اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "الفصل الثاني"
 

 

إخضاع الشعوب بدءا من الهنود..

عند وصول الحملات الغربية إلى ما أسمته بالعالم الجديد كان السكان الأصليين في القارة الأميركية يعيشون على مستوى لأباس به من التقدم الاجتماعي وكانت البنية الاجتماعية متقدمة إلى حد يحتمل المقارنة بعدد من المناطق الأفريقية والآسيوية بل والأوروبية أيضا، ومع ذلك عملت على التعامل معها ضمن استراتيجية واضحة ومحددة يمكن اختصارها بممارسات أدت إلى تدمير الحضارات السائدة هناك وإبادة البشر دون توفير أي جهد أو أي سلاح مهما قل شأنه.

وقد اختصرت إليزا ماريا نستراس في كتابها الرئيسي حول الأساطير الأمريكية المواقف الأساسية الأربعة التي اعتمدت تجاه الهنود بما يلي: أولا أن الهنود أولياء الشيطان والمطلوب إلغاءهم بكل بساطة. ثانيا أن للمستوطنين حق السيادة على الأرض وثرواتها الزراعية والحيوانية. ثالثا أن المنظور التأريخي للتطور المسيحي يعتبر أن الهنود ما زالوا في طور البدائية التي لا حاجة لها. رابعا وألهم أن الهنود يقيمون على أرض يحتاج إليها المستوطنون والملكية المشتركة ليست في واردهم، فما على الهنود سوى الرحيل أو الزوال.(4)

يمكن الحديث عن ثلاث مستويات أو فئات في البنى الاجتماعية القائمة في شمال أميركا والمكسيك وتحديدا حضارة الاستيكاس والمايا في أميركا الوسطى والانكا وهي الحضارة الأكثر تطورا وتقدما من حيث البنى الاجتماعية والتي كانت سائدة في مناطق تعرف اليوم بالبيرو والاكوادور.

وكانت لهذه الدولة عاصمة عرفت باسم الكوسكو. كانت البنية الاجتماعية هرمية الشكل يتربع على رأسه الإنكا مثلا إذا أخذنا نموذج الأكثر تقدما بالمقارنة مع بقية الحضارات السائدة فكان الانكا في البيرو أو في الكوسكو هو الملك الذي يجلس على رأس الهرم، وكان يحكم مناطق تزيد مساحتها عن خمسة آلاف كيلو متر طولا أو ثلاثة آلاف ميل تقريبا إلى حد ما هذا يوازي المناطق التي كانت تحكمها الإمبراطورية الرومانية في ذروة عصرها الذهبي، ولم تكن لتقل شأنا عنها إذ امتدت على طول جبال الأنديس على طول القارة الجنوبية.

كانت سلطة الانكا تمتد عبر مئات القبائل والشعوب، وقد اعتبر الانكا بنظر أتباعه ورعيته ملكا وإلاها في نفس الوقت وكانت معه مجموعة من النساء المقدسات يتم يختارهن حسب مشيئته ولكن عادة ما كان يتم اختيارهن وفق احتياجات سياسية ضمن ما يمكن تسميته بالنبلاء من عائلات البلاط المقربة من الملك أو من زعماء القبائل المزمع توسيع الإمبراطورية من خلالها.

وكانت هذه هي الفئة الأولى في الهرم يتبعها طبعا الكهنة الذين يبررون ملكية الانكا وألوهيته، ويقيمون الطقوس والشعائر والمراسيم الخ… ومن بعدهم المحاربين وقادة الحروب وهم من البلاط الملكي. هذه هي الفئة الحاكمة في البلاد.

أما سبل التعامل بين الملك والقبائل التابعة له فكانت تتم على أساس أن لكل قبيلة حريتها النسبية تضمن ما يمكن تسميته أو وصفه بالحكم الذاتي لكل قبيلة حريتها التامة في اتباع ما تشاءه من شعائر وممارسات، الخ… على أن تقدم ضريبة محددة للإنكا أو الملك من محصولها.

توزع هذه الضريبة على النبلاء أسياد البلاط. على هذه القبائل أن تقدم أيضا نسبة أو عددا من رجالها للمشاركة في الحروب هذه بنية تعتبر متقدمة جدا تقبل المقارنة حتى بالعلاقة التي كانت سائدة بين ملوك أوروبا وبارونات أو كونتات المناطق حينها.

أي أن الحملات الغربية لم تأت إلى مناطق خالية من الحضارة كما تدعي، فالحضارة هناك لم تكن لتقل شأنا عن أي دولة بكل معنى الكلمة، تمتد عبر مساحات شاسعة لها هيكليتها وبنيتها الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية حتى أنها عرفت النقد بأشكاله الأولى إذ كانوا في بعض المناطق يعتبرون حبوب الشوكولاته أو ما يعرف اليوم بحبوب الكاكاو وحدة نقدية يتم تبادلها بالذرة أو الفاصولياء أو الأواني وغيرها من السلع التجارية الأخرى. ما يدل على مستوى العلاقات التبادلية المتقدمة نسبيا في مجتمعات هذا العالم.

وكان الانكا في جنوب القارة الأميركية يعتمد على الطرقات المعبدة التي شيدها المهندسون إذ كانت حضارة الإنكا متطورة ومتقدمة نسبيا في الهندسة فقد شيدت الطرقات توصلت إلى عدد من سبل الاتصالات التي برز من بينها العداءين أو الركاضين الذين يغطي كل منهم مسافة محددة عبر هذه الطرقات على طريقة الحضارة اليونانية، والمقصود هنا أن هذه الطرقات هي التي كانت تحدد مساحة المملكة وحدود انتشارها وشمول إدارتها وعائداتها، إلخ.

