"أرجوك سيدتي، أتوسل إليك أن تسرعي، ابنتي تتألم كثيراً، بل أوشكت أن تموت، يجب أن
تأتي فوراً". كان يتوجه برجائه إلى القابلة وهو يحاول إقناعها بمرافقته بعد أن شعر
بترددها وتلكئها المتعمدين حين سألته عن اسم عائلته ومكان الحالة الطارئة لديه، فهي
عادة ما تعرف حالاتها قبل أسابيع من الولادة على الأقل كما تعرف عائلاتهن بدون
استثناء، فالمدينة صغيرة والكل فيها يعرف بعضه بعضاً.
أردف يعزز حديثه قائلاً "نحن من عائلة إبراهيم جئنا إلى هنا منذ أقل من عام وكنا في
المدينة حين شعرت ابنتي بالتعب الشديد فآثرت البقاء حتى طلوع النهار لكنها منذ ساعة
وهي تتألم، فتركتها في منزل في حارة اليهود وأتيت أسأل عنك حتى وصلت". ثم ختم
مصراً: "أرجوك ألا تتأخري فالفتاة في حالة خطرة".
عملت قابلة منذ بلغت الثامنة عشرة من عمرها، وهي تصطحب عمتها لزيارة الحوامل منذ
كانت في السابعة، تجول معها كل شوارع حيفا وأزقتها لزيارة نساء حوامل على وشك
الولادة، فتعلمت منها أبسط الأمور وأكثرها تعقيداً، حتى أخذت توكل إليها الحقن وبعض
المعاينات البسيطة قبل أن تبلغ الرابعة عشرة من عمرها.
لم
تعلمها المهنة فحسب بل وتؤكد على الجانب الإنساني منها، فتطلب منها باستمرار ألا
تتردد في تقديم أية مساعدة لأي كان، لما لها في ذلك من ثواب مضاعف، الأول بما تقدمه
من عمل خير إلى من لا يجدن سوى القابلات ملاذاً يلدن على أيديهن، وثانياً بإطعام
إخوتها اليتامى، فقد أوشكت عمتها على تسليم الروح وقد لا تستطيع العمل بعد الآن.
ماتت عمتها وهم في الطريق إلى الميناء وسط تدافع الناس يوم الهروب الكبير من حيفا
يوم رحل آلاف البشر باتجاه الشمال، سقطت على الأرض ولم تطلب المساعدة من أحد،
وكأنها فضلت الموت في حيفا على أية حياة أخرى، حتى إنها أمرت سالمة بمتابعة المسير
إلى الميناء لتنجو مع أشقائها الصغار وتتركها وحدها فهي تستطيع أن تتدبر أمرها
لتلحق بهم قبل مغادرة المركب.
كانت تلك العبارة آخر ما قالته، حين فارقت الحياة مطروحة على الأرض عند المغيب،
الجموع تتراكض من حولها نحو الميناء، وسالمة جالسة تبكيها مع إخوتها الصغار دون أن
تجرؤ على طلب المساعدة ممن يتملكهم ذعر أشد ويشعرون بأنهم أحق بطلب المعونة من كل
أموات الأرض وأحيائها على حد سواء. عند الغروب اجتمع بعض المسنين حولها، وطلبوا من
سالمة أن ترحل وتنجو بالأطفال وبنفسها بعد أن وُعدت بمواراة عمتها الثرى. فرحلت.
بقيت تتذكر وصية عمتها كلما جاء إليها شخص يطلب المساعدة، تتذكر أنها تركت لها
المهنة وثلاثة أفواه تطعمهم، فلم تتردد يوماً في تقديم المساعدة إلى من يحتاج
إليها، دون أن تسأل إن كان لديه ما يدفعه مقابل خدماتها. أبلغت الرجل أنها لا تعرف
عائلة إبراهيم هذه، ولا تعرف أياً من أقاربه في حارة اليهود، ولكنها مع ذلك ستخرج
وترى ابنته.
كان الوقت متأخراً فطلبت من أحد أشقائها تبديل ملابسه ليخرج معها كالمعتاد خصوصاً
أنها تخاف التعرض لأي مكروه في مثل تلك الليلة المظلمة، فكونها قابلة لا يبرر
خروجها مع شخص غريب أمام عيون الناس.
تركت العنوان مع أكبر أشقائها لتخرج مع أصغرهم، وتعمدت رفع صوتها وهي تقول: سأذهب
إلى حارة اليهود، قرب سوق النجارين، عند أقارب عائلة إبراهيم، هل فهمت؟ تعمّدت ذلك
حتى يفهم ذلك الرجل أنها تركت العنوان واضحاً تحسباً لجميع الاحتمالات.
عبرت ساحة باب السراي لتنعطف بين تلك الأزقة نحو اليسار وهي تحاول أن تتفادى زخّات
المطر، فتسرع أحياناً ثم تتوقف أحياناً أخرى تحت إحدى القناطر التي تفصل بين حارة
الكشك وسوق النجارين، حتى وصلت إلى المفترق الذي يربط خان الإفرنج بالطريق المؤدي
إلى حارة اليهود.
طلب الوالد منها أن تسرع قليلاً وهو يتجه نحو جامع البحر، فاستغربت وكادت تتوقف عن
السير وتعود أدراجها لولا شعورها بالأمان برفقة شقيقها، وإحساسها بمصداقية ذلك
الرجل، كما أن اختلاط المطر برذاذ البحر أنعشها وأزال ما يخالجها من مخاوف وجعلها
تعدل عن التردد.
أخذت تسرع خلفه حتى دنت منه قليلاً فسألته عن سبب تحوله عن زقاق حارة اليهود، فعلّل
ذلك بأنه لا يعرف أسماء الأحياء في صيدا القديمة جيداً، ثم رجاها أن تسرع أكثر
موضحاً أن المكان قريب من خان الرز، وأنهم أوشكوا على الوصول.
جاءت كلماته ورجاؤه بسيطين، غير كاذبين، لكنها بالرغم من ذلك كادت تعتقد أنها قد
تقع ضحية لواحدة من محاولات السلب المتعددة التي تعرضت لها برفقة عمتها من قبل،
ففكرت بأن توضح للرجل أنها لا تحمل الكثير من المال، سوى أنها على استعداد لمنحه كل
ما تملك، ولا حاجة له بإطالة الطريق عليها.
لكنها عدلت عن الفكرة حين رأته يدخل الباب المواجه لآخر مبنى الجمارك، إلى جانب خان
الرز، فدخلت خلفه برفقة شقيقها إلى تلك الدار العتيقة التي تعرف أنها نزل متواضع
للغرباء وعابري السبيل في المدينة، ولم تكن تعرف ما إن كان النُزل يستخدم بعد
للغاية نفسها أم لا.
كادت تهوي من شدة اللهاث قبل وصولها إلى نهاية السلم الثالث حيث بدأت تسمع صوت تلك
المرأة وصرخاتها المتكررة، فتنفست الصعداء لتأكدها من أنها لم تقع هدفاً لعملية سلب
رخيصة، ودبت فيها الحماسة فطلبت من شقيقها ملازمتها حتى مدخل الغرفة ليكون جاهزاً
حين الطلب وعند اللزوم.
صعدت معه السلالم تاركة خلفها الحذر والخوف الذي انتابها عندما ابتعدت عن زقاق سوق
النجارين المؤدي إلى العنوان الذي أعطاه لها عند خروجها من البيت. أسرعت إلى حيث
وجدت امرأة في ربيع العمر وقد تولاها الذعر والقلق، وهي تستلقي على سرير حديدي
متواضع، ترتدي ملابس لا تليق بامرأة حامل بل بطفلة خرجت لتوّها من المدرسة.
تساءلت إن كان المقصود بذلك إخفاء الحمل، أم هو تعبير عن فقر حالها؟ لم تفكر
بالإجابة طويلاً بل انهمكت فوراً بطلب المياه الساخنة ورفع الملابس عن المرأة
وإعدادها في وضعية الولادة.
أرادت الإسراع في توليدها لما رأته من جو غريب في المكان، فأين أم الحامل أو
شقيقتها أو حماتها؟؟ وأين جو الفرحة الذي عادة ما يرافق هذه المناسبات؟ تزاحمت
الأسئلة ولم تجرؤ على طرح أي منها بل اكتفت بالبسملة وترديد المعوذات وهي تواجه
مخاضاً أليماً أبى إلا أن يتوّج بولادة عسيرة.
