|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
أزقة المخيم
عاد معها إلى
المخيم وطناً بديلاً. دخل إلى هناك تتملكه الحيرة والقلق، فكيف يستبدل المدينة
بالمخيم؟ وكيف قبل جده بالمخيم بديلاً للوطن؟ وهل اختار اللجوء بملء إرادته؟ أم أنه
أجبر على ذلك صوناً لما هو أقدس من الديار؟ فمن يقايض العزة بالمذلة؟ وهل يُصان
ملكوت الكون بعد فقدان الذات والهوية؟
استوقفته عند
مدخل المخيم زمرة من الصبية يعبثون بجيفة حمار تفوح منها رائحة كريهة، يتسابقون إلى
قمة المزبلة بمحاولة إيقاف الحمار على قوائمه الأربع والتنافس على ركوبه ودفعه
للسير لعلّه ينسى موته باصطدام سير مع إحدى الشاحنات، وينهض ليسير بهم نحو القمة.
"البقية في
حياتكم! خاتمة الأحزان".
لم يجد صاحب
الحمار في تلك العبارات مواساة بحجم الفقيد الغالي الذي هو كل ما جاء به من قريته.
وكأن الفقيد هنا ليس حماراً، بل وطن برمته، مع أنه باق لم يمت، والخير في أرجائه
سخي. لم يمت إلا شخص عزيز عليه هو الحمار، وكل ما في الوطن ما زال ينبض بحياة ينعم
بها الآخرون.
صالح وحده
الميت، روحه دخيلة هنا تجول في عالم الأحياء وتدّعي الحياة بين أشياء ستمنح العيش
لمن يحلّون محله هناك، ويسكنون بيت جده، ويفتحون دكانه، ويتنشقون هواءه، ويتمتعون
بأدق التفاصيل هناك في ما يعتبرونه وطناً لهم، لتبقى روحه مشردة هنا تزحف بين
الأزقة بجسده الفارغ من الذات والهوية، جسد قد لا يستطيع حتى دفنه، لأن روحه باقية
هناك بعيداً عن الجسد، أما هو فلن يعرف السكينة.
فتح عينيه ذات صباح بين أزقة تقرع فيها الطبلة طوال ليل دامس تعلن أفراح أعراس
ومواليد وهدر للدم أو التبرع به وزفاف ريعان الشباب إلى سماء تسعى طوال خمسين عاماً
وراء فجر رمادي يوشك على البزوغ مرة ليخلصه من هذا الوطن البديل، ويتلاشى ويغيب عدة
مرات وسط صيحات الديوك وتنافس المآذن وتسابق اللاهثين وراء لقمة عيش هي كسرة خبز
قاسية مرة تسد الرمق.
حار في أنغام لا تفشي سراً، وترانيم
تطلق العنان لحناجر لا تفلت من عقالها، وأناشيد وتواشيح جنون محبوس خلف أزقة متشعبة
ضيقة لا تنتهي. هو حر في أن يختار الوجهة التي تناسبه، طليق في السير نحو الهدف
الذي ينشده، موقن من استحالة الوصول إلى أي هدف أو عنوان.
حاول الإفلات من أحجية فريدة شديدة
التعقيد لا يمكن الخروج منها إلا صعوداً إلى السماء، أو نزولاً إلى أسفل سافلين تحت
الحفر، مع أن خيوطها متواصلة مترابطة تذهب بالطول والعرض إلى ما وراء الحدود، توحي
بقضاء يقوده إلى قدر مكتوب.
أكل الخشكار ورقص مع الهائمين على
إيقاع الطبلة في عتمة ليل قاتم ينبئ بفجر رمادي يزيد من حلكة الظلام وسواده، وكأنه
يرش السكر على تقمص الليل بالنهار ويبرّج ملامح البؤس بالأمل، ويبعث الطمأنينة في
قلوب المتلهفين شوقاً إلى الحلم، فطرد أي أمل بحلم لا يطمئن بائساً.
قد تتفتح عينا ابنه في المخيم البديل من الوطن، فيتسابق في الصغر على ركوب حمار ميت
لبلوغ قمة المزبلة ويسعى مع اللاهثين في الكبر وراء كسرة خبز قاسية تسد الرمق، وقد
يحار حفيده في أنغام لا تفشي سراً ويحاول الإفلات من أحجية فريدة شديدة التعقيد لا
يمكن الخروج منها إلا صعوداً إلى السماء، أو نزولاً إلى أسفل سافلين تحت الحفر،
لتدرك سلالة أحفاده أن الشيخ والطفل والعذراء والحامل هنا يعرفون هذه الحقيقة
المبهمة، ويغضون الطرف عنها.
جال في خاطره سؤال هو أهم ما ورث عبر توارد الأفكار عن جده: "أليس في بحثنا
عن ملاذ آمن خارج الديار صوناً للحياة والعفة والشرف، مخاطرة بالذات أكبر بكثير من
بقائنا فيه والعيش من أجله أو التعرض للقضاء بعزة على ترابه بدل العوز والمهانة ألف
مرة بعيداً عنه؟".
توجه صالح بخطوات واثقة أكيدة نحو ملاذه الجديد في المخيم الذي أصبح وسيبقى
حتى عودته الميمونة وطناً بديلاً، وهو يتساءل في نفسه: من سيحيا ليرى أي عودة ستكون
لنا؟؟ أم سنرضى بهذا اللجوء والمهانة وطناً بديلاً؟
=-=-=-=-=-=-=-نهاية
الفصل الثامن. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[محتويات]
[إهداء]
[شكر]
[مقدمة]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م