|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
أركان الديمقراطية الأمريكية
جذور وانعكاسات
مع الاعتذار الشديد من نظرية فرنسيس فوكوياما المبشرة بموت الأيديولوجيا وانتهاء التاريخ، والاحترام الشديد لأصحاب النظريات القائلة بأن الولايات المتحدة تنعم بمساحات جغرافية شاسعة مقابل آفاق تاريخية محدودة، إلا أن مسيرة السياسة الأمريكية التي بدأت في القرن السابع عشر تؤكد، رغم كونها في مقتبل العمر مقارنة مع الأمم الأخرى، أنها أرست مبادئ وأركان لأدائها على الصعيدين الداخلي والخارجي اكتسبتها عبر منعطفات هامة واكبت مراحل نشأتها المتسارعة. من المتفق عليه أن السياسة الأمريكية أصبحت مدرسة لا تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية أو البلدان المتخلفة التي تجبر على الدوران في فلكها بل أخذت تنتشر في بلدان أوروبية لها باع طويل في العراقة والأصالة والثورات الفكرية والفلسفات العصرية والمبادئ الديمقراطية التي وضعت جانبا للسير على هدى التجربة الأمريكية النيرة. وقد تشكلت هذه المدرسة منذ قيام الولايات المتحدة التي لا بد من التسليم أولا بأنها تكونت بداية من المهاجرين المغامرين الباحثين عن الثراء السريع بأي وسيلة ومجموعات المنفيين الذين أرادت بريطانيا وبعض البلدان الأوروبية التخلص منهم لأسباب عنصرية وسياسية ودينية، فأقاموا شركات تجارية تؤكد زيادة الأرباح فيها قوة إيمانهم المرهونة بتوسيع الأملاك والعقارات والثروات ما يختصر بعبارة الدين ثراء والثراء دين. إن كانت هذه هي طينة البشر التي وصلت إلى الولايات المتحدة فإن المعدن الذي تأسست منه كان جنيهات ذهبية كالتي تشكلت بها شركات مساهمة على غرار "فيرجينيا" التي تكونت برأس مال قيمته مائة ألف جنيه استرليني من عصر الملكة إليزوابيث الأولى. من أول ما قامت به هذه الشركة شق الطرق إلى مختلف مستعمرات الولاية مستوفية ثمنها بفرض رسوم يدفعها المسافرون في كل مرة يمرون عليها، لتخلق بذلك نوعا جديدا من الخدمات التي تسدد من قبل المستهلك مباشرة، وهكذا أصبحت الشركة هي الولاية وحملت الولاية اسم الشركة.
بعد فترة قصيرة أدرك القائمون على الشركة بأن توسعها مهدد من قبل السكان الأصليين الذين أخذوا يعبرون بشتى الوسائل عن استيائهم من هيمنتها على أراضيهم وموارد أرزاقهم، فكتبت عام 1624 تقريرا إلى جمعية المساهمين في لندن، وكان السيد فرانسيس بيكون الوزير في عصر الملكة إليزابيث الأولى. يقول التقرير: " إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أي محاولة لتمدينهم.. كما سيستغرق تمدينهم وقتا طويلا بينما يمكن إبادتهم بوقت مختصر، أما وسائلنا إلى التغلب عليهم فهي كثيرة: بالقوة والمفاجأة والتجويع وحرق المحاصيل وتدمير القوارب والبيوت وتمزيق شباك الصيد، وأخيرا المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم لأنها تنهش أجسادهم العارية.." لم تواجه الشركة مصاعب كثيرة في تنفيذ سياستها، كما هو حال الشركات المهيمنة على ولايات الشواطئ الشرقية عموما والتي مضت تزرع وتتاجر وتغتني وتراكم الثروات وتقضي على الهنود وتتوسع وتتخذ جميع القرارات الصغيرة والكبيرة على اختلافها، تماما كما تفعل الشركات الأمريكية الكبرى بالنسبة للقرارات المصيرية في الولايات المتحدة، ومن خلالها في كثير من بلدان العالم.
في الثلاثين من حزيران يونيو من عام ألف وستمائة وعشرين، دخل اثنين وعشرين إنجليزيا إلى كنيسة صغيرة، فسجل ذلك بداية لأولى أشكال الديمقراطية الأمريكية، حيث اختيروا ممثلين عن المواطنين، في أول حكومة شبه منتخبة في المستعمرات. والبارز في هذه الديمقراطية هو أنها نشأت في مهد من قوانين المصالح والثراء وتوسيع الممتلكات، في أجواء لا تعرف أثرا لأفكار شبيهة بما جاء به هيغيل وغوته وكانط أو جاك روسو وفيكتور هوغو و غيرهم ممن ظهروا فيما بعد أو من المتأثرين بفلسفات بعيدة عن مبدأ "المصالح" الأمريكي.
منحت هذه القوانين أصحاب الممتلكات وحدهم حق الترشيح والانتخاب، ما عزز مكانتهم منذ التجربة الأولى لإرساء قواعد الديمقراطية الأمريكية حين أرسى حقيقة أن هذه الفئة من المستوطنين هي صاحبة القرار الفصل، ما يترجم اليوم بسيطرة الشركات العالمية الكبرى على القرارات الداخلية والخارجية الأساسية في البلد. يكفي أن نرى على سبيل المثال بأن حجم المبالغ التي تقدمها لجان الدعم المؤيدة لإسرائيل لمرشحيها إلى عضوية الكونغرس قد وصل في التسعينات إلى 27744072دولار. علما أن إجمالي مصاريف هؤلاء المرشحين قد وصل إلى 29141474دولار. بعبارة أخرى، قدمت اللجان المؤيدة لإسرائيل أكثر من 95% من التمويل اللازم للحملات الانتخابية الخاصة بالمرشحين الذين تدعمهم في الكونغرس، والذين بالتالي سيدعمون إسرائيل.
ولا شك أن جذور مجموعات الضغط هذه تعود إلى بدايات تشكيل الشركات الكبرى، إذ كشف تحقيق أجري بين عامي 1928-1929 أن الجماعات الضاغطة قد أنفقت خلال سنة واحدة 28 مليون دولار (في تلك الفترة) للدفاع عن مصالحها. وكانت ميزانية "جمعية ستاك الحديد الأمريكية" خمسة ملايين دولار في السنة فقط للوبية، دون حساب الإذاعة والصحافة. كما أنفقت (الفدرالية الأمريكية للعمل) خلال ستة أشهر ما يقارب مليون دولار لمحاولة منع التصويت على قانون Tafi-hartley
المهم في الأمر هو أن أعضاء الكونغرس يحتاجون إلى مبالغ طائلة لا يمكن أن يدفعها أي مواطن أمريكي عادي بل لا بد أن ينتمي إلى ذوي الأملاك أو أن يتم شراءه من ذوي الأملاك أو مجموعات الضغط الأخرى المتعددة والتي يحتل اللوبي الصهيوني فيها المرتبة الخامسة بعد مجموعات ضغط متنوعة أخرى. صدرت هذه القوانين في فترة أصبحت فيه جيمس تاون تشكل مجتمعا حقيقيا، كانت المجموعات الأولى من المستوطنين هناك تتألف من الرجال الساعين لكسب المال والأرض والعقارات، وليس فيهم من يريد أن يكون أجيرا، بعد أن ركب المخاطر وعبر المحيط هربا من القمع والمطاردة والاضطهاد.
هذه مسألة لم تتغير على مدار عدة عقود من الاستيطان، رغم قيام شركة فيرجينيا عام 1619 بإرسال سفينة على متنها تسعين امرأة راشدة إلى المستعمرات وقد جرى اختيارهن عن قصد من بين الفئات الاجتماعية الإنجليزية المتوسطة الحال. وكانت الشركة تسعى من خلال ذلك إلى تحسين سمعة المستعمرات بجعلها تبدو مكان جيدا يتمنى أي شخص الذهاب إليه بما في ذلك فتيات مجتمع يتمتعن بفرص جيدة للزواج. وبعد ذلك أخذت بريطانيا وفرنسا يجمعن المشردات من الشوارع والحانات والسجون وإجبارهن على السفر إلى أمريكا لنفس الأهداف.
كانت الشركات تدرك بأن هذا وحده لن يفي بالغرض، وفي آب أغسطس من نفس العام، وصلت سفينة هولندية إلى ذلك الميناء، تحمل شحنة رهيبة، تتألف من عشرين عبد أفريقي كانوا أول القادمين إلى أمريكا للعمل في حقول فيرجينيا، وهكذا زرعت هذه التقاليد السامة جذورها عميقا في تاريخ الولايات المتحدة لأكثر من ثلثي عمر هذه الدولة.
لم تبق بلايموث وجيمس تاون على قيد الحياة فحسب بل ازدهرتا، ما جلب حملات هجرة جديدة تدفقت إلى ما عرف حينها بنيو إنجلند. وكانت طليعتهم عشرون ألف من المتطهرين أقارب الرحالة الذين جاءوا في البعثة الأولى هربا من المطاردة.
ساعد المتطهرون كأحفاد فرانكلين إميرسن وهوثورن، على قيام ثقافة أمريكية جديدة، تنطلق من الاعتماد على النفس والفردية والحرية، ولكن المتطهرين الأوائل كانوا أكثر اهتماما بالأرض من المعتقد، فلم تلطخ أيديهم بدم الهنود وسم العبودية فحسب، بل رفضوا التسامح حتى مع أبناء عقيدتهم. جاء المتطهرون إلى أمريكا سعيا لحرية المعتقد بعد تعرضهم للقمع والتنكيل الذي مورس ضدهم بسبب معتقداتهم الدينية. وقد حققوا هذا الهدف عبر المجيء إلى أمريكا وإقامة مستوطنات خاصة بهم، عززوا فيها مكانة الكنيسة في المجتمع حتى أرادوا فرضها على السلطة التي بدأت تصبح أداة في يد الملاكين وأصحاب الثروات، فنشأ نوعا من التناقض أدى إلى ملاحقة الأشخاص الذين لا يشاطرونهم الرأي. هنا زرعت أنقى كنائس المتطهرين بذور الحرية المقتصرة فقط على يدعمون سلطتهم فقط، ويخضعون غيرهم لأسوأ أشكال القمع والتنكيل الذي تعرضوا له أنفسهم في بلدهم الأم.
دعى الوزير راج وليام إلى فصل الكنيسة على الدولة لتعزيز سلطة الملاكين بحجة احترام حرية المعتقدات الدينية الأخرى فجاء رد المتطهرين بأن أخرجته من بيته عنوة في فصل شتاء قاتل، ودفعته إلى الهرب نحو جزيرة رود حيث أقيمت مستعمرة من نوع آخر جاءت تنافس سلطة المتطهرين وتعزز مكانة الملاكين وأصحاب الثروات في المستعمرات الشمالية التي احتدم فيها الصراع بين الكنيسة ومعارضيها حتى اتخذ طابعا دمويا.
ترك اضطهاد المتطهرين الإرهابي أثرا عميقا في قرية سيلام مستشوسيس، وذلك في عام ألف 1692، حين بلغ عدد المستوطنين في أرجاء المستعمرات الشمالية حوالي ربع مليون شخص تقريبا، أرادت الكنيسة أن تلبس المعارضين تهمة ما لمطاردتهم والتنكيل بهم بما يمكنهما أخيرا من تصنيف المستعمرات بين من يقف مع الكنيسة فهو آمن ومن يقف ضدها فهو مع المشعوذين المصابين بمس شيطاني.
تحول هذا إلى ركن أساسي من لسياسة القمع الداخلية والخارجية الأمريكية اتبعته في جميع حروبها اللاحقة وما زلنا نراه حتى يومنا حيث تقع الكارثة على رؤوس من يعترضون السياسة والمصالح الأمريكية في الداخل والخارج، أما من يدافعون عنها فهم في آمان حتى لو كانوا من الدكتاتوريين المتسلطين أو المافيا وحثالة المجتمعات إذا لزم الأمر.
فقدت الابنة الصغيرة لوزير محلي وعيها لفترة طويلة المدى. فاتهمت الفتاة تيجيبا، العبدة الأفريقية التي تملكها العائلة، بأنها وراء ذلك، فبعد تعرضها للضرب المبرح أجبرت على الاعتراف بأنها مذنبة، كما أتت على تسمية السيدة غودياز بورن كشريكة لها في أعمال الشعوذة.. وهكذا بدأت النزاعات.
جيء بتلك الشريكة المتهمة، لمواجهة مجموعة من المراهقات في البلدة، حتى قابلتها إحداهن باتهامات بالشعوذة وأعمال مشينة تمس بالمعتقدات السائدة بين المتطهرين.
أدانت المحكمة غوديا بورن، التي توفيت في السجن بعد عشرة أيام من ذلك، نتيجة سوء المعاملة فكانت هذه مجرد بداية تبعتها اتهامات عشوائية كيلت للناس العاديين في المستعمرات بالشعوذة، فعوقب الذين اعترفوا بجريمتهم، وأعدم الذين أصروا على براءتهم من الاتهامات. أخيرا بلغت هذه المحاكم حدها في الثامن عشر من نيسان أبريل من عام ألف وستمائة وثلاثة وتسعين. في اليوم الذي تبين لحاكم ماساتشوسيس أن زوجته متهمة بأعمال الشعوذة، فاعتقل أكثر من مائة وخمسين شخصا أعدم منهم تسعة عشرة، دون أن يحسم الأمر لصالح الكنيسة إذ كانت سلطات الملاكين أشد قوة تعززها القوات البريطانية التي أخذت تتواجد على الأرض بقوة أكبر لضمان حصتها من المصالح والثروات التي تجمع من هناك. أي أن الكنيسة قد استخدمت كأداة لتعزيز أشكال القمع إذ تم مطاردة وقتل عدد لا بأس به من الأشخاص وإحراق أعداد من النساء (الساحرات) في منطقة بوسطن في القرن السابع عشر أي بعد أن انتهت أوروبا من ذلك بوقت طويل. حتى أنهم ما زالوا في بعض المقاطعات حتى اليوم يمنعون تداول أو تدريس بعض الكتب ومن بينها الداروينية لاختلافها مع رواية الخلق في سفر التكوين. لم يتمكن الجنون الذي أصاب بلدة سيلام وحملات حرق الساحرات من وقف تدفق المهاجرين إلى المستعمرات. استمر المهاجرون على أنواعهم بالمجيء إلى شواطئ أمريكا، من إنجلترا وهولندا وفرنسا، على أمل إقامة حياة أفضل، من صغار المهاجرين والعمال الحرفيين والفنيين. قدم أكثر من نصف الأوروبيين مقابل خدمات يقومون بها، وبعد سنوات من الجهد والعمل المضني يطلق سراحهم على أمل أن يفتحوا طريقهم في العالم الجديد.
كانت أمريكا تعد بشيء واحد أهم من غيره بالنسبة لهؤلاء الأوروبيين، هو الأرض، التي كانوا ينتزعونها من الهنود عنوة حتى لو كلفهم ذلك القتل أو الموت في سبيلها، أي أن القضية التي تستدعي القتل أو الموت في سبيلها لم تعد الدفاع عن الوطن أو الدين أو الملك كما كان الحال في اوروبا بل أصبح دفاعا عن المصلحة الذاتية والرغبة في الثراء السريع ولو على حساب الآخرين، وهذه مسألة ميزت جميع الحروب الأمريكية التي لم تشن دفاعا عن حدودها المحاطة بجبال من المياه العميقة التي تحميها من أي طامع مهما بلغت قوته، بل شنت من أجل المصالح البعيدة عن مفاهيم المثالية والوطنية، ما يعني أن الموت فيها مرفوض على المدى البعيد إلا إذا ارتبط بمصلحة مباشرة ملموسة، هذا ما رأيناه في جميع حروب أمريكا اللاحقة التي حققت من ورائها المكاسب، والتي ارتبط رفض الشعب الأمريكي لها بحجم خسائره البشرية فيها، بينما لاذ بالصمت تجاه تلك الحروب التي تحقق له الأرباح والمكاسب على حساب الآخرين.
أواسط عام 1750 تورط المستعمرون مع بريطانيا في حرب توسعية دامت سبع سنوات ضد فرنسا التي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي الممتدة من كندا إلى لويزيانا. انتهت الحرب بنصر بريطاني، ولكن هذا النصر جاء مترافقا بعدة عناصر هامة من أبرزها أنه أكذ ذذسب المستوطنين خبرة عسكرية أفادتهم في حربهم اللاحقة وجعلهم يدركون حجم الثروات التي أصبحت تحت سيطرة البريطانيين والتي ستجعلهم من الأغنى في العالم إذا استولوا عليها بأنفسهم. هناك عوامل أخرى نجمت عن هذه الحرب أهمها أن المتطوعين من المستوطنين خرجوا من الحرب بحال أسوأ مما كانوا عليه إذ لم تكافئهم بريطانيا على جهودهم وتضحياتهم بالمستوى الذي كانوا يأملون، وكان من بينهم جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، الذي شارك في هذه الحرب منذ بدايتها كدليل متطوع برتبة عقيد للجنرال البريطاني براديك الذي قتل مع أربعمائة جندي في معركة لي بوش في سهول أوهايو.
أدرك جورج واشنطن ومن معه من مستوطنين هشاشة أسطورة الجيش الذي لا يهزم ونقاط ضعفه وإمكانية التغلب عليه وضرورة اعتماده المستمر على الضرائب التي يفرضها على المستوطنين في المستعمرات والتي تزايدت بعد انتهاء ما عرف بحرب السنوات السبع التي أرهقت الخزينة البريطانية إلى حدود قاربت الإفلاس، نجم عنها ما عرف بإعلان عام 1765 الذي فرض ضرائب على الوثائق وكل ما هو مطبوع وسط حالة من الركود الاقتصادي في المستعمرات التي انتشرت في أرجائها حالات مختلفة من التمرد. أجبرت لندن متأثرة بحالات الغليان والتمرد المنتشرة في أرجاء المستعمرات على التراجع عن قرارها في العالم التالي، ولكن هذا ترافق مع زيادة حجم تواجدها العسكري ما عزز أشكالا أخرى من الضرائب المترافقة مع مزيد من أعمال التمرد والعنف التي توجت بما يعرف بمجزرة بوسطن حيث قتل خمسة مستوطنين على يد جنود بريطانيين يتولون حماية بيت الجمارك في بوسطن.
سادت أجواء من الإحباط بين المستوطنين الأمريكيين مع تنامي أعمال العنف وزيادة حجم الضرائب التي كانت تفرضها بريطانيا عليهم بين الحين والآخر لتهدد بمصالحهم وثرواتهم بشكل مباشر، وكان أبرزها ما حصل في السادس عشر من كانون أول ديسمبر من عام 1773 في بوسطن حول القوانين الاحتكارية المتعلقة بتجارة الشاي. حيث أدت قوانين الحماية التي فرضت على تجارة الشاي، إلى خروج مجموعات من المستوطنين على اختلاف انتماءاتهم نحو الميناء بقيادة سام أدامز، وهو مستوطن يعمل في صناعة المرطبات وشقيق الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون أدامس، أطلقوا على أنفسهم لقب، أبناء الحرية.
صعدت هذه المجموعات إلى إحدى السفن وفتح أفضل ما فيها من آلاف علب الشاي لرمي محتوياتها الثمينة في البحر. كانت هذه فرصة بالنسبة لسام أدامز ورفاقه لتعبير عن عدم اكتراثهم بالوطن الأم حين بدأت تمس بمصالحهم. كانت تطلعات أدامز واضحة، إذ شكل هذا الحدث بداية لرغبات التخلص من أعباء الضرائب التي تجمعها إنجلترا. تفاقم استياء المستوطنين في مختلف المستعمرات من أعمال العنف والركود الاقتصادي وزيادة الضرائب المتنامية فاستغل هذه المشاعر الملتهبة لدى المستوطنين خمسة وخمسون من نخبة رجال المستعمرات، للمطالبة بحقهم كمواطنين أحرار ولدوا في أمريكا. وكان من بينهم سام أدامز، وجان أدامز، وباتريك هنري، وجان هانكوك، الذين اجتمعوا معا في السابع عشر من أيلول سبتمبر من عام 1774 في فيلاديلفيا، ضمن أول اجتماع قاري للكونغرس، حيث اتخذت الخطوة الأولى نحو قيام الدولة الجديدة. كان العنف في الأجواء، فاتفق الكونغرس القاري على أنه إذا استخدم البريطانيون القوة ضد سكان ماساتشوسيس، سيدعو كل أمريكا للوقوف إلى جانبهم. انطلقت في تلك الفترة مجموعة من الخطابات والبيانات الغريبة عن بنية الساعين إلى طرد بريطانيا والاستيلاء على الثروات في أمريكا ضمن حركة الاستقلال وقد صدرت هذه عن أشخاص لم يشكلوا جزءا من الأركان الأساسية لأصحاب المصالح في أمريكا وبالتالي لم يكن لهذه التصريحات أي تأثير مباشر على الأرض فيما بعد.
في الحادي والعشرين من آذار مارس من عام 1775، أدلى باتريك هنري بتصريحات ما زالت كلماتها تستعمل وتتم العودة إليها وكأنها تعبر فعلا عن أهداف حركة الاستقلال هناك، علما أن جولة بسيطة على محتوياتها بعد الحرب تؤكد أنها كانت مجرد جمل رنانة استعملت لتحريض المستوطنين المرهقين من أثقال الضرائب وصعوبة الركود الاقتصادي الذي نجم عن حرب السنوات السبع.
يقال اليوم أن باتريك كان من أهم الرجال الذين صنعوا الثورة الأمريكية، علما أن هذا قد يكون صحيحا من حيث التعبئة والتحريض إذ كان صلة وصل ربطت بين مصالح المستوطنين الفقراء وأصحاب المصالح الذين يجلسون على رأس الهرم في السعي لإخراج بريطانيا من أمريكا. كان باتريك قبل مجيئه من الفئات الشعبية في بريطانيا على خلاف باقي رجالات الثورة الذين هم من كبار المزارعين والتجار والملاكين في المستعمرات الأمريكية، وكان قد وصل إلى أمريكا عام 1774، عشية انطلاقة حركة الاستقلال، وقد جاء بأفكار تتحدث عن سوء المعاملة التي يتلقاها الفقراء في إنجلترا، إلى جانب القوانين المجحفة الصادرة عن السلطات هناك، فأصدر عام ألف وسبعمائة وستة وسبعين كتيب كومون سينس، الذي كان أول مقال علني يتحدث جديا حول استقلال أمريكا، بيع منه 120 ألف نسخة خلال ثلاثة أشهر فقط، للبحارة وصغار التجار والمزارعين والعمال. وقد جاءت في الكتاب عبارات قد تتناقض مع مصالح كبار القائمين على الثورة المناهضة لبريطانيا إذ قال في أحد جوانبه: على من يحبون الجنس البشري، ويكره الطغيان وسلطانه، أن يقفوا جنبا إلى جنب، للتخلص من كل علامات العالم القديم بالضغط عليه، فالحرية أصبحت ملك للعالم أجمع.
كما طالب بإقامة حكومة ديمقراطية جديدة ضمن ما عرف لاحقا بالولايات المتحدة، معتبرا أن مهمة هذه الثورة الأمريكية تكمن بما أسماه قيام ملاذ آمن للحريات. أي أنه لم يدع إلى حركة بضعة ملايين من الأشخاص يقاتلون على الجانب الآخر من المحيط ضد الدولة الأم. وإلا لما تمكن من تحريض المستوطنين من شعوب ألمانيا وفرنسا على الانضمام إلى هذه الثورة. أي أن المواصفات التي دعا إليها تكمن بالتحول إلى جزء من التوسع العالمي لمساحة الحريات، أي أن تتحول أمريكا إلى ملاذ آمن للحرية والديمقراطية.
نجح أسلوب التعبئة والتحريض بعبارات فارغة من محتواها الحقيقي في خداع المستوطنين البيض على اختلاف انتماءاتهم الأوروبية بالوقوف ضد بريطانيا، كما نجح أيضا في خداع العبيد الذين وعدوا بنيل الحرية والمساواة، حتى أن وعود المساواة وعباراتها المنمقة تمكنت أيضا من ضم أعداد كبيرة من قبائل الهنود الذين انضموا للقتال ضد القوات البريطانية إلى جانب المستوطنين الذين شاركوا في حملات اقتلاعهم من أراضيهم وكانوا سببا في تشريدهم أصلا.
صيف عام ألف وسبعمائة وستة وسبعون أصبح الكونغرس القاري جاهزا لإعلان الاستقلال عن إنجلترا، وقد اختاروا لصياغة هذا الإعلان الكاتب الفيرجيني الموهوب، توماس جيفيرسون الذي انتخب ثالث رئيس للولايات المتحدة، وقد كان أصغر ممثل في الكونغرس وهو في الثانية والثلاثين من عمره. ولكن موهبته في الخطابة والكتابة بعث التمنيات كانت مطلوبة جدا. كتب جيفيرسون تلك الوثيقة فجاءت لتعبر عن أفكار رومانسية شابه تضمنت بالطبع ما هو أكثر من الواقع بكثير. إذ قال فيها: نريد أن يتضح هنا تماما، أن جميع الناس متساوين فيما بينهم، وأنهم يتمتعون منذ الولادة بحقوق مشروعة ثابتة، ومن بينها الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة.. وأنه عندما يدمر هذه الأهداف أي حكم طاغية، يصبح من حق الشعب التخلص منه وإقامة حكومة جديدة مكانه. رغم ذلك فإن بذور عدم التسامح في حرية الرأي والتعبير قد زرعت ونمت واشتهرت منذ تلك المرحلة الثورية فقد وافق المتحرر الأمريكي الكبير توماس جيفرسون نفسه على ضرورة معاقبة الخائن في فكره وليس في عمله، كما أذن باعتقال المشتبه بهم سياسيا، كما وافق مع رجالات الدولة المؤسسين على أن الكلام ضد سلطة الدولة الأمريكية أو أي من ولاياتها يعتبر عملا إجراميا.
وكان جيفرسون وغير من مؤسسي الولايات المتحدة كما هو حال واشنطن وجون أدامز وجون كوينسي يرون أنه لا يمكن التسامح مع الخلافات الجدية في الرأي السياسي. ولا يمكن القبول إلا بالإذعان للقضية الوطنية.
هذا ما يبرر سيادة الأسس الهزيلة لحرية التعبير في الولايات المتحدة حتى الحرب العالمية الأولى، وبقاء قانون القذف التحريضي الذي يحرم مهاجمة الدولة بالكلام نافذا حتى عام 1964 حين نقضته المحكمة الأمريكية العليا، ليتغير شكلا ويحمي حرية التعبير باستثناء ما أسموه ب"التحريض على همل غير قانوني وشيك".
في الرابع من تموز يوليو وافق أعضاء الكونغرس بالإجماع على إعلان استقلال ثلاثة عشر من الولايات المتحدة الأمريكية، فأضيئت المشاعل احتفالا في جميع أرجاء فيلاديلفيا. وأسقط تمثال الملك في مدينة نيويورك عن منصته، لتذويبه وتحويله بصناعة رصاص لبنادق الثوار.
أعلن توماس جيفرسون هذه الوثيقة عام 1776 ثم انتخب عام 1801 رئيسا للولايات المتحدة لدورتين متعاقبتين، أي أنه بقي رئيسا حتى عام 1809، دون أن يتخذ أي قرار فعلي يتعلق بالمساواة بين المستوطنين البيض أنفسهم، إذ استمر نزوح السكان الفرنسيين من لويزيانا إلى كيبيك الذي نجم عن الحرب الفرنسية البريطانية أو حرب السنوات السبع، دون أن يحرك ساكنا لاعتبارهم مواطنين أمريكيين، رغم المساعدات الكبيرة التي قدمها الملك الفرنسي في تعزيز الحصار البحري المفروض على القوات البريطانية أثناء حرب الاستقلال. كما لم يوقف زحف المستوطنين للاستيلاء على مزيد من أراضي الهنود بل قام أثناء فترة حكمه بشراء أراضي لويزيانا من فرنسا التي تعرض الهنود فيها لاحقا إلى حملات إبادة توجت بمواثيق ومعاهدات صورية انتزعت الأراضي من الهنود وأجبرتهم على العيش في محميات نائية قاحلة.
أما المواطنين السود الأحرار منهم والعبيد الذين شاركوا بالآلاف في حرب الاستقلال وغيروا موازين القوى بانضمامهم إلى الثورة بعد الوعود التي أغدقت عليهم من قبل جورج واشنطن بإعتاقهم ومنحهم الحرية، فلم يتمكن السيد توماس جيفرسون طوال فترة رئاسته من اتخاذ أي قرار في صالحهم، سوى أنه وقبل عام واحد من انتهاء ولايته الثانية، أجبر إثر مجموعة من الأحداث على اتخاذ قرار يمنع بموجبه استيراد العبيد الأفارقة إلى الولايات المتحدة. أي أن إعلان الاستقلال حدد الخطوط العامة للثورة على الورق وفي العلن ولأهداف حشد أكبر عدد ممكن من التأييد من حوله، أما على الأرض وبعد الاستقلال فلم تفسح بالمجال للمواطنين عامة بالمطالبة بحقهم في معارضة الحكومات المقبلة إذا شعروا بأن حقوقهم منتهكة. إذا ما قورن ذلك بالتاريخ المعاصر نرى أن الولايات المتحدة كانت تحشد الدعم والتأييد العالميين من حولها منذ الحرب الباردة وحتى حربها المعلنة ضد الإرهاب وهي في الداخل تزج بمواطنيها المكافحين في سبيل الحقوق المدنية في السجون وتحرمهم من فرص العمل، وتغتال زعماء المواطنين السود الذين يطالبون بالمساواة سلما، كما حصل مع لوثر كينغ، وتطرد اللاتينيين من الولايات الجنوبية والشمالية، وتلاحق العرب الأمريكيين باتهامات متنوعة وتستمر بإخضاع السكان الأصليين لشتى أشكال العزلة والاضطهاد والتنكيل.
أفضل القول أن إعلان الاستقلال يشكل بداية لمرحلة جديدة فيها جدول أعمال أمريكا المختلف عما ورد في كلمات جيفرسون من أن جميع الرجال متساوون. أدى ذلك إلى نشوء مشكلة اجتماعية كبيرة لأن الناس لم يكونوا متساوين على الإطلاق، ما يعني أنها أدت إلى نشوء مجتمع مليء بالتناقضات والإحباط منح فيه الناس أغلى ما لديهم من أجل أهداف ما زالوا يسعون إليها ويعملون من أجلها حتى اليوم. عام 1781 تغلب جورج واشنطن على القوات البريطانية في يورك تاون ليتمكن بهذا من إنهاء ما يعرف بالحرب الثورية. وبعد عامين من ذلك تفاقمت التناقضات بين قيادات الثورة وقع واشنطن إثرها معاهدة تخلى بموجبها عن السلاح وأقفل عائدا إلى فيرمونت، ليعود مؤقتا إلى ممارسة دور المزارع الثري هناك.
تركت الحرب أناس عاديين، بما في ذلك عدد من المحاربين القدامى دون دفع التعويضات، متعبين ومرهقين جدا، بديون لا تحتمل. أي أن أمريكا لم تف بوعودها تجاههم. فخرج المواطنين الغاضبين كمزارعي مساشوسيس في حركات تمرد قصيرة المدى ضد الحكومة. أثارت عمليات التمرد هذه غضب الممسكين بزمام السلطة جديا.
وقد علق توماس جيفيرسون صاحب إعلان الاستقلال برسالة ديماغوجية رنانة من باريس حيث كان سفيرا بمرتبة وزير هناك، يعتبر فيها حركات التمرد أعمال ضرورية لا بد منها، حيث قال: أعتقد أن أن حركات التمرد جيدة بين الحين والآخر، إذ لا بد من إنعاش شجرة الحرية بين الفينة والأخرى بدماء الوطنيين، والطغاة على حد سواء. نشأت نزاعات بين أصحاب المصالح وشخصيات بارزة في أجواء الثورة حول الاستيلاء على السلطة وطبيعة القوانين ومراكز القوى وصيغة الاتحاد توجت بالتوصل إلى معاهدة دستورية لم تضمن إقامة حكومة مركزية صلبة قادرة على التحكم بتلك الأمة المشحونة والمضطربة والمحبطة. تحولت المستعمرات الثلاثة عشر ولايات أقامت بينها سلطة مشتركة هي الكونغرس الفدرالي، عبر مواد الكونفدرالية التي تم التصويت عليها عام 1777 لتنشئ سلطة ضعيفة تقتصر صلاحياتها على الشؤون الخارجية والعسكرية، تحتاج إلى غالبية الثلثين لاتخاذ قراراتها. مارست أركان الهيمنة والتوسع ضغوطا شديدة على الولايات الصغيرة تحيدا والتي رفضت التخلي عن استقلالها بالكامل خوفا من الذوبان في الكبرى منها كفيرجينيا وماريلاند وفيلاديلفيا، التي كانت تدفع نحو الاتحاد عبر الترغيب والترهيب على أشكاله.
وأخيرا أمضى 55 ممثلا من بينهم جورج واشنطن ثلاثة أشهر في النقاش حول السلطة وشكل الحكومة القادمة. حتى أعد في أيلول سبتمبر من عام 1778 ما عرف بدستور الولايات المتحدة الأمريكية، الذي ضم ما هو أكثر من مجرد فرض النظام والاستقرار، فلم تتمكن وثيقة الحكم هذه من إرضاء الجميع لأنها عززت تحكم الفئات الثرية وحدها بزمام السلطة التي تركزت بيد رجل واحد كاد يحل محل الملك. وأخيرا عقدت جمعية فيلاديلفيا في أيلول سبتمبر من عام 1787 لتصوت على الدستور الأمريكي الحالي بموافقة 39صوتا وانسحاب 13 عضوا وتغيب ثلاثة. تم إقرار هذا الدستور على نحو بالغ الصعوبة من قبل ثلاثة عشر ولاية كونفدرالية، اكتسبت أصواتها بإغداق الوعود المباشرة ، تماما كما يتم اليوم التعامل مع جميع الدول التي تتردد بالانضمام إلى المشاريع الأمريكية فتغدق على بعضها الوعود ويتهدد البعض الآخر بالويلات والثبور.
وهكذا تقدم الكونغرس خطوة أخرى نحو انتخاب أول رئيس للأمة، فلجأ إلى رجل لم يبرز كعبقري عسكري على الإطلاق، أو كاتب لامع، أو مفكر عميق، بل إلى رجل أدرك معنى القوة وسبل الحصول عليها وسبل استخدامها وسبل التخلص من الذين يقفون في وجه قوته، وقد لعب دورا كبيرا في التوصل إلى الدستور الاتحادي كما وفي تعزيز السلطات الرئاسية للدولة الجديدة.. وفي الثلاثين من نيسان أبريل من عام 1789، أقسم جورج واشنطن اليمين الدستوري في وول ستريت نيويورك ليكون أول رئيس منتخب للولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا يمكن القول أن دستور عام 1789 يجسد نصرا للاتجاهات الفدرالية المطالبة بفرض سلطة الاتحاد على الاتجاهات الأخرى التي كانت ترغب بالحفاظ على استقلالية كل ولاية بمفردها، أي ان الدستور شكل تسلطا لحفنة من الولايات الكبرى على الميول الاستقلالية لدى الولايات والتي تحولت لاحقا إلى حربا توسعية طاحنة عرفت بالحرب الانفصالية كان الهدف المعلن لها إلغاء العبودية أما الهدف الحقيقي فهو لا يتعدى إخضاع الولايات الجنوبية بالقوة بعد أن لم تفلح معها أساليب الترغيب وإغداق الوعود فوقعت الكارثة. أوضح أبرهام لينكون الهدف الأساسي لهذه الحرب في خطاب ألقاه بمناسبة انتخابه رئيسا بالقول: لا أرغب إطلاقا بالتدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في نظام العبودية السائد في أي ولاية كان.. يجب أن لا يؤدي ذلك إلى تحطيم الروابط بيننا.. ذكرى جميع الضحايا الذين سقطوا في ساحات المعارك ما زالت تدعو لتعزيز الاتحاد. هنا نرى ركنا آخر من أركان السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية والتي يمكن اختصارها بالتغيب والترهيب، وكأنها تقول من لا يخضع بعصا موسى سيخضع بعصا فرعون، أو كما يقال أحيانا سياسة العصا والجزر، رغم ما تبين حتى الآن من أن الجزر هنا لا يعني الغذاء النافع بل هو إسفين تعمل الولايات المتحدة على دقه في أسفل من يرفض الخضوع لها حتى تسقط رأسه.
خلفت الحرب الانفصالية مجموعة من ظروف القمع والاضطهاد والاستغلال لجميع الذين شاركوا فيها باستثناء فئة كبار التجار والصناعيين الذين كانوا يتاجرون مع طرفي النزاع ويحققون ثروات هائلة دفعتها بقوة نحو السيطرة على موارد البلاد خلال القرن العشرين وبالتالي التقدم خطوة أخرى نحو تعزيز القوانين التي تعزز مكانتها في السلطة السياسية هناك.
كانت المدن الأمريكية منشغلة في تشيد صروح الأمة الجديدة، حيث يتمتع الناس بحرية بناء حياتهم في أي مكان يسعون إليه.
بدأ فرانسيس كابيت لو، أحد رجال الأعمال الأمريكيين بالعمل في التهريب، ولكنه لم يهرب العبيد، بل أسرار الصناعية. فأخرج من إنجلترا تصميم آلات صناعة الأنسجة الواسعة النطاق، وهكذا حمل الثورة الصناعية إلى ضفاف نهر ماريماك في مساشوسيس، فغير أساليب العمل في أمريكا إلى الأبد.
أدى ازدهار القطن الخام مع الآلات إلى البدء بقيام صناعة منحت القوة لأمة شابه. خلال سنوات قليلة أنتجت هذه المصانع كميات من القماش يمكن لفها مرتين حول الكرة الأرضية، أي أنها كانت تكفي للبيع داخل الوطن وخارجه.
كما أنشأت هذه المصانع فئة جديدة أو طبقة حديثة من الأمريكيين، هي طبقة عمال المصانع التي كانت في غالبيتها العظمى من فتيات الأرياف اللواتي تخلين عن حياة وعمل المزارع وجئن لكسب العيش بأنفسهن في المدن.
بعد الحرب الأهلية الطاحنة، شهدت أمريكا عصرا ذهبيا، كانت الصناعة في طليعته. عاد مليون رجل إلى منازلهم، وعثروا فورا على عمل في مناجم الفحم، والمطاحن، ومصاهر الحديد، ومصانع الآلات ومعامل الملابس، تميزت الفترة التي تفصل بين نهاية الحرب الأهلية وحلول القرن العشرين بالتغيرات الشاملة في الحياة الأمريكية، إذ نمى عدد السكان وبسرعة هائلة. انتقل الناس إلى المدن ضمن ظاهرة واضحة، كما أن الحركة بين المناطق بدأت تتم بسرعة كبيرة، عبر المحيط للوصول إلى الولايات المتحدة وعبر القارة أيضا وذلك عبر سكك الحديد التي سجلت تحولا هائلا عبر شمولها مساحات شاسعة بعد الحرب الأهلية. قادت حفنة من الرجال شؤون البلاد والأعمال لنصف قرن من الزمن، وذلك من خلال طموحاتهم الساطعة والعمياء. فهم لا يعرفون الخضوع، ولا يعترفون بأي سلطة، إلا سلطتهم. كان الناس يسمونهم سادة المطاط للنقد اللاذع وقد يسميهم المعجبين بهم عباقرة الاقتصاد، ولكنهم كانوا طلائع المرحلة الأولى من بناء المجتمعات الرأسمالية الصناعية الحديثة، السواد الأعظم من كبرى الشركات الأمريكية التي ما زالت سائدة حتى اليوم أسست مع نهاية القرن التاسع عشر، وذلك على يد أفراد موهوبين ومندفعين جدا وفي منتهى القسوة أحيانا، حققوا إنجازات رائعة، فقد حولوا الاقتصاد الأمريكي، ولكنهم كثيرا ما كانوا يفعلون ذلك بسبل بالغة الفظاظة والوحشية، ما جعلهم يستحقون لقب أسياد المطاط. يعتبر جي بي مورغن أشد هؤلاء الرجال صلابة، الذي مول خطوط سكك الحديد، وباقي الصناعات الأمريكية. كان يحلم ببناء أمة صناعية جديدة، مترفعة على العالم أجمع. وقد تحقق الحلم.
لا يبدو من أصول متواضعة، فقد كان والده من رجالات المصارف الدولية، الذي كان يقلقه اندفاع ابنه في اتخاذ الأحكام. حقق مورغن الإبن أرباحا طائلة من الحرب الأهلية، فقد تعامل مع النزاع، كفرصة تجارية، وليس كقضية، فجنى منها أرباحا طائلة. سرعان ما تملك أربعة من أهم ستة خطوط للسكك الحديدية في البلاد، وشركات التأمين وكبريات المصانع، وإمبراطورية مالية تساوي المليارات.
وسط حفلة غداء أقيمت عام ألف وتسعمائة، تمكن شريك مقرب لأندريو كرنغي، من إقناع مورغن بشراء مصانع كرنغي الهائلة للحديد الصلب، الذي طلب مقابلها أربعمائة وثمانين مليون دولار، بكتابة الرقم على قصاصة ورقية. وهكذا نشأت يو إس ستيل، أكبر شركة صناعية في العالم.
لم يولد أندريو كرنغي مجازيا بملعقة ذهبية في فمه على غرار مورغن، بل هو إنسان صنع نفسه بنفسه، كان والده مهاجر اسكتلندي فقير، فتعلم منه ِأهمية الدولار، والعدالة الاجتماعية في آن معا. عندما عمل ضابط في سكك الحديد، استوعب فكرة بسيطة أكثر من أي شخص آخر. أدرك أنه لا يمكن بناء القطارات بدون السكك. وهكذا وظف في صناعة الحديد حتى تمكن من التحكم بها، وعندما فتح المجال للصلب، سيطر على هذا المجال أيضا.
سادت حالة من الاستياء تجاه سبل استخدام الأثرياء لثرواتهم، لهذا يقارن الناس بين سلوك كرنغي وروكي فيلر، وتملك البعض إحساس من القلق حيال تحول الأثرياء إلى هدف للغضب الوطني، إن لم يحسنوا من صورتهم في أعين الغالبية العظمى من المواطنين الفقراء في هذا الوطن. ثم توالت التساؤلات عما إذا كان توسع الفجوات بين الفقراء والأثرياء في صالح ما تم إعلانه بشأن الديمقراطية الأمريكية.
أصبح من الضروري بعد الثورة الأميركية إخضاع المزارعين المتمردين بالقوة أو بغير القوة لأن المثل العليا الواردة في الكراريس أواسط القرن الثامن العشر وتحديدا سنة 1776 لا ينبغي أن تأخذ مأخذاَ جدياً ولا بد أن يفهم الناس العاديون بأنهم لا يستطيعون إدارة شؤون البلاد ولا بد من ترك هذه المسألة إلى الفئة المالكة وأصحاب رؤوس الأموال والتجار ورجال القانون وغيرهم من أصحاب السلطة الذين تمكنوا من الوصول إلى هذه المرتبة وإخضاع الفئات الاجتماعية الأخرى لسلطاتهم .
كان جفرسون ومادلسون على سبيل المثال يؤمنان بأن السلطة يجب أن تبقى بأيدي الأرستقراطية الطبيعية، لأن هؤلاء سيدافعون عن الحقوق الملكية ضد الفقراء أي أن هذه الفئة من الناس ستدافع عن القيادة المتوارثة كما ستدافع عن مصالح أصحاب الأموال وكبار التجار ضد الفقراء الذين يعتبرون بهذه الحالة العبيد والمعوذين والعمال المعدمين الذين يشكلون خطرا دائما على الحرية وعلى الملكية التي أصبحت مسألة مقدسة أما العقيدة السائدة التي عبر عنها الأوائل فيمكن اختصارها بأن اللذين يملكون البلاد يفترض أن يهتموا بشؤونها وفقاً لما جرت عليه العادة منذ تأسيس الأشكال الأولى للديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية. وقد جاء ظهور شركات كبرى في القرن التاسع عشر والهياكل القانونية التي وضعت منها الهيمنة على مقدرات البلاد على مختلف الصعد أي أنها اتبعت لمنح هذه الفئة الهيمنة على البلاد ليثبت إبقاء المعارضين للديمقراطية الشعبية بشكلها السائدة فيها والتي وردت في تلك الكراريس عام 1776 وتتعزز بعد ذلك أشكال جديدة من هذه القوة وهذه السيطرة على البلاد. أصبحت أمريكا اليوم تختلف جدا عن بلد صغار المزارعين والتجار الذي حلم به توماس بين وتوماس جيفرسون.
فقد تمكن أسياد المطاط بعد أقل من مائة عام فقط من تحويلها إلى مرتع للشركات العملاقة، وحولوا الولايات المتحدة إلى قوة عالمية في صناعات النفط والحديد والمال والاتصالات.
هذا ما جلب مزيدا من المهاجرين وخصوصا في تلك الفترة حيث أخذت تعتمد في بناء أمريكا على ما يردها من مهاجرين. بدءا من ايرلندا والصين والدول الاسكندنافية وألمانيا، وبعدها روسيا وإيطاليا واليونان وبولندا وليتوانيا. كان بعضهم يأتي هربا من طغيان التمييز، أما الغالبية فتأتي فهربا من طغيان الفقر. نزل خمس وعشرون مليون شخص على شواطئ أمريكا بين عامي ألف وثمانمائة وخمسة وستين وألف وتسعمائة وأربعة عشرة. غالبيتهم عبر جزيرة ألاس في نيويورك. جاءت غالبيتهم متحمسة لبناء حياة وعائلة جديدة. ذهب المهاجرين الجدد بين نساء ورجال وأطفال للعمل في مصانع المدن الرئيسية مثل نيويورك وبوسطن. يأتون بحثا عن الحرية والفرص، وهم مستعدون للتضحية من أجلها.html كانت ساعات العمل طويلة، وظروف العمل قاسي. بين عامي ألف وثمانمائة وواحد وثمانين وألف وتسعمائة وخمسة فقط، سجلت أكثر من سبعة وثلاثين ألف حركة إضراب لأكثر من سبعة ملايين عامل في كل المجالات الصناعية عبر مختلف أرجاء البلاد. فاز أرباب العمل بالمعركة خلف الأخرى، وذلك بمساعدة الشرطة والحراسة الوطنية. استغرق الأمر عدة عقود. ما زاد من تعقيد ظروف العمال في أرجاء الولايات المتحدة.
توجت هذه الأوضاع المعقدة بتمكن رصاص الاغتيال من القضاء على الرئيس ماكنلي عام ألف وتسعمائة وواحد، فتحول نائبه روزفلت، إلى أصغر رئيس يعتلي هذا المنصب في تاريخ البلاد وهو في الثانية والأربعين من عمره.
سادت حينها ردات فعل عارمة حيال تحكم القلة بالثروات، وكان البعض على غرار ثيودو روزفلت يتحدثون علنا عن تركيز هذه الثروات الصناعية الهائلة في أيدي السادة المطاط، ويطرحون مسألة الحاجة إلى ضمان بعض التوازن والعمل على التساوي بين كفتي الميزان وتوفير الفرص المتاحة للناس العاديين.
الجانب الأهم بالنسبة لروزفيلت هو انه وصل إلى الرئاسة وسط ظروف أجبرته على اتخاذ قرارا تختلف عمن سبقه من رؤساء أرسلوا الجنود لقمع المظاهرات، باتباع سلوك يرفض فيه استخدام القوة لإدراكه بأنها أصبحت دون جدوى، فأخذ بداية يدعو الطرفان العمال وأرباب العمل للجلوس على طاولة المفاوضات للتفاهم حتى اضطر أرباب العمل للاعتراف بحقوق العمال رغما عنهم بعد عشرات السنين من الاضطرابات التي سادت أرجاء الولايات المتحدة.
دخل الرئيس وودرو ويلسون الحرب العالمية الأولى عام 1917 بعدما أقنع الكونغريس بأن الألمان قد تمركزوا في المكسيك وأنهم يخططون لاحتلال سان فرانسيسكو ولوس أنجيلوس وإقامة دولة مستقلة على امتداد الساحل الغربي، مطلقا ادعاءات يؤكد فيها أن هذه الحرب ستجعل العالم آمنا للديمقراطية، إلا أن تحريك الوحدات الواسع النطاق أستغل في الولايات المتحدة لممارسة الضغوط الشديدة على حرية التعبير، أضف إلى ذلك تعزيز الرقابة والتجسس بموافقة الكونغرس، ما جعل من غير القانوني انتقاد الحكومة خلالها، كما أن بعض الولايات طبقت قوانين أشد قسوة من ذلك، من بينها منع التحدث بالألمانية في أي مكان على الهاتف أو في المنازل، ما أدى إلى نوع من الهستيريا بحجة تعزيز المواجهة ضد المعارضة الكبيرة للمشاركة في الحرب ما ساعد الحكومة على قمعها بعنف، فأودع الكثير من المعادين للحرب في السجون، كما نفي بعضهم إلى خارج البلاد..أدت الحرب بالمقابل إلى خروج أوروبا مدمرة من الحرب، بينما أدت هذه الحرب نفسها إلى جعل أمريكا أشد البلدان قوة من قبل. كانت العشرينات محطة لانطلاق أعمال العنف والإرهاب.
أراد ملايين الأمريكيين الحفاظ على "النقاء" العرقي البلد، فسارت مظاهرات الكوكلوكس كلان في شوارع العاصمة لحماية أمريكا من الكاثوليك والمهاجرين والسود. شهدت الولايات المتحدة سجن الأمريكيين ذوي الأصول اليابانية في معسكرات حجز طوال فترة الحرب لمجرد انحدارهم من أصول يابانية، رغم أن أبنائهم غادروا البلاد للقتال والموت، في سبيل الحرية. خرجت أمريكا من مراحل الركود والحرب أقوى من أي وقت مضى.
فجأة أصبح حلم الكثير من الأمريكيين بامتلاك منزل وقطعة أرض صغيرة، مسألة في متناول الجميع. حتى وإن كان البيت لا يختلف عن المنازل المجاورة.
تميزت سنوات ما بعد الحرب بالوفرة والمتاع. أربعين ساعة عمل في الأسبوع. أسبوعي عطلة مدفوعان، عطلة نهاية الأسبوع. حسابات في المصارف، أنابيب مياه ساخنة. كما أصبح الدجاج في كل مكان. إنها حياة الرفاهية. ولكنها ليست للجميع، مواجهة الأعداء في الخارج جعلت أمريكا تبحث عن العدو الداخلي، وما أن عثرت عليه حتى بدأت المطاردة، بطريقة تتجسد بما قاله السيناتور جوزيف ماكارثي.
جوزيف ماكارثي: علينا أن ننظف البلاد من المسؤولين سيدي الرئيس، كل المسؤولين عن ذلك، سواء كانوا مضللين أو عملاء، يجب أن نتخلص من جميع الشيوعيين الذين يغطون ويبررون أعمالهم الخائنة. شهدت جميع مجالات الحياة الأمريكية الفنية منها والأكاديمية والمدرسية والحكومية، وبين المثقفين والسياسيين، كلها شهدت عمليات قمع شديدة، هدد الناس بفقدان وظائفهم وحياتهم أو بعزلهم عن المجتمع لمجرد اتهامهم بالانتماء إلى الحركات الراديكالية. تكمن الإساءة الجادة التي شهدتها هذه الفترة بالتهديد والوعيد، الذي أدى إلى تردد الناس في التعبير عن آرائهم لأنهم كانوا يخافون من العواقب. عززت حركة الحقوق المدنية التي بدأت في أواسط الخمسينات وبلغت ذروتها في نهاية الستينات، مبادئ الحرية في الولايات المتحدة، ذلك أنها ملأت الفراغ بين ما يطرح من مفاهيم إنسانية في الخارج، تجاه الحرب الباردة حيث كانت الولايات المتحدة تتزعم لعالم الحر، وحقيقة أن ملايين الأمريكيين السود يعيشون وسط حالة من الحرية المنقوصة، فرحب كندي رسميا بلوثر كينغ، ومائتين وخمسون ألف أمريكي آخر، إلى عاصمة البلاد. نطلقت حركة الطلاب كجيل شاب من أوساط حركة الحقوق المدنية، لتتحدى أمريكا وتطالبها بالوفاء بما تدعيه من الدفاع عن الحريات الفردية والعدالة الاجتماعية. بل تجرأت على تحد المجتمع بأكمله لتحويل سبل تفكيره وسلوكه.
وجدت حركة التمرد هذه وقودا لها في حرب كريهة اشتعلت في بلاد بعيدة.. فيتنام. بعد أن غاصت حركة الحقوق المدنية عميقا في قلوب الأمريكيين، تعرضت فيتنام إلى أعصابهم الخام. وقعت الأمة بحرب ضد نفسها.
وقعت الكوارث تلو الأخرى إذ ثتل جون كندي ومارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس وروبيرت كندي، قتلوا جميعا بأقل من خمس سنوات.
شعر البعض وكأن خسائر عقد الستينات، كادت تشل البلاد، أو حتى تمزقها. هذه مسالة لم تعد تقتصر على ديمقراطية المعلومات في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب بل أخذت تطال العالم أجمع إذ نستطيع القول على سبيل المثال بان ثلثي سكان العالم اليوم يعيشون خارج إطار تكنولوجيا المعلوماتية رغم مساهمتهم في تهيئة الظروف الاقتصادية اللازمة لبلوغها. ما يعني أن ثلثي سكان العالم يحرمون من جزء أساسي من هذه الديمقراطية التي يتحدثون عنها. أي ديمقراطي يمكن أن يكون في هذا العالم إذا كان ثلثي سكان هذا العالم لم يجروا مكالمة هاتفية واحدة في حياتهم؟ ثلثي سكان العالم لم يرفعوا السماعة وتكلموا على الهاتف ولو لمرة واحدة في حياتهم. إذا كان ربع مليون مواطن وهو عدد سكان أيسلندا لديهم من خطوط الإنترنت التي هي التكنولوجيا المعاصرة ما يفوق ما تملكه الهند بكاملها بعدد سكانها الذي يزيد عن المليار نسمة. أي أن 250.000 نسمة يقارنون بألف مليون نسمة. هذا نوع من أنواع الديمقراطية التي تعمل الولايات المتحدة على نشرها بين الناس، أي أنها تريد أن يقتصر تبادل الأفكار فقط على أصحاب هذه الثروات أولا هذه الثروات موزعة بشكل غير سليم ثانيا مركزة بأيدي أو تعمل الولايات المتحدة الأميركية على تركيزها بأيديها، في جميع أنحاء العالم استخدامها لتعزيز هذه القوة وخدمة هذه الثروة. عندما تفشل السبل العسكرية وسبل المواجهة المباشرة تعود النخبة السياسية إلى سبل الاقناع من خلال مؤسسات اتخذت ملامحها الأولى الشكل القانون المجسد لها في عهد الرئيس رونالد ريغان، علما أنها كانت قد مورست في فترات أخرى سابقة كما حصل في الحرب العالمية الأولى عندما دخلتها الولايات المتحدة في إعلام وإدعاء كاذب واهي كبير جداً بأن ألمانيا تعد للسيطرة على شواطئ الولايات المتحدة وإقامة مجموعة من الدويلات التابعة لها وذلك انطلاقا من المكسيك. هذه الأكاذيب اتبعتها إدارة ريغان وأخذت هذه المرة شكلاً قانونياً من خلال وكالة للدعاية تابعة للدولة والنخبة الحاكمة هو ما أسماه الرئيس ريغان بمكتب الدبلوماسية العامة. أي أن مكتب الدبلوماسية العامة كان مجرد إعطاء شكل قانوني لما كان يتم العمل به منذ مراحل سبقت بإدعاء الدفاع عن القانون وعن الدستور وحماية الحريات وحقوق الإنسان، الخ. … أما في الواقع فكانت تكال الأكاذيب والادعاءات لإقناع الناس والسيطرة على سلوك المجتمع الأميركي، ولم تعد هذه الحالة منذ ذلك الحين حالة فريدة رغم ما يقال في المجتمع الأميركي من أنها نادرة ولكنها لم تعد جديدة بل تكررت ومنحت شكلاً قانونية كالذي اعتمدت في عهد الرئيس الأميركي جورج (W) بوش حيث أعلن مسؤولون في البيت الأبيض عن اقتراح تمت المصادقة عليه فيما بعد في وزارة الدفاع يسمح بإعطاء معلومات كاذبة لوسائل الإعلام. وكان مكتب النفوذ الاستراتيجي التابع (للبنتاغون) قد تشكل في نوفمبر (ت2) للإشراف على الدعاية السياسية وكل العمليات ذات الصلة بالمعلومات بهدف إزالة الخطوط الفاصلة بين ما هو من شأن العلاقات العامة والنشاطات السرية ذات الطابع الاستراتيجي وغيرها
أي أنها أصبحت وكالة قانونية تمارس السلطات الأميركية من خلالها الكذب والأضاليل على الشعب الأميركي بشكل قانوني. هذه الوكالة التي أسسها ريغان كانت الأولى من نوعها شكليا وهي وكالة واسعة جدا بتفصيلاتها المدروسة ولم يسبق لها مثيل بهذا الشكل القانوني المنظم ما أثار الابتهاج في نفوس أصحاب الدعاية لقيام دولة قوية ومتمكنة خصوصا بين أوساط المحافظين الذين تمكنوا من الحصول على أرضية قانونية بعد إقامة مكتب الدبلوماسية العامة لتعزيز التزييف الذي كان قائما ولكن دون دعم قانوني. حين تم فيما بعد كشف النقاب عن برنامج الوكالة الدبلوماسية العامة وصفه مسؤول رفيع المستوى بأنه نوع من العمليات التي تنفذ في أراضي العدو علماً أنها كانت تمارس على أرض الولايات المتحدة وموجهة ضد المواطن الأميركي أي أنها لم تستهدف أي عدو خارج الولايات المتحدة في عهد ريغان بل كانت تمارس على الأرض الأميركية ولكن يبدو أن المقصود بالعدو هنا هو عدو النخبة الحاكمة أي الجمهور الأميركي الذي يؤمن بمفاهيم الديمقراطية والحريات والدستور دون أن ينعم بها على أرض الواقع.
لا تكتفي الإدارة الأميركية والنخبة الحاكمة بقيام مؤسسات على طريقة مكتب الديبلوماسية العامة أو ما يعرف بمكتب النفوذ الاستراتيجي الحالي القائم اليوم بإدارة الرئيس بوش لتؤكد بان المفاهيم للديمقراطية السائدة في الولايات المتحدة الأميركية تسير في خدمة مصالح الشركات الكبرى التي تسيطر على منظومة المعلومات في الولايات المتحدة، هذه الشركات الكبرى هي صاحبة المحطات التلفزيونية والصحف والمحطات الإذاعية الكبرى لتشكل فيما بينها نوع من شبكة الشركات الاحتكارية التي تسيطر على هذه المؤسسات الهائلة منذ أوائل القرن العشرين لتكرس صناعة العلاقات العامة وتفكيك مؤسسات الشعب الأميركي وبالتالي قدرته الجماعية على التحرك.
وهكذا تتحدد الحقائق الاقتصادية في الحياة الأميركية والحياة العامة في العالم أجمع انطلاقا من مصالح ووجهة نظر هذه النخبة من أصحاب شركات التلفزة وصناعة الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع في أشكاله المتنوعة. هذا الشكل من الديمقراطية هو الخطر الأكبر الذي يواجه الديمقراطية بمفهومها الفعلي أي حكم الأغلبية لأن هذه الشركات وأصحاب رؤوس الأموال المالكة للشركات الإعلامية والتربوية والتوجيهية الكبرى يسيئون لفكر الشعب الأميركي وشعوب العالم على طريقتهم ويربونه على بنية فكرية وقناعات محددة تناسب الدفاع عن مصالحهم المالية الضيقة، أي أنهم يتحكمون بعقل المواطن الأميركي ويسيئون أفكاره على طريقتهم دون أن يصبح حرا باختيار ما هو أنسب للتطور البشري ودون أن يبقى مساهما فعليا بمفهوم الديمقراطية بأبعادها الإنسانية المسئولة. هنا نستطيع الإضافة بالقول أن من خلال مؤسسات مثل مكتب النفوذ الاستراتيجي التي هي بيد السلطة التنفيذية التي تستطيع نفي الأكاذيب والادعات الموجهة لغالبية لشعب الأميركي من قبل العارفين في بواطن الأمور في السياسة الأميركية والذين يتحكمون في مصير البلاد.
بالإضافة إلى مكتب النفوذ الاستراتيجي سيء الذكر وإلى ما ذكر عن سيطرة أصحاب الشركات الكبرى شركات محطات التلفزة والإذاعة والصحف وسائل الإعلام الأميركية المسموعة والمكتوبة والمرئية ومصادر إعلاناتها وحتى دور النشر التي هي ملك للفئة نفسها من أصحاب رؤوس الأموال الكبرى، أضف إلى ذلك كله أن من يعمل في هذه المؤسسات تتم تربيته وتنشئته في جامعات هي للنخبة أصلاً وليست لعامة الناس على اعتبار أن هذه الجامعات تقتصر أصلا على فئة محددة من المواطنين الأميركيين المقتدرين أي أنها تبقى حصرا على مجموعة من المتمكنين ماليا ويبقى الخارجيين والجهلة والمتطفلين بعيدين عنها أي أنها تبقى بأيدي أصحاب السلطة وبأيدي النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية طبعا ينطبق على جزء كبير من الغرب. علما أن هذا لا يحرر بقية الجامعات من اتباع برامج ومناهج محددة يتم ضبطها من خلال الدعم المالي وفرص العمل والتوظيف لدى الشركات والمؤسسات الحكومية على حد سواء.
هنا باختصار شديد تصبح غالبية الشعب والجمهور كما شبهها البعض مجرد قطيع قد يدب في الأرض ولكنه لن يتخطى حدوده وسيبقى في مكانه المحدد له وستبقى السلطات والفئات المتحكمة والمسيطرة على ثروات البلاد صاحبة اليد العليا في شئونها ومقدراتها . هنا نصل إلى أساليب صناعة القرار في الولايات المتحدة الأميركية والتي أصبحت أكثر تقدما من جميع البلدان الغربية على اعتبار أن الجماهير في الولايات المتحدة الأميركية أصبحت أكثر جهلاً وأكثر عزلة من بقية الدول وذلك نتيجة التقدم التي أحرزته الولايات المتحدة في إزالة النقابات العمالة والقوى التقدمية في المجتمع الأميركي وتحديدا قوى المطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان على الصعيد الأميركي وغيرها من العوائق التي قد تقف في وجه حكم النخبة والاحتكارات الكبرى في الولايات المتحدة وبذلك تقتصر السياسة على فئات من حزب واحد هو خزب الأعمال، رغم توهم البعض بأنه حزبان يحلو للبعض تسميتهما بالحمائم والصقور ويسميهما البعض الآخر بالديمقراطي والجمهوري ولكنه في الواقع حزب واحد ذات امتيازات اقتصادية واحدة هي نخبة سياسية تمثل أصحاب الأملاك و كبار أصحاب المصالح الأساسية في هذا البلد.
مع وصول الرئيس ريغان إلى السلطة أصبح الجمهور الأميركي في غالبيته العظمى من المستهلكين للعقيدة والمستهلكين للمنتجات وهو في أغلبيته مهمشاً أوهامه بالثروة تباع للفقراء وأوهامه بالحرية تباع للمضطهدين وأحلام النصر تباع للمهزومين حتى الذين يخرجون من بلادهم سعياً إلى الثروة والحرية والنصر من فقراء العالم الثالث يذهبون إلى أميركا ليقعون ضحايا التهميش والسعي اليومي الدائم لتلبية احتياجاتهم اليومية وهم ضحايا السلطة وهذه الفئة الحاكمة، يخرجون هرباً من غياب الانتخاب في بلدانهم بأوهام من التمتع بحرية كاملة فيجدون هذه الحرية قصراً على أصحاب السلطة وفئات النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، وأوهام الذين يحلمون بالنصر في بلادهم المهزومة التي تعيش أسيرة الاستغلال والعوز والضعف ليرون أن النصر في الولايات المتحدة الأميركية يقتصر على أصحاب الثروات الذين كلما حققت الولايات المتحدة الأميركية نصرا على أي من هذه البلدان تزيد ثرواتهم بينما يدفع الفقراء من دمهم ثمن هذا النصر عبر بموتهم في المعارك أو في تجربة الأسلحة الفتاكة الجديدة، كما هو حال استخدام قذائف العنصر البرتقالي المستخدم في حرق الأحراش الاستوائية في فيتنام، واستعمال قذائف اليورانيوم المستهلك في الخليج وغيرها. لا بد من التركيز على مسألة صناعة الفكر أو صناعة المعتقد الأميركي الذي يعزز من قناعة الناس في مسألة الحريات والمعتقد، علما أنه من خلال الشركات الإعلامية الكبرى أو صناعة الإعلام التي ملك حصري لأصحاب رؤوس الأموال من النخبة الحاكمة، يتم تعزيز مواقف المستفيدين الذين يروجون للنظام السائد ويدعون فضح جرائم العدو الوهمي القادم من خارج الولايات المتحدة الأميركية أو داخلها. إن أصحاب الفكر المؤيد للنظام الأميركي يحصلون بذلك على ثروات هائلة. كما أن التعبير المتسم بالحقائق أو بالبيان تحدد شكله القوى الخاصة ذاتها التي تسيطر على الاقتصاد، وتهيمن الشركات الكبرى على هذا النوع من التعبير، فتبيع المشاهدين أو القراء والمستمعين إلى المعلنين ولا بد لها أن تعكس مصالح المالكين وأصواتهم لذلك فإن قدرة المرء على الإفصاح والتعبير عن أراءه وهموم غالبية المجتمع الأميركي أو حتى للكشف عنها هي قدرة مقيدة جداً إلى أضيق الحدود. نذكر هنا بأن الجماعات الضاغطة تقود الحياة السياسية أكثر من الأحزاب السياسية وعلى نحو أصح، الجماعات الضاغطة هي التي تقود الأحزاب السياسية، لدرجة أنه لا يمكن وضع لائحة كاملة لجميع فروعها أما على المستوى الفدرالي فقد تتعدى ال2000 مجموعة ضاغطة، تبرز من بينها جمعيات منتجي الحليب والقطن والذرة، وجمعيات غرف صناعة وتجارة الفولاذ والسيارات والمصارف والتأمين، علما أن أبرزها وأشدها قوة صناعة الأسلحة. وهكذا نجد مرة أخرى أن حرية الاختيار والرأي والتعبير عن مصالح الغالبية العظمى من السكان في الولايات المتحدة الأميركية هي أقرب إلى الحد الأدنى في ضماناتها للحرية، وكذلك في مفهومها للحياة السياسية الفعلية هناك. فمن الناحية السياسية هناك حزب سياسي واحد كما سبق وذكرنا، هو حزب الأعمال أو حزب الفئات المالكة وكبار التجار وأصحاب المصالح المالية علما أن هذا الحزب له طائفتان أو مجموعتان لكنه ائتلاف المستثمرين المتغير الذي يرسم جزء كبير من التاريخ السياسي في هذا البلد. كما أن النقابات وغيرها من المنظمات الشعبية التي قد تقدم طريقة للجمهور لكي يقوم بدور ما في التأثير على البرامج والخيارات السياسية لا تكاد تعمل إلا في أضيق نطاق وهي محصورة في إطار السلطة والمنظومات السياسية المكبلة أصلاً باتفاق الرأي بين ذوي الامتيازات الموزعين على طائفتين تسيطران على الحزبين التقليدين في هذا البلد. من هنا نستطيع القول بأن الانتخابات في هذا البلد لم تعد إلا مسألة طقوس ففي الانتخابات التي تجري للكونغرس الأميركي يعاد انتخاب الأعضاء السابقين كلهم من الناحية الفعلية مما يعكس فراغ النظام السياسي والخيارات التي يعرضها ولا يكاد يزعم أحد بوجود قضايا جوهرية في حملات الانتخابات الرئاسية والبرامج البالغة البيان ما هي إلا وسيلة لكسب الأصوات والمرشحون يكيفون خطبهم حسب هوى جماهيرهم وفق نصائح رجال العلاقات العامة والخبراء التقنيين بالتكتيك والحملات الانتخابية المعلقون السياسيون لا يفكرون إلا بأسئلة تتعلق بقدرة ريغان أو بوش على تذكر جملة محددة حفظها ويجب أن يقولها في خطابه وهل يستطيع المرشح الآخر الرد على كل ما توجه إليه من اتهامات من قبل خصمه؟؟ عادة ما يقدم الجمهوريون أنفسهم على أنهم حزب النمو وتدخل الدولة في الاقتصاد بينما يقدم الديمقراطيون أنفسهم على أنهم دعاة المذهب المالي المحافظ. هذا بشكل عام دون أن تتخطى المسألة مجرد تفاصيل علماً أن الجوهر يبقى واحد لذا نلاحظ أن نصف السكان في الولايات المتحدة الأميركية لا يكلفون أنفسهم عناء التأشير على ورقة الانتخابات ولا يذهبون أصلاً للانتخابات بل يعتبروها يوم عطلة لا داعي للخوض في مشقة الذهاب للتصويت لأن الكثيرين منهم يعون بأن هذه الانتخابات، أيا كان الفائز فيها ستكون بغير مصلحة الغالبية العظمى من السكان. قد يكون الرئيس ريغان مثال واضح على عدم تأثير الرئيس الأمريكي كرجل في السياسة العامة الأميركية، وعلى سيطرة الشركات الاحتكارية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية على السلطة الفعلية، حيث لا يمكن لأحد على سبيل المثال بعد ثمانية أعوام من حكم الرئيس ريغان أن يأتي ليسأل حامل هذه الراية، راية الرئاسة القوية التي كانت بعهد الرئيس ريغن لا يمكن لأحد أن يسأله عن رأيه بأي موضوع على الإطلاق لأن هذا الرئيس بكل بساطة لا يستطيع الإجابة على أي سؤال وقد ثبت ذلك من خلال زيارة الرئيس ريغان إلى اليابان كرجل دولة له باع طويل في الرئاسة معروف بقوته وقد أعرب اليابانيين عن استيائهم لجسامة الفارق الكبير بين ما كانوا يتوقعونه من علم ودراية لدى الرئيس الأميركي لشدة أو لحسم القرارات التي كان يتخذها فقد أثار خيبتهم الشديدة لأنه لم يتمكن من التحدث عن أي موضوع أمام المؤتمر الصحفي الذي انعقد هناك لابتعاد المستشارين عنه علما أن هذه الخيبة التي أثيرت لدى اليابانيين في الواقع تركت أثراً إيجابيا في الصحافة الأميركية على اعتبار أن الصحافة الأميركية رأت أو تأكدت أن اليابانيون رغم كل التقدم العلمي أو التكنولوجي والاقتصادي الذي تمكن اليابانيون من إحرازه وقعوا في فخ الادعاءات الصحافية الأميركية وصدقوا ما قرءوه في هذه الصحف بأن شخصية الرئيس الأميركي رونالد ريغن كانت شخصية فذة ولم يستطيع أن يدرك كيف يعمل العقل الأميركي في خدمة المؤسسات الكبرى من خلال مجموعة أو نخبة تقوم على حماية مصالحه وتنفيذ سياساته في العالم من خلال هذا الرئيس شبه الدمية لا أكثر ولا
وإن كان حال الرئيس ريغان قد فاجأ اليابانيون فقد فاجأ حال الرئيس بوش الابن الرأي العام الأمريكي الذي فوجئ كليا بعدم درايته بالوضع العالمي ولم يتمكن من تحديد بعض الدول على الخريطة الجغرافية ولم يتمكن من التمييز بين حركات سياسية وفرق للرقص والغناء.
الديمقراطية الأميركية لا تقتصر فقط على الولايات المتحدة الأميركية بل تعدت حدودها لتصبح مسئولة عما يجري اليوم في مختلف أرجاء العالم، وهنا نلاحظ أن السياسيين الأميركيين و الرئاسة الأميركية النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية تصر على الدفاع عن الديمقراطيات في العالم والمقصود بالديمقراطيات هي تلك النخب الحكومية التي تدعم المصالح الأمريكية أي رؤوس الأموال أو الفئة الحاكمة في الولايات المتحدة.
يمكن أن نرى أثر هذه المسألة على مجتمعات العالم بشكل عام وخصوصا العالم الثالث بأن سياسات الحكومة التي لا ترضي رؤوس الأموال تؤدي إلى عدم الاستثمار والتدهور الاجتماعي وربما الأمني أيضا، ليبقى الحال على ما هو عليه حتى تعاد ثقة رجال الأعمال بالتخلي عن ما يهدد هذه الامتيازات. أي أن البلد الذي يتخذ إصلاحات اجتماعية تفيد المواطن وتحسن من أوضاع العمال والفلاحين على سبيل الإصلاحات الزراعية والإصلاحات المدنية والإصلاحات الاجتماعية مثلا، كلها تؤثر سلبا على أصحاب رؤوس الأموال، ما يؤدي إلى التدهور الاقتصادي في البلد لأن أصحاب رؤوس الأموال سيمارسون ضغوطا حاسمة على النظام السياسي الذي يتخذ مثل هذه الإصلاحات ويمكن أن يمارس هذا النفوذ من خلال سحب الأموال والخروج بها إلى مناطق أخرى وهذا ما يعرف في البلدان النامية أو بلدان العالم الثالث هروب رؤوس الأموال أو عدم استقطاب المستثمرين إلى البلد، ما يعني أنه لا بد من وضع حد للإصلاحات أو الإجراءات التي قد تفيد الفئات الشعبية وتضر بأرباح الشركات ورؤوس الأموال الكبرى. قد نختصر ذلك بعبارة تقول أنه ما لم يرضى الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى فسيعاني الجميع لأن هؤلاء يسيطرون على وسائل الضغط المالي والاقتصادي والاجتماعي الأساسية، هم الذين يقررون ماذا ينتج هذا البلد وماذا يستهلك هذا المواطن وكم يستهلك في هذا البلد أو ذاك وما هو الفتات الذي يمكن أن توزعه الفئات المالكة على رعاياها المواطنين العاديين من عمال وفلاحين وغيرهم من الفقراء والعامة. وهكذا يصبح الهدف الأول للمشردين في الشوارع وذوي الدخل المحدود وعمال المواسم والمعدمين أي الغالبية العظمى من المواطنين في العالم، يصبح هدفهم الأول أن يعملوا بحكمة ودهاء من أكواخهم وبيوتهم المتواضعة ومن الشوارع التي يتسكعون فيها على ضمان العيش السعيد والرغيد للأغنياء والأثرياء وتلمس إرضائهم في قصورهم العالية هذه هي السمة الجوهرية للديمقراطية الأمريكية التي لم تعد تسيطر على الموارد البسيطة فحسب بل امتدت مجساتها لتطال مقدرات العالم وثرواته المادية والبشرية ما يعزز من معضلة الديمقراطية بالمفهوم الأميركي الذي أصبح ينتشر في بلدان العالم النامي. هذه هي أشكال الديمقراطية على أرض الواقع في الولايات المتحدة الأميركية ولهذه السياسة أو لهذا النهج الديمقراطي الأميركي فروع وأطراف تمارس على الأرض إذا لم يكن لها أو لهذا النهج ردة فعل واقعية تبدأ بالتآمر والتحريض الداخلي لتمر بالحصار الخارجي حتى تنتهي بالتدخل العسكرية المباشرة لإقناع الغالبية العظمى من الناس بأن هذا هو الشكل الديمقراطي السليم حتى لو استغرق إقناعهم بالسبل العسكرية عشرات السنين فالحصار الاقتصادي المفروض على كوبا منذ ما يزيد عن أربعين عاما وتجويع الناس مسالة لا تؤخذ بعين الاعتبار، لأن انتهاك حقوق الناس مسألة مشروعة لما فيها من خدمة للمصالح الأمريكية ومنفعة للفئة الحاكمة في الولايات المتحدة، فلا أهمية لحقوق الإنسان في هذا البلد إذا تم تجويعه، ولا أهمية لحرق المحاصيل القمح الزراعية في العراق من قبل الطائرات الأميركية والبريطانية يوم الأحد 25 من أيار مايو من عام 2002 ، أي أن حرق آلاف الدينومات من القمح بهدف تجويع الشعب العراقي مسألة مشروعة وليست مناهضة لحقوق الإنسان ولا تتناقض مع مفهوم الحرية والديمقراطية الأميركية لأن فيها منفعة للفئة الحاكمة الراغبة في السيطرة على ثروات هذا البلد والمنطقة ككل وحتى إذا وقعت جريمة شنعاء كالتي أسقطت من خلالها طائرة الايرباص الإيرانية والتي كان على متنها 200 راكب قتلوا جميعا في نيسان عام 1990 . تعتبر هذه العملية بطولة كرم قبطان السفينة فينسين الضابط المسؤول عن السلاح الجوي المضاد في السفينة بتقليده وسام تقدير لسلوكه العالي الجدير بالتكريم في القيام بخدمات متميزة وجو احترام الأوامر الذي ساد بين طاقم عمله. علما أنه قام بتدمير طائرة مدنية مرت في منطقة قانونية، أي أنه قام بارتكاب مذبحة دموية بشعة، ومع ذلك قلد وساما رفيعا على سلوكه العالي الجدير بالاحترام والتكريم وعلى مستوى الحرفية لدى طاقمه ولم تعطي الصحف الأميركية أهمية للقتلى بل أبرزت بصفحات كاملة حادثة إسقاط الوحدة الجوية السوفيتية لطائرة الخطوط الجوية الكورية في أيلول سبتمبر عام 1983 رغم أنها كانت تخترق الأجواء السوفيتية هذه المعايير التي تبرر لهم مفهومهم لحقوق الإنسان ينبع من مصالحهم والفائدة النفعية من هذه العمليات التي يقومون بها ولا داعي للمجيء على ذكر مئات الآلاف الذين قتلوا في هيروشيما ونغاساكي وحرب فيتنام وحرب الخليج وأفغانستان وفلسطين وغيرها من المجازر التي تمت في مختلف المناطق من العالم بموافقة أميركية لما لهذه الفئة الحاكمة في الولايات المتحدة من مصلحة في هذا العمل أو ذاك أي أن مقياس الحرية، مقياس الديمقراطية، مقياس حقوق الإنسان للسلوك الأمريكي له صلة مباشرة لما تسميه الولايات المتحدة الأميركية حرفيا بالدفاع عن المصالح الأميركية. والمقصود هنا مصالح الفئة الحاكمة في الولايات المتحدة من أصحاب رؤوس الأموال في هذا البلد. تتبع الولايات المتحدة الأميركية خطوطا عريضة أساسية لسياستها في العالم قد يكون نموذج بوليفيا من النماذج التي تستحق الدراسة على اعتبار أن الولايات المتحدة تبعت سياسة هادئة في إعداد السياسيين والعسكريين هناك لسيطرة فئة أصحاب الاستثمارات الأميركيين على هذا البلد الغني بالثروات المعدنية والنفطية منذ بداية الخمسينات أخذت تعد القوى العسكرية في هذا البلد من أمريكا اللاتينية وتجهزها بالأسلحة الحديثة وترسل مئات الظباط إلى مدرسة الانقلابات التي لديها في باناما وغيرها من المناطق حتى تمكنت من إخضاع بوليفيا منذ الخمسينات للنفوذ والسيطرة الأمريكيتين. وبحلول عام 1953 أكد مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة تحسناً في مناخ الاستثمار الخاص بما في ذلك اتفاقية لشركة أميركية خاصة باستغلال منطقتين نفطيتين. أي أن مجلس الأمن القومي يشعر بالرضى والاستحسان عندما تتحسن الاستثمارات الخاصة كما سماها مناخ الاستثمار الخاص وذلك عبر اتفاقية لشركة أميركية خاصة لاستغلال منطقتين نفطيتين. وقد تعزز ذلك من خلال الانقلاب التي كانت الولايات المتحدة الأميركية وراءه عام 1980 وجرى بمساعدة من يعرف بكلاوس باربي هنا أصبحت الولايات المتحدة الأميركية ومجلس الأمن القومي الأميركي والقيادة الأميركية والرئاسة الأميركية راضية تماما عما يجري في بوليفيا مقابل ذلك نرى في الجانب الآخر من المشهد ما يرد في دراسة حديثة لمنظمة اليونيسف العالمية التابعة للأمم المتحدة أن واحد من كل ثلاثة أطفال بوليفيين يموتون في عامهم الأول أي ثلث الأطفال البوليفيين يموتون قبل بلوغهم العام الأول من العمر نتيجة الفقر وسوء التغذية في هذا البلد الغني جدا بالثروات النفطية والمعدنية وغيرها. أضف إلى ذلك ما تؤكده الإحصاءات أن بوليفيا تسجل أدنى معدل للنمو السكاني في أميركا اللاتينية رغم أن فيها أعلى معدل للولادات هناك أي أنها أقل البلدان الأميركية نموا في عدد السكان رغم أن فيها أعلى نسبة في الولادات. وتقدر منظمة التغذية الزراعية العالمية أن متوسط استهلال الفرد البوليفي هو 78 %من الحد الأدنى أي حوالي ثلثي الحد الأدنى من السعرات الحرارية والبروتينات والمواد الغذائية وأن أكثر من نصف الأطفال يعانون من سوء التغذية إلى جانب ما ذكر عن وفاة ثلث الأطفال قبل بلوغهم العام الأول، نرى أن الثلثين الذين يبقون أحياء يعانون من سوء التغذية. ومن بين السكان القادرين على العمل هناك 25 % منهم يعانون من البطالة. كما أن ثلث عدد القادرين على العمل أو40% منهم تحديدا يعملون في القطاع الغير رسمي، ومن الـ 75% العاملين هناك 40 % يعملون في أعمال غير شرعية غير رسمية غير قانونية مثل التهريب والمخدرات وغيرها. هذا هو تاريخ الديمقراطية الأمريكية وهذا هو واقعها الحالي وهذا ما يرضي مجلس الأمن القومي الأميركي وما يرضي الفئة الحاكمة في الولايات المتحدة ليعلن عن تحسن مناخ الاستثمار والديمقراطية في هذا البلد أو ذاك من العالم أجمع. =-=-=-=-=-=-=-انتهى الفصل الرابع. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[مقدمة اولى]
[مقدمة ثانية]
[مقدمة ثالثة]
[مقدمة رابعة]
[ملخص الكتاب]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م