بعد ما يزيد عن ساعة من التوسل والشتائم والتعرق والعويل انطلق صوت الوليد يدوّي
كأنه أراد إيقاظ المدينة من سباتها على صراخ بريء، وكأنه يدعوها لتصحو على هول
كارثة وظلم يحل بأمه وأمته. دقت أجراس الكنائس وعلا صوت المآذن ثم عاد الجميع
ليخلدوا إلى نوم عميق، وكأنهم أدركوا أن الأمر لا يتعدى صراخ وليد لا يعرف بأن
الآتي أعظم وأشد قسوة من هذا المخاض.
اشرأبت الأوردة في عنقه كأنه يصرخ في وجه الكون أن كفى! كان متجهماً من كثرة
التجاعيد وكأنه متشائم يستبق مصاباً أليماً سيحل به من المهد إلى اللحد، يشد معصميه
وكأنه يرد عنهما السلاسل التي ستكبله منذ الولادة، يجمع أصابعه ويشد عليها في يديه
وكأنه يكوّر قبضة يسدد بها ضربة قاضية، هي ضربته الأولى والأخيرة، يموت بعدها أو
ينتصر، يحيا بها أو ينهزم.
ولد الطفل مغطى بقطعة مشيمة يسمونها "البرقع"، وهي دليل على أنه طفل موهوب ومحظوظ،
ولكن ما إن رفعت القابلة البرقع عن وجهه حتى تكشف عن علامة فارقه. لقد كان المولود
أعور، يعاني من تشوّه خلقي في عينه اليسرى.
ما
إن سمع الرجل صوت الوافد الجديد حتى فكر بالدخول فوراً ليحسم الأمر ويتخلص سريعاً
منه، لكنه فضل أولاً أن يبعد العجوز ورفيقها الفضولي عن ساحة جريمته قبل أن يبادر
إلى تصفية حساباته مع ذلك الطفل. قال في نفسه "سأنتظر قليلاً فقد طال صبري كل هذه
المدة ولم يعد أمامي سوى بضع لحظات أخرى كي أتخلص من الطفل، فتعود إليّ ابنتي كما
كانت، وكأنها لم تصب بالعار والأذى".
قال ذلك وهو ينظر إلى القلعة الجاثمة أمام مدينة صيدا منذ مئات السنين، ويتذكر ما
تعلمه في التاريخ عن سكان تلك المدينة الذين أحرقوها قبل أن يجبروا على الخروج منها
وتسليمها إلى الإسكندر الكبير، فكتبوا على جدرانها، النار ولا العار.
تمنى لو يستطيع حرق الجميع وإخفاء آثار الجريمة، ولكن فلذة كبده عزيزة عليه وإن
أخطأت فهو مسؤول عن جانب من تلك الخطيئة لأنه لم يتمكن من القيام بواجبه في حماية
ابنته ورعايتها.
دُهشت القابلة لما سمعته عن قصة الفتاة التي ولدت، فأطرقت بالتفكير بعد أن أسلمت
المرأة للنوم وهي ترجوها أن تأخذ الطفل وترحل به بعيداً لأن والدها، وهو الرجل الذي
يرافقها، قد يرغب في التخلص منه صوناً لسمعة العائلة وشرفها، فهو لا يعرف إن كان
المولود ابن زوجها السابق وابن عمها أم ابن صاحب الملاذ الآمن الذي سكن في داره بعد
أن هجر الديار صوناً للشرف.
أبلغتها المرأة بتلك القصة وأسلمت للنوم. تركت القابلة أسيرة الحيرة دون أن تدري
ماذا تفعل، فهل تجنّب نفسها الخوض في مشكلة ليس لها فيها ناقة أو جمل، لتنجو من
نوايا هذا الرجل المجروح في كرامته؟ وهو الذي قد لا يمانع في صب جام غضبه عليها إن
حاولت إنقاذ رضيع أعزل ممن لم يستطع الوقوف بوجه من اغتصبوا أرضه وبلده، وعجز عن
مجابهة من اغتصب ابنته، فلم يجد إلا هذا الأعزل الضعيف الأعور ليغسل بدمه ما أصاب
شرفه الرفيع وكرامته من أذى هو بريء منه.
