حيوان وديع".

 

=-=-=-=-=-=-=-نهاية الفصل الثاني عشر.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

الميت الحي

 

[محتويات]  [إهداء]  [شكر]  [مقدمة] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث]  [الفصل الرابع]  [الفصل الخامس] 
[الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع]  [الفصل العاشر] 
[الفصل الحادي عشر]  [الفصل الثاني عشر]  [الفصل الثالث عشر]  [الفصل الرابع عشر] 
[ملاحظات وعتاب] [كلمة حفل التوقيع]  [كلمة وزير الثقافة] 
[نص الوكالة اللبنانية للأخبار]  [نص جريدة المستقبل]  [كلمة رفعت شناعة]  [نص جريدة الديار] 
[نص جريدة البيرق]  [نص جريدة اللواء]  [نص جريدة البلد]  [نص جريدة الشرق] 
[كلمة سلوى سبيتي]
  [كلمة د.نبيل خليل]  [صحيفة صدى البلد] 
[حفل توقيع الكتاب في بيروت]  [حفل توقيع الكتاب في صيدا] 

 

 
 
 
 




Hit counter
ابتداء من 20 آب 2005

 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster