اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "رواية أشواك الجليل" الفصل السابع
 

بين ضلوع أمه

  

      اقترب بشفتيه من شعرها ليقفل بهما على جبينها الأسمر، فأبت إلا أن ترفع وجنتيها نحوه، وتلامس عيناها المغمضتان شفتيه فيفوح عطر الأنوثة من صدرها فتجعله يهبط إلى العمق السحيق في رحلة تحمله عبر أعالي القمم من براءة الطفولة إلى الفحولة.

      أخذ يضم رأسها نحوه فيندفع بشفتيه إليها. كان ينحني برأسه إلى صدرها فتضم جسده إليها حتى تذوب بين ذراعيه ليختفي بين ضلوعها ويغرقا في بحر من الندى يبللهما عرق الحياء وحرارة الشوق، يجمعهما عطف أبدي ويلفهما عشق الأحبة في مسرة العمر كله، في لحظة سعادة تغني عن الخلود، لحظة يندر العيش فيها وكأنها إكسير الحب والحياة.. لم يتملكه شعور كهذا من قبل. ولم يتذوق رحيقاً بهذا الطعم من قبل، كأنه من سكان الجنة. كأنه فريد بين البشر.

قام صالح من فراشه وكأن كابوساً يقض مضجعه، تحسس ملابسه فوجدها مبتلة فعلاً، ظن في بادئ الأمر أنه وقع مرة أخرى أسير عادة التبول في ملابسه أثناء النوم، مع أنه تخلص منها قبل سنتين وأكثر، دس يده تحت الغطاء ليقدر حجم البلل الذي أصاب الفراش وبالتالي حجم الفضيحة والتأنيب الذي سيتعرض له عندما يصحو الجميع.

بدت مفاجأته كبيرة حين لاحظ أن فراشه شبه جاف والغطاء أيضاً إلا في بعض أطرافه، لكن سرواله وبجامته كانت تعتصر بسائل ما زال يتسرب إلى أنحاء جسده، أما الغرابة في الأمر فكانت أن رائحة البول النتنة لم تنتشر كالمعتاد ولم تثر لديه حالة التقزز التي كانت تنتابه مؤخراً قبل توقفه عن التبول في فراشه، بل بالعكس كانت رائحة فريدة مثيرة، كما كان يشعر حينها بكثير من الاسترخاء والارتياح.

جلس في فراشه يستعيد ملامح تلك المرأة التي شاهدها في الحلم، ووجه التشابه الكبير بينها وبين المرأة التي جاءت أمس تدعي أنها أمه وتسعى لاصطحابه برفقة ذلك الرجل الذي قالت إنه زوجها، وتساءل في نفسه: "كيف يصطدم بوالده منذ اللحظة التي يشاهده فيها؟ وكيف يذهب للعيش مع أب كان منذ ساعات يتهمه بالهزيمة وبيع أرضه والتخلي عن تراب أجداده؟

وكيف يكون له والد على هذا القدر من القسوة؟ لدرجة أنه لم يقترب منه ويضمه بحماسة كما فعلت أمه، وكيف لأمه أن تكون على هذا القدر من الأنوثة والجمال، وهو الأعور المشوّه ذو العين الواحدة؟ حتى إن زوجها، المفترض أنه والده، لم يكن أعور، من أين أتاه هذا الميراث؟ أما كان يجدر بهم أن يتركوا له إرثاً أفضل من هذا، أو أقل بؤساً على الأقل؟".

تزاحمت هذه التساؤلات في رأسه بما لا يحتمل، لا بل كان يحلم دائماً لو تبين أنه ولد بمواصفات جسدية أفضل من هذه، لو تبين فجأة أنه وسيم كأبناء عودة، طويل عريض الكتفين بجثة ضخمة كأبناء أبو عكرة، كان يحلم لو تبين فجأة أنه ولد في بلد لجوء مثل كندا، أو يحمل جنسية بلد بروعة سويسرا، أو تبين أنه مواطن بلد بعراقة مصر، أو أنه ولد في كنف عائلة ثرية، أو تبين أنه أقل فقراً.

ولكن يبدو أن أحلامه ترجمت خطأ، فتبيّن أن العائلة التي جاءت تقول إنه ابنها فلسطينية الأصل بلا شك، والفلسطينيون هنا أكثر فقراً من الفقراء، حتى إن أمه سالمة التي حصلت على الجنسية اللبنانية بعد عام من وصولها إلى صيدا، تبدو أفضل حالاً من أمه الجديدة التي عرفها أمس، والوسامة التي تمناها لنفسه كانت جمالاً لم ير مثله إلا في ملامح أمه الجديدة، والطول والعرض وضخامة الجسد هي من نصيب الرجل الذي جاء معها وهو بالنسبة إليه والده.

ما إن طلع الصباح حتى كان صالح قد بدل ملابسه وجمع حاجياته وذهب إلى القابلة سالمة يبلغها رغبته بالرحيل مع أمه وأبيه الجديدين. قال ذلك وهو مطأطئ الرأس وكأنه اتخذ قراره مرغماً. سألته إن كان سيرحل مرغماً فأجابها بالنفي وأضاف: "ما دمت تؤكدين أنها أمي ولست سوى القابلة التي سحبتني منها يوم الولادة، فلا أجد خياراً آخر إلا قبولي بها، صحيح أنك ربيتني وأنشأتني أثناء غيابها ولكنها كانت دائماً تبحث عني، وقد جاءت أمس تطلب مني الرحيل معها".

توقف لحظة عن الكلام وتابع بجرأة ووضوح: "لن أنسى جميلك، ولن ألومك على إخفاء الحقيقة عني ولكني لن أستطيع رفض جزء أساسي مني. هي من جاء بي إلى الدنيا، لولاها لما ربيتني أنت وما كنت اليوم هنا. هي السبب وأنا النتيجة ولن أسأل السماء عما فعلته بي". قال كل هذا كأنه وُلد من جديد، أو كأنه قرر أمراً لا بد منه.

لم تصدق سالمة ما تسمعه، هل هذه عبارات صالح أم هو صوت من الغيب ينبعث منه كي يخفف عنها آلام رحيله؟ نظرت إلى شفتيه كي تتأكد إن كان هو الذي ينطق بما قال فوجدته يمضغ قطعة خبز بالزيت والزعتر اعتاد أن يأكلها كل صباح مع بصلة أو بندورة قبل خروجه من البيت، سألته إن كان قد قال شيئاً فحرك رأسه نافياً.

كررت السؤال تستفسر إن كان فعلاً يصر على الرحيل مع أمه الجديدة، فأجابها بأنه سيفعل، صمت لحظات ثم تابع حديثه بعبارات شكر وامتنان لما فعلته القابلة من أجله، مؤكداً أنه لن ينسى حبها وعطفها وأنها ستبقى أمه أيضاً طوال حياته.

ضمته سالمة إلى صدرها مودعة بعد أن أدركت عبوره سن البراءة والطفولة باكراً، ليدخل سن الرجولة وتحمّل المسؤوليات. لم تعرف ذلك من رجاحة عقله ونبرة صوته فحسب، بل ومن ملابسه المبللة أيضاً، فقد اعتادت أن تتحسسها كل صباح بعد قيام صالح من الفراش للتأكد إن كان قد تخلص من عادة التبول في فراشه نهائياً. كأنها أنشأته ليصبح راشداً ويرحل عنها.

لم يدعها تطرق أكثر من مرة، كان خلف الباب ينتظرها، ليقينه أنها ستعود في اليوم التالي كي تسأل عنه. كان واثقاً من ولعها بحبه، متأكداً من أنها تعيش من أجله، فقد بحثت عنه بشغف، لقد رأى ذلك أمس، ورآها الليلة في حلمه، هي أجمل النساء على الأرض، شاهدها بأجمل ثوب عرفته المرأة على وجه البسيطة، إنها أمه.