ما
عاد يسمع بكاء الطفل ولا همس القابلة ولا نحيب ابنته، فحسم أمره وقرع الباب ثم دخل
إلى الغرفة، وما كاد يصبح وجهاً لوجه أمام القابلة ليسألها عن صحة ابنته حتى تنفست
هذه الصعداء مطمئنة، إذ وجدت في سؤاله حرصاً منه على الفتاة ومخرجاً لها من المأزق
الذي وجدت نفسها فيه. سارعت إلى طلب بعض الأدوية الضرورية لإنقاذ الأم من نزف بطيء
قد ينتهي بالإعاقة لا الموت، ثم أخذت ورقة كتبت عليها بعض الأحرف والأسماء وأعطته
إياها.
أمسك بالورقة بعد تردد وهبط درجات السلالم وهو يفكر في أنها إن ماتت فقد توفر على
نفسها وعليه الكثير من العناء، لكنه لام نفسه على التفكير بموت ابنته وأسرع في
إحضار الدواء، فهو لا يريد لها الموت على الإطلاق. وأخذ يبرر لنفسه أن كل ما يفعله
لا يهدف إلا لتوفير المتاعب على ابنته في حياتها وهي بعد في ربيع العمر.
فكرت القابلة بأن تحمل الطفل وتسرع في الهرب، لكن إلى أين؟ فهو يعرف البيت وربما
يتبعها مطالباً بالطفل مؤكداً أن ما قالته ابنته مجرد هذيان. بل وقد يتمكن من
الوصول إلى حارة الكشك قبلها فيكمن في أحد
الأزقة هناك ويقتلها هي أيضاً حين يعلم أنها كشفت السر الذي دفعه للمجيء إلى صيدا.
عاد الرجل وهي أسيرة المخاوف والحيرة وتشتت أفكارها، سلمها الأدوية قائلاً إن
الصيدلي أعطاه إياها باعتبارها الأفضل لمخاطر الولادات الحديثة بعد أن عجز عن قراءة
وتفسير ما كتبته في الوصفة التي بيده.
أرادت الاعتذار عن سوء خطها وتبرير ذلك بالقلق الذي سيطر عليها لخطورة وضع ابنته،
إلا أنها عدلت عن الفكرة، ثم أخذت الأدوية دون اكتراث، مع أن الحزن والخوف كانا
يتملكانها. سألها عن ابنته فأجابت بأنها تتحسن، ثم استدارت بعد لحظات من الصمت
وسألته: "ألن تستفسر عن حال الطفل؟" لم يخف عدم اكتراثه وامتعاضه حتى من مجرد
السؤال، وأردف قائلاً: "المهم هي.. ولكن، كيف حاله؟".
رأت القابلة أنها في حالة يائسة، لولا أن سؤاله عن الطفل جاءها مسرعاً ومباغتاً في
آن معاً، فلم تدر كيف استطاعت أن تجيبه بالسرعة ذاتها مؤكد أنه مات. لم يصدق ما سمع
في بادئ الأمر، فسألها مجدداً: "ماذا تقولين؟"، لترد بالإجابة نفسها: "لقد مات"،
دون أن تتجرأ على النظر إليه.
ثم
تابعت حديثها بالقول: أخذ الله أمانته لحظة الولادة، ومن الأفضل ألا يبقى الطفل
ميتاً إلى جانب أمه هذه الليلة". ثم اقترحت أن تحمله معها كي تسلمه لشخص يهتم بدفنه
فجر اليوم التالي. وعززت ذلك بالقول: "خصوصاً أنك لست من هذه المدينة كما أرى، إلا
إذا أردت حمله معك إلى حيث تسكن".
انتظرته حتى يجيب فلم يفعل، فأعادت الإصرار على اقتراحها للتأكد من أن سكوته علامة
رضى فقالت: "يمكنك إن شئت، أن تأتي صباحاً إلى منزلي لأدلك على الرجل الصالح الذي
سيتولى الأمر بنفسه، وإلا فسأتأكد بنفسي من أنه فعل كل ما يلزم كما يجب ولا داعي
للقلق". أعجبته الفكرة وخشي أن تعود عنها رغم شعوره بشيء من تواطئها معه، فسارع
للاستجابة موضحاً أنه سيكون مشغولاً بصحة الأم وأنه سيجزل لها العطاء إن تولّت
الأمر بمفردها، فيكون لها الأجر الثواب.
أرادت حينها أن تحمل الطفل وتحلق به بعيداً قبل أن يخرج عن صمته ويعود إلى بكائه من
جديد فيفتضح أمرها. دفع لها الرجل بعض المال وهو يسأل إن كانت تكفي فهزت برأسها
قائلة: "عوض الله عليك" دون اكتراث بما أخذته، ثم طلبت منه أن يعجل في إخراج
المشيمة والتأكد من رميها في البحر بعيداً عن الشاطئ كي لا تنهشها الكلاب، وأضافت
إنها ستجهز الطفل لتأخذه معها حالما يعود للجلوس إلى جانب ابنته، وافقها وانطلق
مسرعاً يحمل كيس الخلاص الذي كانت قد جهزته له.
دخلت مسرعة تسعى لطمأنة المرأة بنجاة الطفل لأنه سيكون معها، حاولت إبلاغها بما
تنوي القيام به دون جدوى، حاولت السؤال عن عنوانها، أين تسكن أو كيف تستطيع الاتصال
بها كي تعيد إليها الطفل أو على الأقل كي تمنحها فرصة لتعرف مكانه، ولكن محاولتها
باءت بالفشل، لأن المرأة كانت تغط في نوم عميق، ولادتها كانت عسيرة ورحلتها كانت
طويلة، وفترة الحمل كانت مليئة بالمعاناة والآلام.
لم
يرم المشيمة في البحر كما طلبت منه، رغم علمه بأن الكلاب والقطط سوف تتزاحم عليها،
ويعلم أيضاً أن الكوارث ستحل بأي طفل تنهش القطط والكلاب "خلاصه"، ولكنه لم يكترث
للأمر، فلا أهمية لمصير المشيمة بعد موت صاحبها، وأي كارثة يمكن أن تحل بطفل قد
مات؟ وما يهمه حتى لو تمزق جسمه أشلاءً بعد موته؟ قذف المشيمة في أول برميل قمامة
وجده عند مدخل خان الرز وأقفل عائداً، كان على عجلة من أمره ليضمن ألا تترك القابلة
جثة الطفل قبل رحيلها.
ولما عاد وجد القابلة عند المدخل أسفل السلم برفقة شقيقها. تنبهت إلى استغرابه
لوجودها هناك فانتابتها حالة ذعر ويأس، وهي التي وعدته بالجلوس مع ابنته، فسارعت
إلى الإشارة بأنها لا تستطيع التأخر أكثر من ذلك، وابنته سوف تتحسن دون شك، إلا
أنها تحتاج إلى رعاية شخص يجلس إلى جانبها كي لا تتعرض لأي طارئ، وأبلغته أنها
ستكون في المنزل عند اللزوم، ثم همّت بالرحيل.
عرض عليها حمل الطفل إلى منزل الرجل الصالح الذي سيتكفل بدفنه إن كان المكان
بعيداً، قال ذلك وهو يحاول أن يبدو طبيعياً، فأكدت أن لا حاجة لها في ذلك، وأن عليه
البقاء إلى جانب ابنته، ثم أضافت أنها ستكون بخير فهي برفقة شقيقها الذي قد يبدو
صغيراً ولكن فعله أشبه بفعل الرجال، ولم تنتظر تعقيبه على أسبابها الكاملة هذه بل
انطلقت مسرعة نحو سوق النجارين تختصر الطريق إلى منزلها.
تدافعت الأفكار وتضاربت في رأسها، ماذا ستفعل بيتيم حي الأبوين؟ لماذا أخذته؟ وكيف
تفسر أمره إذا أرادت الاحتفاظ به؟ قد تتدبر أمر إطعامه، فالسماء لا تبعث كائناً إلى
الأرض دون تدبر زاده أولاً، كما يقال. ولكن كيف تجيب عما سينهال عليها من أسئلة
الجيران والمعارف حين يعلمون بأمره؟
بماذا تجيب عن تساؤلاتهم التي راحت تنهمر كالمطر في كوانين؟ فتستمع إلى أولها ولا
تنصت إلى البقية، والجميع يسألها: "من أين لك هذا؟" فلا تجيب، بل تلوذ بالصمت مرة،
وتجيب مراراً بأنه عطية السماء. أدركت أنه سيعيش يتيماً مهما بذلت من جهد في
رعايته، ولكن حاله ستكون كغيره من الصالحين، فبحثت عن اسم له في سمة مشتركة تجمع بينه وبينهم، فأسمته
صالحاً كأنها تريد حمايته بذلك ممن يدعون الصلاح...
=-=-=-=-=-=-=-نهاية
الفصل الثاني.
