|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
روعة الوفاء
عبر كفاح الطريق العام المؤدي إلى الجنوب، في الجانب الآخر من المخيم متوجهاً إلى
منزل عفاف وملامحها لا تفارق عينيه، حتى إن إحدى العربات كادت تصطدم به أثناء عبوره
تقاطع الطرق عند الساحة وهو هائم على وجهه يسعى إلى المجهول.
صورتها لم تفارق مخيلته، وهي التي لم تتخطّ الخامسة والعشرين إلا قليلاً، بطولها
العادي وملامحها الفاتنة التي تلفت الأنظار، وملابسها الفضفاضة. كان دائماً يتذكر:
شعرها الناعم الذي لا يطير مع نسمات البحر، فهو قاس مربوط نحو الخلف، يكشف عن وجه
مستدير حتى الوجنتين كحبة برتقال..
رحبت به أمها عند الباب دون دعوته إلى الدخول، فإلى أين يدخل والبيت ليس إلا كتلة
من الصفائح المشابهة للبيت الذي يسكنه جميع أبناء المخيم. جلسا معاً على كرسيين من
القش أمام المنزل، وهي تسأله عن صحته وعن آخر مرة دخل فيها إلى السجن وما هي التهمة
التي ألصقت به هذه المرة، ولماذا لا يبقونه في السجن فيوفرون على أنفسهم عناء دخوله
وخروجه منه.
تحدثا طويلاً وبصوت منخفض عن ذكرياتهما معاً، وهو يحاذر المجيء على ذكر اسم زوجها
ويتحيّن الفرصة للتحدث عن عفاف. ولكنه أخيراً تسلح بالشجاعة وسأل عنها فأجابته وفاء
بالقول إنها توشك على العودة من عملها في مواسم البساتين القريبة.
عبقت من حوله رائحة زهر البرتقال فتذكر السنوات الأولى من اللجوء وكيف كان يخرج
لمواجهة العصابات الصهيونية في الجليل عبر الحدود اللبنانية قبل تشديد الحراسات
ليُلقى القبض عليه مرتين متتاليتين ويُزج في سجن بيروت ويُهدّد آخر مرة بالمحاكمة
بتهمة التعامل مع العدو.
سادت لحظة صمت بينهما قبل أن تبادره بالقول إنها ما عادت تسمع شيئاً عن زوجها ورفيق
دربه في الجنوب صقر منذ هجرها وغادر صور كلياً، تاركاً وراءه الابنة الوحيدة التي
رزقا بها في فلسطين. لاذ هو بالصمت ولم يخبرها أنه رأى صقر في صيدا.
ربما تجنب ذلك حتى لا تسأله عما كان يفعل هناك، أو ربما خشي أن تطلب منه وفاء أيضاً
مرافقتها في البحث عنه، كما سبق أن دفعته إخلاص للبحث عن صالح. فضل تغيير وجهة
الحديث حين وجد في ذلك فرصة لسؤالها عن السبب في عدم زواج عفاف حتى الآن، لتسود
لحظة صمت أخرى اختتمتها بكلمة "نصيب" مستأذنة كي تدخل البيت لتصنع الشاي.
أصيبت عفاف بالدهشة الشديدة حين رأته يجلس عند باب بيتها، ولكنها لم تتمكن من
احتواء ابتسامتها الجريئة وهي تسأله: ماذا جئت تفعل هنا؟ ولم يدر كيف ولماذا أجابها
بالقول إنه جاء يطلب يدها من أمها. فبادرته بالقول: هل جننت وماذا عن زوجتك؟ فعزز
كذبته الأولى بأخرى قائلاً: لقد طلقتها.
تأكدت عفاف أنه صيد ثمين وفرصة مناسبة لا يمكن إضاعتها، فدخلت مسرعة إلى أمها
تستفسر هل وافقت على زواجها منه؟ ارتبكت الأم ولم تدر ماذا تقول. فالرجل لم يأت في
طلب يدها، حتى إنه لم يلمح بأنه جاء يتحدث بشيء من هذا القبيل.
هذا بالإضافة إلى أنه متزوج ومع أنها لا تعرف زوجته لا يعقل أن يطلق المرء بهذه
البساطة. فعاجلتها عفاف بالسؤال: وماذا إن جاء بنية حسنة؟ حتى لو لم يطلق، ألا يحق
له الزواج من أربع، ماذا إن جاء يطلبني، فهل سترفضين؟؟
رفضت وفاء الإجابة عن سؤال ابنتها وهي تدرك حماستها للزواج، فحملت إبريق الشاي
وخرجت إلى كفاح كي تعرف منه ما يجري. كان ما يزال جالساً هناك، يفكر بما صنعت
كلماته وهل يستطيع التنصل منها؟ أم أن أمها ستأتي الآن لتطرده إن أخبرتها عفاف بما
قاله، فهي تعلم بأنه متزوج، ولأنه مقبل على الزواج للمرة الثالثة وهو العقيم.
ثم ألا يحق للعقيم أن يتزوج؟ أي عصر هذا الذي يقيسون الرجولة فيه بالإنجاب
والفحولة؟ وكأنهم بذلك يقولون إن الديوك أشد رجولة من الشجعان، وإن الحمير التي
تتمتع بأعضاء ذكرية مميزة، أشد بأساً من الرجال، وإن المجندات اللواتي قاتلن في
الجليل بشراسة أقل فحولة من ذوي الكوفة والعقال. أي عيب في أن يعجز المرء عن
الإنجاب، ما دامت الجرذان والأرانب والقطط تتوالد جماعات؟
قطع وصول وفاء عليه حبل أفكاره، خصوصاً أنها جاءت بملامح قاتمة لا تنم عن الارتياح.
وضعت إبريق الشاي على الأرض ثم بادرته بالقول: "أتساءل عن سبب زيارتك إلينا بعد
غياب طويل، كان يجدر بك المجيء بزوجتك لنتعرف عليها، أم أنك اليوم هنا في مسعى تفضل
إبعاد زوجتك عن معرفته؟ فما الذي جاء بك؟".
لم يدر كيف ولماذا أجابها بالقول إنه جاء يطلب منها يد ابنتها. فبادرته بالقول: هل
جننت، وماذا عن زوجتك؟ فأردف قائلاً: لقد طلقتها. قال هذه العبارة الأخيرة وهو
يبتسم بخبث، وكأنه يعلن الخبر للمرة الألف.
تملكه خوف لم يعرفه في أشد المعارك عنفاً، فسال العرق حتى من تحت إبطيه لكنه بقي
باسماً، فبادلته الابتسامة بمثلها وكأنها تصدق ما يقول وتعلن موافقتها على ما جاء
يسعى إليه دون أي اعتراض أو تحفظ.
سادت لحظة صمت أخرى ارتبكت فيها وفاء بعض الشيء ثم أوضحت باقتضاب أنها سمعت ذلك من
عفاف ولم تصدقه. وتابعت تقول إن الفرح البادي على ملامح ابنتها يجعلها توافق على
الفور خصوصاً أنه لا أحد يعرف مكان والدها حتى يقرر بنفسه. قالت ذلك بيأس ثم
استأذنت لتبلغ عفاف بالخبر.
لم تسنح الفرصة لوفاء بالنهوض عن الكرسي، فقد انضمت عفاف بابتسامتها الجريئة
إليهما، فبدا واضحاً أنها كانت تسترق السمع من على مسافة قريبة جداً. ضمتها الأم
إلى صدرها فارتمت الفتاة بين ذراعيها بدلال وهي تمعن النظر إلى كفاح دون أن تفارق
شفتيها ابتسامة عريضة امتدت من أذنها اليمنى إلى اليسرى حتى اغرورقت مقلتيها
بالدمع.
جلست إلى جانبه دون تردد وكأنها تعرفه منذ مئات السنين، ثم اقتربت تهمس وهي تسأله
بجرأتها المميزة عن موعد الزواج، استغرب تسرعها البالغ ولكنه فضل عدم إثارة ذلك
واعتباره دعابة سيرد بمثلها فقال بهمس كأنه لا يريد إسماع وفاء: "ليته كان أمس".
ثم شعر بأن المرأتين ما زالتا تنتظران منه الجواب، فأدرك أنها جادة بسؤالها، فأردف
قائلاً: "سأترك تحديد الموعد لكما، أما بالنسبة لي فأنا جاهز منذ هذه اللحظة وعلى
الفور". ما إن سمعت عفاف ذلك حتى انتفضت تستأذن لتبدل ملابسها، وذهبا برفقة وفاء
إلى الشيخ مباشرة.
دامت الفرحة سويعات قليلة بعد زواجهما، أراد خلالها أن يصارحها بحقيقة أنه لم يطلق
زوجته، خصوصاً بعد أن أصرت أمها على أن لا داعي لإقامة أي حفلة فظروف اللجوء لا
تسمح بذلك ومعرفة الجميع بسوء أحواله المادية وغياب والدها.
أنّبه ضميره لخداع المرأتين رغم احتضانهما له وثقتهما به، وكاد يشعر بالندم فعلاً،
لولا ازدحام ساعة اللقاء السعيدة بأطنان من التساؤلات التي جعلته يفهم سبب طيبتهما
المبالغ فيها، ويدرك أنه هو الذي وقع ضحية خدعة مدبرة له، حتى يتزوج من امرأة فقدت
عذريتها.
انسلت من تحته ولملمت نفسها تعالج هندامها وهي تذرف الدمع بإحباط شديد لتقول:
"سأتفهم أسبابك إن أردت الطلاق حالاً. مع أن هذا سيحزنني جداً ولكني سأقبل به. كان
يجدر مصارحتك بفقدان عذريتي من قبل. ولكني لو فعلت ذلك لما تزوجت. أردت الزواج بك
لأني أحببتك. كم يؤسفني أن لا أعرفك من قبل". ثم اختتمت همسها بدمع بريء وهي تقول:
"كم سأحزن لرحيلك".
دفع باب المنزل بشدة وانطلق مسرعاً نحو الطريق العام إلى جنوب المخيم حيث أمها،
التي كانت تجلس هناك كأنها بانتظاره. نظر مباشرة في عينيها كي يرى الحقيقة التي لم
تتأخر. ذرفت دموعها بحرقة وهي تخبره عن حادث اختفاء ابنتها المفاجئ أثناء الهروب من
البلدة عبر التلال التي يعسكر فيها جيش الإنقاذ لمواجهة فلول العصابات الصهيونية.
كانت في الرابعة عشرة من عمرها وهي تعدو ساعة الغروب على مسافة قصيرة من والديها
بين المواقع الصهيونية ومعسكر لجيش الإنقاذ، فسقطت في حفرة وتدحرجت عبر السفح
فأثارت غباراً كثيفاً وهي تصرخ مستنجدة بأعلى صوتها ثم صمتت فجأة.
ظن صقر أنها أصيبت، فهب لنجدتها آملاً أن تكون حية برغم ارتفاع السفح. بحث عنها بين
الشجيرات والعلّيق بمساعدة جنود جيش الإنقاذ ساعات طويلة حتى عثروا عليها أسفل
الوادي تنزف دماءً انتشرت في كل مكان وهي تئن كالشاة الجريحة.
بعد أشهر من وصولنا إلى هنا تورمت كل أعضائها، وتوارت عن الأنظار حتى تخف آثار
الإصابة عن جنباتها، ولكن اختفاءها لم يقلل من حيرتنا، بل زادها أضعافاً مضاعفة،
خصوصاً عندما بدأت تظهر عليها عوارض ورم لم يكن له علاقة بالإصابة الغريبة. رفضت
عفاف الاعتراف بغريمها، كانت لا تزال طفلة ، ربما لم تستطع معرفة ملامحه بعد سقوطها
في الوعر.
ذابت كل الأورام إلا بطنها الذي أخذ ينمو دون أن تنفع معه كل التعاويذ وأدوية الأرض
وأعشابها. أخذها صقر بعد ذلك إلى حيث أنجبت طفلة تركها في مكان نجهله وعاد بوفاء
إلى هنا ثم توارى عن الأنظار كلياً عندما عجز عن تحمل مأساة ابنته وخاف على نفسه
وعلى سمعته فتوارى عن الأنظار كلياً.
يا هارب من قضاه ما لك رب سواه!
تأكد لكفاح أن الأمر أصبح سواءً بالنسبة لها، لا يهمها إن بقيت على ذمته فلا بأس،
وإن تركها فستصبح مطلقة وهذا ما قد تسعى إليه. ستجد من يقبل بها على هذه الحال. بدت
له رائعة الجمال، لا تنقص العذرية من مفاتنها شيئاً على الإطلاق.
ما العيب في الاحتفاظ بها وهما معاً ضحية اللجوء لحماية الكرامة والشرف الرفيع من
الأذى، وهو الذي خدعها أولاً، فلمَ لا يبادلها الخداع بمثله حتى العودة وتقرير
المصير وبناء الدولة المستقلة؟ ولماذا لا يعض على جرحه، وهو الذي أوقف أكثر من نزف
أصابه؟ كان جمالها يدفعه أكثر للبقاء معها والصفح عن نفسه وعنها؟
=-=-=-=-=-=-=-نهاية
الفصل العاشر. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[محتويات]
[إهداء]
[شكر]
[مقدمة]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م