|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
صيد ثمين
وضع طعماً جديداً في الصنارة مرة بعد أخرى ورمى بها نحو الأمواج، ثم جلس ينتظر
وعينه لا تتحرك عن الأفق البعيد، يتذكر حكاية الإخوة الثلاثة الذين خرجوا يبحثون عن
الحقيقة، كل على طريقته، ثم عادوا وكل منهم مصاب بعاهة أبدية.
أوّلهم أقعد وعجز عن المشي لأنه وضع هدفه النهائي نصب عينيه ولم يحرك ناظريه عنه
فتعثرت خطاه ولم يتنبه للحصى والحفر التي أمامه، حتى تحطمت قدماه ولم يعد يقوى على
السير. وتشتت عقل الثاني لأنه كان ينظر مباشرة أمام قدميه كي لا يتعثر ويقع فأضاع
هدفه النهائي وتشتت ذهنه بين الحصى والحفر.
وأصيب الثالث بالحول حين وضع عيناً على الهدف النهائي والأخرى أمام قدميه ليرى
طريقه فتشتت ذهنه وفقد قدرته على التركيز وأصيبت عيناه بالحول. فضاعت الحقيقة وأصيب
الثلاثة بعاهات دائمة جعلتهم يفتقدون لأشياء كثيرة كالتي يملكها الآخرون!
كان لا بد لمن يراه جالساً على الشاطئ هناك أن يشعر بخيبته، وهو يحمل القصبة
والصنارة منذ خمس ساعات وأكثر، يبدل الطعم بين لحظة وأخرى دون جدوى، خمس ساعات مضت
كأنها خمس سنوات، وهو ما زال يأمل أن يحمل له البحر خيراً دون جدوى، فأشاح برأسه،
وكأنه يقول في نفسه: "لو أنها ستمطر لتلبدت غيومها، وأنا لا أرى لهذه الغيوم
طرفاً".
تسمّرت عيناه على الشاطئ، شعر كأن القصبة تهتز بين يديه، أي صيد ثمين هذا الذي رآه
يتلوى على رمال البحر لا في مياهه؟ لن يصطاده بصنارته بل بعقله ولسانه. لم يكن
خبيراً بشؤون النساء رغم صيته الذائع جداً بهذا الشأن، كان الجميع يظن أن فراسته
بهن لا تخيب.
صدق ذلك بنفسه، فلم يبدّد مزيداً من الوقت سدى، خصوصاً أن البحر لم يعطه شيئاً منذ
أن جلس ساعة الفجر على رماله، بيد أن الشاطئ لم يبخل عليه بهذه الحسناء التي تجلس
هناك كأنها عروس بحر خرجت من بين أمواج هاجت وماجت ولم تفلح في إبقائها فاكتفت
بتوديعها.
ولأنه سئم من الصيد ترك القصبة وذهب إلى الفتاة دون تردد أو حذر وهو يرسم ابتسامة
عريضة على شفتيه متوجهاً بالحديث إليها وكأن بينهما سابق معرفة وصداقة قديمة،
فبادرها بالسؤال: "كيف تمكنت من مغادرة البحر دون أن ألاحظ ذلك؟ مع أني كنت أراقب
كل السمك فيه، فكيف لم أتنبه إلى عروس البحر وهي تخرج منه؟" ثم تابع وهو يرفع
سبابته محذراً: "كان يجدر بك أن تبلغيني بوجودك هناك كي أرفع الصنارة حتى لا تقعي
فيها، مع أني أرى أن لا مهرب لك من شباكي على أي حال".
أمعنت النظر إليه صامتة دون أن تفهم الكثير مما يقول، ثم تأكدت أنها لا تعرفه،
فاستغربت أن يحدثها رجل بمثل هذه البساطة، استغربت وقاحته المفتعلة، فهمّت بالنهوض
من مكانها والرحيل ولكنها عدلت عن الفكرة في اللحظة الأخيرة.
بقيت جالسة هناك تمعن النظر إليه وهي تقول في نفسها إنه الشخص المناسب لا محال، إنه
صيد ثمين دون شك، ثم توجهت إليه، وكأنها تدعوه للبقاء بعد أن رأته يعود إلى قصبته
ويلملم أغراضه ويهم بالرحيل، فقالت بصوت مرتفع: "هل ستنصرف؟ ظننت أن لا مفر لي من
شباكك".
أعادت له تلك الجملة حماسه، ولم يجد أفضل من الاعتذار عن تطفله لكنه لم يفعل بل
اقترب منها ليتأكد أولاً من أنها هي التي تحدثت إليه ولم يكن ما سمعه مجرد إيحاءات
من مخيلته الخصبة وشعوره الدائم بالخيبة، ورغبته في العثور على من يلجأ إليه هرباً
من بؤسه.
سألها إن كانت قد قالت شيئاً، فلم تجبه، بل أشاحت برأسها بعيداً حتى ظن أنها لا
تهتم بوجوده. هم بالرحيل مجدداً ليتركها وشأنها، ولكن إلى أين؟ هل يعود إلى البيت
كي يستسلم لأفكاره المظلمة، أم ينتظر عودة زوجته من بيت أمها كي تحدثه عن طفلها
الذي تركته في صيدا وعن رغبتها في الذهاب إلى هناك بحثاً عنه؟
قطعت عليه حبل تفكيره بالسؤال: "ألم تصطد شيئاً؟"... "لا، أعني بلى"، أجابها بتردد
وهو يبتسم، اقتربت من السلة ونظرت إلى داخلها وعلقت باستغراب: "ولكن سلتك خاوية ليس
فيها شيء". فأجاب: "هذه هي حالي دائماً، أذهب إلى البحر بسلة مليئة بالهموم لأعود
منه خاوياً".
صمت لحظة ثم أضاف: "مع أني أرمي عادة بكل ما أحمل من هموم في البحر، وقد كانت هذه
المرة مليئة جداً قبل أن أرمي بما تحتويه إلى الأمواج، فأنا لا آتي إلى هنا سعياً
وراء السمك بل لأخفف عن نفسي وأتخلص من آلام الفؤاد وجروحه وكي أخرج أخف وزناً لأن
البحر يحمل عني شيئاً من القلق والعذابات التي أعيش".
تنهدت وهي تقول "أنت أيضاً؟" سألت ذلك وهي تمسك الصنارة وتدير الخيط الذي يلتف على
القصبة وتقترب نحو الموج لتضيف بسخرية: "دعنا من الهموم وعلمني أصول الصيد، لا أريد
أن أجهش بالبكاء هنا حتى لا أزيد مياه البحر ملوحة، وأفسد عليك ما تبقى من هناء
عيشك".
زج
يده في السلة ليخرج منها طعماً علقه بالصنارة وطلب منها رميه بعيداً خلف مكسر
الموج، وتنتظر حتى يشتد الخيط لتسحبه، ثم جلس جانباً يتأملها ترتدي ذلك الفستان
الفضفاض الذي ابتلت أطرافه وهي تمسك بالقصبة وكأنها تمسك بدفة حياته كي لا تفلت من
سيرها الهادئ، وتنظر إلى الأفق البعيد البعيد كي لا تمر الحقيقة فوقها فتصيبها
بعاهة أبدية.
لم
تكن قد تخطت الخامسة والعشرين إلا قليلاً، كان طولها عادياً وليس في ملامحها ما
يلفت النظر، لم تكن ملابسها الفضفاضة محتشمة او مجاهرة، ولم يكن شعرها ناعماً يطير
مع نسمات البحر بل كان قاسياً مربوطاً نحو الخلف، يكشف عن وجه مستدير حتى الوجنتين
كحبة البرتقال، ينتهي بنصف مثلث عند الذقن التي يعلوها فم صغير لا يتناسق مع أنفها
المدبب ووجنتيها العاليتين، لكنه ينسجم جداً مع صغر عينيها الداكنتين اللتين لا
تعرفان الاستقرار في النظر إلى مكان واحد إلا الأفق.
شخصيتها أيضاً لم تتميز بالاستقرار، فبعد لحظات قليلة من إمساكها بالقصبة لتشهرها
في السماء عالياً وتدفعها نحو الموج، تركتها تنهمر على الماء فجأة حتى بدت كأنها
تقع من يديها، تركتها هناك ثم عادت إليه وهي تقول: "لا فائدة من ذلك،
لم أصطد شيئاً ولم أتخلص من همّ
واحد".
ثم
تابعت وكأنها وجدت فرصة فريدة في الكلام: "حتى إن وحدتي وعزلتي يزيدان من التفكير
والكرب الذي أغرق فيه، وكأني أغوص في مياه بحر تتقاذفني أمواجه إلى ما لا نهاية.
وسبب هذا كله هو الخوف، الذي كلما فكرت به زاد من هوله، وكأن من يحلم بالعفاريت
يلقاها في يقظته". صمتت لحظة ثم توجهت إليه لتضيف: "لا أظنك ستطلب مني معالجة الخوف
بالخوف ومداواة الداء بالتي كانت هي الداء".
لم
يفهم شيئاً مما تهذي به أو ما تعنيه بهذا المثل أو ذاك، ولم يفهم ما الذي يجعلها
تبحث عن حقيقة في قولين لا ينسجم أحدهما مع الآخر، وكأنها تقول إن أمثلتنا وأقوالنا
كثيراً ما تتعارض حتى تصيبنا بالحيرة والإعياء. كما أصبح أشد إعياءً حين طرحت عليه
سؤالها الأخير أثناء تفكيره بما تردد من أمثال، حتى إنه كاد يظنها تنطق بلغة أخرى.
استمهلها لحظة وطلب منها أن تكرر السؤال فقالت: "هل ترافقني إلى السينما؟" شعر
بالارتباك وظنها تهزأ منه فهذه أول مرة تدعوه فتاة بهذه الأنوثة إلى السينما أو إلى
أي مكان. ثم أتبعت ذلك بسؤال آخر: "هل تخشى أن يراك أحد برفقتي؟" تأكد حينها أنها
تعني ما تقول.
عقب على سؤالها الأخير بنفي فوري ثم أردف يتساءل: "ماذا أفعل بالسلّة والصنارة
والقبعة وكل ما أحمل؟ هل ندخلها معنا إلى السينما أيضاً؟". أجابته بشيء من البساطة
والتحدي: كنا نستطيع تركها في منزلي ولكن أمي الآن هناك وهي إن رأتنا فلن تتوقف عن
طرح الأسئلة عن القصبة وصاحبها وسبب إبقائها هناك وأين ينبت القصب؟ ومن جاء
بالدجاجة ومن باض البيضة؟ إلى ما لا نهاية. مع أن بيتنا قريب من هنا فنحن نسكن في
مخيم البص".
مخيم البص؟ تساءل في نفسه وتابع "تسكن في البص؟ وربما خلف منزلنا، قد تكون جارة
لزوجتي أو صديقتها، وربما جاءت لزيارتنا يوماً، يا إلهي، لن أذهب معها إلى السينما
أو إلى أي مكان آخر". أفلتت هذه الجملة الأخيرة منه بصوت مرتفع، حتى إنها سمعته
وبادرته فوراً بالسؤال: "لمَ لا نتركها في منزلك؟ هل تسكن بعيداً من هنا؟".
ـ
لا أبداً، بل أسكن في البص أيضاً.
ما
كاد ينتهي من إجابته حتى رآها تمعن النظر فيه كما فعلت أول مرة عندما اقترب منها
يقول إنه لم يرها تخرج من البحر. شعر هذه المرة برغبة في سؤالها كيف شقت الأرض
وخرجت منها؟ قطعت هي لحظة الصمت مرة أخرى لتسأله: "لم يسبق لي أن رأيتك هناك؟ أين
تسكن في المخيم؟" أجابها: "عند نهاية المستشفى"، ثم سألها: "وأنت؟" ابتسمت بروية
وأجابت بصوت منخفض: "عند الطريق العام المؤدي نحو الجنوب، في الجانب الآخر من
المخيم".
لم
يعد يجد ما يقوله، بل ارتبك حتى بدا كالأبله، أو كمن يبحث عن شيء ولا يجده وخاف أن
تلاحظ ذلك، فاصطنع ابتسامة وهو يحاول التغلب على توتره، ثم سألها مداعباً: "حسناً،
هل نضع القصبة في منزلي ونتابع طريقنا إلى السينما أم تخشين أن يراك أحد برفقتي؟".
لاحظت أن في سؤاله بعض التحدي إشارة إلى ما قالته في بادئ الأمر، فعقبت بابتسامة
لعوب أبرزت اكتناز وجنتيها وصغر عينيها اللتين كادتا تختفيان تماماً لولا ذلك
اللمعان الذي لا يفارقهما أبداً لتبدوا كأنهما مغرورقتان بالدمع من شدة الحزن، أو
ربما كان بريق الفطنة وسرعة البديهة اللتين تمتاز بهما.
سار بخطوات بطيئة إلى جانبها وسألها بتودد: "ألا تخافين إذاً؟" جاءه الجواب بكل
بساطة ووضوح: "لم يعد لديّ ما أخاف منه أو عليه، فمن أخشاه قد مات وما أخاف عليه
أجلس عليه". استغرب ردها الجريء فسأل عما تعنيه فلم تجب بل أطرقت بالتفكير وهي تمشي
وتنظر إلى مقدمة حذائها مع كل خطوة تتقدم بها، طال الصمت بينهما حتى أدرك أنه وحده
الخائف.
ماذا لو كانت زوجته قد عادت باكراً من منزل أمها؟ أي مغامرة هذه التي سيجاهر بها
أمام سكان الزقاق في وضح النهار؟ بماذا يجيب إن رآه أحد الجيران وسأله عن زوجته
أمام الفتاة؟ قد يخسرها لأنها سترحل بعد أن تعلم أنه متزوج، وقد تعرف زوجته بالأمر
حال عودتها ليصبح العيش بينهما مستحيلاً، فيصيبه مثل مصيفة الغور...
استرسل في تفكيره وخواطره التي لم يخرج منها إلا بعد أن ذكرته بوجودها وهي تقول:
"أراك مسهباً في التفكير، وكأنك ما زلت تشكو للبحر هماً، ما الذي يشغلك؟ هل في بيتك
شخص لا تريده أن يراني؟".
"لا، أبداً، فأنا أسكن مع أمي ولا أظنها ستكون الآن هناك". أجابها بذلك دون أدنى
تردد ولم يعرف السبب، ولكن لماذا يصمت، فهي لن تدخل المنزل على أي حال، فقد بادرته
بالتعبير عن عدم رغبتها في التعرف على أمه، وكأنها كانت تسمع ما يجول في ذهنه، ثم
سألته: "ما الذي ستقوله لأمك عني؟ هل ستخبرها بأني فتاة تعرفت عليها الآن على شاطئ
البحر وستخرج معها إلى السينما؟ ماذا ستظن أمك بي حينها؟". أجابها بلهجة
حاسمة ومغامرة: "لا تأبهي، سنجد ما نقوله".
بات حين انتهى من هذه الكلمات قد أصبح عند نهاية الزقاق المؤدي إلى بيته. أحس
بالطمأنينة لأن الوقت كان ظهراً، وحرارة ذلك الصيف خففت من عدد المارة عموماً، مع
أنه كان يردد باستمرار أن الفلسطيني سيقضي عمره بين الأزقة، يلعب هناك في طفولته،
ويقف مع أبناء ربعه عند الزوايا وفي المقاهي لقلة فرص العمل لدى الشبان، وحين يبلغ
الكبر يجلس مع العجائز أمثاله ليلعب الورق عند أبواب المنازل.
شعر بأن الحظ قد حالفه في ذلك اليوم، فلم يلتق بأحد في الزقاق المؤدي إلى منزله،
كما أنه بذل ما بوسعه لاختصار الأزقة حتى تمكن أخيراً من الوصول إلى ذلك الباب
المصنوع من صفائح معدنية لعلب التموين التي توزعها وكالة غوث اللاجئين.
دفع الباب أمامه ودلف إلى الداخل، ثم التفت إليها يقول إنه لن يتأخر في الخروج
طالباً أن تبقى خارج المنزل بانتظاره. لكنه ما إن تقدم خطوة في بيت الصفيح حتى
أدهشنه المفاجأة حين وجدها إلى جانبه تماماً، فأسرع بإغلاق الباب خلفهما دون أي
تردد. ساوره شعور بأنها شريكة له في المخاوف والميول.
صار الباب موصداً خلفهما، "أبوهما آدم سنّ المعاصي وعلمهما مفارقة الجنان" أصبحا
تحت سقف واحد، وضع ما في يديه جانباً وعاد إليها ليلحظ ارتباكها لأول مرة منذ أن
شاهدها عند شاطئ البحر. أمسك بيدها يشدها لترى الغرفة التي يتألف منها كوخ البؤس
السعيد بوجودها، فسحبتهما بلطف وهي تقول: "لن يختلف كثيراً عن باقي "تنكيات" وكالة
الغوث".
ثم
أردفت بشيء من التردد وتمنع الراغبات: "من الأفضل أن نخرج في الحال كي لا نفوّت
موعد السينما"، شعر كأنه طفل يريد الاحتفاظ بلعبة أصبحت بين يديه لأطول مدة ممكنة،
بحث في أرجاء مخيلته عن حجة يدفعها للبقاء هناك، لكنه لم يفلح، يبدو أن الخوف من
عودة زوجته بين لحظة وأخرى كان يتملكه، مع أنها حين تذهب لزيارة أمها لا تعود حتى
المغيب.
مع
ذلك فإن الخوف من التنين يؤدي إلى ظهوره ولو في الحلم. لكنه ظهر هذه المرة في
العلم، فقد عادت زوجته اليوم قبل المغيب، شعر بخطواتها تقترب كأنها عند أول الزقاق،
وكأن سكيناً حاداً يقترب من أوداجه حتى إنه كاد ينعم بعطرها الذي يعبق بنسمات الصيف
عندما دفعت الباب بعصبيتها المعتادة، لتجده مسمّراً هناك، وإلى جانبه فتاة رسمت على
وجهها ألف علامة سؤال.
ليست أمه إذاً، بل بالكاد شقيقته الصغرى. وكيف تكون شقيقته وهو متسمّر أمامها ومصاب
بالذهول؟ ولو أنها كذلك لسألته عمن أكون على الأقل، ولكن لحظات الصمت هذه تتحدث عن
نفسها لتكشف عن خيانة عظمى، حتى بدا كأنه باع القدس. لم يترك أمامها خيارات أخرى
سوى الخروج بأسرع ما يمكن من هذا المأزق، ومن هذا الصمت، ومن هذا الباب الذي يسهل
فتحه للدخول والخروج أيضاً.
أطاحت بالباب وخرجت منه بسرعة أكبر بكثير مما دخلت، عادت من نفس الزقاق الذي أدخلها
منه وفي رأسها تموج أفكار وتساؤلات حتى وصلت إلى الطريق العام المواجه للبحر وهي
تسرع الخطى لعلها تتخلص كلياً من ذلك الموقف الحرج الذي وجدت نفسها فجأة فيه أمام
تلك المرأة وهي تنتظر أن يبادرها بخطوة
أكثر جرأة.
ما
كادت نسمات البحر تلفح وجهها لتتنفس الصعداء حتى وجدته خلفها يتعقب خطاها بكل
إلحاح، فلم تجد بداً من التوقف كي تمنعه من الاستمرار في الجري خلفها، ثم سألته عما
يريد. التقط أنفاسه ورفع كفيه في الهواء مطمئناً وهو يقول: "لا أريد شيئاً، ولكني
سأشرح لك الأمر في ما بعد، سوف أبحث عنك وأجدك لنتحدث في ظروف أفضل من هذه، سأوضح
لك كل شيء".
صمت لحظة ليرى أن نظراتها تسمّرت في عينيه، فتابع يقول: "لا تقلقي الآن، لن أستمر
بملاحقتك، ولكني أريد معرفة اسمك على الأقل". أجابته دون اكتراث: "عفاف". ثم أدارت
ظهرها وغابت عنه عبر الطريق الطويل المؤدي إلى ميناء المدينة وأحيائها القديمة.
ثم
عاد إلى منزله يراوده ألف سؤال وسؤال: هل هذه عفاف ابنة وفاء التي كانت تعمل في
إحدى مزارع الجنوب حين شاهدها آخر مرة وهي فتية بعد؟ لا شك في ذلك، فهي تشبه والدها
تماماً، لا بد من أنها ابنة صقر الأبتر، ترى أين أصبح والدها؟
ولكن السؤال الأهم الآن هو ما سيقوله لزوجته، كيف يبرر لها ذلك الموقف؟ وهل ستغفر
له فعلته؟ كيف سيتمكن من استعادة ثقتها به؟ من سيجعلها تصدق أنه يفعل ذلك أول مرة؟
وأنه لم يعتد تلك المغامرات التي شوّهت سمعته حتى اشتهر بها منذ سجنه أول مرة؟ لم
يعثر على إجابة واحدة عن أي من تلك الأسئلة.
دفع الباب أمامه بهدوء، فوجدها تفترش الأرض هناك مسهبة النظر كما لم يرها من قبل،
كانت مستكينة جداً، تضع راحتيها على خديها ولا تزيح عينيها عن التراب الذي يغطي أرض
البيت كجميع أكواخ المخيم. كان وجهها متلوناً بالاحمرار والاصفرار وحتى الزرقة
أحياناً، وهي تحبس الدمع في مقلتيها.
تمنى لو تذرف دمعة واحدة أسفاً عليه، لكنه يدرك أنها لن تفعل، كبرياؤها تمنعها من
ذلك، أو ربما تظن أنه لا يستحق هذه الدمعة منها، وربما تعتقد أن ما فقدته قبل أحد
عشر عاماً أجدى بتلك الدموع التي كثيراً ما كانت تذرفها حزناً على غيابه وشوقاً
لرؤيته.
تأكدت في تلك اللحظات من أنها تزوجت أملاً بأن يقبل زوجها بالبحث عنه، وقد وعدها
بذلك، لكنه كان يؤجل الفكرة ويجد الأعذار خلف الأخرى وهي تقبل بذلك ما دام لا يرفض
الفكرة كلياً، وجاءت تلك الحادثة لتؤكد رفضه لها ولابنها الذي قد لا تستعيده أبداً.
أما هو فقد كان غارقاً بأفكار عديدة لا يعرف كيف يفصح عنها لكنه تمنى لو يترك لها
البيت ويرحل، أو أن تخرج هي منه بغير رجعة لعلّه يستسلم لنوم عميق. استغرب ذلك
الإحساس في نفسه، كيف يراوده شعور كهذا تجاه المرأة التي وقفت إلى جانبه طوال سنوات
من السجن والاعتقالات المتكررة.
كيف يرد لها الجميل بإحساس مقيت كهذا؟ لا يعرف ولكنها الحقيقة في نفسه، حتى إنه جلس
يفكر جدياً في وسيلة تخلصه من ذلك الموقف، ما الذي يمكنها من نسيان ما حدث نهائياً؟
ما الذي يجعلها تبدل تلك الكآبة بفرح شديد لم تشعر به من قبل؟ ليس هناك إلا قضية
واحدة.
دس
يده في جيبه، وأخرج ما فيها من نقود، عدها جيداً وهو يعلم أنها ليست كثيرة، لكنه
أمسك بها وقال بصوت مرتفع وحاسم: "دعك
من
هذه الكآبة والحزن، سنتحدث عما جرى في ما بعد، أما الآن فسأذهب الى مركز الشرطة
لأطلب إذناً بمغادرة المخيم".
لم
يؤثر بها ما قاله فأتبع ذلك موضحاً: "سنذهب إلى صيدا لنبحث عن ابنك، سنقيم في منزل
أحد معارفي هناك طوال الفترة اللازمة ريثما نعثر عليه ونأتي به معنا إن كان لنا
نصيب في ذلك. انهضي واغتسلي كي تكوني جاهزة فقد أحصل اليوم على إذن بزيارة بعض
الأقارب في مخيم عين الحلوة القريب من المدينة".
قال هذه الكلمات متوجهاً بيده نحو الباب، فسبقته إليه بعد أن قفزت بكل ما لديها من
عزم لتقف بجسدها الفارع بعرض الباب، حدقت عيناها في ملامحه لحظة حتى تأكدت أنه يعني
ما يقوله فعلاً، وتأكد هو أن الحيز الذي تحتله عيناها يزيد قليلاً عن نصف وجهها.
لم
تترك له فرصة للتمعن بجمالها، فأصلحت ما على رأسها من خرقة قماش تشبه المنديل ثم
قالت: "هذا كل ما عندي من ملابس كما تعرف، ولن يصلح حالي أكثر من ذلك لأكون جاهزة
للخروج معك إلى المخفر لطلب إذن لزيارة مخيم آخر، قد يحالفنا الحظ ونحصل عليه اليوم
فنبحث عن وسيلة السفر المناسبة إلى صيدا".
لم
تنتظر موافقته، بل جعلت الباب يئن مجدداً تحت راحتيها وكأنه يودعها بغير رجعة هذه
المرة. خرج أمامها لتسير خلفه، كما جرت العادة، وكأنها ترمي بنفسها بين الأمواج وهي
تنظر نحو الأفق البعيد لعلها تجد فيه صورة لضالتها فلا يطول انتظارها كي تعثر عليه.
=-=-=-=-=-=-=-نهاية
الفصل الخامس. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[محتويات]
[إهداء]
[شكر]
[مقدمة]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م