عمل السكان الأصليين في الزراعة والصيد وجمع الثمار والتجارة وصناعة الخزف وغيرها من الأعمال المشابهة. وقد اعتمدوا في غذائهم على الذرة بشكل خاص، فطوروا زراعتها ونموها في جميع مناطقهم على اعتبار أنها كانت سهلة الزراعة ولا تحتاج إلى عناية كبيرة وهي تغذي أعداد كبيرة من البشر عبر مساحات قليلة من الأراضي.

هذا يعني أنه يمكن توفير جهود أعداد بشرية هائلة، فبالتالي في فترات الراحة وفي الفترات الطويلة التي لا يفعلون فيها شيئا عادة ما كانوا يقومون بخدمة الملك في الأعمال الكبيرة مثل بناء القصور وبناء المعابد وتعبيد الطرقات وشن الحروب وغيرها من المشاريع العامة الكبرى التي تتطلبها المملكة.

حرب غير متكافئة

لاشك أن إمبراطوريات السكان الأصليين تمتعت بحضارة متقدمة إلى حد كبير وكانت طبقة المحاربين فيها تلعب دورا كبيرا في هذه الحضارة وتنعم بامتيازات كبيرة بعد الملك والكهنة مباشرة ، على اعتبار أنها كانت تساهم في توسيع حدود لإمبراطورية عبر إخضاع القبائل الأخرى.

ولكن الجندي الأسباني شن نوعا مختلفا من الحروب التي لم يعتدها الهنود، أضف إلى ذلك أن المحاربين الأسبان الذين جاءوا إلى أميركا كانوا متدربين على أرقى مستويات الحروب في ذلك الوقت عبر معاركهم ضد العرب ما يعني القدرة على القتال بأرفع مستويات مناوراته وخيله في ذلك الوقت. أضف إلى أنه اعتمد على أسلحة متقدمة ومتطورة ومختلفة عن تلك التي كان يستعملها الهنود.

مقابل ذلك استعمل الهنود من المعادن البرونز والنحاس والذهب كانوا يكثرون من استعمال الذهب في كثير من أشيائهم اليومية. ولم يعتمدوا على الحديد فبالتالي أسلحتهم لم تكن بصلابة الأسلحة التي جاء بها الأسبان كالسيوف مثلا.

كانت أسلحتهم من النحاس والبرونز في احسن حالتها أو بدائية من الحجارة والخشب. أضف إلى هذا الفارق على صعيد الأسلحة الدروع كانت القوة الأروبية التي جاءت من أوروبا وتلك البريطانية أيضا قد نشأت في العصور الوسطى فترة الفروسية و الدروع الحديدية التي كانت توضع على الظهر وعلى الصدر و الأذرع والرأس والخوذات.

هذه أسلحة كانت تقيهم من الضربات. وكان لها شكلا مخيفا بالنسبة للهنود فلعبت دورا نفسيا ومعنويا إلى جانب دورها العسكري.أضف إلى ذلك استخدام الهنود لسلاح رهيب وفعال يوازي اليوم سلاح المدرعات وهو الاعتماد على الجياد.

كان ركوب الخيل مجهولا لدى الهنود رغم انتشار الجياد في أنحاء القارة الأميركية ولكنها لم تروض ولم يألفوا ركوبها. أصبح لدينا مجموعة من العناصر الأساسية المشتركة التي تكمن بالخبرة في القتال ونوع السلاح والدروع واستخدام الخيول والحالة النفسية، هذا إلى جانب الخبرة والتكتيك اللذين ساعدوا الأوروبيين في التغلب على الهنود. فما اكتسبه الأوروبيين من خبرات وتقنيات وخداع في حروبهم القارية يعتبر عاملا أساسيا في دخولهم القارة والاستيلاء التدريجي عليها.

هناك فارق في الأساليب التي اتبعت للاستيلاء على القارة بين الشمال والجنوب، رغم اعتمادها جميعا على الخدعة والحيلة والتسلل والإبادة الدموية إلا أن الاستيلاء على الجنوب انطلق بحملات متعاقبة بدأت أولها على يد إرنان كورتيس الذي أخضع إمبراطورية الأستيكاس في المكسيك وقبائل المايا في أمريكا الوسطى، مخلفا الأوبئة والأمراض التي سرعان ما انتشرت جنوبا حتى وصلت بلاد الإنكاس وأصابت الملك وابنه الأكبر مما أدى إلى نزاع بين الابنين الأصغرين انتصر في نهاية الأمر أتاوالبا أحد الابنين الأصغرين واستولى على المناطق التي تمتد فوق حوالي خمسة آلاف كيلومتر عبر جبال الانديس.

وكان أتاوالبا قد سيطر على الوضع وتمكن من التغلب على أخيه كليا ورغم أن أخيه كان له السلطة وكان له المؤيدين الكبار في مدينة الكوسكو إلا انه كان يعد للانتقال إلى هذه المدينة العاصمة ودخولها منتصرا وكان يعد المراسيم وسبل الدخول والمسائل الإجرائية والشكلية فقط حين جاء بيسارو على راس سبعين رجلا من أشرس المحاربين المجربين في مواجهة الأستيكاس في المكسيك وفي مواجهة المايا في أميركا الوسطى واستعان بهم للوصول إلى الذهب الموجود لدى الانكاس والموجود بشكل أساسي في الكوسكو. لم يتمكن بيسارو من الوصول مباشرة إلى الكوسكو بل توجه إلى حيث كان يعسكر اتاولبا ومعه خمسة آلاف محارب أساسي إلى جانب حوالي سبعين آلف ممن كانوا في تلك المنطقة وما حولها.

يقال أن عدد المحاربين قد بلغ حوالي مائة آلف مقاتل في أرجاء المنطقة، الأمر الذي يشكل استحالة من الناحية النظرية، حتى أن مذكرات المحاربين الذين رافقوا بيسارو كانت تشير إلى استحالة السيطرة على إمبراطورية الإنكا، ولكن حيلة بيسارو اعتمدت على معرفته وما اكتسبه من خبرة مع إرنار كورتيس في أنه إذا تم الاستيلاء على زعيم القبيلة يتم التحكم بجميع أبناء شعبه، إذ أن زعيم القبيلة ورأس الإمبراطورية، في هذه الحالة، هو المحور الأساسي الذي تدور من حوله الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمبادئ والمفاهيم السائدة، نظرا إلى أن الملك هو الآلهة في الوقت نفسه.

هذا ما فعلوه تحديدا طلبوا مقابلة اتاولبا لكنه رفض الاقتراب منهم في البداية على اعتبار انهم قذرين جدا حسب تشبيهه وانهم جاءوا بالأمراض حسب أقواله حيث وصفهم بالمتوحشين الذين أساءوا معاملة الهنود وقد رفض مقابلتهم كليا رفض أن يأتون إليه ورفض الذهاب إليهم.

إلا أنهم استفادوا من النزاعات السائدة بينه وبين شقيقه والتي شاهدوا مثلها بين الاستيكاس حيث نصروا بعضهم على بعض حتى سيطروا عليهم وسحقوهم جميعا، وقد أدركوا النزاعات القائمة بين اتاوالبا وشقيقه فأوحوا له انهم يريدون تقديم المعونة والوقوف إلى جانبه في المعركة ضد أخيه وكان يرفض ذلك كليا في البداية إلى أن منحهم موقعا للإقامة بشبه معسكر أو فرع من معسكر صغير تابع لوحداته على الجانب الأخر من البلدة وبعد محاولات عدة وافق اتاوالبا على مقابلة بيسارو في ساحة البلدة.

عند وصوله إلى هناك أغلقت الساحة عبر الجياد والفرسان والكلاب الشرسة الجديدة على الهنود لان الكلاب في أميركا في تلك الفترة كانت كلاب صامتة لم تكن تعوي لم تكن تهاجم لم تكن تعتدي أو تصيب البشر بينما الفرسان الأسبان كانوا يعتمدون على الكلاب في مهاجمة الأعداء.

حاصر الجنود السبعين مداخل ومخارج الساحة. و بعد دخول الإمبراطور الانكا اتاوالبا إليها هاجموه وتمكنوا من القبض عليه و قتل الخمسة آلاف الذين كانوا برفقته فلم ينجوا منهم إلى حفنة من مئات لا يتعدوا الثلاث أو الأربعمائة شخص من الخمسة آلاف.

حصلت هذه المجزرة الدموية الرهيبة خلال اقل من ساعة والنصف الساعة فقط.

وضع إمبراطور الإنكا في زنزانة وطلبوا فدية مقابله توازي وزنه ذهبا. هنا بدأت ترتكب كارثة أخرى بحق الحضارة الهندية إذ أن كل المصوغات والمنحوتات والمنقوشات والروائع الفنية والإبداعات الذهبية على أنواعها حتى وسائل الزينة والكؤوس وحلى النساء جمعت كلها وصهرت للحصول على فدية الإمبراطور.

عندما جمع وزن الإمبراطور أتاوالبا ذهبا طلب منه بيسارو جلب المزيد حتى بلغ ما جمعه ستة أطنان من الذهب. ومع ذلك أبقى عليه سجينا ليدير البلاد ويصدر الأوامر من السجن لجلب المزيد من الذهب والفضة حتى بلغ ما أتوا به من جميع أرجاء الإمبراطورية ستة أطنان من الذهب وضعفها من الفضة. تبين للأوروبيين عن ذلك أنهم ما عادوا بحاجة للإبقاء عليه أو الاحتفاظ به، لأن الذهب ما عاد يأتي بالغزارة نفسها، كما أن إطلاق سراحه قد يشكل خطرا عليهم. وهكذا حكموا عليه بالموت حرقا تحت حجة انه كان يدير مؤامرة لمهاجمتهم.

وبما أن المعتقدات الهندية تقول أنه إذا ما أحرقت الجثة تحرق الروح معها، عمل الهنود لتجنب موت الإمبراطور حرقا على أمل أن تنتقل روحه إلى جسد شخص آخر منهم. وعندما توسلوا إلى بيسراو أن لا يقتل حرقا دعاه لاعتناق المسيحية أولا، فقبل إمبارطور الإنكا واعتنق الديانة المسيحية لحماية روحه من الفناء، حتى غير اسمه وتعمد باسم فرنسيسكو.

ولكن اعتناق المسيحية لم يشفع له ويخلصه من الموت، بل أعدم

شنقا ثم أحرقت جثته لحرمان الهنود حتى من مجرد الأمل بالاعتقاد في أن روح أتاوالبا قد تنتقل إلى شخصا أخر يتحول إلى إمبراطور ويقودهم في التخلص من ذلك الجحيم. بعد قتل أتاوالبا والقضاء على أركان إمبراطورية الإنكا، انطلق بيسارو ومن معه نحو العاصمة الرسمية الكوسكو حيث نهبوا ما تبقى من إبداعات الفنون الذهبية وأبادوا ما تبقى من أهم آثار حضارة الإنكا وميراثها الثقافي.

بعد هذه الحملة خرج ديسوتو على رأس سبعمائة رجل متابعا حملتي ارنار كورتيس على الأستيكاس والمايا في أمريكا الوسطى وحملة بيسارو على الإنكا في البيرو. توجه ديسوتو نحو فلوريدا بعد حوالي سبع سنوات، لينطلق من خليج تامبا بحملة أخرى كانت اكثر دموية نظرا إلى أن الحملة الأولى تكللت بجمع الذهب وتبعتها الحملة الثانية بجمع كمية اكبر منه، لهذا كان ديسوتو الذي رافق بيسارو في البيرو أثناء مهاجمة الانكاس، كان يأمل من حملته نحو الشمال بأن يجمع أضعاف كميات الذهب التي استولى عليها من الانكا.

كان الطمع بالثروة يتضاعف ويزداد وبالتالي التعطش للدم لان الأسلوب الذي اتبعه إرنان كورتيس لدى المايا والاستيكاس في جمع الذهب كان دمويا والأسلوب الذي اتبعه بيسارو كان اكثر دموية فجمعت كمية أكبر من الذهب. وهكذا اعتقد ديسوتو انه بممارسة مزيد من العنف وسفك مزيد من الدماء سيجمع أضعاف من الذهب لكنه فشل في ذلك على اعتبار أن منطقة الشمال لم تكن على نفس المستوى من التقدم الاجتماعي ولم يكن فيها هذا الكم الكبير من الذهب المتوفر في جنوب القارة.

كان ديسوتو عند وصوله إلى كل قرية جديدة أثناء زحفه يطرح على من يجدهم سؤالين فقط أولا: من هو زعيم القبيلة؟ وثانيا أين الذهب؟ وكان يعلن باستمرار أنه مبعوث من الملك عبر قراءة بيان على كل من مجموعات الهنود التي تستقبله، مؤكدا أنهم كأفراد وكل ما حولهم من أراضي قد أصبحت ملكا للتاج الإسباني، وأن عليهم الانتماء منذ تلك اللحظة إلى رعايا إسبانيا وقبول الكاثوليكية دينا.

أما إن رفضوا فكان البيان يقول: سندخل أراضيكم بمعونة الرب وبالقوة ونزرع الحرب في كل مكان وعبر كل السبل المتوفرة لدينا. وسنأخذكم ونأخذ نساءكم وأطفالكم عبيدا لنا، ونستولي على ممتلكاتكم، ونسبب لكم كل ما نستطيعه من الإساءة والأذى.

بعد أن يحدد ما أسماه بالأسس القانونية للحرب، كان ديسوتو يبدأ مشروعه في زرع الدمار والاستعباد مرتاح الضمير. عندما يصل إلى زعيم القبيلة كان يقبض عليه ويضعه في السجن ويمارس نفس المناورة التي أصبحت سهلة عليهم.

ثم يقتل ويسفك الدماء رغبة منه في نزع اعتراف عن مكان وجود الذهب وكان يتابع مسيرته شمالا ويهاجم المزيد من القرى حتى واجه مئات القبائل التي أبيدت بالكامل وألقي سكانا في مدافن جماعية شكلت تلك التلال الغريبة التي سميت بالماوند والممتدة من فلوريدا حتى ضفاف المسيسبي والتي بقيت مجهولة عبر التاريخ حتى تبين قبل عشرات السنين فقط أنها قبور جماعية لعشرات بل ومئات القبائل التي قتل ديسوتو أكثر من ثمانين بالمائة من أبنائها عشوائيا.

كان خط التلال هذا قد اكتشف مؤخرا عبر صور الأقمار الصناعية التي التقطت لهذا الخط من التلال.

والواقع أنها كانت تثير الإعجاب والغرابة لدى كثير من المحللين على اعتبار أنها تلال تقع في سهول منبسطة لا مبرر لها من الناحية الجغرافية أو الناحية الجيولوجية فاعتبر البعض أنها هياكل أثرية أو معابد قديمة للهنود ولكنهم لم يتوقعوا ن تكون مقابر جماعية لأفعال الأوروبيين بالهنود.

من أهم هذه التلال رابية في فلوريدا تعرف باسم تاتوم، وقد عثر علماء الآثار فيها على ثلاثمائة جثة، مات أصحبها في نفس اللحظة تقريبا. أما سبب الوفاة فهي قاتمة.

انخفض عدد السكان الهنود بشدة خصوصا في وادي مسيسبي الأدنى حيث أجريت بعض الدراسات الأثرية.

عند مرور دي سوتو من هناك عام 1540، انتشرت حوالي ثمانين قرية بين ميمفيس تينيسي، وباتون روج لويزيانا. مر دي سوتو من هناك وعاث خرابا ودمارا طوال خمسة أشهر، ثم غاب تماما لتغيب المواجهة الأوربية مع الهنود حتى عام 1682، حين جاء لا ساييه ممثلا الفرنسيين عبر المسيسبي، ليحصي بقاء خمسة قرى فقط ما يطرح سؤالا حول ما أصاب القرى الخمسة وسبعون الأخرى؟ لقد اختفت ومات سكانها متأثرين بالأمراض والأوبئة دون شك.

انخفض عدد السكان الهنود في هذه المنطقة مأساويا، أما السبب الذي أدى إلى هذا الانخفاض على نطاق واسع فهو أنه حين يمرض شخص واحد كان جميع من في القرية يصاب معه في نفس الوقت تقريبا.

وهكذا فإن تعرض الجميع للمرض في آن معا لم يترك أحدا قادرا على الخروج لجمع الأعشاب المداوية وصيد الطرائد للطعام. أي أن القرى إن تعرضت لأمراض بسيطة، أحيانا ما كانت هذه الأمراض تكفي لإبادتها.

تغيرت المجتمعات الأصلية كثيرا على مدار ثلاثين عاما التي تلت حملة دي سوتو. وقد شهد جنوب شرق البلاد هيجان ثقافي واجتماعي هائل في تلك الفترة.

أما الهنود في فلوريدا فقد ماتوا لسوء الحظ جميعا. مع حلول عام ألف وسبعمائة وأربعين تقريبا، لم يبق من مئات ألوف الهنود الذين كانوا هناك أكثر من حفنة قليلة.

لسنا حيال انهيار في أعداد السكان فحسب علما أن هذا أمر بالغ الأهمية، للحفاظ على النسيج الاجتماعي، بل ضاعت كميات هائلة من المعلومات. إذا فقدت إحدى المجتمعات تسعين بالمائة من سكانها، قد يبقى على قيد الحياة اثنان بالمائة فقط، ولكن ماذا إن مات جميع المداوون؟ وإن مات جميع السحرة والكهنة؟ ماذا إن ماتت الفئة التي لديها معلومات تتعلق بالغيبيات والاتصال بالعالم الآخر والعلوم الإنسانية الأحرى التي بلغتها حضارة الهنود؟ ماذا إن مات كل هؤلاء الناس؟ عند ذلك سنواجه مشكلة جدية، لها صلة بفقدان استمرارية المعارف وإلغاء حضارة بكاملها.

توجت هذه حملة الإبادة الجماعية الثالثة هذه بمجموعة من الوقائع على ارض بالنسبة لحياة الهنود على اعتبار أنها أفسدت البنية الاجتماعية التامة للهنود وأجبرت ما بقي من بعض القبائل على التمازج والتعايش فيما بينها وتشكيل مجموعات أخرى غير متجانسة في كثير من الأحيان.

ما يعني إبادة البنية الاجتماعية الهرمية أو الغير الهرمية لزعيم العشيرة وتخلخل الهرم السكاني كليا لم يعد هناك بنية عقائدية أو فكرية تؤمن بها وتعيش عليها ومن أجلها، لم يعد هناك مبادئ ولم يعد بينهم ما يعرف بالأخلاق والمفاهيم والمعايير والديانات والحضارات، اختلطت عليهم الأمور فقدوا هذا البناء الفكري الذي كان يعيشون على مفاهيمه.

عند اختلاط القبائل فيما بينها اختلطت عليها القيم وتشوهت لدى الأجيال التالية هذا ما تسببت فيه حملات كورتيس وبيسارو وديسوتو في جنوب القارة الأميركية وشمالها، وهنا خطورة حملاتهم على اعتبار أنها أبادت ما لا يقل عن تسعين بالمائة من السكان الذين كانوا يقيمون في المناطق الممتدة بين خليج المكسيك وضفاف المسيسبي.

أضف إلى أن حملات القتل العشوائية هذه قضت على كثيرين ممن لم يموتوا بحد السيف إذ أبيدوا بالأمراض والأوبئة التي تركتها جثث القتلى وفقدانهم سبل كسب العيش واستحالة العمل على إعادة بناء أنفسهم وإعادة بناء قبائلهم ومجتمعاتهم هذه بعد القضاء على السواد الأعظم من هذه الحضارة وبنيتها الفكرية ومفاهيمها ولغاتها وما توصلت إليه من علوم ما زلنا نجهلها حتى يومنا هذا، خصوصا ما توصلت إليه هذه الشعوب من انسجام مع الطبيعة ومع الذات.

ألغي تاريخها وحضارتها ولغاتها وعلومها وضاع ماضيها الجماعي. وما زلنا نجهل حتى اليوم حقيقة الواقع الذي كانت تعيشه والحضارة التي لديها.

ولكن حملة ديسوتو الدموية لم تكن الوحيدة في الشمال فجميعنا يعرف قصة الأميرة (بوكاهونتس) التي لفق الغرب قصتها عامدا متعمدا وجعلها نموذجا لأطفال العالم بما في ذلك أطفالنا لما قدمته من مساعدة للمستوطنين الأوائل في مستعمرة (جيمس تاون) على تخطي الصعاب المناخية تحديدا إذ لم يتمكن المستوطنين الأوروبيين من التأقلم معها في بداية استيطانهم لمناطق الشمال، فمات منهم اكثر من النصف في المرحلة الأولى من العام الأول، وخصوصا في مستعمرة جيمس تاون.

هنا جاءت بوكاهونتس وقدمت لهم المعونة فكلفها ذلك أن أبعدها والدها زعيم القبائل المجاورة باهاتان عن حدود المستعمرة الدخيلة حوالي ثلاث سنوات.

بعد ذلك عادت وقدمت لهم المزيد من العون لكنهم بدل الامتنان قاموا بأسرها وابتزاز والدها قائلين انه إذا استمر في الحرب ضدهم وفي محاولة منعهم من التوسع على حساب أراضي قبيلته سيقضون عليها. كانت بوكاهونتاس الابنة المفضلة لدى باهاتان.

وقد سجنت لعدة سنوات وأجبرت على الزواج من أحد مزارعي التبغ رغما عن والدها ما منح الأوروبيين فترة من الهدوء عززوا من خلالها استعداداتهم لمواجهة الهنود بقوة وأعداد أكبر.

لم يدم زواج بوكاهونتاس طويلا إذ أنجبت طفلا واحدا ثم رحلت إلى إنكلترا وماتت هناك في ظروف غامضة أثناء رحلة في زورق في النهر.

ماتت وهي في الثانية والعشرين من عمرها بعد ما عانته مع شعبها في الشمال. وهم اليوم يحاولون جعلها مثالا للجميع، علما في الحقيقة بطلة إنسانية لكنها أبيدت على يد القسوة التي جاء بها الغرب لسحق ما في القارة الأميركية من حضارة وشعوب.

من أهم ما قضى عليه المستعمرون الأوائل الكثير من أفكار الهنود وشرائعهم وعاداتهم وفنون وما لديهم من فلسفة في الحياة وأساليب بلاغية وفصاحة لسان حملها بعضهم في سفن العودة إلى أوروبا مع آلاف الوثائق التي لم ينجو منها إلى القليل. وقد نشر العالم الإرلندي كادولادر كولدن كتابا يعتبر من أندر الشهادات عن النظام السياسي والاجتماعي والتقدم التقني والرقي الديني والفني والخطابي لدى هنود الأوروكوا أي اتحاد القبائل الخمسة لهنود الشمال.

يقول كادولادر كولدن في كتابه أنه تفوقوا على اليونان والرومان واعترف لهم بفرادة اتحادهم الفدرالي وتطوره السياسي والدستوري الذي لم تعرف له الأمم الأوروبية حينها مثيلا، وقد وصف هذا النظام بالقول:" إنهم يعيشون في ظل اتحاد قائم بين هذه الأمم الهندية الخمس منذ مات السنين ولا يمكن الحدس ببداياته( من المرجح أنه قد أقيم عام 1570 في عهد الزعيم ديكاناويدا) كل أمة في هذا الاتحاد جمهورية لا مركزية مستقلة يقودها زعماء محنكون في السياسة، طاعنون في السن، يستمدون سلطاتهم وقوتهم من حكمتهم ونزاهتهم، ومن مبايعة أفراد الأمة لهم، زعماء لا يعرفون العنف والإكراه في التعامل مع أبناء أمتهم. المحسن يثاب بالتكريم والاحترام والتبجيل، والمسيء يعاقب بالازدراء والاستنكار ووصمة العار. ترى هؤلاء الزعماء خدما لشعوبهم على نقيض الحال مع ملوك عالمنا القديم وحواشيهم، وتراهم أفقر الناس لأن عليهم ساعة اختيارهم أن يهبوا ما لديهم لعامة الناس، وأن يحتفظوا لأنفسهم بشيء من الهدايا الرسمية أو من غنائم الحروب. أما إذا زلت أنفسهم وخانوا هذه الفضائل فإن شعبهم لهم بالمرصاد، سرعان ما ينحيهم عن مناصبهم ويحتقرهم ويزدريهم".(5)

كما وصفهم الكاتب البريطاني جيمس اديار في كتابه (تاريخ الهنود الأمريكيين) بالقول:" إنهم أكثر تحضرا من الإنجليز لأنهم يعيشون في ظل أنبل القوانين وأبسطها، هذا دستورهم الذي يعرف باسم قانون السلام الأعظم (The Great Law of Peace ) ينبض ينبض بالحرية، وهم جميعا ينعمون بفرص متكافئة وامتيازات متساوية، سعداء، ليس هناك من وصف ممكن للفرح والبهجة والدفء والشجاعة التي تعمر صدورهم".(6)

وفي كتابه (الواهبون الهنود) يتحدث عالم الإنسانيات جاك وذرفورد بتفصيل مهيب عن فضل الهنود الحمر على الحضارة الإنسانية وما يدين لهم به عالمنا اليوم في ميادين الزراعة والصناعة والتشريع والطب والعمران والاكتشافات وغير ذلك مما جحده التاريخ الأمريكي وشوهه ليخفي جريمته البشعة، جريمة إبادة 112 مليون إنسان ومحو أكثر من 400 ثقافة من سجل الحضارة الإنسانية في أكبر هولوكوست عرفه التاريخ البشري.(7)

أدرك الأمريكيون الأوائل أن الصداقات والتحالفات تغنم من الأبرياء والسذج ما لا تغنمه الجيوش. كان مسعاهم لاستمالة قلوب الأوروكوا إليهم من القرارات الحاسمة في التاريخ البشري، وكان له أكبر الأثر في غلبة الأنجلوسكسونية في الشمال الأمريكي بعد إبادة شعوبه ومحو ثقافته الغنية المتنوعة وتشويهها.

ولم يبخل الأوروكوا على الأمريكيين الأوائل بشيء، بل ردو التحية بأحسن منها، وقاتلوا من أجلهم إخوانهم الهنود الألغونكيين، وقدموا للمستوطنين الأوائل الود والأرض والثروة والبراعة والفنون الزراعية التي أعانته على ترويض هذه الطبيعة الجديدة المستعصية وبناء دولتهم العظمى. كانت تلك اللقاءات الودية الأولى فرصة هامة للغزاة الغرباء تعلموا من خلالها كل ما يلزمهم للعيش في أميركا وطبيعتها الوحشية الفريدة آلاف السنين.(8)

استمرت حملات الاقتلاع والتنكيل بالسكان الأصليين في شمال القارة على وجه الخصوص وكان أبرزها ما حدث في الغرب الأمريكي حين قام الرئيس جفيرسون بشراء مناطق شاسعة في الغرب من نابليون أثناء حرب هذا الأخير مع الإنكليز في أوروبا.

اشتراها بثمن بخيس ولم يكن هناك مستعمرين إنكليز في تلك المنطقة. أرسل جفيرسون أولا مجموعات استكشافية للتعرف على الأراضي وتقدير الوضع هناك.

استقبلت المجموعات الاستكشافية هذه بالترحاب من قبل الهنود في الغرب الذين دعوا للتعايش المشترك رغم قوتهم وتماسكهم، لكن جيفرسون أرسل حملات عسكرية أبادت أعدادا كبيرة من السكان الأصليين هناك.

لم يكن من السهل على جفيرسون طردهم من الأراضي إلا بعد إجبارهم على توقيع معاهدات بتخصيص محميات لهم وإخراجهم من الأراضي الخصبة بالخدعة والاحتيال والتهديد وأعمال الإبادة.

بعد الحرب الأهلية الطاحنة، شهدت أمريكا عصرا ذهبيا، كانت الصناعة في طليعته.

عاد مليون رجل من الحرب الانفصالية إلى منازلهم، وعثروا فورا على عمل في مناجم الفحم، والمطاحن، ومصاهر الحديد، ومصانع الآلات ومعامل الملابس.

عام 1811 قام أول مليونير أمريكي، جان جاكوب أستير، ببناء مركز تجاري، عند مصب كولومبيا أسماه أستوريا. كان أستر يعلم بالقوة التجارية لكولومبيا، وبنى أستوريا، لتكون مركزا لأعماله، في الشمال الغربي. فكانت أول شركة أمريكية تستقر في الشمال الغربي.

في الوقت نفسه بعثت شركات الشمال الغربي بالإنجليزي ديفيد تومسون عبر كولومبيا من الشمال، للحصول على الأراضي اللازمة. وقد نجح إلى أن وصل أستوريا، حيث وضع رجال أستر علم النجوم الأمريكية.

ساعد القبطان بري وكلارك ولويس، وديفيد تومسون في فتح الشمال الغربي على الأعمال. اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تقاسم الثروات، ووقعا معاهدة مشتركة، تسمح للتجار من كلي البلدين للعمل هناك.

بدل الاعتقاد بأن الأوروبيين جاءوا للاستقرار في المنطقة، شعر الهنود أن الأوروبيين ليسوا إلا مجموعات من التجار.

إلى جانب المجيء بالتجارة الجديدة إلى نهر كولومبيا، حمل تجار الجلود شيء لم يكونوا على علم به. غالبية السكان الأصليين ماتوا من الأمراض، حتى قبل أن يشاهدوا الرجل الأبيض.

خمس أوبئة على الأقل دمرت عشائر السكان الأصليين. حمل تجار الجلود معهم الملاريا، إلى السكان من عشائر والولاما المنتشرة على ضفاف نهر كولومبيا. تولت هذه الأوبئة تصفية السكان الأصليين جسديا، من عشائر الوالا والا، والنيس بيرس، والياكو، التي تعرض لخسائر جسيمة، فقدت قبائل الكاييس نصف سكانها.

بانتشار وباء الملاريا عام ألف وثماني مائة وثلاثين، قتل ثلاثة أرباع السكان الأصليين ممن يسكنون بالقرب من فانكوفر. وفقدت عشائر الشونوك، تسعين بالمائة من أبنائها.

الكارثة الأكبر وقعت في تلك المرحلة، كانوا يعرفون أن ما يحملونه مميت، فتعرضوا للإصابة وماتوا، بل كادوا ينقرضون.

غيرت سكك الحديد معالم أمريكا كما أجبرت الهنود الأمريكيين على العيش في محميات مغلقة في المناطق النائية من القارة. رفض السكان الأصليون التخلي عن مناطقهم بسهولة فكافحوا من أجل البقاء على يد الحياة، وسعوا للحفاظ على آخر ما تبقى من عالمهم القديم.

كان في تلك الفترة أن رفضت قبيلة ناسبيرس الصغيرة التي رحبت يوما بلويس وكلارك اللذان سبق أن أرسلهما جبفرسون للإستطلاع ، وهي تفاخر في أنها لم تقتل أي رجل أبيض في تاريخها، رفضت التخلي عن أرضها والعيش في المحميات النائية الخالية من أدنى متطلبات العيش الطبيعية.

ثم تمردت ورفضت الاستسلام للوحدات الأمريكية التي جاءت لإخضاعها بقوة السلاح وطردها من المناطق الغنية بالثروات الطبيعية. استمرت القوات الأمريكية المدججة بالسلاح في مطاردة أبناء هذه القبائل بأطفالها وشيوخها ونسائها حتى كادت تصل إلى كندا، حيث أملت أن تتمكن من العيش بحرية هناك.

ولكن الوحدات الأمريكية أبت إلا أن تجعل منها مثلا لما تبقى من السكان الأصليين هناك فأوقفتها عند الحدود مع كندا وأجبرتها على الاستسلام للوحدات العسكرية الأمريكية. وأجبرت زعماء الهنود المقاومين على العيش في المنفى بعيدا عن الأراضي الهندية.

لو عاد أي منا إلى الصحافة البيضاء في تلك الفترة لوجد أنها لا تجد أي حرج في الحديث عن هدف الإبادة من وراء المجازر التيارتكبت هناك، أو الإشادة بالمكافآت الحكومية التي تلقاها القتلة الذين ارتكبوا تلك المجازر حتى أصبح سلخ فرواة الرؤوس والتمثيل بالجثث تقليدا مؤسساتي رسمي اتبعه الجيش الأمريكي منذ تأسيسه. فعند استعراض الجنود أمام الرئيس الأمريكي العتيد وليام هريسون عام 1811 تم التمثيل بعدد من الضحايا الهنود ومن بينهم الزعيم التاريخي تيكومسة.

كما كان الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون الذي تزين صورته ورقة العشرين دولارا من عشاق التمثيل بالجثث وكان يأمر بحساب عدد قتلاه وإحصاء إنوفهم المجدوعة وآذانهم المصلومة، وقد رعى بنفسه حفل تمثيل بجثث 800 هندي يتقدمهم زعيمهم ميسكوجي. وفي 27/3/1814 احتفل الرئيس جاكسون بانتصاره على هنود الكريك وتولى جنوده التمثيل بجثث الضحايا من الأطفال والنساء والرجال، فقطعوا أنوفهم لإحصاء عددهم وسلخوا جلودهم لدبغها واستخدامها في صناعة أعنة مجدولة للخيول. (9)

ارتكبت في ساند كريك مجزرة أكبر من هذه راح ضحيتها أكثر من 800 هندي أعزل على يد الجنود الأمريكيين بقيادة الجنرار الشهير جون شيفينغتون الذي ما زال حتى اليوم بعتبر من أبرز أبطال التاريخ الأمريكي، لدرجة أن هناك عدد المدن والمواقع التاريخية التي تحمل اسمه وتخلد ذكراه وذكرى عبارته الشهيرة التي قال فيها " اقتلوا (الهنود) واسلخوا جلودهم ولا تتركوا صغيرا ولا كبيرا فالقمل لا يفقس إلا من بيوض القمل"(10)

انتهى ما عرف بالحرب الهندية عام ألف وثمانمائة وتسعين، بعد أن قتل منهم مئات الآلاف، وابيدت قبائل بكاملها وأخضعت القبائل المتبقية منها مثل النسبير، والأباشي والسو، التي عرفت بكفاحها الدائم في سبيل حريتها.

لاشك أن الهنود تعرضوا وما زالوا يتعرضون لحملات إبادة منظمة استهدفت حضارة هذه الشعوب والاستيلاء على ثرواتها وأراضيها بسهولة وبأقل كلفة ممكنة وبأسرع ما يمكن.

المشكلة في هذه المجازر هي أنها ما زالت حاضرة حتى اليوم حيث يباد فيها الإنسان بأبعاده الجسدية والإنسانية والحضارية، والأسوأ من ذلك هو أن مأساة هذا الإنسان ما زالت حاضرة حتى اليوم بعد خمسمائة عام على "استكشافه الأوروبي".

ما زال الإنسان الهندي يعاني من ويلات الحضارة الغربية وما زال يدفع الثمن غاليا عبر سوء حالته الاقتصادية وتهميشه الاجتماعي والتنكيل الفكري والنفسي بتجمعاته المغلقة على كافة الصعد عبر هذه الحضارة التي حملت إليه عنوة وما زالت ترفض بحقه الحضاري بالتعبير عن ذاته وتكتم صوته في جميع المحافل، وتشكل نموذجا لجميع شعوب العالم تتحدث بوضوح عما سيكون عليه مصيرها في مستقبل قد لا يدوم خمسمائة عام خصوصا وأننا في عالم السرعة وغزو الفضاء ما سيختصر المسافة نحو فرض الهيمنة على جميع شعوب الأرض دون استثناء.

أما بالنسبة للشعوب الهندية في القارة الأمريكية فلا بد من الإشارة إلى حقيقة تختصر في أن تجمعات السكان الأصليين لم تتوقف رغم كل ما أصابها منذ خمسمائة عام عن مقاومة حضارة الإرهاب والهيمنة والتوسع وإلغاء الآخر، لاستعادة هويتهم وذواتهم ومفاهيمهم وشخصيتهم ومكانتهم التي غابت شمسها منذ خمسمائة عام.

تطرح هذه المسالة اليوم بقوة متزايدة في المجال الثقافي وفي الكتب والصحف وهناك مناسبات كما حدث في الألعاب الأولمبية في أوستراليا عندما أقامت قبائل السكان الأصليين في استراليا حملات واسعة النطاق يغلب عليها الطابع الإعلامي السلمي مستغلة وجود وسائل الإعلام هناك في محاولة لإيصال صوتها إلى العالم مطالبة بحقوقها السياسية وحقوقها التمثيلية وحقوقها في المشاركة وحقها في أن لا تمارس عليها العنصرية.

التمييز العنصري مشكلة يعاني منها السكان الأصليين في كل من الولايات المتحدة واستراليا وأميركا الجنوبية وكندا وفنلندا وأيسلندا، وهذه مناطق يسيطر فيها غالبية ذوي الأصول الأوروبية على السلطة لإخضاع السكان الأصليين لعملية تذويب مستمرة وحملات اضطهاد دائمة واستخفاف حثيث بحقوقهم المشروعة، كي تفرض عليهم حالة من العزلة الدائمة كتلك التي يعيشونها في الولايات المتحدة الأمريكية حيث اعتمدت مع هذه الشعوب أبشع أساليب القمع الدموي لتحطيم إرادتها وإلغاء حضارتها وسحقها كليا ضمن عملية بدأت منذ ما يزيد عن 500 وما زالت مستمرة حتى اليوم.

هذه فترة طويلة إذا ما قورنت بالتقدم التكنولوجي الراهن وتعدد الأسلحة والوسائل التي قد تساعد أمريكا على إخضاع شعوب أخرى وتحطيم إرادتها وإلغاء حضارتها وفرض الهيمنة عليها بمدة أقل بكثير، خصوصا إن لم تجد في هذه الشعوب الإرادة والإصرار على مقاومتها بشتى السبل.

يتضح من ذلك بأن الكيان الأمريكي الحال قام على أنقاض أمة تعرضت للمجازر والإبادة الجماعية وسلبت أراضيها وطردت من ديارها عنوة، فمن أصل خمسين مليون من السكان الأصليين الذين كانوا في أمريكا الشمالية لم يبق اليوم أكثر من ستة ملاين، ما زالوا حتى اليوم عرضة للقهر والاستبداد والحرمان رغم أنهم أصحاب الحق الأول والأخير بخيرات هذا البلد.

كأن جبران خليل جبران عاش في أحشاء الشر وعاين ويلاته حين كتب من قلب الولايات المتحدة في "حدائق النبي" يقول: ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت في جنازة، ولا تفخر إلا بالخرائب، ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع.

وكأن بدايات هذه الأمة تبشر في مستقبلها، وكأن أسس نشأتها أنبأت بما صارت عليه، وكأن خطواتها الأولى قبل أن يشتد عودها توضح ما هي عليه اليوم من صرح دامس.

إن المسار المبدئي الذي اتبعته السيرة الأمريكية منذ تأسيس مستوطنة فرجينيا عام 1607 قد زرع البذور الأولى للعدوانية التي نمارس اليوم في جميع أنحاء العالم وتحديدا في منطقتنا العربية، هذه البذور الفكرية التي رافقت المستوطنين الأوائل الذين جاءوا في بدايات القرن السابع عشر تشكل عقيدة محددة توحي بأن الله قد سمح بأن يجتمع في أرض أمريكية شعب من رجال ونساء مميزين لأنه منح هذا الشعب "رسالة حكم العالم" ذات يوم.(11)

لهذا لم تشكل تجربة الهنود الأمريكيين مجرد بصمات أولى وحيدة أو منفردة شيدت من حولها صروح هذه الأمة، بل كان هناك عناصر مكملة وشعوب أخرى وقعت ضحيتها وشكلت حجر أساس رفعت من فوقه عمادات هذه الدولة المستمرة في إخضاع الشعوب حتى تحقيق رسالتها المنشودة في حكم العالم.

-=-=-=-=-==-=-=--نهاية الفصل الثاني.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

الفصل الثالث

 

[مقدمة اولى]  [مقدمة ثانية]  [مقدمة ثالثة]  [مقدمة رابعة]  [ملخص الكتاب] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث] 
[الفصل الرابع]  [الفصل الخامس]  [الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع] 
[ملحق اول]  [ملحق ثاني]  [ملحق ثالث]  [ملحق رابع] 
[فهرس المحتويات] 

 

 
 
 
 




قراء هذه الصفحة ابتداء من 10/01/2004


 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster