|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
أصبح منهم
بكى بحزن وأسى كمن يدفع بالدمع مستحقات آلام المعذبين في الأرض وبغضب الحاقد على
معاصي جميع أبناء البشر، كان يصرخ بحشرجة وكأنه يقف أمام الظلم وجهاً لوجه، تحتقن
الشرايين في عنقه حتى توشك على الانفجار ورشق ما فيها من قيح وصديد، يداه مضمومتان
كقبضتين يلوّح بهما وكأنه ينوي توجيه ضربة واحدة فقط، يموت بعدها أو ينتصر.
أخذ يعدو يمنة ويسرة هرباً من تلك
العصا التي هوت على كتفه مرة وأخرى على رأسه وثالثة ورابعة وخامسة، ولكن دون جدوى
فهل يمكن السير بين القطرات تجنباً لزخات المطر؟ حتى إنه كاد يتوقف عن الجري ليواجه
كفاح كما فعل أول مرة، أراد أن يصارعه فيقتله أو يُقتل، ولم يمنعه من ذلك سوى
انهمار العصا على رأسه بوتيرة أسرع وأشد قوة من قبل.
كان كلما بحث عن ملاذ قريب وآمن، يفكر
بحضن أمه، لكن خوفه من وقوع الضربات على رأسها ويقينه من أن ضرب أبيه لأمه سيؤلمه
أكثر من شدة الأوجاع التي تتملكه حال دون احتمائه بها، ومع أنه لم يستسلم، لكنه وقع
أخيراً فريسة ذلك الحبل الكريه الذي ربط به كالعادة حتى حلول الليل، دون توقفه عن
النحيب والأنين.
ظن أنه يعرف السبل المناسبة للخلاص من
العقاب، إلا أنه لم يتنبه هذه المرة لحقيقة ما كان يقوله لكفاح كي يمنعه من قتل
الثعبان الجريح المستلقي على حافة الحوض، بذل كل ما بوسعه حتى يصل إليه وهو يرجوه
ألا يؤذي ثعبانه لما عانى حتى تمكن من اصطياده حياً ليقتلع أنيابه السامة ويضعه في
الحوض حتى يتعافى فيحمله ليتباهى به بين أبناء المخيم.
لم يكن من السهل التباهي أمام هذا
النوع من الأصدقاء خاصة أنهم ليسوا في الواقع على صلة قرابة به، فهم جميعاً أبناء
قرية واحدة وهو المدني الوحيد بينهم، لهجتهم تختلف، فكان بعضهم يتهكم على لهجته،
والبعض الآخر يقلدها، وقد تحول ذلك إلى ما يشبه عقدة أخرى تضاف إلى عورة عينه.
مع أنهم لم يتجنبوا التعامل معه وحده
بل كانوا يتحاشون اللعب مع أبناء القرى الفلسطينية الأخرى من صبية المخيم، ولم
يتوانوا عن الاستهانة بهم وبملابسهم ولهجاتهم، واحترام بعضهم للبعض الآخر لأنه ابن
وجيه أو مختار أو مالك بَيّارة أو مزرعة أكبر في القرى التي جاؤوا منها في فلسطين.
رمقوه بنظرات تعجب في المرة الأولى
حين أتى للعب معهم فتمعنوا بهندامه وسخروا من طريقة حديثه وتوالوا بعدها في
الابتعاد عنه كما ابتعد عنه أبناء القرى الأخرى لمجرد أنه ليس منهم. فعاد إليهم
مجدداً لوقوع المنزل الذي وجده كفاح على مقربة من أكواخهم المصنوعة من الطين أو
الصفيح، وذلك عندما يئس من إيجاد من يلعب معه.
لم يكن لعبهم مألوفاً بالنسبة له، إذ
كثيراً ما كانوا يتعاركون ويتزاحمون مع أطفال القرى الأخرى دون أن يفهم قوانين
اللعبة ولم يكن هذا السبب الوحيد في عدم مشاركته لهم في هذه الألعاب حتى بعد أسابيع
من معرفتهم وشعوره بما يختصره المخيم من تناقضات وطن برمته.
خرجوا ظهيرة ذلك اليوم يتراكض بعضهم
خلف بعض وهم يتقاذفون بضعة كلاب وقطط صغيرة انتهى بها الأمر معلقة على أغصان الشجر
دون أن تعلم كيفية الهبوط سوى بقذف نفسها نحو الأرض، وسابحة في مياه موحلة متجمعة
في حفر وجدت في الطريق إلى مجرى النهر حيث وصلوا عند الظهيرة وقد انطلق الجميع
حينها نحو المياه المنسابة يسبح فيها.
استغرب تسابقهم على شرب المياه العكرة
كما سخروا من انزوائه وأخذوا يفاخرون بشرب تلك المياه ورش بعضهم بعضاً بها، ثم
انتشروا نحو الحفر يلتقطون الضفادع ويجمعونها في قميص أحدهم، وقامت مجموعة منهم
بإشعال موقد عشوائي عملوا بعدها معاً على ذبح الضفادع وسلخ سيقانها وشيّها على
عيدان الحطب المحترقة وأكلها.
أخذ يحترق تقززاً كلما رأى ذلك المشهد
ولكنه كابر تجنباً لاستمرارهم في الاستهتار به، فبذل جهداً ليوحي بأنه يسهم في
البحث عن مزيد من الضفادع، واستطاع بعد جهد التخلص من عرض أحدهم له بأكل فخذ مشوي
من تلك الضفادع. ظن حينها أن هذا كان آخر المطاف وأنهم بالتالي على وشك العودة إلى
المخيم فخاب ظنه.
بعد انتهائهم من تناول ما اتفق على
تسميته بالغذاء الشهي انطلق بعضهم يرفع بعض الصخور الكبيرة بحذر لتنطلق صيحات
وتحذيرات متتالية. أثار ما يجري فضوله فأراد معرفة ما يبحثون عنه تحت تلك الصخور
وما يثير تلك الجلبة والصراخ، وكم كانت دهشته حين شاهد ثعابين وأفاعي صغيرة في أيدي
عدد منهم.
بدا له كأنهم يقتلعون أنيابها السامة
بمسامير أحزمتهم وقد سمع أحدهم يؤكد تمكنه أخيراً من حية لعينة اقتلع أنيابها، وآخر
يكرر الكلمات ذاتها حتى أصبح لدى كل منهم ثعبان أو اثنان، لم تكن كبيرة إلا أنها
كانت تثير القشعريرة والخوف لديه.
لكن خوفه كان أقل وطأة من نظرات
الاستهانة والامتعاض التي كانوا يوجهونها إليه حتى إن أحدهم نعته بالضعف والجبن
لخوفه من بضع ثعابين ضئيلة. حاول الدفاع عن نفسه قائلاً إنه مستعد للإمساك بأفعى
كانت تتلوى هاربة بالصدفة من هناك.
لم يتوقع أن يباغته التحدي بتلك
السرعة، فما كاد ينتهي من تأكيد قدراته وعدم خوفه حتى سمع خلفه من يقول بنبرة
متحدّية: "لو كنت من الشجعان فعلاً فهاك ثعبان تحت هذه الصخرة. لقد رأيته الآن
يختبئ هنا، سأرفع الصخرة لنرى إن كنت بطلاً أم مجرد بائع قصص وحكايات".
ساد الصمت لحظة لم يشأ بعدها إلا
الدوران حول نفسه والتوجّه بخطوات قصيرة بطيئة نحو ذلك الصبي الأشعث حتى اقترب من
تلك الصخرة فارتفعت بقوة حفنة من الصبية المحتشدين حولها، ليرى ثعباناً يزيد طوله
قليلاً عن ثلاثة أقدام، وكان لسوء حظه بليداً بطيء الحركة لم يستطع الفرار والتخلص
من الموقف الحرج.
مع أنه كان يستطيع الانطلاق والخروج
من دائرة الخطر وسط تلك الهمروجة والحركات الإيحائية التي جرت بما فيها تحريك
الحجارة ومحاولات الاقتراب للإمساك بعنق الثعبان كما كان يصرخ به الجميع أن يفعل،
إلا أن الخوف الذي تملكه حال دون ذلك.
لكنه استعان بحركة عصبية بقدمه ليدوس
على ذيله وبحركة أخرى تمكن من وضع القدم الأخرى على جسد الثعبان المتلوي الذي رفع
رأسه حينها باتجاه صالح فارتعب هذا وتراجع خطوتين إلى الوراء، ليتمكن الزاحف بعدها
من الابتعاد ببطء وكأنه مصاب، ما خفف من حدة الخوف لدى صالح الذي تمالك نفسه وانطلق
خلف الثعبان مرة أخرى تدفعه صيحات بقية الصبية.
كان صالح يضع قدمه يسار الثعبان
ويمينه وخلفه وكأنه يخطئ التهديف بغير عمد حتى اقترب الثعبان المتعب نحو جزء من
جدار مهدم عند ضفة النهر وأدخل رأسه في جحر محدود القرار تاركاً ذيله فريسة سهلة
للصياد المتهالك على وضع قدمه على ذيل الزاحف مجدداً، ليمسك بالثعبان بيده لأول مرة
في أداء لم يخل نفسه قادراً عليه.
أخرج الثعبان الذي أخاف الجميع من
حوله منذ البداية، أخرجه من جحره وسط صياح بقية الصبية المتحمسين، إلا أنه شعر بقوة
الثعبان يقاوم بين يديه فأراد إفلاته لولا أن أحدهم صرخ به كي يلوّح بالثعبان كأنه
حزام لسرواله ويضرب رأسه في الأرض فيهدأ. فعل صالح ذلك أوتوماتيكياً مرة واثنتين
وثلاثاً مقلداً ما كان يفعله بقية الصبية من قبل حتى شعر بتداعي تلك القوة التي
قاومته في أول الأمر.
أطلق يده نحو عنق الثعبان ليقبض عليه
بشدة حتى كاد يرى أحشاءه لا أنيابه المكسوة بالدماء فقط من شدة الضرب. عالجه كما
نُصح بمسمار الحزام حتى قيل إنه أصبح عديم الأذى، فاطمأن وانتعش حين سمع أن ثعبانه
من أكبر ما تم اصطياده في ذلك اليوم واعتبر ذلك إطراءً ورد اعتبار يساعده بعدها على
الاستمرار في كسب احترام معارفه الجدد.
عزز نفسه بلف الثعبان حول عنقه كمن
يضع ميدالية على صدره مفاخراً أو كما يفعلون في السيرك. وصل إلى منزل الصفيح عند
المغيب، ما جعله يستحق تأنيب أمه وخوفها من علم والده بما يحمله. حاول إقناعها بأنه
سيغسل الأفعى في الحوض المواجه للكوخ وأنه لم يعد ضاراً لأنه اقتلع أنيابه، ولكن
دون جدوى.
حاول حشو التراب في فم الثعبان لعلّه
يأكل، لأن الثعابين تتغذى بالتراب كما سمع أصدقاءه يقولون، وبعد تأكده من أنه ملأ
فم الزاحفة بالتراب والوحل وضعها في البركة كي تستحم ويجد لنفسه مكاناً قريباً من
البركة حتى الصباح.
في الصباح تلقى ذلك العقاب الفريد،
ولم يكن يتألم من ضربات كفاح بحزامه البني أو من الألم الذي كان يشعر به من ربط
الحبل بين يديه وقدميه وعنقه كأنه كبش مسلوخ ومعلق عند باب أحد بائعي اللحوم. كل
هذا لم يكن يؤلمه بقدر ما كان يحس به لضياع هيبته أمام أمه مع فقدانه ذلك الثعبان
الذي رد له اعتباره بين صبية المخيم حتى أصبح منهم.
وكأن بطولته موروثة عن أمه التي وقفت
بوجه كفاح قائلة إنها ما عادت تحتمل قسوته على صالح، وإنه لو كان ابنه لما عامله
بهذه الشدة، ثم طلبت منه عدم المساس بابنها مجدداً وإلا فستأخذ الطفل وترحل حيث لا
يعرف لها عنواناً. ولم يفاجئها رده المباشر بقوله إنه راحل قبلها، فكأنها كانت تدرك
مذ رأت تلك الفتاة في منزل البص معه أنها لن تستطيع الاحتفاظ به طويلاً.
وأخيراً تمكنت أمه من الوصول إليه وحل
رباطه بعد خروج كفاح، ولكنه لم يتوقف عن البكاء بأسى وحزن عميقين وكأنه يدفع بالدمع
مستحقات آلام المعذبين في الأرض وبغضب الحاقد على معاصي جميع أبناء البشر وهو يصرخ
بحشرجة وكأنه ضحية الظلم شخصياً، تحتقن الشرايين في عنقه حتى توشك على الانفجار
ورشق ما فيها من قيح وصديد، ويداه مضمومتان كقبضتين يلوّح بهما كأنه ينوي توجيه
ضربة واحدة فقط، يموت بعدها أو ينتصر.
=-=-=-=-=-=-=-نهاية
الفصل التاسع. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[محتويات]
[إهداء]
[شكر]
[مقدمة]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م