دفعت الباب بحماسة ودلفت منه تبحث عن ابنها بلهفة وكأنها تخاف أن تكون قد أضاعته مرة أخرى. أطالت النظر إليه، وهي تبتسم كأنها متيمة تلتقي بعيني حبيبها. شعر بدفء تلك النظرات حين رآها أول مرة، وأيقن أنها تتأمل عينه السليمة برغبة وتودد.

لم تتغير نظراتها إليه بين أمس واليوم، أما هو فكانت نظرات الإعجاب تزداد لديه، حتى خشي لحظة أن يعيد مقارنتها بالمرأة التي شاهدها ليلة أمس في حلمه. وأي حلم كان؟ وهل سينعم الآن معها بحياة هانئة؟ وهل سيمضي في كنف عائلته الجديدة أوقاتاً هادئة؟

آثرت الجلوس إلى جانبه وهي تقول: "اضطررت للمجيء اليوم بدون زوجي، قضينا ليلة أمس عند أحد أقاربه وبما أنك رفضت المجيء معنا أمس لم يجد داعياً لتكرار المحاولة والإصرار، فغادر إلى صور على أن أتبعه بعد أن أزورك اليوم لأحدثك وأحاول إقناعك".

لم تعلق سالمة على الحديث بل اكتفت بالترحيب بها وتحججت بالدخول لإعداد القهوة. فتابعت إخلاص بمزيد من التودد والرجاء: "إنه يحبك، وما كان يعرفك حين جرى ما جرى بينكما من إشكال يوم أمس، كان متوتراً متعباً لا يعرف ما يفعله، وأنا متأكدة من أنك مع مرور الوقت ستقيم علاقة طيبة به إن أردت المجيء معي وهذا ما أرجوه فعلاً، وأتمنى لو تقبل توسلي إليك هذه المرة وتأتي معي".

أشاح برأسه عنها وكأنه لا يريدها أن ترى عينه وقد اغرورقت بالدموع، واقترب منها حتى تضمه بشدة إلى صدرها، ضمت رأسه وكتفيه إليها وغسلت شعره بدموعها، وكادت تحمله من شدة الفرح، وهو تائه بين ضلوعها ويذوب في دفء صدرها مستسلماً لروعة أن يشعر المرء بحب الآخر له والسعادة التي يشعر بها حين يترك نفسه راضياً مرضياً لمن يحب كي يضمه ويعانقه ويقبله.

راح الجميع يبكي فرحاً بعودة الطفل لأمه بعد غياب دام أكثر من عشرة أعوام، كانت سالمة تبكي حزناً على رحيل صالح، وكانت إخلاص تبكي سعادة وبهجة بعودة ابنها، وكان هو أيضاً يبكي أسفاً على عناقها وقبلاتها التي لن تدوم أكثر من لحظات ولا بد أن تنتهي مهما طال بها الزمن.

 

=-=-=-=-=-=-=-نهاية الفصل السابع.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

أزقة المخيم

 

[محتويات]  [إهداء]  [شكر]  [مقدمة] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث]  [الفصل الرابع]  [الفصل الخامس] 
[الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع]  [الفصل العاشر] 
[الفصل الحادي عشر]  [الفصل الثاني عشر]  [الفصل الثالث عشر]  [الفصل الرابع عشر] 
[ملاحظات وعتاب] [كلمة حفل التوقيع]  [كلمة وزير الثقافة] 
[نص الوكالة اللبنانية للأخبار]  [نص جريدة المستقبل]  [كلمة رفعت شناعة]  [نص جريدة الديار] 
[نص جريدة البيرق]  [نص جريدة اللواء]  [نص جريدة البلد]  [نص جريدة الشرق] 
[كلمة سلوى سبيتي]
  [كلمة د.نبيل خليل]  [صحيفة صدى البلد] 
[حفل توقيع الكتاب في بيروت]  [حفل توقيع الكتاب في صيدا] 

 

 
 
 
 




Hit counter
ابتداء من 20 آب 2005

 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster