|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
الهيمنة عبر العصابات والاستخبارات
نشأت الجريمة في الولايات المتحدة الأميركية منذ ما قبل ولادة هذه الدولة إذ جاء عناصرها الأولون مع طلائع المهاجرين الذين جاءوا إلى ما اصطلح على تسميته بالقارة الجديدة، هربا من ظروف النزاعات الدينية التي نجمت عما يعرف بمرحلة الإصلاح الديني التي اجتاحت القارة الأوروبية وأدت إلى نزاعات وحروب وتصفيات جسدية بين الطوائف المسيحية على خلافها. يجمع المؤرخون على أن أعدادا كبيرة من طلائع المهاجرين جاءوا إلى القارة الأمريكية بحثا عن ملاذ آمن من ويلات الحروب الدينية المشتعلة في أوروبا، ما يعني بالضرورة أن غالبيتهم كانت من ضحايا الحروب الطائفية الأوروبية الذين تعرضوا لويلاتها ولكنهم ساهموا أيضا بأعمال القتل التي وقعت بين مختلف الطوائف هناك. أي أن فرارهم من أوروبا يشير بشكل أو بآخر إلى دور إجرامي ما لعبته أفراد هذه المجموعات، سواء كان ذلك بدافع الانتقام أو الدفاع عن النفس والمعتقد الديني، ما جعلها تصبح في دائرة الخروج عن القانون. كما رافقت حملات الهجرة المتعاقبة التالية مجموعات من المحكومين بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة التي اعتادت السلطات البريطانية على إرسالها إلى مستعمراتها الجديدة خصوصا في أستراليا وأمريكا لقضاء عقوبتها بتنفيذ المشاريع وبناء المرافق العامة كالمشاركة في شق الطرقات وتشييد الحصون والمباني الحكومية مقابل الإفراج عنها وتأهيلها للعودة إلى مجتمع المستعمرات شرط ألا تعود إلى الوطن الأم. رغم الجرائم التي ارتكبها المهاجرين الأوائل والخارجين عن القانون بحق السكان الأصليين كما وبحق المهاجرين الأوروبيين أنفسهم إلا أنها تبقى في إطار الجريمة الفردية، وقد اكتشف رسميا أول وكر للأفيون في نيويورك عام 1868، ومع حلول القرن الجديد أصبح عدد المدمنين يتراوح بين 25 و50 ألف مواطن في نيويورك وحدها.
عملت أوكار الأفيون بإدارة عصابات التونغ الصينية، وهي عصابات جريمة منظمة على طريقة المافيا تعرضت لحروب دموية استمرت خمسة عقود ولكنها لم تشارك في تجارة المخدرات، إذ بقي الأفيون ومشتقاته يباع شرعيا في الصيدليات الرسمية حتى عام 1914، حين صدر قانون هاريسون الذي منعها كليا، ولم يعد بالإمكان تمويل المتعاطين عبر القنوات القانونية فانتقلت إلى تحت الأرض ما أدى إلى إثراء العصابات العاملة على ترويجها سرا إلى جانب زيادة أعداد المدمنين. أما ما يعرف اليوم بالجريمة المنظمة على فيمكن القول باختصار أنها أصبحت أسرع طريقة لجمع المال، فالأرباح الناجمة عن خمس عمليات تهريب في الولايات المتحدة تفوق ما تدره صناعة الكتب هناك طوال ما يقارب العشرة أعوام، ما جعل المبالغ المخصصة لتجارة الممنوعات تشكل عروضا لا يمكن رفضها من قبل الضالعين في الجريمة.
وهكذا نشأت الجريمة المنظمة بأشكالها الأولى من خلال أوكار الأفيون ثم تعززت بعد ذلك إثر قانون منع المخدرات. وقد أوردت تقارير عدد من المحامين والصحفيين والقضاة
أنها بلغت أقصى أشكالها في تلك الفترة من خلال علب الليل والملاهي وبيوت الدعارة التي بادرت إلى إنشائها حفنة من طلائع المهاجرين اليهود في نيويورك ممن تستروا وراء مؤسسات وأسماء وهمية اكتشف منها ما يعرف باتحاد ماكس هوشيستيم إلى جانب رابطة الإحسان المستقلة التي قام على تنظيمها نفر من تجار الرقيق الأبيض اليهود عام 1896.
كما تثبت الوثائق الرسمية أن أن معظم القائمين على إدارة هذه الملاهي وعلب الليل في المنطقة الشرقية من نيويورك كانوا من يهود روسيا واسبانيا الذين عملوا أيضا في مجال تهريب الخمور وترويج المخدرات داخل وخارج الأراضي الأمريكية، وما زالت الحركة الصهيونية تندد بمن يكشفون النقاب عن حقيقة تورط اليهود في أولى عمليات الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة وتتهمهم بمعادات السامية. كما احتكر اليهود في تلك الفترة تصنيع وبيع وتصدير الكحول في الولايات المتحدة مستغلين إعفائهم من القانون الأمريكي الذي يحظر الخمور لأسباب دينية، ما فتح أمامهم كل أبواب العمل والاتجار وتهريب الكحول من وإلى أرجاء القارة. وقد كتب جون فوستر فريزير في كتاب "اليهودي الفاتح" الذي أصدرته شركة فونك وداغنلز عام 1916 يقول:" أن اليهود يؤلفون 80% من أعضاء الاتحاد العام لتجار الخمور، كما ثبت أن 60% من صناعة وتقطير الوسكي والتجارة به بالجملة في أيدي اليهود الذين يسيطرون كوسطاء على إنتاج النبيذ في كليفورنيا".
كما كتب ويل أوروين الذي كان يعمل في مجلة "كوليير" الأسبوعية عام 1908 يقول:" أن الجن الأسود الذي تنتجه الخمور اليهودية المسمومة يحتوي على عناصر استفزاز، ويعيد تاريخه إلى فترة برزت فيها جرائم المواطنين السود بأشكال خطيرة، وكانت الأماكن الذي يباع فيها هذا الجن هي نفس الأماكن التي انتشرت فيها هذه الجرائم. وقد بلغت قوة عصابات الجريمة اليهودية المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية حدا تمكن فيها أحد كبار زعماء عصابات الابتزاز والقمار والدعارة اليهودي الهولندي آرثر فلينغينهيمير من الفوز بالقضية التي رفعت ضده من قبل السلطات الأمريكية المختصة في العشرينات وذلك عبر شراء القضاة ورشوتهم حتى أصدروا حكما لا يدينه إلا بتهمة التهرب من دفع الضرائب لا أكثر. كما بلغت سلطة آرثر الشهير بشولتز أن تمكن عام أربعة وعشرين من خلال آلة ناديه الانتخابية من إيصال كاتب الأغنية المغمور جيمي واكر إلى رئاسة البلدية في نيويورك، ليقدم التسهيلات اللازمة للهولندي اليهودي وعصاباته مقابل حصوله على الدعم الانتخابي اللازم، الذي كانوا يحصلون عليه مقابل منح الناخبين المخلصين الفحم المجاني في الشتاء والثلج المجاني في الصيف. وهكذا أخذت عصابات الجريمة المنظمة تنتشر تدريجيا في أوساط المجتمع الأميركي الذي يطرح اليوم على أعلى المستويات وبجدية أكبر عواقب ازدهارها في أوساط الشبان، خصوصا وأنه لا يوفر أي من السكان هناك بما في ذلك أحياء الانغلوساكسون واللاتينية والآسيوية وحتى العربية فهناك عصابات تعرف بعصابات الاربنايتس أو الاربكلابس المنتشرة في أوساط شبان الجاليات العربية في الولايات المتحدة وكندا.
وقد بدأت هذه الأقليات تطرح ضمن أوساطها في المجتمع الأميركي مشكلة شعورها بالتهديد من قبل عصابات خارجة عن القانون، دون أن تحظى بالحماية اللازمة من قبل المؤسسات الشرعية، وكأنها تبرر حاجتها الماسة لحماية نفسها عبر أدوات تمكنها من التغلب على أساليب الفصل العنصري التي تطبق في شوارع وأحياء المدن الأمريكية وتستهدف الجميع دون استثناء. لمزيد من تسليط الضوء على حجم هذه الآفة التي تصيب المجتمع الأمريكي اليوم سنترك للإحصاءات الأمريكية أن تتحدث بنفسها عن هذا الواقع، إذ ذكرت مصادرها مؤخرا أن نسبة الشبان تحت الثامنة عشرة تشكل حوالي خمس المجرمين المعتقلين في الولايات المتحدة الأمريكية وأن ارتكاب الجرائم بين الشبان هناك تزيد بنسبة خمسين بالمائة كل أربعة أعوام. وأن عصابات الأحياء الأمريكية التي تتألف من الشبان متورطة في سبعة وعشرين بالمائة من اعتقالات بيع الكوكايين وأكثر من 12% من اعتقالات بيع المخدرات الأخرى. تقدر المصادر نفسها أن السرقات السنوية في الولايات المتحدة تصل إلى خمسمائة وسبعة ملايين دولار، وتصل خسائر حوادث التعاطي سنويا في أمريكا إلى سبعين مليار دولار. كما تسبب عصابات الابتزاز في لوس أنجيلوس وحدها خسائر سنوية تقدر قيمتها بأربعين مليون دولار. علما أن اضطرابات لوس أنجيلوس تسببت بخسائر في الممتلكات بلغت قيمتها 446 مليون دولار.
تؤكد مصادر وزارة العدل الأمريكية أن أكثر من مليونين ونصف المليون امرأة تتعرضن سنويا لحوادث عنف، وأن أربعين بالمائة من عمليات السرقة والسطو تحدث أثناء وجود سكان المنزل فيه، وأن مليونين ونصف المليون امرأة يستخدمن السلاح سنويا في أمريكا دفاعا عن النفس. تعمل أكثر من مليون امرأة من نساء الولايات المتحدة في مجال الدعارة. ويتعرض 95% بالمائة من العاملات في الدعارة لاعتداءات جنسية في مرحلة ما من حياتهن. كما تشهد الولايات المتحدة يوميا 234 ألف جريمة اغتصاب أو اعتداء جنسي. هذا وتشير إحصاءات وزارة الصحة والخدمات الانسانية الأمريكية بأن ثلاثة أرباع الأطفال الذين يتعرضون لاعتداءات جنسية في أمريكا هم من الفتيات. وتقول مصادر وزارة العدل الأمريكية أن خمسة وثمانين بالمائة من مواطنيها يقعون ضحية الجريمة ولو لمرة واحدة في حياتهم. والأسوأ من هذا أن الكثير من هذه الجرائم ينتهي بإصابات خطيرة أو حتى بالموت، وأن ثلاثين بالمائة من الجرائم الأمريكية تقع في الشوارع أو في المناطق المفتوحة. وتقع في الولايات المتحدة أكثر من أربعة عشر جريمة قتل يومية، كما تؤكد الاحصاءات الأمريكية وقوع نسبة سبعة فاصلة أربع جرائم قتل بين كل مائة ألف مواطن.
وأخيرا تؤكد المصادر الأمريكية أن الانتساب إلى دورات الفنون العسكرية للدفاع عن النفس قد تضاعف عدة مرات خلال الأعوام الماضية. وأن المناطق التي تقام فيها لجان حراسة محلية تقلص من معدل الجرائم بنسبة ثلاثين بالمائة. هذا ما يؤكد حجم النفوذ الذي بلغته عصابات الجريمة المنظمة بعد أن أخذت تنعم به تدريجيا منذ بدايات القرن التاسع عشر، ليبلغ ذروته مع تطبيق قانون المنع في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1919 والذي استمر حتى نهاية عقد العشرينات، الذي توافق مع وصول أعداد كبيرة من العائلات الإيطالية المهاجرة من صقلية والمنظمة أصلا فيما يعرف بكوزا نوسترا أو عصابات المافيا. دمرت المافيا الإيطالية في صقلية عام 1924 بالكامل، على يد رجل دعا إلى مواجهة القوة بالقوة. ففي أيار مايو من هذا العام قام بينيتو موسوليني بأول جولة رسمية له في هذه الجزيرة المستقلة. وصل إلى هناك وهو يحلم بتوحيد إيطاليا فوجد أن المافيا تعترض طريقه. وقفت المافيا مسلحة بالفخر والاعتزاز عقبة في طريق طموحه بالسلطة الكاملة. فأمر قبضته الحديدية سيزار ماوري بشن حملات قمع دموية هناك. حصل ماوري من خلال الأوامر الفاشية الجديدة على حرية كاملة في الحركة. فاتبع في سبيل إخضاع المافيا شعار بسيط يقول: للقضاء على المافيا يجب أن نتصرف بقسوة أشد منها. فوصل مجموع من اعتقلهم ماوري في صقلية إلى 11 ألف شخص. ضربت حملة موسوليني المافيا بجميع مستوياتها. بما في ذلك الشخصيات التي لم يسبق لها أن تعرضت للاتهامات وهي تحتل أعلى مراتب في البنية الإجرامية للمافيا. صفقت التايمز لموسوليني على "مهاجمته الوحش الكاسر في وكره والنجاح بخنقه في مهده". وفي نيويورك أعلنت عناوين الصحف بأن المافيا الإيطالية قد ماتت إلى الأبد، ولكن الحقيقة هي أنها لم تتحطم بالكامل، إلا أن عددا من رجالها أودعوا السجن، بينما أخفض البعض الآخر رأسه مختبئا وسط قرى معزولة في أعالي الجبال، كما هاجر في تلك الفترة أكثر من نصف مليون مواطن من أبناء صقلية إلى الولايات المتحدة جاءت المافيا معهم لتجد مكانا لها بين كبرى التجمعات الإجرامية هناك. شكل هذا وسيلة لتعزيز وحدة العصابات الإيطالية في الولايات المتحدة فعند وصولها إلى هناك كانت تلتقي وتعاود تنظيم نفسها من جديد للعمل في المجال الغير القانوني، وكان هذا هو السبب في كون العصابات الإيطالية أكثر تنظيما كما ساهمت خلفيتها المنظمة في إعادة تشكيلها عبر سبل سهلة نسبيا لأنها مدربة ومجهزة ومعتادة على العمل السري، فبدأت في مجال الابتزاز انطلاقا من بنية تحتية متماسكة إلى حد كبير ما سهل انخراطها في المجتمع الأميركي وسطوتها في عالم الجريمة المنظمة هناك.
يجمع الباحثون الاجتماعيون اليوم في الولايات المتحدة على عصابات الجريمة المنظمة لم تعد تقتصر على الجالية الصينية أو اليهودية والإيطالية، بل تعدت ذلك لتنتشر بين أفراد الجاليات اليابانية والكورية والفيتنامية والروسية والكوبية والكولومبية والجمايكية والشرق أوسطية وتحديدا العربية منها وغيرها من تلك التي أصبحت تشكل فروعا لجذورها في الوطن الأم.
لا شك أن لنشأت كل من هذه العصابات صلة بتاريخ البلد الذي جاءت منه، وقد ثبت بأن لبعضها صلة مباشرة بالتدخل السياسي والعسكري الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة في هذه البلدان التي جاءت منها هذه العصابات، فالعصابات الكوبية مثلا تشكلت عبر سياسة الانفتاح الأمريكية المتبعة تجاه المنشقين في كوبا وتشجيعهم على إثارة القلاقل وعدم الاستقرار هناك منذ انتصار الثورة على دكتاتورية فولهينسيو باتيستا عام 1959.
كما تؤكد الوقائع اضطرار الولايات المتحدة لاستقبال رجال هذه العصابات في أراضيها ومنحهم امتيازات لا تنعم بها بقية أفراد الجالية، ما يجعلها تلعب دورا طليعيا على رأس البنية الاجتماعية لها هناك، فإذا أخذنا نموذج كوبا على سبيل المثال نرى أن اعتماد واشنطن على هذه العصابات للقيام بعمليات تخريبية هناك يجبرها على استقبالها كالأبطال ومنحها تسهيلات تساعدها على متابعة أعمال الجريمة التي نشأت عليها في البلد الأم.
ينطبق هذا أيضا على العصابات الفيتنامية والصينية والروسية والكورية وغيرها من تلك التي نشأت وترعرعت في على ارتكاب أعمال العنف والجريمة المنظمة ثم جاءت لتنعم بشيء من الرعاية الأمريكية التي كانت تتمتع بها في بلدانها فأبقت على تنظيمها وبنيتها بل وتطورت في كثير من الأحيان وزادت من نمو أعمالها الإجرامية لتتخطى الحدود الأمريكية إلى ما وراء المحيط.
وقد بلغ انتشار عصابات الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة حد المنافسة واختصاص كل منها في مجال محدد أكثر من غيره، فرغم اعتماد العصابات الكولومبية على الابتزاز وتبييض الأموال وغيرها من أعمال أخرى إلا أنها تركز على ترويج الهيرويين بشكل خاص، بينما تركز المكسيكية على تهريب المخدرات بشكل عام، وتعنى الروسية والأوكرانية معا في أوسع إطار من الأنشطة الممنوعة الذي تعمل به أي مجموعة للجريمة المنظمة في عالم اليوم، وهكذا.. قد نرى حجم الصلة البالغة بين عصابات الجريمة المنظمة والسياسيين المقربين من واشنطن عبر نموذج العصابات الروسية التي أصبحت اليوم تشكل جزءا من المشاكل الأمنية الأكثر تعقيدا في الولايات المتحدة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي وسيطرة المافيا الروسية على أكثر من ثلثي المقدرات الاقتصادية في البلاد حسب اعترافات وزارة الداخلية الروسية وتحول روسيا إلى ما يشبه قوة الجريمة العظمى وانطلاقها إلى الولايات المتحدة لتوسيع مجالات عملها هناك.
بعد موت لينين عام أربعة وعشرين، تسلم جوزيف ستالين زمام السلطة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الجديدة أو ما عرف بالاتحاد السوفيتي، فانتشرت الجريمة على الطريقة التقليدية الناجمة عن قسوة الظروف الاقتصادية حينها، بل وتعززت في كل مكان رغم شدة القمع الستاليني، الذي أرسل أصحاب السوابق الإجرامية إلى مناطق الأشغال الشاقة التي وضع فيها السجناء السياسيين، وهكذا تلاقى المعارضين والمجرمين على خط واحد، حتى نشأ نوع من التعاون المشترك بين السجناء السياسيين وعناصر عصابات الجريمة المنظمة، التي أحيانا ما كانت تقرر ما يجري خارج السجون.
واستمر الأمر على هذا الحال خلال فترات طويلة من الحكم السوفيتي، لهذا يمكن أن نرى اليوم أن مجموعة من زعماء العصابات الذين يطلقون على أنفسهم المنشقون الأوائل كانوا ينتمون إلى مجموعات صغيرة وشديدة التنظيم تطلق على نفسها عالم اللصوص، وكان يقودها عدد من الزعماء في قمة الهرم يلقب كل منهم باللص القانوني. ما يعني أنهم يعتمدون قوانين خاصة بهم.
أي أن تاريخ هذه المجموعات يعود إلى زمن بعيد يقول البعض أنه قد يصل إلى نهايات القرن الماضي، ولكنه لعب دورا هاما في محاصرة الاتحاد السوفيتي، خصوصا على صعيد المواد الغذائية، التي كانت تواجه نقصا كالمعتاد والتوزيع كان على أسوأ حال حتى أن الخضار والفاكهة كانت تصل إلى ميناء نهر موسكو فاسدة متعفنة قبل أن تعرض للبيع. ما جعل المواطن العادي يتذمر علنا مما يجري بعد أن شعر من خلال البريستوريكا بأنه يستطيع الاحتجاج على ذلك دون تعرضه للسجن.
عززت المساعدات التي قدمتها واشنطن للمعارضين السياسيين في الاتحاد السوفيتي السابق إلى رفع مكانة عصابات الجريمة المنظمة التي عززت بدورها الفساد الإداري والترابط العضوي القائم بين رجالات السياسة على جميع المستويات وعصابات الجريمة التي أصبحت تلعب دور سلطة موازية كثيرا ما تحدد السياق العام لمؤسسات الدولة عبر نوابها وممثليها هناك. وقد بلغ حجم ما تسببه عصابات الجريمة المنظمة في روسيا من أذى حد إخراج العديد من رؤوس الأموال الروسية من البلد عبر بنوك أجنبية، بينما تقوم الجريمة المنظمة في إيطاليا وكولومبيا والمكسيك باستثمار الأموال في البلد، أي أنها لا تستثمر على الإطلاق في روسيا أو أي من الجمهوريات السوفيتية السابقة، بل تستولي على المقدرات الاقتصادية في البلد دون أن تعيد إليه أي من رؤوس أمواله.
في بداية عقد الثمانين تحول برايتون بيتش إلى محط اهتمام للهجرة الروسية المتوجهة إلى الولايات المتحدة، الشرعية منها وغير الشرعية، وقد أصبحت هذه المنطقة المفضلة لدى المهاجرين الروس الذين جاءوا عبر مختلف السبل، وتحديدا الذين هاجروا في السبعينات، عندما بدأت تصل مجوعات يهودية كبيرة من الاتحاد السوفيتي السابق كانت تنزل أولا في مطار كندي، ثم تتوزع على مناطق عدة لينتهي بها الأمر في نهاية المطاف ضمن مناطق تجمع خاصة بهم. شهدت روسيا ثورتين خلال قرن واحد. ولكن الثورة الأخيرة تركت أثر إجرامي كاد ينتشر في أرجاء العالم، ذلك أن نشاطات الجريمة الأمريكية الروسية المنظمة سجلت في أكثر من عشرين ولاية، علما أن ازدهارها الاقتصادي برز بوضوح في نيويورك، ولوس أنجلوس وسان فرنسيسكو وميامي. ربما تم التعاون الأمريكي مع رجالات الجريمة الروسية المنظمة بشكل غير مباشر أو عبر الترابط العضوي القائم بين السياسيين المناهضين للنظام السوفيتي وتلك العصابات، إلا أن ما يعانيه بلد أوروبي غربي كإيطاليا حتى اليوم من تحديات في مواجهة المافيا وما ينجم عن ذلك من أحداث دامية يشير بأصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة التي لم تتردد في التعاون المباشر مع المافيا الإيطالية بل وتحويلها إلى قوة سياسية هامة تتحكم في مصير أمة بكاملها.
بدأت قصة التعاون الجدي بين واشنطن وعصابات المافيا الإيطالية بعد أن تم إغراق 151 سفينة تجارية على طول الشواطئ الأمريكية الشرقية بين إعلان الحرب العالمية الثانية في السابع من كانون أول ديسمبر من عام 1941 وآذار مارس من عام 1942.
عززت البحرية الأمريكية استخباراتها على الشواطيء الأمريكية وسط عالم من الخارجين عن القانون، فوزعت رجالها بين الأسواق وركزت أنشطتها وسط عصابات الجريمة العاملة في تلك الأحياء من نيويورك. وكانت أسواق السمك في شارع فيلتون واحدة من هذه المناطق التي تسيطر عليها عصابات الابتزاز ولا تدخلها الاستخبارات البحرية. كان لسوق السمك في شارع فولتون استخباراته الخاصة به إذ تستقر في أدنى الجانب الشرقي واحدة من أكثر إمبراطوريات الجريمة فسادا في مانهاتن، حيث تعمل أعداد كبيرة من المهاجرين الإيطاليين تحت سيطرة المافيا. كما لم تكن الاستخبارات البحرية متأكدة من مستوى الوفاء لدى سكان شارع فولتون.
اتضحت احتمالات التخريب يوم التاسع من شباط فبراير من عام 1942، عندما اشتعلت النيران في سفينة الإس إس نورماندي، التي جهزت أصلا لتكون سفينة عسكرية، وذلك في الجانب الغربي من الشواطئ. يوم السادس والعشرين من آذار مارس من عام اثنين وأربعين، اتخذت الاستخبارات البحرية قرارا تاريخيا أكد عدم تردد واشنطن في التعاون الوثيق مع رجالات الجريمة المنظمة والتعامل معها كقوة فاعلة على الأرض ما ترك أثرا كبيرا على ازدهار المافيا في الولايات المتحدة أولا ومن ثم في جزيرة صقلية، وما زال يؤثر حتى اليوم على الدولة الإيطالية بكاملها.
عقدت الاستخبارات البحرية الأمريكية في تلك الليلة اجتماعا سريا عند منتصف الليل في حديقة عامة تقع على ضفة نهر في نيويورك.
مثل عصابات المافيا الإيطالية في هذا الاجتماع وكيل أعمال يونايتد سيفود وركرز، وهو شاب اسمه جو سوكس لانسا، لم يكن في الواقع إلا مرؤوسا لدى سلفاتوري لوكانيا الملقب بشارلز لاكي لوشيانو زعيم المافيا الرئيسي في الولايات المتحدة الذي ولد وسط صقلية، موطن المافيا، لتنعته الصحافة بلقب "عبقري الرذيلة المنظمة" والمحكوم بتهمة الدعارة وإدارة مجموعة من علب الليل والتجارة بالرقيق، رغم علم السلطات بأن ذنبه أعمق من ذلك بكثير، إذ كان لوشيانو عرّابا لأكثر العصابات وحشية في نيويورك.
سئل سوكس لانسا حينها إن كان مستعدا لمساعدة البحرية. فأجاب ببساطة أنه مستعد لذلك مائة بالمائة. كان سوكس بالغ القسوة يسيطر على أسواق السمك أسفل الجانب الشرقي ويتمتع بقوة كبيرة لا أحد يستطيع معها بيع السمك دون موافقة منه، وذلك مقابل مبالغ مقطوعة يضمن مقابلها حمايتهم أو هذا ما يدعيه على الأقل. وقد نبعت موافقته على تقديم المساعدة للبحرية الأمريكية من حقيقة مواجهته لحكم بالسجن بتهمة الابتزاز والتهديد. وهكذا سارع في توجيه الأوامر من مكتبه الرئيسي في فندق ماير إلى جميع العاملين على الشواطئ الشرقية تحت جسر بروكلين، من حمالين وعمال السفن وصيادين، أن عليهم الإبلاغ عن أي تحركات مشبوهة. نظم لانسا بطاقات نقابية مزورة لعملاء البحرية، فهربهم إلى الحانات والأرصفة وعلى متن السفن. أي أن شراكة نشأت بين استخبارات البحرية والمافيا في شارع فولتون. ولكن طموحات واشنطن كانت أبعد من شارع فولتون. كانت يحلم بتوسيع المشروع إلى ما هو أبعد من حدود العالم السري في نيويورك. إلا أن تأثير لانسا كان محدودا. وحين أرادت البحرية المزيد اضطرت للتوجه إلى مستويات أعلى. فاقترح عليه لانسا شخصية يمكن أن يضمن للبحرية نيويورك بكاملها.
كان لوشيانو على مسافة ثلاثمائة ميل من نيويورك على الحدود الأمريكية-الكندية في سجن يتمتع بالاحتياطات الأمنية القصوى يلقبونه بسيبيريا. وضعت البحرية الأمريكية خطة سرية كاملة وضعت على رأسها التحري السابق شارل ريد هافندين الذي قرر التحدث مع لوشيانو من خلال محاميه.
وافق المحامي بولاكوف على الاتصال بلوشيانو مشترطا نقل موكله إلى سجن أقرب من المدينة. يوم الثاني عشر من أيار مايو من عام اثنين وأربعين، نقل تسعة مساجين إلى سجن غريت ميدو الذي يسهل الوصول إليه من نيويورك، وكان من بينهم شارلز لاكي لوشيانو المحكوم بفترة سجن تتراوح بين أربعين وستين عاما، لم يكن قد أمضى منها أكثر من ستة أعوام فقط. وهكذا وافق أقوى زعيم لعصابات المافيا في الولايات المتحدة على تقديم المساعدة للبحرية الأمريكية. وفي الشهر التالي قامت شخصيات بارزة من كبار زعماء الجريمة الأمريكية المنظمة في نيويورك بزيارة سجن غريت ميدو الذي تحول إلى ما يشبه النادي أو المنتجع الريفي الراقي كما وصفته الصحف الأمريكية حينها. لم ترشح أي معلومات عن هوية هؤلاء الزوار من عالم نيويورك السري، كما لم تتضح المسائل التي جرى الحديث عنها مع لوشيانو.. وهكذا أصبحت الاستخبارات البحرية الأمريكية تعتمد على هذه الحفنة من المجرمين بل وتتعاون معها على أرفع المستويات. ومن المحتمل أن تكون الجهات الرسمية الأمريكية قد أحرقت كل الوثائق والسجلات المتعلقة بصلاتها السرية مع المافيا، أو هذا ما أشيع على الأقل، بما في ذلك دفتر ملاحظات شارل هافندن الخاص، والذي يحتوي على أسماء الذين تم الاتصال بهم من رجالات الجريمة حينها. ربما فقد الكثير من تفاصيل هذه المؤامرة. ولكن المؤكد هو أن استخبارات البحرية شجعت المافيا على ازدهار أعمالها عند الشواطئ الشرقية، وقد بلغ الأمر بهذه الشرطة الغير رسمية أن عززت العمليات الوحشية التي تقوم بها قيادة المافيا، بما في ذلك جرائم القتل بدم بارد. ويقال أن البحرية الأمريكية اتصلت عبر لوشيانو بشخصيات على غرار القاتل المأجور كو أي ديون للتعاون مع زملائه في قتل شخصين قيل أنهما مشبوهين بالتجسس لصالح ألمانيا. عززت النجاحات التي تم تحقيقها في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية قرار الحلفاء باجتياح أوروبا، فكانت صقلية هي نقطة الانطلاق، ما جعل الاستخبارات تحتل الأولوية الأهم، فقرر شارل هافندين والبحرية الأمريكية من ورائه استغلال العلاقات السرية القائمة مع المافيا لتقديم المعلومات التي يمكن أن تساعد في الهجوم على هذه الجزيرة الإيطالية. وهكذا وضع الاتفاق السري مع المافيا الإيطالية رهن التطبيق على خطوط الجبهة في أوروبا.
بأوامر من لوشيانو جاء الأمريكيون من أبناء صقلية بما لديهم من معلومات عن الوطن إلى مركز قيادة الاستخبارات البحرية، فحصلت الاستخبارات الأمريكية من خلالها على لائحة بأسماء مفاتيح المافيا للاتصال بها عند الاجتياح. وكان من بينهم أشخاص مثل فيتو جينوفيس، وهو ساعد لوشيانو الأيمن الذي كان يختبئ في إيطاليا هربا من تهمة أمريكية بالقتل.. ودون كالو فيشيني الذي كان ما يزال يمضي حكما بالسجن في صقلية، إلى حيث نزل الحلفاء في تموز يوليو من عام 1943بمساعدة المافيا التي استعدت للتمتع بمستقبل أفضل بعد هزيمة موسوليني. عند استيلاء الحلفاء على صقلية عملوا على تسليم زمام الأمور لأشخاص قادرين على بسط سلطاتهم، ما يتطلب ألا يكونوا على أي صلة بالفاشية أو بالشيوعيين. وهكذا سلموا السلطات للمافيا في عدد كبير من مناطق صقلية. لم يتضح بعد حتى اليوم بالنسبة لأوساط الإيطاليين الرسميين على الأقل ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك عن قصد أم أن المافيا كانت مستعدة لانتهاز الفرصة الجديدة المتاحة للعودة إلى مواقع السلطة.
تولى جوزيف روسو في صقلية مسؤولية مكتب الأو إس إس، المؤسسة التي تحولت فيما بعد إلى وكالة السي أي إيه، وقد اعترف في مقابلة تلفزيونية أجريت معه قبل سنوات بأن أو ما فعله عند وصوله إلى صقلية هو البحث عن المالافيتا، أي المجرمين ليتبين له لاحقا أنهم في الغالب من المافيا، والذين تحولوا فورا إلى أهم مصادر المعلومات السياسية للأو إس إس. عملت القوات الأمريكية بعد التحرير على إعادة بناء الحكومة المحلية فبدأت بتعيين رئيس بلدية في كل بلدة وقرية تستقر فيها. وعندما جاء دور بلدة فيلالبا قامت بإخراج دون كالو فيشيني من السجن وهو الزعيم المعروف للمافيا في صقلية، فبعد استشارة لاكي لوشيان علم الأمريكيون ما هي مواصفاته ومن هو دون كالو وما الذي يمكن أن يفعله في صقلية، رغم ذلك قاموا في تموز يوليو من عام 1943 بتعيينه رئيسا لبلدية فيلالبا. ولم يكن هذا حال فيلالبا وحدها، بل جاء قادة المافيا الواحد تلو الآخر.
بل كان هذا هو حال 95% من رؤساء بلديات القرى والبلدات الذين تم تعيينهم في صقلية حسب اعترافات جوزيف روسو مسؤول مكتب الأو إس إس هناك. فقد عين كالو فيشيني في بلدة فيلالبا، وسالفاتور مالتا في فيلالونغا، وجينكو روسو مراقبا للشئون العسكرية والمدنية في موسوميلي، وجميعهم من المافيا التي حكمت نصف المنطقة تقريبا. يتضح مستوى التقارب في هذه العلاقات في مذكرة لدى الأو إس إس تتحدث عن الظروف السياسية الفعلية لسكان صقلية تحمل تاريخ الثالث والعشرين من شباط فبراير من عام 1944. وهي تقول" تلعب المافيا اليوم وأكثر من أي وقت مضى دورا فعالا في الحياة السياسية للجزيرة. وهي تسعى لإثبات وفائها وإخلاصها بطريقة سرية للإرادة السياسية للولايات المتحدة". في شباط فبراير من عام 1944، أنشئت قنصلية أمريكية في صقلية، لتكون الأولى التي يتم إنشاؤها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كان القنصل ألفريد نيستير يعتمد في القنصلية على الأو إس إس في معلوماته الإستخباراتية. وكانت الأو إس إس بدورها تعتمد في معلوماتها على المافيا، التي كانت وجهات نظرها تنقل بذلك مباشرة إلى واشنطن، حيث وضعت رموز للأسماء، فكان دادي هو القنصل ألفريد نيستير، وبولفروغ هو زعيم المافيا دون كالو فيشيني. كما كان ضابط اتصال الأو إس إس بينهما جوزيف روسو. عندما أعلنت باليرمو عاصمة لصقلية التي تمتعت حينها بحكم ذاتي في الدولة الإيطالية، تدفقت أموال طائلة إلى الجزيرة ولم تتخلف المافيا عن اللحاق بها. شهدت باليرمو ازدهار عمراني فريد ما دفع المافيا إلى العمل في العقارات على أوسع المستويات،
بلغ الخوف حدوده القصوى من وصول الشيوعيين إلى التحالفات السياسية في إيطاليا. كان الشيوعيون قوة محورية لها وزنها في الأصوات التي تحسم السياسة الإيطالية. لهذا مارست الحكومة الأمريكية ضغوطا كثيرة على الحكومة الإيطالية لمنع الشيوعيين من المشاركة في التحالف. هذا هو الضغط الذي منح الجريمة المنظمة في الجنوب قوة سياسية هامة. تقول الدكتورة لويس شيلي المحاضرة في الجامعة الأمريكية في واشنطن حيث تدير مركز الجريمة والفساد في العالم، أن
منظمات الجريمة استولت على هذه العقود وحققت الثراء عبر مشاريع إعادة الاعمار هناك وذلك من خلال دفع الرشوة للحصول على تلك العقود فحصلت على تحويلات بمبالغ طائلة من الدولة محققة ثراء فاحشا عبر تجارتها الفاسدة ونشاطاتها في أعمال الشأن العام.
نستطيع القول بأن التعاون الأمريكي الرسمي مع المافيا الإيطالية ينطبق بشكل أو بآخر على بقية العصابات الأمريكية مهما تعددت جذورها، ففي اليابان استعانت واشنطن خلال الحرب العالمية الثانية بالعصابات اليابانية لفرض هيمنتها على هذا البلد، فبعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناغاساكي واستسلام طوكيو لم يجد الأميركيون من يتعاون معهم ممن يتمتعون بالقوة والتنظيم اللازمين لفرص الهيمنة هناك.
وهكذا اعتمدت السلطات العسكرية الحاكمة على حفنة من رجالات الساموراي القدامى والعصابات القديمة المنظمة فأعادتها إلى الشارع بعد إخراج زعمائها من السجون وتمكينهم من الوصول إلى سدة الحكم والسلطة في عدة مناطق أساسية ما ساعد هذه العصابات على أن تقوى وتزدهر، عبر استخدامها من قبل القوات الأميركية في فرض هيمنتها على اليابان.
أي أن القوات الأمريكية كانت تخرج مجرما كبيرا من السجن وتضعه في موقع سياسي هام لتعمل من خلال الأيدي الخفية التي لديه على إخضاع السياسيين الذين تتعامل معهم وفرض سياستها على البلد وعندما تعجز عن فرض شرط ماعلى هؤلاء السياسين تطلب من هذا المجرم الذي أخرجته من السجن تحريك يده الخفية لضرب هذا السياسي أو ذاك لتأديبه وبالتالي تنفيذ مشاريعها السياسية. هذه مسألة طبقتها في اليابان وفي كوريا عبر عصابات الجريمة المنظمة التي شهدت في تلك الفترة مرحلة ازدهار كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية عززت عصابات المافيا في إيطاليا وعصابات الجريمة المنظمة في اليابان وغيرها.
ينطبق هذا على مختلف المناطق بما في ذلك أمريكا اللاتينية التي تعززت أيضا في فترة الخمسينات والستينات عندما أخذت الدكتاتوريات العسكرية تسيطر على الحكم هناك، وقد واجهت في تلك الفترة مشاكل كبيرة لأن السلطات الأميركية سلمتها حكومات ودول ضعيفة جدا وكانت تفرض عليها شروطا كبيرة لربط اقتصاد دولها بالعجلة التجارية الأمريكية وجعلها تابعة للولايات المتحدة بالكامل، وكانت تستخدم عصابات المخدرات لفرض شروطها على السياسيين، ما أدى إلى تعزيز قوة تلك العصابات وتحولها إلى سلطات موازية او ما يشبه دول داخل دول. ساهم التعاون الأمريكي مع هذه العصابات المنظمة في العالم فيما نراه اليوم من كوارث تصيب العالم على مستوى الجريمة بل وحتى على صعيد وسائل التجارة العالمية الأساسية التي تعود بمليارات الدولارات على سكان المعمورة، والتي تحتل فيها تجارة النفط المرتبة الأولى، ثم تليه تجارة الأسلحة من حيث العائدات المالية بينما تأتي تجارة المخدرات رغم تحريمها في المرتبة الثالثة، وهي تجارة غير قانونية وغير مشروعة تشرف عليها عصابات ما كانت لتنمو وتزدهر لولا الدعم الأمريكي لها والتعاون معها في ظروف سياسية معينة.
أواسط عام سبعة وأربعين أقام الرئيس ترومان وكالة الاستخبارات المركزية، وهي تضم اليوم في مكاتبها الرئيسية 18 ألف شخص، تدعي إدارتها أن مهمتها الأساسية تكمن في جمع المعلومات وتحليلها، إلا أنها انشغلت على مدار نصف من عمرها بارتكاب مجموعة من أبشع الجرائم السياسية والانسانية التي أودت بحياة ملايين البشر ضمن سعيها العقيم لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم، والذي تكلل بالفشل في أغلب الأحيان.
رغم الشهرة التي تتمتع بها السي أي إيه إلا أن وكالة الأمن القومي التي تعرف بالإن إس إيه لا تقل شأنا عنها بل وقد تفوقها في بعض الأحيان إذ وصل عدد العاملين فيها إلى 40 ألف شخص من الخبراء في اللغات والإلكترونيات والشيفرات والاتصالات وغيرها.
والحقيقة أن أنشطة الاستخبارات الأمريكية تعود إلى ما قبل ذلك بكثير حين تم اعتقال الدكتور بنيامين تشيرس، المستشار الطبي الخاص للرئيس جورج واشنطن وعضو الكونغرس المحلي عن ولاية ماساتشوسيس بتهمة إرسال معلومات سرية مشفرة لقائد القوات البريطانية في أمريكا حول تسليح الجيش الأمريكي وتفاصيل خطة لغزو كندا وعدد المدافع في منطقة نيويورك وبعض المعلومات الاقتصادية الهامة. وقد أبرزت هذه القضية نفسها أسلوب الجريمة والغدر الذي تتبعته أجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ تلك الفترة فبعد طرد الدكتور تشيرس من عضوية الكونغرس والحكم عليه بالنفي عام 1780، حصل أثناء ترحيله بحرا أن تعرضت سفينته بكل من عليها للغرق في ظروف غامضة، علما أن تقارير تلك الفترة تؤكد بأنه ذهب ضحية عملية اغتيال جاسوسية قيل أنها الأولى التي تتم ب|أي عملاء الاستخبارات الأمريكية.
لا أحد يعرف بدقة إن كانت هذه هي الجريمة الأولى التي ارتكبتها أجهزة الاستخبارات السرية الأمريكية ولكن المؤكد والموثق لدى الدوائر الأمريكية نفسها هي أنها لم تكن آخر تلك الجرائم التي تخطى ضحاياها الملايين والتي يبرز من بينها ما يعرف بمشروع أو خطة فينيكس التي وصفت في أنها برمجة للإرهاب والكوابيس وسلسلة طويلة من المقابر الجماعية التي تعرض لها الأبرياء في فيتنام.
فيتنام
أعد برنامج فينيكس من قبل السي أي إيه وتشكلت وحداته من مجموعات شاركت فيها أعداد كبيرة من القوات الخاصة الجنوبية. وقد أعلن أنه يسعى إلى تحديد هوية المشاركين في المعارك السرية واعتقالهم واستجوابهم وقتلهم عند اللزوم. وقد أوكلت هذه المهمة في شباط فبراير من عام 1968 إلى ضابط السي أي إيه روبرت كومر الذي منح صلاحيات بمستوى السفراء وانفصلت معسكرات تدريباته عن القيادة الأمريكية بكاملها.
يكمن برنامج فينيكس بالتغلب على الفيتكونغ عبر أساليبهم. فاستعانوا بالأساطير والتقاليد الفيتنامية لمحاربة الأيديولوجية الشيوعية. مع نهاية عام ثمانية وستين تولى وليام كولبي مسئولية برنامج فينيكس من روبرت كومر. وقد دافع عن هذا البرنامج في جلسة استماع للكونغريس بدأت بعد عامين من ذلك ليأتي دفاعه كما يلي:
مستجوب: ما هو عدد الأشخاص الذين تمت تصفيتهم حسب تقديرك؟ كولبي: أعتقد أن الأرقام أواسط عام واحد وسبعين تشير حسب الشهود حينها أنه تم اعتقال ثمانية وعشرون ألف شخص، وأن عشرون ألفا قد قتلوا، كما سجن حوالي سبعة عشر ألف في تلك الفترة. عند وصول ضابط السي أي إيه فرانك سنيب لأول مرة إلى فيتنام، عمل في محافظة تاي نين ضمن برنامج فينيكس عبر مجالي العمليات والتحليل. وقد تركت فيه فيتنام أثرا لا يمحى وهو يقول عن تلك التجربة أنه كلف عند وصوله إلى سايغون عام 1969 بوضع لائحة بكوادر الفيتكونغ الذين يجب استهدافهم عبر برنامج فينيكس. كما يعترف بأن مشروع فينيكس أصبح أشبه بضربات المافيا في الحي الإيطالي في نيويورك، إذ كان عناصر البرنامج يدخلون إلى أحد المطاعم مثلا لإخراج أحد كوادر الفيتكونغ، ولكنهم يقومون أثناء هذه المحاولة بقتل أعداد كبيرة من الأبرياء، من بينهم عمال المطعم والزبائن الجالسين هناك، الذين ما كان يجب قتلهم، ولكنهم كانوا يقتلون لزيادة عدد القتلى على لوائح الأشخاص المستهدفين. ويضيف سنيب أنهم قاموا باحصاء عدد القتلى الذين سقطوا أثناء عمليات فينيكس، ليتبين أن عدد القتلى يفوق بكثير عدد كوادر هيكلية الثوار الفيتناميين، أي أنهم بعبارة أخرى كانوا يقتلون أفرادا لا ينتمون إلى خلايا الثوار. وهكذا انتهى برنامج فينيكس عام 1975، وانسحب الجيش الأمريكي بكامله، وانهار جنوب فيتنام المدعوم من قبل الولايات المتحدة. في آذار مارس من عام 1975 أطلق الفيتكونغ والفيتناميون الشماليين حملة واسعة النطاق على الجنوب أدت إلى انهيار الالقوات الأمريكية خلال بضعة أسابيع، فأمرت بإجلاء ما تبقى من أمريكيين في فيتنام بعد ان ساء الوضع العسكري المحيط بسايغون وخصوصا في المطار إلى حد يجعل من هذه الإجراءات ضرورية لضمان سلامتهم.
وفي التاسع والعشرين من نيسان أبريل تم اجتياح مطار سايغون، وأصبحت طائرات الهليكوبتر وسيلة الإجلاء الوحيدة المتوفرة هناك. كانت السي أي إيه تحتل الطوابق الثلاثة العليا من السفارة الأمريكية في فيتنام لتشكل أكبر مركز للسي أي إيه في العالم. وذلك في مبنى هو آخر ما تم إجلائه عند انسحاب الأمريكيين الذين تمكنت قلة قليلة من مساعديهم الفيتناميين فقط من الفرار معهم. خلال ظهيرة اليوم الأخير أخذت طائرات هليكوبتر كبيرة تحط لإجلاء آخر دفعات من الأمريكيين مع بعض الفيتناميين العملاء، وفي تلك الأثناء فتحت بعض أكياس الوثائق المتلفة التي وضعت على أطراف المرآب كي تحرق، وأخذت أجزاء الوثائق الهامة المتوفرة في السفارة تنتشر حول الأشجار في مجمع مباني السفارة. هي نفايات أوراق تمكن الثوار عند وصولهم من جمعها والكشف عن الأسرار التي خلفها الأمريكيون ورائهم.
تمكن الفيتناميون من الحصول على لوائح بأسماء مجموعات من المتعاونين العاملين في برنامج فينيكس ما سهل عليهم النيل منهم ومعاقبة جميع العملاء الأمريكيين وفق لوائح تركها رجال السي أي إيه أنفسهم. وهكذا أحرز الثوار الفيتناميون نصرا ساحقا، وتعرضت الولايات المتحدة بجبروتها لهزيمة نكراء على يد سلطة فلاّحيه متواضعة رغم برامج القتل والإبادة الجماعية التي قامت بها السي أي إيه على أشكالها. ولم تهزم السي أي إيه في فيتنام وحدها بل هناك أمثلة ونماذج كثيرة تؤكد إمكانية التغلب على مشاريع التسلط الأمريكية وردها على أعقابها.
كوبا
انطلق فيديل كاسترو من جبال سيرا مايسترا في كوبا معلنا حرب عصابات أطاحت عام 1959 بدكتاتورية فولهينسيو باتيستا العميلة للولايات المتحدة، ثم سارع بإقامة نظام اشتراكي في كوبا اعتبرته واشنطن الولايات المتحدة نقطة انطلاق لنشر الشيوعية في جنوب القارة الأمريكية، فأمرت السي أي إيه بإزاحته عن السلطة. في نيسان أبريل من عام 1961 واحد وستين قامت فرقة من المهاجرين الكوبيين المدربين والمسلحين على يد السي أي إيه بمحاولة للإطاحة بفيديل كاسترو عبر النزول في خليج الخنازير والاستيلاء على الشواطئ مستغلة ضعف وحدات كاسترو العسكرية في تلك المنطقة. أجريت عدة محاولات لاغتيال فيديل كاسترو عبر سبل المافيا وعصابات الجريمة المنظمة استعدادا لاجتياح خليج الخنازير. قدرت السي أي إيه أن اختفاء كاسترو عن الساحة قبل الاجتياح سيؤدي إلى حالة من الفوضى ما يسهل القضاء على أي نظام يتبعه عبر هذا الغزو، ومن أبرز محاولات الاغتيال تلك التي قاموا من خلالها بتجنيد خطيبته إلونا ماريتا لورينس، والتي اعترفت بما حاولت القيام به في عدة مناسبات. إلتقت إلونا ماريتا لورينس بالدكتور فيديل كاسترو روس في السابع والعشرين من شباط فبراير من عام 1959 تسعة وخمسين. وبعد ذلك جندتها السي أي إيه للقضاء عليه وقد كانت كما تقول شابة حمقاء ومراهقة كبرت إلى جانبه وهو في عامه الأول من قيادة الثورة.
تقول إلونا لورينس أنهم وجدوا السُم من افضل الطرق بعد أن درسوا مختلف الوسائل الممكنة لقتله ومنها إطلاق النار وطعنه بالسكين، وأخيرا أعطيت ماريتا لورينس كبسولة من السم فوضعتها في علبة كريم بوند المرطب، الذي يحمي الوجه من التجاعيد. عندما وصلت إلى الهيلتون لم تجد فيديل هناك. فتصرفت بطريقة طبيعية ووضعت الأسطوانة المعتادة وانتظرته حتى وصل. سألته إن كان جائع؟ فقال نعم. فدخلت إلى الحمام وفتحت مستوعب الكريم، لتجد أن الدهن قد ذاب بفعل الرطوبة والحرارة، وتحولت الكبسولات الهلامية إلى ما يشبه الصمغ، فألقت بها في المرحاض ونجى فيديل من الموت. غادرت ماريتا لورينس كوبا بعد ان اختارت العيش في الولايات المتحدة بقية حياتها حيث لا تترد بسرد قصتها كلما سنحت لها الفرصة.
تعاونت السي أي إيه مع المافيا على أمل التخلص من فيديل كاسترو، فاتصلت بأحد زعمائها الذي عرف باسم جوني روسيلي. وكان روبرت ماهيو وسيلة اتصالهم معه. فالتقى ماهيو بروسيلي حسب اعترافات الأول وأخبره بأن الحكومة الأمريكية تقف وراء هذه العملية، وأنها جزء لا يتجزأ من اجتياح كوبا، ثم في وقت لاحق بسام جينكارنا، أهم رجال المافيا في شيكاغو، الذي كان النائب العام روبرت كندي شقيق الرئيس حينها، يحاول إدانته بتهمة القتل.
وهكذا تعرض كاسترو لعدة محاولات اغتيال شاركت بها المافيا أولا عبر دس في كوب من أي سائل، فهي بلا طعم ولا رائحة، كما أن مفعولها لا يبدأ إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. ثم قامت المافيا الأمريكية باعداد ثلاثة أشخاص تظاهروا بأنهم ضمن فريق تصوير يعمل في شركة تلفزيون فينيفيزيون الفنزويلية. كان الهدف من ذلك إخفاء مسدس داخل الكاميرا التلفزيونية، وانتهاز فرصة وجود أكثر من ثمانمائة صحفي هناك لاغتيال كاسترو. عرف عن كاسترو حبه للغطس وجمع أصداف البحر من قاع البحر، لهذا تم الحصول على صدفة مثيرة جدا، جرى وضعها بشكل يلفت انتباه فيديل الذي يفترض يأتي مرتديا منظاره أو ما شابه، ليلتقط الصدفة الجميلة ويضمها إلى مجموعته فتنفجر كاللغم حين يلمسها للتخلص بذلك منه. حاولت مجموعة من الكوبيين الذين جندتهم السي أي إيه قتله أثناء زيارة أول رجل فضاء سوفيتي إلى كوبا، ولم ينجحوا لأنهم استعانوا بصاروخ بازوكا تبللت آلية عمله أثناء إدخاله إلى كوبا. والحقيقة أنهم لو تمكنوا من إطلاق الصاروخ، لما اقتصر الأمر على قتل كاسترو وحده بل وكاد يقضي على رجل الفضاء ومن معه من مدنيين آخرين. جند رولندو كوبيلاس من قبل السي أي إيه حين أصبح من الضباط المتذمرين لدى فيديل. أثناء إعداده لخطة الإعدام في نوادي هافانا الليلية أدركه جهاز مكافحة التجسس الكوبي فاعتقل على الفور وسجن لمدة خمسة عشر عاما.
تمكن جهاز مكافحة التجسس من اكتشاف أكثر من خمسين محاولة اغتيال لفيديل كاسترو، كما نجح في اختراق غالبية محاولات السي أي إيه لقتله، وكان من بينها خطة لقتله في استعراض شعبي حاشد أمام القصر الجمهوري تكمن باستغلال حشد شعبي هائل أمام القصر الرئاسي وعند بدء الاستعراض يطلقون النار من هذه الشقة المواجهة للشرفة الشمالية بصاروخ بازوكا أعدّته السي أي إيه. عند فشل محاولات الاغتيال جميعها لم تعد واشنطن قادرة على الانتظار فأمر الرئيس كندي بتنفيذ إنزال خليج الخنازير رغم بقاء كاسترو على قيد الحياة. ولكن صمود كوبا شاء أن يجعل من الهزيمة الأمريكية في خليج الخنازير حدثا تاريخيا هاما لم يشكل انتصارا للثورة الكوبية فحسب وبل كان أعظم هزيمة منيت بها الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، كما أدى النصر الكوبي في صد العدوان الأمريكي إلى إعلان الطابع الاشتراكي لثورة فيديل. قال الرئيس كندي حينها أنه يميل إلى رمي السي أي إيه في مهب الريح. فقد تملكه الغضب الشديد ولكن الغرابة في الأمر هو أنه لجأ إلى السي أي إيه بعد عامين أو ثلاثة للقيام بمزيد من الأعمال العدوانية ضد كوبا، ففي تشرين أول من عام 1962راهن الرئيس كندي مرة أخرى على القتال ضد حكومة كاسترو، فحول مستنقعات فلوريدا إلى منطقة لتدريبات تسعى للتخلص من كاسترو.
لقبت هذه المحاولة بعملية مونغوس التي أعدت بإشراف من قبل النائب العام روبرت شقيق الرئيس كندي. بدأت عملية مونغوس فعليا في تشرين أول من عام 1961. حين أمرت السي أي إيه بالإعداد لعمليات شبه عسكرية تتخذ طابع التخريب في الجزيرة. لم يعد لديها شيئا بعد خليج الخنازير فاضطررت للبدء من جديد. عبر الزوارق وتدريب الأفراد وتجنيد العملاء. نفذت السي أي إيه من خلال هذه العملية 2123 مهمة من مركزها هناك. كانت عمليات مختلفة تجسدت بأعمال التخريب وكمائن المغاوير وتمويل العملاء في الجزيرة، وعمليات التجسس والاستطلاع حتى أخذت الأمور تنمو جديا. لم يكن لدى الرئيس كندي أولوية أكثر أهمية من التخلص من فيديل كاسترو. وهذا ما قاله شقيقه روبرت في عبارته الشهيرة: "لا توفروا أي جهد بشري أو مادي فهذه هي الأولوية التي تتخطى أي شيء آخر". وقفت السي أي إيه أيضا وراء عمليات التخريب التي ألهبت الوضع الاقتصادي الكوبي الدقيق، إذ اعتمد الاقتصاد الكوبي تاريخيا على زراعة قصب السكر، فتحولت حقول قصب السكر إلى هدف أساسي لعمليات منغوس. لقد شنت وكالة المخابرات الأمريكية حربا جرثومية لتسميم الحقول الزراعية في كوبا.
دربت السي أي إيه عملائها على توجيه طائرة ألعاب صغيرة، يتم التحكم بها بالراديو، كانوا يضعون في تلك الطائرات زجاجات حساسة جدا مليئة بالفطريات. وهكذا كانوا يتسللون إلى الجزيرة، ويختارون حقلا من قصب السكر، ويجعلون تلك الطائرات الصغيرة تحلق وسط الحقول، وبعد ذلك تتفشى الأوبئة والفطريات لتسبب الأذى لقصب السكر بطريقة لا تصدق. كما شكل التلاعب بالأسواق السكر العالمية جزءا من عمليات منغوس. إذ دخلت السي أي إيه في عالم المضاربات والأموال في محاولة منها لإخضاع كاسترو. تقربت وكالة الاستخبارات الأمريكية في هذا المجال من المضارب البريطاني جيمس روزبريدجير عام 1963 وهم يدعون إلى ضرب الأسواق،عبر خفض الأسعار وإيذاء كوبا. طلب منهم المضارب البريطاني جيمس روزبريدجير مقابل ذلك 500 ألف دولار، وكان هذا مبلغا هائلا عام 1963، وعند عودته في اليوم التالي إلى هيثرو كان المبلغ قد وصل كاملا إلى لندن.
نشر مكتب المضارب البريطاني جيمس روزبريدجير أخبار عن حسومات في أوساط عدة شركات من مناطق مختلفة من العالم لجعلها تبدو وكأنها قادمة من عدة جهات وليست من طرف شخص واحد يبيع بحسم الأسعار. في هذه الأثناء أخذت الأسعار تنخفض فجأة إلى حدود تقل عن سعر الكلفة ما جعل كوبا تعيد النظر في الإبقاء على قصب السكر كعماد اقتصادي رئيسي لها وقد يتبع ذلك اعتمادها على استخراج النيكل أيضا. إلا أن هذا لم يؤدي إلى إركاع جزيرة الحرية التي ما زالت شامخة في وجه أعتى قوة في العالم وهي لا تبعد أكثر من تسعين ميلا عن شواطئها .
إرنستو تشي غيفارا
كان تشي غيفارا الذراع الأيمن لفيديل كاسترو في حرب العصابات في كوبا إلى جانب راؤل، وقد توجه إلى بوليفيا عام سبعة وستين للمشاركة في التحريض على الثورة هناك. فاعتبرت الولايات المتحدة ذلك ردا من فيديل على عمليات مونغوس التخريبية التي قامت بها السي أي أيه في كوبا. ساهم تشي غيفارا في إشعال روح الثورة والتغيير بين سكان أمريكا اللاتينية، وهو بالتحديد ما أرادت السي أي إيه تجنبه، فاستعانت بخبرة عميلها الكوبي المجرب فيليكس رودريغيز فأرسلته للتعاون مع الجيش البوليفي في تعقب غيفارا. كان فيليكس رودريغيز قد شارك في الاجتياح الأمريكي الفاشل لخليج الخنازير، ورغم هزيمته هناك فقد اكتسب خبرة في حرب العصابات ومكافحة الثورة، لإارسل للإشراف على العمليات التي قامت بها وحدات من الجيش البوليفي لمطاردة تشي غيفارا. تحول غيفارا إلى شخصية أسطورية فرغم قلة الدعم الذي تلقاه في بوليفيا، وشدة القمع الذي مارسته الدكتاتورية العسكرية الحاكمة هناك تحول غيفارا إلى رمز للمعارضة والتمرد على التبعية الأمريكية لدى الشبان في بوليفيا والعالم الذين رأوا فيه بطلا أسطوريا واجه مع مجموعته الصغيرة في جبال أنديون حملة مطاردة عنيفة من قبل الجيش البوليفي وأفضل عملاء السي أي إيه.
يقول رودريغيز في مقابلات أجراها مع محطات التلفزة الأمريكية أنه عندما وصلت إلى الموقع الذي أسر فيه غيفارا بعد نفاذ الذخيرة وجد نفسه أمام رجل بحالة ممزقة مهزوم ومحبط وأسير. كان جالسا على أرض قذرة، يداه مقيدتان خلف ظهره، وملابسه ممزقة. أي أنه كان أسير أعزل تنطبق عليه الاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق أسرى الحرب.
ثم يتابع رودريغيز أنه تلقى اتصالا هاتفيا من قيادة السي أي إيه أثناء قيامه بتصوير المذكرات التي كتبها غيفارا كجزء من يومياته القتالية. وكان الاتصال بمثابة أمر مشفر يقول بالحرف الواحد: خمسمائة ستمائة، خمسمائة يعني غيفارا، وستمائة يعني التخلص منه.
يضيف فليكس رودريغيز أنه ذهبت إلى حيث الرقيب توران قائلا أيها الرقيب رقيب أطلق النار عليه من الصدر نحو الأسفل وليس إلى أعلى، لنتمكن من القول أنه مات متأثرا بجراح أصيب بها في المعارك. يجمع عملاء السي أي إيه أنهم رقصوا حول الجثة وتعانقوا محتفلين بالتخلص من حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. ولكنهم أخطئوا التقدير فالحقيقة هي أنهم ربما تمكنوا من تأجيلها لبعض الوقت لأن غيفارا قد مات فعلا ومثل بجثته وقطعت أوصاله كما ثبت فيما بعد ولكن حرب العصابات لم تنته في أمريكا اللاتينية بل أشعلت مزيدا من الثورات والحروب التي امتدت من نيكاراغوا إلى التشيلي مرورا بالسلفادور وغواتيمالا والبيرو وغيرها كتلك التي ما زالت تشتعل حتى اليوم في كولومبيا أو المكسيك على الحدود مع الولايات المتحدة.
وقد أعلن السفير الأمريكي غفي المكسيك جيمس جونز جهارا عن دعم بلاده لمحاولات القضاء على ثورة زباتا وحركة الجيش الشعبي الثوري ولم تنج دولة أمريكية لاتينية من تدخل السي أي إيه حتى بلغ الأمر بالولايات المتحدة أن ضمت بويرتو ريكو وما زالت تقف في وجه الحركات الاستقلالية السياسية والاقتصادية لهذه البلدان، وكان آخرها التورط في الوقوف وراء القوى التي حاولت الإطاحة بالرئيس الفنزويلي المنتخب أوغو تشافيس.
تشيلي
أثار أليندي القلق والتحفظ لدى السي أي إيه منذ فوزه بالانتخابات الديمقراطية للتشيلي مع بداية عام 1970، إذ لم يخف نواياه في مواجهة الهيمنة الأمريكية على مقدرات بلاده، إلا أن فوزه في الانتخابي لم يشكل أي عائق في وجه سعيها للإطاحة به واغتياله ليكون عبرة لبقية أرجاء بلدان أمريكا اللاتينية. بعد صدور أوامر سرية واضحة ومحددة من قبل الرئيس الأمريكي بدأت السي أي إيه محاولات الإطاحة بحكومة أليندي مستخدمة جميع الإمكانيات والسبل. ولم تبدد وكالة الاستخبارات الأمريكية لحظة واحدة بل عملت على استغلال الفترة الممتدة بين الانتخابات ومراسيم الاستلام والتسليم التي عادة ما تجري في البرلمان، فبذلت كل الجهود الممكنة في محاولة للإطاحة به وإزاحته قبل استلامه السلطة رسميا.
جاءت أوامر السي أي إيه واضحة ومحددة وهي تقول أن الاحتمالات ضئيلة نسبيا ولكن لا يمكن توريط السفارة، وتشير إلى تسخير عشرة ملايين دولار يمكن صرفها كيفما شاء الفريق الذي أوكلت إليه تلك المهمة، دون اكتراثها بالمخاطر السياسية الناجمة عن ذلك. بدأت السي أولا بتحليل عقلية الضباط الانقلابيين الممكن التعامل معهم. دون أن تغفل الجانب الدعائي من الخطة والذي يكمن في إعداد مجموعة من الحملات الدعائية والاقتصادية وغيرها ن تلك الكفيلة بتهيئة الظروف المناسبة للانقلاب، هذا إلى جانب العمل على التأكيد للانقلابيين بأنهم سيحصلون على الدعم الأمريكي اللازم.
كان الضباط التشيليون يعتزون في أنهم لا يفسدون، وأنهم من القوات العسكرية القليلة في أمريكا اللاتينية التي لم تقم بانقلابات احتراما منها لدور الشرعية والإرادة الشعبية في البلاد. ومع ذلك تم العثور على ضباط راغبين، أرسلت إليهم مسدسات شحصية رمزية تعبيرا عن الدعم الكامل من قبل السي أي إيه. كشفت هذه الأسلحة والمسدسات عن مدى تورط السي أي إيه في اغتيال الجنرال رينيه شنايدر الذي عارض أي انقلاب، أثناء محاولة لخطفه، فأطلق عليه النار من قبل ملازم ثان متورط مع السي أي إيه في محاولة الانقلاب الأولى هذه. جاءت ردة الفعل مباشرة باستعادة هذه الأسلحة بعد يومين فقد وذلك عبر الحقيبة الدبلوماسية. حققت الأسلحة اليدوية أهدافها، وأصبح على السي أي إيه أن ترسل إشارات تؤكد وقوفها وراء الانقلابيين، وهي عادة ما تفعل ذلك عبر المبالغ والوعود المالية، مترافق مع تعهد بالاعتراف عند النجاح بتنفيذ الانقلاب. هذا ما يريده غالبية الانقلابيين الذين يسعون إلى الحصول على اعتراف سياسي غداة نجاحهم في الاستيلاء على السلطة. وهذا ما عملت السي أي إيه على ضمانه كجزء من مشروعها. أقامت السي أي إيه علاقات لها مع بعض عصابات الجريمة المنظمة لإثارة عدم الاستقرار في البلاد كما استعانت دون أي ترد بإقامة صلات وثيقة مع المنظمات الفاشية اليمينية المتطرفة والتي عرف من بينها منظمة باتريا إي ليبرتاد الشهيرة هناك. أدى فشل محاولة الانقلاب الأولى التي أدارتها السي أي إيه إلى تولي الرئيس أليندي مقاليد الحكم في مراسيم جرت تشرين الثاني نوفمبر من عام 1970. إلا أن وكالة الاستخبارات الأمريكية استمرت ببذل جهودها للإطاحة به، فاستعملت أموالها لإثارة الفوضى وأعمال الشغب ضد حكومة سلفادور أليندي بشتى السبل.
تعتبر باتريا إي ليبرتاد منظمة يمينية متطرفة تمارس العنف والإرهاب. ومع ذلك لم تتردد أجهزة الاستخبارات الأمريكية بتقديم دعم مالي كبير لهذه المنظمة لتقوم بعمليات ارهابية متعددة كما هو حال تفجير محطات الطاقة وأهداف مدنية أخرى حسب الظروف. أي أنها كانت تعمل على تعزيز قدراتها لتنفيذ عمليات شبه عسكرية إرهابية على طريقة حرب العصابات.
كان اضراب الشاحنات عام 1973 من أبرز الأحداث التي أضرت عميقا بحكومة أليندي وقد ثبت لاحقا أن السي أي إيه كانت وراءه عبر مساهماتها الكبيرة بالأموال. أدى الإضراب إلى شل الحركة في البلد تعطيل المواصلات وتعذر وصول المواد الغذائية إلى المواطنين ما زاد من عدد المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع احتجاجا.
تحدثت السيدة أليندي عن تلك المرحلة في أكثر من مناسبة مشيرة إلى وضع العوائق أمام الحكومة التشيلية للحصول على العملات الصعبة، وتعزيز عمليات التخريب التي مولتها السي أي إيه، والمساعدات المالية الرخيصة المقدمة لسائقي الشاحنات والتي كانت رخيصة لأن قيمة الدولار كانت عالية جدا.
وبعد الانقلاب مباشرة أعيدت البضائع ثانية إلى المتاجر والمعارض، وكان هذا كله جزءا من حملة مولتها السي أي إيه، التي قدمت الدعم المالي لعدة صحف على غرار الميركوريو، التي ساهمت في إثارة أجواء التوتر والرعب، وخلقت هوّة بين حكومة والطبقات الوسطى.
بقيت السي أي إيه على روابط وثيقة مع الطغمة العسكرية في تشيلي حتى تمكنت من الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي المنتخبة شرعيا، والتي تعرض القصر الرئاسي أثناءها لقصف مكثف قيل بعده بساعات قليلة أن الرئيس أليندي قد قبل بالاستسلام ثم انتحر بعدها بملء إرادته.
أثيرت هذه الشائعة بعد أسر أليندي واغتياله على يد عملاء السي أي إيه، كما تعززت بتقارير كاذبة تصف مقتل أليندي بأنه عند استسلامه أخذ مؤيدوه يغادرون القصر بصف واحد كان هو في آخره ثم الذي انفصل عنه وجلس على أحد المقاعد، ليضع الرشاش بين ساقيه ويضغط على الزناد.
أدى ذلك إلى قيام دكتاتورية بينو تشي العسكرية، التي اتبع فيها جنرالات تشيلي سياسات قمع واغتيالات ما زالت عائلات المختفين يتذكرونهم بالصور والورود، وما زالت المحاكم الدولية مدعوة لمحاكمة بينوتشي والسي أي إيه على ما ارتكبوه من جرائم بشعة بحق الشعب التشيلي الذي تخلص من الطغمة الحاكمة وأعاد الديمقراطية إلى بلاده. تؤكد التجربة التشيلية اتباع السي أي إيه أسلوب تمويل إثارة الاضطرابات في الشوارع كما فعلت في إيران للإطاحة بحكومة مصدقي وإعادة الشاه، وإضراب سائقي الشاحنات في تشيلي كمقدمة للإطاحة بسلفادور أليندي، وما أثارته من فوضى في فنزويلا تمهيدا للانقلابات المتعددة التي أعدتها ضد حكومة تشافيز الشعبية في كراكاس. هذا ما يؤكد الاحتمالات القائلة بأنها وراء ما يجري من أحداث دموية في الجزائر، أو حتى ما شهده لبنان من مظاهرات فاشلة خريف عام 2002 في محاولة لشق التحالف بين لبنان وسوريا بهدف إضعاف البلدين عموما واستهداف المقاومة على وجه الخصوص.
هنغاريا
عندما تمردت هنغاريا على الشيوعية في بودابست حرضت إذاعة أوروبا الحرة التي تدعمها السي أي إيه الهنغاريين على قلب الحكم بعدة أساليب، كما أقامت السي أي إيه عشرات الإذاعات المحلية التي همّت في أرجاء هنغاريا بنشر تقارير تتحدث عن المساعدات الأمريكية القادمة لا محال. فتم تسجيل برامجها عبر الهواء وأعيد بثها من قبل إذاعة أوروبا الحرة دون التوقف عن التحريض على ضرورة متابعة التمرد، وقد تولت السي أي إيه رصد عمليات البث جميعها.
تميزت هذه الأحداث بالإثارة حيث كانت إحدى المناطق تعلن عن تغلبها على الحزب الشيوعي وسيطرتها على شرطة هنغاريا السرية في دائرتها، فتتبع الإذاعة ذلك بنداءات تقول أن على جميع المدن الهنغارية الأخرى أن تتبع هذا المثال، وكأنها بعبارة أخرى تتحدث عن تحرك منطقة تلو الأخرى نحو مواجهة النظام الشيوعي بالتمرد والعنف. حرضت إذاعة أوروبا الحرة على المقاومة المسلحة، وأثارت اعتقادا بأن الدعم الأمريكي سيلي ذلك مباشرة، وقد تم التركيز منذ أن بثت الرسالة الأولى على نداء أساسي للثورة المنتصرة، وهو يقول: "لا تتخلوا عن أسلحتكم! لأن هذه الأسلحة تعني النصر! ولأن من يملك السلاح يملك السلطة أيضا! استمرت الإذاعة بتوجيه النداءات للهنغاريين بمتابعة القتال حتى بعد أن أصبح القتال ميئوس منه، اعتبر مناهضي الشيوعية أن إذاعة أوروبا الحرة تتحدث باسم الحكومة الأمريكية، واستخلصوا أنه إذا كانت الإذاعة تحرض على المقاومة، فلا بد أنها مدعومة بقرار أو خطة حكومية أمريكية لمساعدتهم في الاستيلاء على السلطة. استمر التمرد لفترة أدت إلى سقوط مزيد من الضحايا في صفوف المتمردين ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أي خطة بالتدخل ولم تقدم أي مساعدة أمريكية، ففر الجنرال كيرالي على رأس أتباعه المتمردين ليعيشوا لاجئين يتسولون لقمة العيش في الغرب بعد أن تخلت السي أي إيه عن غالبيتهم العظمى فقتل بعضهم وأودع البعض الآخر في السجون لفترة تزيد عن ثلاثين عاما.
إندونيسيا
قاد سوكارنو إندونيسيا طوال عشرين عاما من تاريخها، وقد اتبع سياسة عدم انحياز نموذجية، فلم يجعل من بلاده جزءا من المنظومة الاشتراكية ولكنه لم يقف ضدها أيضا، فاتخذته السي أي إيه هدفا لمؤامراتها المستمرة. نجح سوكارنو في التغلب على الهولنديين بعد الحرب العالمية الثانية، مستفيدا بذلك ولو جزئيا من مصلحة الأمريكيين في التخلص من الإمبراطوريات للتوسع على حساب مستعمراتها القديمة، وهذا تحول إلى ما يشبه القديسين بالنسبة لشعبه، فقد كان الأب الوطني للأمة وتمتع بشهرة وشعبية كبيرتين كما أحبه الناس إلى درجة العبادة. رفضت السي أي إيه تحركات سوكارنو وميوله الاستقلالية وكونه زعيما لدولة غير منحازة. اعتبروا ذلك عقبة في طريق مساعيهم لفرض الهيمنة على بلاده، ما جعلهم يطلقون حملات الإساءة والتشويه لسمعته لمجرد تمسكه باستقلال بلاده وخياراتها الحرة ورفضه إملاءات واشنطن وتمسك بقناعاته الخاصة.
عام 1957 قامت السي أي إيه بإعداد فيلم خلاعي يلعب دور البطولة فيه شخص يشبه الرئيس سوكارنو وذلك بعد استقباله في الولايات المتحدة من قبل كبار المسؤولين هناك. فكان نائب الرئيس نيكسون وسكرتير الدولة للشؤون الخارجية جون فوستر دالاس من بين مستقبلي زعيم سادس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. أي أن قرار تشويه سمعة سوكارنو جاء مباشرة بعد زيارته الودية إلى الولايات المتحدة، حيث قام ضمن برنامج إقامته بزيارة استديوهات هوليود الشهيرة إلى جانب دزني لاند، وغيرها من المرافق الثقافية المشابهة.
عندما مغادر سوكارنو الولايات المتحدة ذهب مباشرة إلى روسيا، فرأت السي أي إيه أن إعداد فيلم يستعرض سوكارنو في السرير مع عميلة روسية للكي جي بي سيكون مؤذيا جدا لسمعته، إذ يفترض به أن يوحي بأن امرأة سوفيتية تسيطر على سلوك وتصرفات الرئيس الاندونيسي في قيادة بلاده.
أعدت الوكالة صورا من الفيلم وعملت على نشرها بين الصحف الآسيوية، مرفقة بالنص المناسب، ولكن الحظ لم يحالف الوكالة هذه المرة أيضا، فكثيرا ما تعود عليها مثل هذه الخطط ببعض النتائج العكسية خصوصا في بلدان المجتمع الذكوري حيث نشرت تلك الصور والتعليقات، فقيل هناك من حسن حظه انه مع امرأة جميلة، وليس مع أي امرأة عادية أو محلية، أي أنه ينعم بمعاشر نساء الغرب. وهكذا عززت هذه الفضائح مكانته بدل أن تبعد الناس عنه. تعرض سوكارنو لخمس محاولات اغتيال متكررة على يد الأمريكيين، وكانت زوجته إلى جانبه في جميع المناسبات. وقد هوجم في إحدى المرات عبر مسافة خمسة أمتار فقط كادت تودي بحياته وجميع من معه، وفي مناسبة أخرى كان يقوم بتفتيش في إحدى المدارس فألقى أحدهم قنبلة قتلت عددا كبيرا من الأطفال دون أن تسبب له الأذى. وقد اعترفت الوكالة لاحقا أنها تدرس عدد خطط لاغتياله فعلا.
شهدت إندونيسيا عام 1965 أحداث تمكنت الولايات المتحدة من فرض سلطات إندونيسية موالية لها بالكامل. جاء ذلك بعد ما أثير من ادعاءات مزيفة تقول أن ستة من جنرالات الجيش تورطوا في محاولة شيوعية للاستيلاء على السلطة هناك. فرد عدد آخر منهم بضربة معاكسة استطاعت من خلالها الاستيلاء على السلطة، وأبعدوا الرئيس سوكارنو عن السلطة كليا. بعد ذلك تعرض الشيوعيون لمذابح شنيعة ذهب ضحيته أكثر من مليون شخص جلهم من الأبرياء. يعتقد ضابط السي أي إيه رالف ماكجي أن السي أي إيه قد شجعت أعمال القتل هذه، كما صرح بأنه ساهم بوضع دراسة سرية تؤكد دور الوكالة في تلك الفترة تحديدا. وقد أوضح رالف ماكجي في أبحاثه أن دور الوكالة قد شكل حافز لارتكاب مزيد من المذابح التي تبعت وقوع الانقلاب العسكري في إندونيسيا وأدت إلى قتل أكثر من مليون شخص.
تؤكد وثائق الخارجية الأمريكية أن القيادة الإندونيسية الجديدة طلبت الأسلحة والعتاد لسحق الحزب الشيوعي الإندونيسي. ولكن الولايات المتحدة كانت متورطة في الحرب الفيتنامية حينها، ما جعلها تقتصر على تقديم مساعدات محدودة، فقد اعتبرت أنها لا تستطيع تقديم المساعدة دون أن تجد نفسها متورطة بعمليات القتل الجماعي الجارية هناك، لذا أقرت تقديم نصف المساعدات المطلوبة فقط ما أدى إلى قتل مليون شخص لا أكثر.
والحقيقة هي أن العلاقات المتينة بين الجيش الإندونيسي والسي أي قد أدت إلى عواقب مأساوية، فبعد انقلاب الثلاثين من أيلول سبتمبر قدمت السفارة الأمريكية عبر مندوب الخارجية لديها لوائح بأسماء الشيوعيين إلى قيادة الجيش الإندونيسي جرت مطاردتهم وتصفيتهم الجسدية مع أفراد عائلاتهم.
وقد اعترف روبرت مارتينز وهو أحد ضباط السي أي إيه العاملين في السفارة حينها أنه بعد الانقلاب كان يستقبل إندونيسي على اتصال مباشر بالجيش للتحدث معه حول حقيقة ما يجري، وكان يسلمه مجموعة من اللوائح بأسماء عدة آلاف من الأشخاص دون أن يحدد الرقم بدقة، وقد استمر ذلك عدة أشهر أي حتى كانون أول ديسمبر من عام 1965. عام 1965 وفي خضم الأحداث الدموية هذه اتهمت الولايات المتحدة أتباع سوكارنو بالشيوعية، وكأنها بذلك تطلق لأتباعها تشريعا يبرر لهم قتل هؤلاء الأشخاص. ما أدى خلال الفترة الممتدة بين عامي 1966 و1969 إلى قتل حوالي مليوني مواطن من أبناء إندونيسيا.
وهكذا حصلت الوكالة على ما تريده بتحويل سوكارنو إلى شخصية رمزية تمت إزاحته فيما بعد، ليرزح سكان سادس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان تحت حكم طغمة عسكرية دموية سيطرت على البلاد لما يقارب الأربعين عاما بدعم مستمر من قبل الولايات المتحدة.
إيطاليا
بدت احتمالات فوز اليسار الإيطالي بمقاليد الحكم عبر صناديق الاقتراع عالية جدا في نهاية الأربعينات، فأرسلت السي أي إيه مارك وايات إلى شمال إيطاليا للعمل على وضع حد لمثل هذا الاحتمال.
قاد ألسيد غسباري الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي كان حزب كنيسة الروم الكاثوليك المتعاونة عميقا مع السي أي إيه وقد تلقى أتباعه الدعم المعنوي بملايين الرسائل بعث بها أمريكيين من أصل إيطالي مع مئات السفن الأمريكية المحملة بالأغذية. إلا أن الرسائل التي يتم الحديث عنها في الأفلام الوثائقية الأمريكية ليست إلا جزء من حملة دعائية نظمتها الاستخبارات بين الأمريكيين الإيطاليين في بروكلين والمدن الأخرى. جاء تحريض الرأي العام الأمريكي للمساعدة بفوز اليمين في الانتخابات الإيطالية كجزء من أولى تجارب السي أي إيه في العمل السياسي رغم تأسيسها الحديث حينها.
أما نجاحها في إيصال ملايين الرسائل التضامنية مع اليمين فجاء من خلال نشر الصحف الإيطالية الأمريكية رسائل أعدت مسبقا من قبل السي أي إيه وما كان على القراء سوى قصها وإرسالها إلى إيطاليا.
كانت الأفلام الدعائية التي عرضت على الجالية الإيطالية والأمريكية وفي أرجاء إيطاليا جزءا من المعركة نفسها. فبعد تمويلها وإعدادها من قبل السي أي إيه كانت هذه الأفلام توزع على لجان مدنية تقيمها وتشرف عليها الكنيسة الكاثوليكية هناك. كما عملت اللجان المدنية نفسها على إطلاق حملة ملصقات فعالة ضد اليسار الإيطالي.
ترافق ذلك مع اصدار الكونت إدغاردو سونيو مجلة مضادة لليسار تحت عنوان باش إي ليبرتاد، أي الحرية والسلام، فقدمت له السي أي إيه كل المال اللازم لمتابعة نشرها. وهكذا نشر سونيو أدلة مزيفة قال أنها من ملفات شرطة موسوليني السرية في فترة الحرب، وهي تدعي أن الزعيم الشيوعي بالميرو تولياتي قد سلم زملائه الشيوعيين للفاشية. ثم قاموا بتوزيع منشورات لتشويه سمعة اليسار كأن تقول بأن سكرتير الحزب في تورينو يتاجر بالدعارة، وأن أمين لجنة العمل غير نزيه وما شابه، كما ركبوا صورا يظهر فيها أحد القادة الشيوعيين مع فتيات شبه عاريات، ما أثار جوا من عدم الثقة في أوساط الحزب أسهمت في شق الحزب عن مؤيديه.
وهكذا حققت أنشطة السي أي إيه نجاحا كبيرا، فبعد فوز الحزب الديمقراطي المسيحي بانتخابات عام 1948 فقد الحزب الشيوعي في أواسط الخمسينات السيطرة على اللجنة العمالية في شركة فيات، ما دفع الوكالة لإجراء اتصالات أبعد مع مزيد من المعادين للشيوعية هناك، بلغت حدودها الفوضويين وأتباع اليمين المتطرف من فاشيين جدد. عمل دينو بيونزيو ضابطا لدى السي أي إيه في تلك الفترة وكانت مهماته حساسة إذ تكمن بالتعاون مع سياسيين معادين لليسار وتقديم المال لهم. وقد تلقى ألدو مورو المساعدة المالية منه حين كان أمينا عاما للحزب الديمقراطي المسيحي، لتبدأ بذلك علاقة مصيرية إذ وافق الأمريكيين على دفع مبلغ شهري دائم بقيمة ستين مليون ليرة، كانت تسلم نقدا في حقيبة من خلال وسيط كان على اتصال به في روما.
وهكذا أصبح ألدو مورو رئيسا لوزراء إيطاليا عام 1963. ولكنه لم يتوقع أبدا أن يتغير سلوك الاستخبارات الأمريكية نحوه عندما يخفق في تنفيذ املاءات واشنطن أو يفكر بمجرد اتخاذ قرارا وخيارات مستقلة قد تعتبرها واشنطن بعيدة عن فلكها فيؤدي ذلك إلى تآمرها على حياته والقضاء عليه. أثارت العمليات السياسية السرية كثيرا من الشك حول أنشطة السي أي إيه في إيطاليا. خصوصا فيما يتعلق بتعاون الاستخبارات الأمريكية عام 1959 مع الخدمات السرية الإيطالية لتأسيس منظمة عسكرية سرية تحمل اسم غلاديو.
دفنت هذه المنظمة العسكرية بعضا من الأسلحة في شمال إيطاليا ضمن خطة تدعي أن الهدف من إخفائها في مخابئ محددة هو السعي لمواجهة أي احتمالات بهجمات يسارية للاستيلاء على السلطة بالعنف، وقد ثبتت بعد سنوات بأن مخابئ غلاديو قد استخدمت للقيام بعمليات عنف من قبل إرهابيي الفاشية الجديدة. وقد أكد مجندي غلاديو الذين تدربوا في قاعدة عسكرية في سردينيا، في أكثر من مناسبة بأنهم يعتبرون أن منظمتهم من صنع أمريكي.
يوضح ذلك أنجيلو جوس وهو أحد المجندين في غلاديو بالقول أن المعدات التي قدمت لهم لم تكن من أسلحة الجيش الإيطالي لهذا كانوا يعتبرون أنها منظمة أمريكية بالكامل، كما يؤكد بأن التمارين كانت جميعها تتم بناء على أسس وتوصيات أمريكية كاملة.
بدأ تورط غلاديو في السياسات اليمينية المتطرفة من خلال زعيمها الأول الجنرال دي لورينسو، الذي هندس المؤامرة التي حملت اسم بيانو صولو للإطاحة بالديمقراطية الإيطالية عبر انقلاب قام به عام 1964.
كما أثير في إيطاليا جدل حاد حول مستوى الدور الفعلي الذي قامت به منظمة غلاديو في حملة اليمين الإرهابية التي أثيرت في السبعينات ضمن ما يعرف باستراتيجية التوتر والتي كان الهدف من إثارة أعمال العنف يكمن في إعداد الطريق لاستيلاء اليمين على السلطة.
تأكد لدى لجنة التحريات البرلمانية التي تشكلت في إيطاليا لهذا الغرض تورط منظمة غلاديو بهذه الحملة، وكان هذا هو رأي السائد لدى الرأي العام الشعبي أيضا، والذي أدرك بأن من مهمات غلاديو الأساسية ومن وظائفها خلق أجواء من الاستفزازات الدائمة، بهدف عزل القيادة اليسارية وحركات اليسار بكامله عن قواعده الشعبية في البلاد. أمر مرسيلو ماستيلوني وهو أحد قضاة فينيسيا بحفر جميع مخابئ أسلحة غلاديو كجزء من التحريات المتعلقة باغتيال اثنين من رجال الشرطة الإيطالية عام 1972. وقد تمتع القضاء الإيطالي بسلطات واسعة النطاق في هذه التحريات، فأخذت جميع البصمات تقود إلى غلاديو من خلال اعترافات أحد الفاشيين الجدد حول ما شهدته البلاد من اغتيالات عام 1972، كما أشارت البصمات بوضوح لا لبس فيه إلى قيام عناصر غلاديو بأعمال تفجير في إيطاليا.
كان اسمه فينشينسو فينشيغيرا. وقد أثارت اعترافاته الدقيقة الواردة في صحف تلك الفترة والمتعلقة بمنظمة غلاديو في بداية السبعينات القلق لدى قيادات هذه المنظمة، خصوصا وأنه قام أثناء اعترافاته أمام القضاء بوصف دقيق لنوع من العمليات التي قامت بتمويلها الناتو ضمن أهداف واضحة ومحددة.
أثارت ارتباطات غلاديو تساؤلات حول مدى تورط السي أي إيه بالارهاب الإيطالي، خصوصا بعد الاعترافات التي أدلى بها أحد عملاء السي أي إيه والذي يلقب نفسه براهام رازين، وهو رجل له ماض طويل في ارتكاب الجرائم والتعرض للسجن لتورطه بتهريب المخدرات، ولكنه يؤكد العمل لصالح السي أي إيه ومعرفة خباياها الداخلية، رغم تنكر السي أي لجميع أقواله.
ويقول رازين أن استراتيجية التوتر قد نفذت بمعرفة تامة وموافقة كاملة بل وبالتهاني في بعض الحالات والأحيان من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. كما يؤكد أن السي أي إيه لم تضطر لتقديم توجيهات محددة، بل اكتفت بوضع ثقتها الكاملة بأصدقاء لها باع طويل بالاعتماد عليهم ولهم تاريخ أطول من التعامل معها.
يبرر البعض في إيطاليا تورط السي أي إيه في دعم المنظمات الإرهابية والفاشية الجديدة بالقول أنها تستهدف الشيوعيين على وجه الخصوص، ولكنهم لم يجدوا ما يقولونه حين استعملت لاحقا في الشؤون الداخلية، لتغيير الحكومات وفق متطلبات المصالح الأمريكية التي أدى عدم استيعابها للمواقف السياسية التي اتبعها ألدو مورو ضمن السياسة العامة للحزب الديمقراطي المسيحي إلى اقتصاصها منه بأبشع الطرق.
كان سكرتير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجير قد حذر ألدو مورو من التعاون مع الشيوعيين وإدخالهم في تشكيلته الحكومية، وبعد ذلك أكد رازين أن الخدمات السرية الإيطالية تقربت من محطة السي أي إيه في روما مؤكدين رغبتهم برؤية مورو خارج الساحة نهائيا، طارحين فكرتي التخلص منه أو العمل على تشويه سمعته. ولكن ما حدث كان جذريا، إذ تعرض مورو للخطف على يد مجهولين ادعوا أنهم ينتمون إلى الألوية الحمراء، وقتل حارسه الشخصي، ويقول رازين بأن دائرة سيزمي التابعة للخدمات السرية الإيطالية كانت المتورطة الفعلية بهذه الجريمة البشعة. أثير في الصحف الإيطالية العديد من التساؤلات حول مدى صحة تورط السي أي إيه عبر دائرة سيزمي في هذا العمل الإجرامي، ما دفع الإيطاليين لطلب المساعدة الرسمية من السي أي إيه في تحليل الرسائل التي بعث بها ألدو مورو أثناء وجوده في الأسر، فردت وكالة الاستخبارات الأمريكية على ذلك بالقول أنها لا تستطيع إرسال أي من خبرائها لأن هذه مسألة إيطالية داخلية ولا يمكن للسي أي إيه التدخل في شؤونها، كما دعت السلطات الرسمية إلى عدم التفاوض مع الخاطفين حتى عثر مورو قتيلا في صندوق سيارة ركنت في أحد شوارع روما يوم السابع عشر من أيار مايو من عام 1978، ليستخلص بذلك درسا لجميع المتعاملين مع السي أي إيه مفاده أن الصداقة الأمريكية لا تشكل أي ضمانة لأحد عند اختلاف المصالح.
إيران
زاد النفط في أهمية إيران لدى الغرب، وقد سيطرت بريطانيا على حقول النفط بمجملها حتى بداية الخمسينات. لكن الغليان القومي أدى إلى شل الحقول هناك بكاملها حين سعى رئيس وزراء الشاه محمد مصدق إلى إلغاء التحكم البريطاني بثروات النفط الإيراني.
لجأ البريطانيون إلى أمريكا للتخلص من مصدق، فأرسلت السي أي إيه عام 1953طاقما كاملا من الأخصائيين إلى إيران لتنظيم انقلاب عليه، وقد تحدث جون فوستر دوليس، سكرتير الخارجية الأمريكية بهذا الأمر مع قائد الطاقم كيم روزفلت بنفسه موضحا له طبيعة المهمة التي لا يمكن التراجع عنها.
كان مصدق ينعم بشعبية واسعة، فبعد استيلاء مؤيديه على الشوارع، فر الشاه هاربا إلى أوروبا. أطلق على عملية الإطاحة الأمريكية بمصدق من السلطة لقب عملية آجيكس التي بدأتها السي أي إيه بتحريك التجار في الأسواق. لم يكن لدى الولايات المتحدة نفوذا في إيران لهذا دخلت إلى هناك عبر فرنسا. بدأت أولا بالتعاون مع حلفاء الإيرانيين وما لهم من ارتباطات في الأسواق وغيرها، وقد حصل رجال السي أي إيه على أموال طائلة صرفت كما يحلوا لهم. اتفق على أن يدفعوا لمجموعات التجار الذين سيساهمون بالخروج إلى الشارع حوالي مائة ألف دولار.
أرادوا تحريك الأسواق بمن فيها، وقد حدد موعدا لخروجهم في الخامس عشر من آب أغسطس، ما أدى إلى انتهاء كل شيء، حين تمكنوا من القضاء على السلطة. واستكمالا للخطة أصبح عليهم إقناع الشاه بالعودة إلى بلاده على أمل إخراجها من الأزمة الاقتصادية التي مرت بها أثناء غيابه حسبما تردد في وسائل الإعلام الأمريكية ضمن حملات الترويج لعودته.
أقال الشاه رئيس وزرائه مصدق بعد أيام قليلة من عودته، كما نجح عملاء السي أي إيه عبر وحدات من الجيش بتحريك المتظاهرين تأييدا للشاه، لتنتهي بذلك عملية آجيكس. بعد ذلك حوكم مصدق في قاعة المرايا في سلطان أتاباد القريبة من طهران. وقد شملت الاتهامات السبعة عشر الموجهة إليه تهمة الخيانة العظمى لمحاولة الإطاحة بحكم الشاه.
كان الشاه خلال فترة من الوقت عميلا لدى السي أي إيه يتلقى أجرا شهريا منها لتنفيذ الأوامر المتعلقة في بلده. ومع ذلك أخذت مشاعر العظمة تنمو لديه تدريجيا حتى أنه صارح أحد ضباط السي أي إيه في إحدى المناسبات بأن قبول باكستان وأفغانستان به شاه ان شاه لن يكون فكرة سيئة. أي أن الشاه كان يرى في السي أي إيه ما يراه أي إنسان بسيط بالسي أي إيه، أي أنها منظمة بالغة القوة والسيطرة والذكاء قادرة على التحكم بكل شيء. وهو يعلم بأن الفضل يعود لها في فرض حكمه المطلق على إيران، وكان يدرك أيضا بأنها تستطيع انتزاع السلطة منه متى أرادت ذلك. رُدّت المعارضة الإيرانية على أعقابها بحسم من قبل السافاك، وهي شرطة الشاه السرية التي أقامتها السي أي إيه وعملت اسرائيل على تدريبها، حتى اكتسبت شهرة واسعة بالوحشية والتعذيب. ولكن هذا لم يدم ذلك طويلا، إذ عاد المتظاهرون إلى شوارع طهران ما أجبر الشاه على الفرار من جديد. اشتعلت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بكاملها، فكللت مؤامرات السي أي إيه هناك بفشل ذريع.
بعد عودة الإمام آية الله الخميني إلى إيران بفترة قصيرة اجتاح مؤيدوه محطة التنصت في كابكان وألقوا القبض على اثنين وعشرين موظفا لدى السي أي إيه، أصبحوا أسرى لدى الثوار، ولكنهم أنزلوا إلى مطار طهران تحت مراقبة رجال أمن الحكومة الثورية ثم عادوا إلى بلادهم بأمان. مع ذلك عملت السي أي إيه مع وصول الخميني إلى السلطة على تجنيد عملاء ومخبرين لها من أوساط القيادة الإيرانية، وقد كُشفت التفاصيل المتعلقة بعمليات التجنيد بعد جمع الوثائق التي مزقت من قبل عملاء السي أي إيه دون حرقها وتلفها نهائيا. بدأت السي أي بالتجنيد من أعلى الهرم، فتقربت من أبو الحسن بني صدر، وهو أول رئيس لإيران بعد الشاه، وذلك عبر شخص عرف نفسه باسم فوستر. وقد علق بني صدر على هذه الواقعة في مقابلة أجراها مع التلفزيون الفرنسي حيث قال أن فوستر ادعى تمثيل شركة أمريكية تريد الاستثمار في إيران، لهذا عرض عليه أن تكون مندوبا لشركته في إيران مقابل مبلغا كبيرا يساوي خمسة آلاف دولار شهريا، أجابه بني صدر أنه لا يملك الوقت اللازم، فقال أنه سيكتفي بنصف ساعة فقط.
قال بني صدر في نفسه أن خمسة آلاف دولار مقابل نصف ساعة في اليوم أمر غير طبيعي، وقد أعرب له عن دهشته ثم فكر بأن هذا الرجل ليس مندوبا عن أي شركة، وأراد أن يطلب من المحاكم إلقاء القبض عليه، ولكن مستشاره نصحه بالتمهل ليرى إن كانت لديه اتصالات أخرى. لأن هذا ما سيحدث ما الآخرين. ثم أكد بني صدر أن الأمريكيين كانوا يعملون على تجنيد بعض العناصر الحكومية. لهذا لم يطلب اعتقاله ولكنه أبلغت الخميني بما حدث. خرجت في شوارع طهران تظاهرات تطالب بإعادة الشاه إلى إيران لمحاكمته، ولكن السي أي إيه والسلطات الأمريكية رفضت ذلك بحجة أنه بلغ الستين وأنه مصاب بتشمع في الكبد، علما أنهم كانوا في تلك الفترة وما زالوا يحاكمون متهمين بارتكاب جرائم ارتكبت في الحرب العالمية الثانية تتخطى أعمارهم التسعين عاما. أدى الرد الأمريكي إلى اجتياح المتظاهرين لسفارة الولايات المتحدة في طهران، وتولى الطلبة اعتقال جميع الأمريكيين هناك مطالبين الحكومة الأمريكية بإعادة الشاه إلى إيران لمحاكمته.
قام الإيرانيون بعمل بالغ الدقة فعلا حين تمكنوا من تركيب قصاصات الوثائق التي مزقها رجال الاستخبارات الأمريكية ضمن خطوة أولى لحرقها فيما بعد، ولكن سلطات الأمن الإيرانية تمكنت من مصادرتها قبل الحرق. وقد استطاع الخبراء الإيرانيين خلال فترة قصيرة من الوقت جمع القصاصات ثانية ومعرفة ما تحتويه من معلومات، ما شل العمليات السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية بكاملها داخل الأراضي الإيرانية.
هذا ما أجبر السي أي إيه على إعداد خطة لإنقاذ الرهائن من الخارج، وقد أطلقت على مرحلتها الأولى لقب صحراء واحد، وقد تبين حجم الضربة التي تلقتها الاستخبارات المركزية من خلال الفشل الذريع التي منيت به عملية صحراء واحد لعدم تمكنها من الاعتماد على أي من عملائها داخل إيران إذ تم الكشف عن غالبيتهم العظمى عبر الوثائق الأمريكية التي جمعت قصاصتها من السفارة وما حولها، فجاء اعتماد السي أي إيه في اختيار موقع الهبوط على صور الأقمار الصناعية وبعض المعلومات الجيولوجية التي أكدت أن الصحراء تتمتع بالصلابة اللازمة لتحمل أوزان تلك الطائرات الهائلة وما عليها من وقود، كما أجبرت على إرسال وحداتها الخاصة إلى هناك بدل الاعتماد على العملاء المحلين كما جرت العادة.
فشلت عملية الإنقاذ عند اصطدام طائرتي هليكوبتر بطائرة نقل في الصحراء الإيرانية على مسافة بعيدة من طهران، فأخذت السي أي إيه توجه الدعم لمجموعات إيرانية معارضة تعمل من خارج إيران، وخصوصا من أتباع الشاه الذين لجأ العديد منهم للإقامة في فرنسا. ومن بينهم شبور باختيار آخر رئيس لوزراء الشاه قبل خلعه. تصر السي أي إيه على التشهير بالجمهورية الإسلامية التي أقامها الإمام الخميني وهي لا توفر لتنعت السلطات الإيرانية المنتخبة ديمقراطيا بالإرهاب وذلك لتبرير محاولات استهدافها بشتى السبل، ومن بينها تقديم الدعم المالي المباشر لمحطة إذاعية أقامتها للإيرانيين المنشقين في المنفى.
يفاخر القائمين على المحطة في أنهم يتلقون حوالي مائتي ألف دولار شهريا من السي أي إيه، وهم يصرفون المبلغ جزئيا على الشؤون الإدارية للمجموعة بكاملها في باريس أو في المناطق الأخرى، كما يدعون دفع الأموال لمخبريهم داخل البلاد ويشترون أجهزة متنوعة يرسلونها إلى إيران لأهداف دعائية، منها ما قيل عن أدوات يضعونها على الجدران والأشجار تطلق صرخات معادية للجمهورية الإسلامية وزعمائها.
من أبرز المجموعات التي تدعمها السي أي إيه تلك التي يقودها الوزير السابق في آخر حكومة للشاه منوشر غانجي الذي يدعي امتلاكه لمحطة إف إم إذاعية في كبريات المدن الإيرانية، تبث البرامج مرةأو مرتين أسبوعيا، وأن لديه محطات تلفزيونية تبث نحو ستة أو سبعة مدن، علما أن أحدا لم ير أو يسمع بهذه المحطات المزعومة، ومع ذلك تصر المصادر الأمريكية أنه من بين النجاحات التي حققتها المجموعة التي تدعمها في الخارج عام 1985 بث فيلم خاص بابن الشاه وولي عهده بعد قطع الارسال التلفزيوني الرسمي عن بعض المناطق كما يدعون. هذا وما زالت السلطات الأمريكية تسعى لتضييق الحصار على الجمهورية الإسلامية في العالم وتقدم الدعم لعملائها في الخارج وتراهن على شق الصف الداخلي في إيران على أمل أن تعيد إحكام سيطرتها على ثروات هذا البلد وفرض هيمنتها على شعبه الذي أكد عبر وحدته الداخلية والتفافه حول قياداته بتياراتها المختلفة إصراره على إفشال المساعي الأمريكية وردها على أعقابها.
ليبيا
وقع الرئيس رونالد ريغان عام 1982 وثيقة تحمل الرقم 30 وهي تدعو إلى إنشاء فرقة مدربة ومدعومة من قبل وكالة المخابرات المركزية مؤلفة من عناصر من جنسيات مختلفة لضرب الإرهابيين. وكان ضابط الأمن القومي لمنطقة الشرق الأدنى وجنوب آسيا قد قام بمراجعة سرية يعرض فيها نواحي الضعف الليبية وكيف وأين يمكن للضربات الأمريكية أن تكون ذات تأثير كبير.
استنتج ممثلو السي أي إيه ووكالة الاستخبارات الدفاعية ووكالة الأمن القومي أن " بعض العمليات الداخلية الناجحة بالإضافة إلى بعض الضغوط الخارجية يمكن أن تشعل الشرارة ضد القذافي بواسطة العسكريين المستاءين". ثم تابع التقرير المشترك يقول في بنده الخامس" نعتقد أنه إذا دعمت المجموعات في الخارج بدرجة قوية يمكنها أن تبدأ في القريب العاجل حملة من أعمال العنف والتخريب التي يمكن أن تثير تحديات أخرى لسلطة القذافي. وإذا تضاعف نشاط المبعدين بالإضافة إلى عوامل أخرى، ( الإعلام المتزايد، تدهور الملحوظ في العلاقات مع الدول الأجنبية، ضغط اقتصادي قوي) فإن العناصر المستاءة في الجيش يمكن أن تقدم على محاولة اغتيال أو أن تتعاون مع المبعدين ضد القذافي. بدأت مجموعة من السي أي إيه بوضع الإطار العام لخطة من أجل دعم المنشقين رغم قناعتها بعدم قدرتهم على إنزال زورق واحد على الشواطئ الليبية دون دعم مباشر من قبل السي أي إيه، خصوصا بعد تأكدها من أن القذافي قد تمكن من اختراق حركة المبعدين وأنه علم مسبقا بكل خطوة يقومون بها.
وما زالت الولايات المتحدة متورطة في كثير من الأعمال التآمرية في شمال أفريقيا يبدو من بينها احتمال وقوفها وراء العمليات الإرهابية التي تشهدها الجزائر التي تؤكد جميع المعطيات إتباع واشنطن مبدأ إضعاف الدولة ودفع بعض سكانها إلى محاولات انفصالية يائسة توقع البلاد في حروب داخلية هدامة لا ينتصر فيها أحد باستثناء المساعي الأمريكية للهيمنة على الجزائر وغيرها من البلدان المجاورة.
سوريا
عمل ولبركيرن إفلاند ممثلا لإدارة الاستخبارات الأمريكية ووزارة الدفاع والبحرية ومؤسسات مشابهة أخرى في الشرق الأوسط لما يقارب الثلاثة عقود تنقل خلالها في عدة عواصم عربية تعامل أثناءها مع موري السعيد وعد الإله وغازي الداغستاني، وعاش طويلا في دمشق حيث جند ميخائيل ليان ودفع له مبالغ طائلة ليشرف على انقلاب هناك، ثم انتقل إلى لبنان ليصرف الأموال على الانتخابات النيابية لعام 1957 وعايش محاولة الاغتيال التي تعرض لها الإمام الشيخ فضل الله، هذا إلى جانب محاولة الانقلاب في بغداد والمؤامرات التي حيكت ضد جمال عبد الناصر في مصر وغيرها.
يقول ولبركيرن إفلاند في مذكراته التي صدرت تحت عنوان جبال من رمال أنه قابل ميخائيل بك ليان أحد قادة حزب الشعب المحافظ والذي عين مرة وزيرا للخارجية السورية وتمكن من إقناعه بضرورة القيام بانقلاب عارضا استعداد واشنطن لمساعدته وأعوانه، ثم أخذا يبحثان في آليات التنفيذ فبادره ليان بعرض يستدعي دفع الأموال لكسب الصحافة والشارع وضباط الجيش وآخرين.
طلب ليان بعد تفكير طويل نصف مليون ليرة ومهلة لا تقل عن ثلاثين يوما، وكان الدولار يعادل حينها ثلاث ليرات. ويتابع ولبركيرن إفلاند أنه اتفق مع ليان على رؤيته بعد حين، ثم استلم رسالة من واشنطن تقول أن وكالة الاستخبارات الأمريكية سترسل المال اللازم وأن عليه تسليمه شخصيا إلى ليان بأسرع ما يمكن.
حصل ولبركيرن إفلاند على المبلغ من هارفي أرمادو رئيس القسم المالي لفرع السي أي إيه في بيروت، الذي جمعه من عدة بنوك سورية وموضوع في "حقيبة سورية جميلة" كي لا يعرف بأن مصدرها لبنان. ثم اتبع نصيحة غصن الزغبي رئيس مكتب السي أي إيه في بيروت، فوضع المبلغ في صندوق سيارته وانطلق بها متوجها إلى دمشق.
قدم ليان لائحة شفهية بأسماء المتعاونين معه وكانت كلها من كبار الضباط برتبة عقيد في الجيش الذين وعدوه باستعمال وحداتهم للسيطرة على دمشق وحلب وحمص وحماه، وتطويق الحدود مع الأردن والعراق ولبنان، إلى أن تعلن محطات الإذاعة بأن حكومة جديدة قد استولت على الحكم برئاسة العقيد قباني، ثم أكد أنه سيختار مجموعة من المدنيين لتأليف الحكومة الجديدة، كما أصر على ضمانة دعم الولايات المتحدة للانقلاب. وعده ولبركرين بإرسال برقية بهذا الصدد إلى واشنطن ثم سلمه المال وعاد قاصدا بيروت وهو على ثقة تامة بأن حقيبة من الأموال قادرة على تغير مصير سبعة ملايين مواطن، هو عدد سكان سوريا في تلك الفترة. ولكن السي أي إيه كانت على خطأ هذه المرة أيضا فبعد ايام قليلة استيقظ ولبركرين من نومه ليجد ميخائيل ليان أمام بابه يخبره بفشل محاولة الانقلاب، بسبب إعلان الحرب الإسرائيلية على مصر وتوجه قواتها إلى قناة السويس.
كشف النقاب عن محاولة الانقلاب وصدرت مذكرات بأربعة وعشرين نائبا وكان اسم مخائيل ليان من بينهم، أما التهم فهي " التآمر مع العراق لقلب الحكومة السورية"، كما اعترف بعض الضباط بأنهم يعملون لصالح العراق، دون أن يذكروا شيئا عن تورط الولايات المتحدة بالأمر. بقي ميخائيل ليان في لبنان لبعض الوقت ثم انتقل للإقامة في تركيا، كما حصل ولبركرين على مكافآت مالية مكنته من الحصول على شقة أكبر وشراء سيارة جديدة واستئجار سائق لتمكنه من عدم انكشاف تورطه.
ومع ذلك لم تتوقف الانقلابات الأمريكية في سوريا بل تكررت المحاولة عام 1956، ولكن ما حدث هذه المرة هو انكشاف الانقلاب قبل أن يبدأ فقد توجه ضباط الجيش السوري الموكلة إليهم مهمات رئيسية نحو الشعبة الثانية ودخلوا إلى مكتب العقيد سراج وأرجعوا أموالهم وذكروا أسماء ضباط السي أي إيه الذين دفعوا لهم المال، وتم القبض على ضابطي السي أي إيه هاورد ستون وفرانك جيتون بالجرم المشهود، وأعلن أنهما غير مرغوب بهما في سوريا وعمم الخبر في الصحف،كما شمل أمر الطرد الملحق العسكري العقيد بوب موللوي الذي طرد مع زميليه إلى بيروت وسافرا من هناك إلى واشنطن. جرت محاكمات في سوريا في شباط فبراير من عام 1958 وحكم على عشرة من المشاركين في المؤامرة بالسجن لفترات قصيرة، وحكم الشيشكلي والحسيني بالسجن المؤبد لتورطهما بالتعامل مع السي أي إيه، التي كافأت ستون وجيتون على فشلهما بترقيات عالية، كما عين ستون عام 1971مديرا لفرع روما، بينما نقل فرانك جيتون إلى الكونغو حيث أشرف على تصفية باتريسيو لومومبا الجسدية.
باختصار وقد لا يتسع هذا الفصل ولا هذا الكتاب أو كل ورق العالم للخوض في تفاصيل المؤامرات التي حاكتها السي أي إيه في بقية بلدان الوطن العربي بدءا من "عملية سيبوني" الهادفة لقتل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في آذار مارس من عام 1958، والتي جرت بالتعاون مع أجهزة المخابرات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية.
لن نستطيع المجيء على تفاصيل محاولة اغتيال الشيخ الإمام فضل الله في الثامن من آذار مارس من عام 1985 حين توجهت سيارة محملة بالمتفجرات إلى ضاحية بيروت ووصلت إلى حوالي 15 مترا من منزله، انفجرت السيارة وقتلت 80 شخصا وجرحت 200 بعد أن انهارت الأبنية المجاورة، لكن فضل الله لم يصب بأذى. هذا إلى جانب المبالغ الكبيرة التي دفعتها في انتخابات لبنان لعام 1957 لتأجيج الفتن الطائفية وإعداد الظروف الملائمة لتدخلها العسكري في المنطقة من خلال إنزالها لقوات البحرية في لبنان وسلخه عن محيطه العربي وتعزيز الضغائن بين البلدان العربية وشعوبها. وقد بلغت سخافة محاولاتها الانقلابية الفاشلة أن كشفت عن حقيقة سعيها للإيقاع بين الدول العربية باتهام العراق بالإعداد لاجتياح سوريا تارة وباجتياح الأردن تارة أخرى، وإثارة المخاوف اللبنانية من مطامع سورية في أراضيه، وإيهام العربية السعودية وبلدان الخليج بسعي عبد الناصر للإطاحة بعروشهم وهذا ما ينطبق على بلدان شمال أفريقيا وبالنسبة لتونس والجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا والصحراء الغربية. ولم تنته المؤامرات الأمريكية على العراق منذ انقلاب الفرقة الثالثة التي كان يقودها العميل الأمريكي البريطاني المزدوج غازي الداغستاني الذي اعتقل حين كان يهم بمرافقة الملك وولي العهد نوري السعيد إلى تركيا لحضور جلسة طارئة لحلف بغداد، وتم اعتقاله بأمر من العقيد عبد الكريم قاسم الذي أعلن رئيسا لمجلس الثورة العراقي، دون أن تعرف السفارة الأمريكية أو بعثتها العسكرية أو السي أي إيه شيئا عنه. وما زالت مستمرة عبر ما تقوم به اليوم من تعزيز لقوة المعارضة العراقية بحجة خبراء نزع أسلحة الدمار الشامل، كما تعمل على تجنيد أطراف من القادة الأكراد في شمال العراق لزجهم في حرب داخلية تعزز الضغائن الفئوية بحجة إسقاط حكومة صدام حسين.
وكان نصيب السودان وفيرا من خيرات السي أي إيه التي أرسلت معدات عسكرية إلى أوغندا وأثيوبيا وأرتيريا دعما للمجموعات المسلحة المعادية للخرطوم حتى عززت مكانتها إثر زيارة قام بها رئيس الوكالة جون دويتش عام 1996 إلى أديس أبابا وبذل جهدا كبيرا مع وكالة الأمن القومي (NSA) لتعزيز قوات الجنوب وحض قادتها على التصلب وقدمت كل المساعدات اللازمة للبلدان الثلاثة لدعم قرانق حتى أجبرت الرئيس حسن البشير على الجلوس مع وحدات الجنوب المنشقة وتقديم التنازلات التي تمس بالسيادةالوطنية للسودان.
وما زالت قضية أفغانستان تتفاعل بعد أن كانت مساعدات السي أي إيه قد وصلت إلى نصف مليار دولار عام 1987 إلى نفس المجاهدين وقوات حرب العصابات التي تسلمت السلطة مع الطالبان هناك، وخلال السنوات العشر التالية قدمت الإدارات الأمريكية ملياري دولار سنويا لتعزيز أنشطها السرية هناك، ورغم نجاحاتها المؤقتة هناك إلا أن العوامل التاريخية تؤكد استحالة بقاء الوات الأمريكية طويلا في هذا البلد، خصوصا وأن هذا التواجد بات يشكل تهديدا للقوى الإقليمية الكبرى والتي تقع أراضيها على الحدود مع أفغانستان، كما هو حال الصين وروسيا والهند التي رفضت تاريخيا التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة.
يتضح مما سبق بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية العاملة في الخارج لا تهدف إلى حماية الأمن القومي كما تدعي الولايات المتحدة بل هي أداة للتآمر على شعوب العالم لفرض الهيمنة الأمريكية وإخضاع شعوبها، فلو كان الهدف من هذه العمليات هو حماية أمن المواطنين لتمكنت وكالة الأمن القومي من إنقاذ طاقم سفينة ليبرتي من القصف الإسرائيلي المتعمد، أو كانت على الأقل لتقتص من المسئولين الاسرائيليين عن مقتل 34 جندي أمريكي وجرح بقية أعضاء الطاقم الذي أنقذته السفن السوفيتية العاملة في المنطقة. ولو كان الهدف من التواجد الاستخباراتي الأمريكي في المنطقة هو الحفاظ على أمن هذه الدول أو ما يقال عن التوازن الإقليمي فيها لما تمكنت إسرائيل من خداع وكالة الأمن القومي بشأن أهداف حرب حزيران عام 1967، أو عمق اجتياحها للأراضي اللبنانية عام 1982.
لو كان ما تدعيه واشنطن صحيا لتمكنت من اكتشاف الأكاذيب الاسرائيلية في الوقت المناسب، ولكن الحقيقة هي أن جل اهتمامها مركز على فرض الهيمنة الأمريكية ولا بأس إن كان لشريكاتها إسرائيل دور في تعزيز هذه الهيمنة. لو صحت ادعاءات واشنطن لاستفادت من قدرتها في التنصت الهاتفي على مكالمات بن لادن مع والدته وأفراد عائلته وأتباعه على مدار الساعة لتفادت ما تعرضت له من صدمة في الحادي عشر من أيلول سبتمبر المشؤوم.
يؤكد جل ما سبق عقم المساعي البيت الأبيض في الاعتماد على عصابات الجريمة المنظمة والاستخبارات الأمريكية شريكتها في التآمر على الشعوب وفرض الهيمنة الأمريكية عبر سياسة الترغيب والرشوة وشراء الضمائر والترهيب والحصار والتخريب والاغتيالات والانقلابات والتركيع.
هذا ما تأكد عبر ما استعرضناه من التجارب الأمريكية في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكيا اللاتينية والشرق الأوسط مع بعض الاستثناءات التي سيؤكد التاريخ عقمها لا محال. فرغم سياسات التنكيل والحصار المتبعة من قبل واشنطن ضد كوبا ما زالت هذه الجزيرة صامدة في وجه الطغيان على مسافة 90 ميل من شواطئها، ورغم الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي إلا أن الشعب التشيلي أعاد للديمقراطي اعتبارها ولن يتردد في الاقتصاص من جلادي بينو تشي. ورغم اغتيال غيفارا ما زالت موجات التمرد في جنوب القارة الأمريكية تعلن رفضها لهيمنة رؤوس الأموال الأمريكية على جنوب القارة وإفقار شعوبها رغم ثروات الطبيعية الهائلة.
وهذا ما ينطبق على البلدان العربية والإسلامية فرغم فشل المؤامرات الأمريكية في لبنان وسوريا وإيران وليبيا والعراق والجزائر وغيرها ما زالت واشنطن تصر على فرض هيمنتها بأبشع السبل إلا أن شعوبها أخذت تثبت وعيها لخطورة التواجد الأمريكي على المنطقة التي أخذ الفقر الشديد يطرق أبوابها بعنف بل ويهدد بخلع النوافذ إن لم تدركها صحوة المصالح القومية في الوقت المناسب.
لقد أدركت صحوة المصالح القومية شعوب أوروبا ولو بعد حين، وهي اليوم أشد صلابة وقدرة على التباين مع الولايات المتحدة بل والاختلاف معها في بعض الأمور، كما أنها أخذت تفتح صفحات التاريخ الأمريكي الأسود في بلادها، كما حدث في إيطاليا التي ما زالت تلملم ذيول ما خلفه التواجد العسكري الأمريكي في أراضيها من تعزيز لعصابات المافيا والحركات الفاشية الجديدة وعملاء سياسيين ينفذون الإملاءات الأمريكية حتى لو تباينت مع مصالح بلادهم.
نستخلص من بعض ما سبق أن سياسة التآمر الأمريكية واعتمادها على العصابات في إخضاع الشعوب لن تتوقف رغم ما يصيبها من فشل وما تسببه من ويلات لدى شعوب العالم التي أخذت تتسلح بإخفاقات الولايات المتحدة لحجب الثقة عنها بل والوقوف في وجهها دفاعا عن ثرواتها ومصالحها الوطنية. كما يساهم الكشف عن هذه العمليات الغير مشروعة والغير أخلاقية في التحريض على تراكم الحقد والكراهية تجاه سياسات الهيمنة التي تتبعها الولايات المتحدة في العالم أجمع.
=-=-=-=-=-=-=-=-=نهاية الفصل السابع. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[مقدمة اولى]
[مقدمة ثانية]
[مقدمة ثالثة]
[مقدمة رابعة]
[ملخص الكتاب]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م