|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
الحروب التوسعية الأولى
نهج مستمر
مع بداية القرن الثامن عشر اشتد الصراع الفرنسي الإنجليزي على شمال أمريكا، لينتهي بسيطرة الإنجليز على جميع المناطق الشمالية من القارة الأمريكية. إلا أن هذا النصر لم يدم طويلا فسرعان ما تحالف المستوطنون البريطانيون في عدد من الولايات الأمريكية الشمالية ليعلنوا حربا امتدت لأكثر من عشر سنوات انتهت بإعلان الاستقلال وانتخاب جورج واشنطن كأول رئيس للولايات المتحدة.
تخلل هاتين الحربين الكبيرتين مجموعة أحداث هامة أسهمت عضويا في صنع السياسة التوسعية الأمريكية التي شكل بعضها جذورا لمبادئها كما هو حال مبدأ مونرو الذي أعلن في أيلول سبتمبر من عام 1823، وفكرة القدر الجلي لجون سوليفان والتوجه غربا للاستيلاء على أراضي الهنود الشاسعة بحرب إبادة جديدة ضد الهنود هناك والاستيلاء على ألاسكا شمالا، وإلحاق تكساس ونيو مكسيكو جنوبا ومعهما كليفورنيا جنوبا، هذا إلى جانب المساهمة الفعلية المستمرة لتهيئة ظروف عدم الاستقرار في جنوب القارة الأمريكية لضمان فرض السيطرة والتبعية الاقتصادية والسياسية الدائمة لها، والتي ما زالت قائمة عبر مختف السبل حتى يومنا هذا.
كل هذا ضمن استراتيجيتين عرفتا في السياسة الخارجية الأمريكية بمبدأ مونرو الذي برر سياسة استفراد الولايات المتحدة في جنوب القارة وبرر لها المبدأ الثاني وهو مبدأ جون سوليفان التوسعي أو ما يعرف بالقدر الجلي الذي ما زالت شعوب العالم في مختلف بقاع الأرض تدفع ثمنه حتى يومنا هذا.
مدت هذه الدولة خيوطها وأطرافها إلى أقصى بقاع الأرض بعد أن نشأت وسط مجموعة من الحروب التي غذت في أبناءها وتحديدا في الفئة الحاكمة فيها ومنذ البداية روح التوسعية وإخضاع الآخر دون أن تأخذ بعين الاعتبار الحقوق الإنسانية والسياسية أو الحرية والديمقراطية أو غيرها من المبادئ التي ما زالت تتغنى بها حتى يومنا هذا.
لا شك أن الحرب الأولى التي سجلت تقدما أو أساسا في بنية هذه الروح التوسعية كانت الحرب الفرنسية البريطانية وقد نعود على ذكر حروب أخرى شنت ضد الهنود أصحاب الأرض الحقيقيين والسكان الأصليين لغربي القارة الذين أبيدوا بشكل شبه جماعي على اعتبار أنه لم يبق منهم اليوم إلا بضعة ملايين بينما أبيد البقية في المراحل الأولى أو المائة سنة الأولى إذ تم تشتيتهم وإخراجهم من أراضيهم عنوة. طرد فرنسا من القارة الأمريكية
اشتعلت الحرب الكبرى الأولى على الأرض الأميركية بين الدولتين الاستعماريتين في أمريكا الشمالية، هما بريطانيا وفرنسا فأوقعت خسائر بالآلاف بين الطرفين وانتهت كما نعرف بنصر البريطانيين على الفرنسيين علما أن الفرنسيين كانوا يستولون على الجزء الأكبر أو جانب كبير من الأراضي الأميركية التي امتدت من حدود لويزيانا في الجنوب الغربي حتى كامل الأراضي الكندية . تتعدد أسباب نشوب هذه الحرب، حتى أن الأميركيون أنفسهم لا يتفقون على سبب محدد لها. سيطر الفرنسيين بالطبع على المناطق الممتدة بين لويزيانا إلى كندا حتى حدود ألاسكا، وكانوا يحتاجون إلى حدود أو طريق لحماية هذه المناطق واستمرار التواصل فيما بينها فقد كان فصل الشتاء يقطع أواصل هذه الأراضي، وكانت الثلوج تغطي المناطق الشمالية وتحديدا عند الممرات المؤدية إلى كندا حيث كانت الثلوج تحول دون وصول المعونات إلى بعض مناطق لويزيانا، فكانوا يحتاجون إلى حماية الممر الذي يجمع ما بينها.
ليس من السهل حماية ممر مثل نهر الميسيسيبي مثلا، ما جعلهم بأمس الحاجة إلى قلاع محصنة رفعوا صروحها ما اعتبره البريطانيون بادرة استفزاز استيطاني على اعتبار أنهم كانوا يوسعون مستوطناتهم نحو مناطق استوود. وعندما وضع الفرنسيون قلاعهم على حدود الميسيسيبي اقفلوا بذلك الطريق على البريطانيين ومنعوهم من التوسع. هذا ما يقال أحيانا في أوساط الدراسات الأميركية التاريخية حول بداية هذه الحرب. ولكن هناك وجهات نظر تتحدث بكل بساطة عن إصرار المتطوعين الأمريكيين في الجيش البريطاني على توسيع مساحات المستعمرات الإنجليزية على حساب تلك الفرنسية. لم لا؟ وهي تتوسع منذ مائة وخمسون عاما على حساب الآخر، وهو الهندي بهذه الحالة. أي أنها حرب توسعية بامتياز.
وكان جورج واشنطن شخصيا وهو في الثانية والعشرين من بين المتطوعين الأمريكيين في صفوف الجيش البريطانية كما كان محبا للبروز كقائد عسكري وشخصية فريدة فأخذ على عاتقه الانطلاق بمجموعة من المتطوعين الأميركيين ليخوض معهم معركة الاستيلاء على إحدى القلاع الفرنسية الواقعة على نهر الميسيسيبي على مقربة من أوهايو.
ولكن محاولاته العسكرية هذه تكللت بالفشل، إذ لم يتمكن من الاستيلاء على القلعة بل بالعكس فقد تم أسره من قبل الفرنسيين الذين أجبروه على توقيع وثيقة يؤكد فيها بأن هذه القلاع وهذه المنطقة الواقعة بين أوهايو والميسيسيبي هي منطقة فرنسية كشرط أساسي لإطلاق سراحه.
كانت هذه إشارة أولية وبداية للأفكار التوسعية التي تحكم هذه الدولة الجديدة إذ وقع مؤسسها وأول رئيس فيها جورج واشنطن، وثيقة يعترف من خلالها بفرنسية هذه المناطق، ولكنه رغم ذلك عاد لمحاربة الفرنسيين ليؤكد بأن رغبته في التوسع أكبر بكثير من احترامه للعهود والمواثيق.
أمضى جورج واشنطن جزءا من حياته في محارب البريطانيين والفرنسيين والهنود على حد سواء، كما كرس جهودا كبيرة للاستيلاء على مناطق الهنود والمضاربة بها وبناء ثروة هائلة جعلته من أبرز الأثرياء في أمريكا الشمالية.
وكانت له بعد هذه المرحلة مساهمة جدية في طرد البريطانيين أيضا أي أن هذه الفئة الأولى والنخبة في الدولة الأميركية توقع بكل سهولة على أي وثيقة وبعد ذلك تنقضها وتتخطاها عندما تعتد بالقوة اللازمة لتعاود حروبها التوسعية ثانية كما حدث لاحقا وما يحصل اليوم في العديد من بلدان العالم وخصوصا في الشرق الأوسط. يتخلى الساسة الأمريكيون عن تعهداتهم حين يجدون الآخر ضعيفا فيبادرون إلى إعلان الحرب عليه. هذا ما حصل فعلا في السبب الثالث لاشتعال تلك الحرب، وهو انشغال فرنسا في حروبها الأوروبية، فقد اشتعلت في تلك الفترة حربي سيليزيا الضروس بين فرنسا والنمسا التي هددت الألزاس واللورين، ما أدى إلى توقف الدعم اللازم للمستعمرات الفرنسية في أميركا.
هذا ما أعلنه لويس الخامس عشر في جملته الشهيرة التي يقول فيها "أن المرء حين يشتعل بيته لا يمكنه الاهتمام بالإسطبل" على اعتبار أن المستعمرات الفرنسية في أميركا الشمالية لم تكن إلا مجرد إسطبل بالنسبة له ولا يمكن لفرنسا أن تعينها في فترة يشتعل فيها البيت الفرنسي في حربه ضد النمسا.
هذا هو السبب الثالث الذي يقال أنه السبب الرئيسي لاشتعال الحرب وقد أدرك البريطانيون والمستوطنون حالة الضعف الفرنسية وإمكانية التوسع على حسابها والاستيلاء على مناطقها.
كان هذا درسا أخر تلقنه المستوطنون وتحديدا جورج واشنطن، الذي يقول أنه لا بد من الاستفادة من قوة الذات وضعف الأخر لتوجيه الضربة الحاسمة له، أيا كانت المعاهدات والمواثيق والصداقة التي كانت تربطنا بالخصم الممكن التوسع على حسابه.
هذا بعض من أسباب اشتعال الحرب بين الطرفين، وهناك أسباب أخرى عديدة للخوض في تلك المعارك الشرسة التي استمرت عدة سنوات وانتهت لصالح البريطانيين والمستعمرين الأمريكيين الذين تمكنوا من طرد الفرنسيين من شمال القارة الأميركية والاستيلاء على كندا كليا بعد احتلال كيبيك في المعركة الشهيرة التي وقعت فوق تل ابراهام على مشارف مدينة كيبيك وطردت القوات الفرنسية بعد أن أجبرتها على توقيع الاستسلام والخروج من هناك بكل بساطة.
أما الأسباب التي أدت إلى هزيمة الفرنسيين فهي عدة يمكن الإشارة إلى البعض منها وهي اعتماد الفرنسيين على الميليشيات بشكل أساسي للنقص الذي كانوا يعانونه في وحدات الجيش النظامي الذي خرج جلّه للمشاركة في المعارك الدائرة في أوروبا، ما اضطرهم للاعتماد على المستعمرين.
نعلم أن المستعمر الفرنسي كان منشغلا في جمع الثروة دون أن يستعد للدفاع عنها، كانوا يسعون للتوسع على الأرض دون أن دفع قطرة دم ثمن هذه الأرض التي لا يهمه فيها سوى جمع الثروات وقد لا يشعر فيها بانتمائه إلى الوطن بل ربما بانتمائه إلى الملك الفرنسي، لهذا تجده أشد اهتماما بحصد الثروات دون كلفة عالية. كانت هناك خلافات كبيرة بين المستوطنين والجيوش الفرنسية النظامية على اعتبار أن الجندي كان يحصل على أجر يؤخذ من المستوطن الفرنسي، هذا جزء من الإشكالية التي يعانيها المستوطن الفرنسي ويعجز عن تحمل أعبائها وحده.
السبب الآخر هو اعتماد الفرنسيين على الهنود بأعداد أكبر. فالهنود لم يساعدوا البريطانيين والمستوطنين الأمريكيين في هذه الحرب بل وقفت أعداد كبيرة منهم مع الفرنسيين انتقاما لما تعرضوا له خلال السنوات الماضية من قتل وتشريد وطرد من أراضيهم، فأخذوا يشنون نوعين من الحروب نوع انتقامي والنوع التقليدي الذين كانوا يتبعوه للحصول على الغنائم.
هذه شعوب كانت تشن الحروب للاستيلاء على غنائم القبيلة الأخرى ولكنها عندما شاركت الفرنسيين في الحرب ضد البريطانيين لم تكن لتحصل من جنودهم على غنائم تستحق العناء، أي أنها لم تجد سببا كافيا من هذه الناحية لإعلان الحرب.
بقيت مسألة الانتقام التي بددت فيه الكثير من الوقت والكثير من الجهود ولم تكن تلتزم في أي خطة على اعتبار أنها تصر أثناء القتال على بعض الطقوس الانتقامية كإخراج روح العدو من فروة رأسه، لهذا كانوا ينشغلون بسلخ فروة رأس الجندي البريطاني أو المستعمر الأمريكي، ما لا يتناسب مع الأداء الحربي الذي اتبعه الفرنسيين لما في ذلك من إضاعة للوقت في ساحات القتال. نذكر هنا بأن عادة سلخ فروة الرأس كانت تمارس أصلا من قبل الإنجليز ويقول إدغار كاهن في كتابه الهندي في أمريكا البيضاء أن الإنجليز هم الذين اخترعوا هذه العادة وأن أكثر جرائهما من صنع يديهم. وهكذا يمكن التذكير هنا أنه لم يكن للهنود أي مصلحة فعلية في هذه الحرب ولا للمستوطنين ولا حتى للجنود لأنهم ليسوا من يقطفون الثمار التي كانت حينها تذهب لصالح الملوك ورجالات بلاطهم في أوروبا الذين ينتظرون أن تأتيهم الغنيمة على طبق من ذهب.
لا يكترث هؤلاء بمن يقتل من الجنود الفرنسيين أو البريطانيين، كما هو الحال في الحروب التوسعية الجارية اليوم إذ يقوم الأثرياء في أميركا بإرسال الجنود بنسبة عالية من السود واللاتينيين والاقليات الأخرى إلى الحروب كما حصل في حرب الخليج ضد العراق وفي حرب أفغانستان وحروب الهيمنة والتوسع القادمة لا محال.
هذه من الأسباب الرئيسية لشن الحرب التي اشتعلت بمشاركة المستوطنين الأميركيين وعلى رأسهم جورج واشنطن الذي لعب دورا هاما مع غيره من المؤسسين لقيام هذه الدولة على مبادئها التوسعية منذ خطواتها الأولى بل وحتى قبل تأسيسها كما تبين هذه الحرب.
هناك أسباب جوهرية تسببت بهزيمة فرنسا في الحرب يمكن اختصارها باعتمادها على المليشيات بشكل أساسي وانشغال الملك لويس الخامس عشر بالحرب في أوروبا وقيام نزاعات شديدة بين قائد القوات النظامية وقائد المستعمرات الفرنسيان، هذا إلى جانب اعتمادهما على هنود يتمسكون بمبدأ القتال من أجل الغنائم وممارسة طقوس الانتقام في المعارك. كل هذا مقابل اعتماد البريطانيين على امدادات الأسلحة ووحدات من الجيوش القادمة من أوروبا وتشكيل وحدات الرانجر من المستوطنين الأمريكيين الذين يتبعون أساليب حرب العصابات لزرع القلق ونشر أجواء من الفوضى. يمكن اعتبار أساليب الرانجر من أولى التقنيات القتالية التي طورها الأمريكيون وما زالوا يعتمدون عليها حتى ليوم في المعارك الغير نظامية وخصوصا في مواجهة حركات التحرر المناهضة للهيمنة والتوسع الأمريكيين.
اعتمدت وحدات الرانجر على مجموعة من المبادئ التي يمكن اختصارها بما يلي:
لا تنسى شيئا وحافظ على نظافة بندقيتك واستطلع ما حولك وكن جاهزا للخروج في المسيرة عند الصباح. تصرف عندما تخرج في المسيرة بالطريقة التي يمكن أن تتبعها حين تتسلل لاصطياد غزال في مراقبة العدو جيدا. وقل الحقيقة حول ما تراه وما تفعله فهناك جيش يعتمد على هذه المعلومات الدقيقة. يمكن أن تكذب كما تشاء حين تخبر الآخرين عن الرينجير شرط ألا تكذب أبدا على ضباطك. يجب ألا تخاطر حين لا تضطر لذلك. وعندما تكون في المسير ابتعد عن زميلك بحيث لا تعبر الطلقة المعادية جنديين. إذا صادفت مستنقعا أو مناطق موحلة يجب أن تنتشر لتحاشي الخسائر. تقدم أثناء المسير حتى حلول الظلام, كي لا تمنح العدو فرصة للنيل منك. وعندما تخيم يبقى نصف الوحدة صاحيا بينما ينام النصف الآخر. عند اعتقال الأسرا يجب إبعادهم عن بعضهم البعض حتى التحقيق معهم قبل أن يصنعوا الحكايات فيما بينهم. لا تتبع دائما الطرقات نفسها غير الطرقات كي لا تتعرض للكمائن. لا فرق بين الخروج بمجموعات كبيرة أو صغيرة فعلى كل فريق أن يرسل وحدة على بعد عشرين ياردا في الطليعة، وأخرى لعشرين ياردا في المؤخرة ووحدتين على الجانبين, بحيث تتحاشى المفاجآت والتصفية الكاملة.
يبلغ الجميع كل ليلة عن مكان اللقاء إذا ما فاجأتك قوة أكبر، ولا تبقى أسبوعا دون عمل تقوم به. لا تنم بعد بزوغ الفجر، فالفجر ساعة يتحرك الفرنسي. لا تعبر النهر بالسبل العادية. إذا حاول بعضهم الإيقاع بك يجب أن تتراجع وترسم دائرة حوله لتعاود نصب كمين لمن يريد الإيقاع بك. لا تقف لمواجهة عدو يتجه نحوك، بل اركع أمامه أو انبطح أو اختبئ خلف الأشجار، دع العدو يقترب حتى تكاد تلمسه، ثم وجه ضربتك فجأة واقض عليه.
بعد الاطلاع على هذه المجموعة من ظروف إعلان هذه الحرب نستطيع القول أنها حملت معها الجذور التوسعية الأولى للسياسة الخارجية الأمريكية كونها بدأت بمبادرة من المتطوعين الأمريكيين وعلى رأسهم جورج واشنطن، وانتهت بجلب مجموعة الشروط التي أدت إلى حرب أخرى انتهت بهزيمة بريطانيا وطردها من القارة وإعلان قيام الدولة الأمريكية. وهكذا نلاحظ اليوم أن الولايات المتحدة ما زالت حتى اليوم تستخلص العبر من كبرى الحروب التوسعية الأولى في القارة إلى جانب حروبها الاستيطانية ضد الهنود، لتحديد سياستها الخارجية المعاصرة التي تتسم بالتوسعية نفسها دون زيادة أو نقصان.
فإذا أخذنا مثال حربي الخليج وأفغانستان الأخيرتين نلاحظ أنها عملت أولا على إعداد المناخ الدولي الملائم لتغطية معاركها في المحافل الدولية وعلى الأرض من جهة إلى جانب إخضاع خصومها للحصار والتجويع والحروب النفسية على أشكالها.
تترافق الخطوة الأولى بأخرى تليها على الأرض إذا سنحت الظروف فهي تعمل أولا على حشد الحلفاء المحليين من المعارضين لخصومها واستخدامهم في الحرب مباشرة أو العمل على تحييدهم على الأقل. هذا ما حصل في ضرب العراق وأفغانستان إذ تم أولا استعمال هيئة الأمم لتبرير محاصرتهما وضربهما ليترافق ذلك بالاستعانة بالدول المجاورة وقطع سبل الإمداداته الخارجية والانطلاق منها لتوجيه الضربات الجوية والصاروخية الطويلة الأمد لاستنزاف الخصم قبل القضاء عليه. أما ثالثا، وليس أخيرا، فيتم تجنيد قوى المعارضة الداخلية لتشكل رأس حربة أمريكية في معركتها التوسعية كما حصل في أفغانستان مع قوات الشمال وما زال يحصل مع المعارضة العراقية داخل العراق وخارجه.
يتأكد من هاتين التجربتين وغيرهما أن هذه الخطة قد تمكنت من إحراز النجاح المرجو منها وستستمر بتحقيقه طالما توفرت العناصر الخارجية والداخلية المساعدة، أما إذا عجزت الولايات المتحدة عن إنضاج هذه الظروف الداخلية والخارجية فهي عادة ما لا تخاطر بالهجوم بل تنتظر حشد المعارضة الداخلية لخصمها وتجنيده من جهة وتعمل على تعزيز الحصار الدولي لتحطيم إرادة هذا البلد وإخضاعه.
قد يطول انتظارها سنوات تزيد عن ربع قرن تقريبا كما حصل في إيران، أو حتى نصف قرن كما حصل في كوبا المحاصرتين من قبل الولايات المتحدة دون أن يؤدي هذا الحصار إلى النتيجة المتوخاة ذلك أن البلدين قد تمكنا من تعزيز التماسك الداخلي ووحدة شعبيهما لضمان الصمود في وجه الهينة الأمريكية.
حال هذا في كلا البلدين دون تمكن الولايات المتحدة من تجنيد قوى داخلية عميلة تساهم في إيصالها إلى مآربها رغم المحاولات المستمرة وتخصيص ميزانيات هائلة لدعم المحطات التلفزيونية والإذاعية الموجهة بالتحريض الدائم ضد البلدين وتجنيد عناصر من العملاء والمندسين لزعزعة الاستقرار فيهما.
كما فشلت الولايات المتحدة في حشد الدعم والتأييد الدوليين لتعزيز حصارها وتبرير اعتداءاتها بتوجيه الاتهامات وكيل الادعاءات والأكاذيب. يعود الفضل في ذلك إلى وضوح الرؤية لدى زعماء هذين البلدين وتعزيز الأنشطة الدبلوماسية على الصعد الإقليمية والعالمية لإفراغ الادعاءات الأمريكية من مضمونها وتحسين علاقاتهما مع البلدان المجاورة وتحالفاتهما في الهيئات والمنابر الدولية.
هذا ما يؤكد إمكانية الوقوف في وجه سياسة التوسع الأمريكية والهيمنة على مقدرات الشعوب البشرية والطبيعية إذ استطاعت دولتان صغيرتان نسبيا الدفاع عن خياراتهما السياسية، على اختلافها، والوقوف في وجه الولايات المتحدة رغم الحصار وزرع القلاقل والتحريض والتهديد والوعيد. تبقى مسألة واحدة قد يكون من الصعب الوقوف في وجهها وهي الحرب العسكرية المعلنة التي ثبت التفوق الأمريكي فيها لاعتماده على القصف الجوي والصاروخي كمقدمة لإخضاع الخصم وتركيعه قبل السيطرة الفعلية عليه من خلال وحداتها البرية بالتعاون مع عملائها المحليين. هناك عدة أسباب تبرر القدرة العسكرية الأمريكية لتحقيق هذا النصر أهمها التفوق التكنولوجي القتالي، إلا أن هذا التفوق لم يضمن لأمريكا النصر في حربها ضد كوريا وفيتنام، وذلك لكثرة الخسائر البشرية التي أوقعت بوحداتها هناك ما أجبرها على وقف الاعتداءات والانسحاب. إلا أن المشكلة الآن ما زالت تكمن بالقصف الصاروخي والجوي لفترات طويلة لا تشكل أي ضغط على المجتمع الأمريكي، ما يتطلب حلا جذريا لهذه المسألة يخلق معادلة تؤدي إلى إيقاع الخسائر البشرية في صفوف الأمريكيين أثناء القصف الصاروخي والجوي بعيد المدى، لردعهم وإجبارهم على وقف الاعتداءات.
قد يكمن هذا التكتيك الرادع بإيجاد وسيلة للوصول إلى مراكز هذا القصف وإيقاع الخسائر بمصادر النيران بوسيلة أو سلاح ما، أو ربما بتوجيه ضربات توقع خسائر مماثلة في قلب الأراضي الأمريكية ردا على القصف الذي يستهدف بلادنا ومقدّراتها.
حتى حينها يبقى الرد الأنسب والأنجع في مواجهة سياسة التوسع العدوانية الأمريكية في تفادي المواجهة والتصادم العسكري معها، فالمعركة العسكرية التي نضمن التغلب الحتمي فيها على الأمريكيين هي المعركة التي نستطيع تجنبها.
أي أن التسلح بالوحدة والتماسك الداخلي وتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة والنشاط الدبلوماسي في الهيئات الدولية لتجنب الصراع المسلح مع الآلة العسكرية الأمريكية المتفوقة جدا يعني إفشال مشاريعها التوسعية في المهد. إعلان الدولة وطرد بريطانيا من القارة. لا بد من التأكيد بداية أن السبب الأساسي لما يعرف بحرب الاستقلال هو سبب توسعي، فالبريطانيين لم يكتفوا بنصف العالم كما يقال، بل أرادوا الحصول على نصفه الآخر أيضا. هذا ما تعلمه المستوطنون الذين ساهموا طوعا في التخلص من الفرنسيين وتلقنوا منهم هذا الدرس. وكانت مساهمة المستوطنون سبب أساسي من أسباب التغلب على الفرنسيين فإلى جانب الأسباب التي أتينا على ذكرها تأتي مشاركة المستوطنين الأميركيين بشكل فعال إلى جانب بريطانيا في حربها ضد الفرنسيين لتأكيد رغبة هؤلاء المستوطنين بالتوسع على حساب الأراضي التي كانت تحت السيطرة الفرنسية وهكذا تعلم المستوطن البريطاني ضرب العدو والتخلص منه والتوسع على حسابه عندما يضعف.
المفارقة هنا هي أن انتصار البريطانيين في الحرب كان على حساب ضعف الفرنسيين ولكنه مع انتهاء الحرب أضعف البريطانيين أيضا، لأن هؤلاء استنزفوا الكثير من الطاقات البريطانية المادية والاقتصادية بشكل أساسي إلى جانب البشرية أيضا.
هذا ما شهده المستعمرون حين انتهت الحرب إذ وجدوا أنفسهم أمام قوة بريطانية ضعيفة عسكريا ومستنزفة اقتصاديا لدرجة أنها فرضت على المستعمرين كما من الضرائب التي لا يمكنهم تحتملها. فرضت بريطانيا الضرائب لتعويض خسائرها الهائلة في الحرب على كل ما هو مكتوب من وثائق وعقود وصكوك وأوراق قانونية تثبت الملكيات وغيرها، أي باختصار شديد كل ما يمس بالمستوطنين الأثرياء على وجه الخصوص.
لم يكن هذا السبب الأساسي الوحيد بل هناك أسباب أساسية أخرى وهي أن المستعمرين أرادوا التوسع فوجدوا أنفسهم في منطقة مليئة بالثروات التي لا يملكونها بل تملكها بريطانيا التي تفرض عليهم الضرائب وهي الآن ضعيفة مستنزفة، ما يدعو للانقلاب عليها، للاستفادة من درس تعلمه المستوطنون من حليف الأمس البريطاني. الذي يؤكد على ضرورة ضرب الخصم وهو ضعيف. استفاد المستوطنين من خبرتهم في حروب الرانجر التي أسسها البريطانيون وهي وحدات حرب عصابات كانت تقلق العدو الفرنسي وقد تشكلت من المستعمرين الذين تعلموا مع بعض قبائل الهنود سبل قتالية تختلف كليا عن الحرب الكلاسيكية التي يقف فيها صفين من الجنود مقابل بعضهما البعض ويبدءون بإطلاق النار حتى يتغلب أحدهما على الآخر.
كان لهذه القوة وأشكالها القتالية دورا في التأسيس لما يعرف اليوم بحرب العصابات التي اعتمدت في بلدان مختلفة من أنحاء العالم وخصوصا أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية. رغم تعلم البريطانيين لهذا الأسلوب القتالي وممارسته لاحقا لكنهم لم يتمكنوا من إتقانه لما يحتاج إليه من أرضية شعبية، بالإضافة إلى أن المواجهات سرعان ما اتخذت شكل حرب المواقع التي عجز البريطانيون عن الاستمرار فيها طويلا لظروفهم المنهكة واستنزافهم الشديد بعد انتهاء المواجهات مع فرنسا.
بالإضافة إلى أطماع المستعمرين وفرض الضرائب العالية على الأثرياء منهم تأتي استهانة بريطانيا بسكان المستعمرات واعتبارهم مواطنين من درجات أدنى وقد شكل هذا عاملا آخر يزيد من أسباب الاستياء لدى المستوطنين العاديين وتأييدهم للتمرد على الدولة الأم.
أضف إلى ذلك أن الرد البريطاني على أولى أشكال التمرد الأمريكي جاء وحشيا، فقد تحدثنا في فصل سابق عن مجزرة بوسطن التي رد فيها الجنود البريطانيين بإطلاق النار على المستعمرين الذين قذفوهم بكتل الثلج، فكانت هذه الشرارة التي أطلقت ما يعرف بحرب الاستقلال وهي حرب توسعية أخرى بدأها قادة المستعمرون الأثرياء على التواجد البريطاني في القارة. فعشية اشتعال الحرب قلة من المستعمرين الفقراء أخذوا الثورة على محمل الجد، إذ لم ترغب الغالبية الأمريكية بالاستقلال عن إنجلترا، بل كانت تسعى بداية إلى معاملة عادلة. ولكن الفئات الثرية والطامعة منهم استغلت قسوة الجيش البريطاني العامل في مساشوسيس واعتبرته مسئولا عن دفع الأمور إلى حد المواجهة.
تقول بعض المصادر الأمريكية أن من أسباب حماسة جورج واشنطن وبعض القادة العسكريين الأمريكيين لخوض المواجهة ضد بريطانيا ما أصابهم من غبن إذ لم يحصلوا على الرتب والتعويضات والمكافآت التي كانوا يطمحون إليها. فلم يحصل واشنطن على سبيل المثال إلا على رتبة بسيطة قبل تسريحه من الجيش الذي أدرك جيدا بأن عبارة الجيش الذي لا يهزم لا تنطبق عليه. اشتعال الحرب
مع بزوغ الفجر، وصل ثمانمائة وواحد وأربعون جندي بريطاني من ذوات البزات الحمر، إلى مروج ليكسينتون، لمواجهة مجموعة مؤلفة من سبعة عشر رجلا مما كان يسمى بمليشيا المتمردين.
لا أحد يعرف من أطلق النار أولا، ولكن بعد دقائق قليلة، قتل ثمانية مستوطنين، وأصيب عشرة بجروح، ثم تابع البريطانيون مسيرتهم دون مقاومة. هذا ما تجمع عليه غالبية المصادر التاريخية في تبريراتها لإعلان الحرب على بريطانيا المفلسة والضعيفة المستنزفة بعد حربها الهادفة لطرد الفرنسيين من أمريكا.
أثناء تراجع البريطانيون باتجاه بوسطن، حاصرهم الوطنيون من جميع الجهات.
سقط مائتين وثلاثة وسبعون جندي بريطاني بين قتيل وجريح، وخلال أربعة وعشرون ساعة أصبحت مدينة بوسطن تحت ضربات المستوطنين الأمريكيين. فأعلن الكونغرس جملته الشهيرة التي قال فيها: قضيتنا عادلة واتحادنا مكتمل، جميعنا يتمتع بعقيدة تفضل الموت أحرار على العيش في العبودية.
وهكذا تشكل المؤتمر الأول وأعلن الرغبة في إقامة دولة مستقلة عن البريطانيين كما أعلن المؤتمرين الأول والثاني تشكيل جيش أطلق عليه لقب جيش الكونغرس الذي كلف بطرد البريطانيين من الأراضي الأمريكية. تمكن واشنطن من تحقيق نصر بسيط في نيوجيرسي لكنه أخاف البريطانيون وجعلهم يتخذون قرارا حاسما اتبعه المستعمرون لاحقا وهو تجنيد العبيد واستخدامهم في الحرب واعدين إياهم بالحرية ما جلب الكثير منهم إلى صفوف البريطانيين، ولكنهم كانوا يجهلون سبل الحرب وكانت المسألة في بدايتها.
تعلم واشنطن هذا الدرس سريعا وكال الوعود للعبيد أيضا فشكل منهم وحدة خاصة تعمل تحت إمرته الشخصية وقد تألفت بداية من خمسة آلاف رجل عززوا من قوته العسكرية ومكانته السياسية بين منافسيه على السلطة أيضا. في الرابع من تموز يوليو من عام 1776 أعلن استقلال ثلاثة عشر من الولايات المتحدة الأمريكية وذلك عبر بيان يتشدق بحقوق الناس منذ الولادة بالحياة والعدالة والحرية والسعادة وغيرها من العبارات الفضفاضة، وضرورة إسقاط أي طاغية يدمر هذه الأهداف من قبل الشعب فكانت هذه من أولى حملات التعبئة والتحريض الكاذبة التي لم يتحقق منها شيئا على الأرض، وما زال الأمريكيون يستغلونها لتبرير اجتياحاتهم العسكرية وحملاتهم التوسعية على العالم أجمع. قتل عند تلال بونكر بوسطن ألف جندي بريطاني، بينما فقد سكان المستعمرات أقل من خمسمائة، ما أكد أن المستوطنين العاديين يستطيعون الوقوف في وجه أفضل رجال إنجلترا.
رغم النجاحات التي حققها واشنطن في ساراتوغا ما زال يعاني من المشاكل. فبعد أن خسر فيلاديلفيا أمام أعدائه أجبر على الانسحاب إلى وادي فورج، وسط قسوة فصل الشتاء، حيث قتل ألفين من رجاله الاثني عشر ألف، خلال فصل الجليد. شهد يوم السابع عشر من تشرين أول أكتوبر من عام 1777، في سراتوغا نيويورك ما لم يكن متوقعا. حيث تمكن جيش المستوطنين من التغلب على وحدة بريطانية تتألف من سبعة آلاف جندي، تحولت إلى شراذم، فأجبر ربع الجيش البريطاني في أمريكا الشمالية على الاستسلام. ثم سجل التاسع عشر من تشرين أول أكتوبر من عام 1781، العام السابع من الحرب. بعد اشتداد الحصار الأمريكي من البر والحصار الفرنسي من البحر وتعرض الجنود للمرض والجوع، اجبر الجنرال البريطاني كورن والاس، على توقيع الاستسلام في يورك تاون فيرجينيا، ليضع بذلك نهاية للحرب التي توجت بالصلح مع إنجلترا بين عامي 1782- 1783. يتم الحديث اليوم بكثير من الضوضاء عن أفكار عصر النهضة الفرنسية ودورها الكبير في تحقيق النصر وإعلان الدولة واستقلال الولايات المتحدة. أما الحقيقة فهي أن الصلة الوحيدة لفرنسا في هذه الحرب التوسعية للمستوطنين هي الفرنسيين أرادوا الانتقام لما تعرضوا له من هزيمة على يد البريطانيين، فأرسل لويس السادس عشر ستة آلاف جندي ضمن القوات البحرية المشاركة في الأسطول الأميركي ووضعهم تحت إمرة واشنطن لرد الطعنة وإضعاف البريطانيين. أضف إلى ذلك أن ما جرى بعد الثورة مباشرة يؤكد الفارق الشاسع بين مثاليات مفكري الثورة الفرنسية ورجال الاستقلال الأمريكيين وعلى رأسهم جورج واشنطن الذي وقف إلى جانبه خمسة آلاف جندي من الأمريكيين العبيد حينها ولعبوا دورا أساسيا في خدمة المستوطنين الذين لم ينضموا إليه إلا بعد أن قطع لهم وعدا بتحريرهم مباشرة بعد الاستقلال. لم يتحقق إلغاء العبودية كما وعدهم واشنطن بل بقيت واستمرت بأشكالها المختلفة. أما الخمسة آلاف الذين شاركوا في الحرب فسرحوا من الجيش ولم تمنح لهم أية حقوق تذكر حتى نهاية القرن العشرين.
لم ينطبق هذا على العبيد وحدهم بل وعلى الفقراء من البيض أيضا الذين شاركوا في الحرب واضطروا للقيام بحركات تمرد واسعة بعد انتهائها طلبا لحقوقهم في الوفاء بتعهدات الدولة التي وعدتهم بتعويضات بعد انتهاء الحرب كما وبتشغيلهم ومنحهم بعض الامتيازات ولكنها لم تفي بوعودها. كما بنى واشنطن ملامح سياسته التوسعية تجاه الهنود على سياسة القرصنة والترحيل القسري التي تحولت إلى مشروع قدمه للكونغريس عام 1782 أي قبل أن يصبح رئيسا، يمكن الدولة الفدرالية بموجبه الاستيلاء على أراضي الهنود بأسرع ما يمكن. يتلخص هذا القانون بمنح المستوطنين مساحة حيوية ملاصقة لأراضيهم تبلغ خمسين هكتارا سرعان ما تتحول إلى جزء من العقار الاستيطاني ما يؤدي إلى التوسع بمساحات حيوية أخرى موازية للمجال الحيوي القديم، وهكذا إلى ما لا نهاية.
وهكذا لم تحقق حرب الاستقلال أيا من أهدافها النبيلة التي يقال أنها استلهمتها من عصر النهضة الفرنسية، بل تنكرت لها جميعا كما نرى ولم تمنح الهنود أو البيض ولا السود حقوقهم بل عززت العبودية وعززت تركيز الثروات في أيدي نخبة ثرية من المستعمرين على حساب الجميع. حتى مسألة الهوية والاستقلال بقيت دون أي تغير كبير بعد الاستقلال فبعد أن هدأت الحملات المناهضة لإنجلترا بقيت هذه ولفترة طويلة النموذج السياسي والثقافي الأمثل لأمريكا، وما زالت تشكل استمرارية لأساليب الاستعمار البريطاني وتطلعاته التوسعية في العالم.
شاء رجالات الاستقلال الأمريكي أن يواصلوا الثقافة التوسعية البريطانية التي ورثوها وينطلقوا منها نحو العالم أجمع، فصنعوا أمة بروتستانتية للأنكلوسكسون البيض (الواسب) على من يريد التعامل معها أن يتأمرك بتقليدها والسير على خطاها.
أي أن العربي أو الصيني المهاجر أو حتى الهندي والأسود لن يتمتع أبدا بالانتماء إلى أمريكا إلا إذا تخلى عن عروبته وصينيته وأصوله الهندية والأفريقية ليعترف بتفوق العرق الأبيض الأنجلوساكسوني ويعمل على خدمته. هذا ما يفسر تزمت امرأة سوداء مثل سكرتيرة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايز ووقوفها على يمين الطاقم الأمريكي المتطرف في الإدارة الأمريكية مع أنها ما زالت تحمل اسم عائلة رايز السيد المالك لأجدادها، كغيرها من أحفاد العبيد في الولايات المتحدة الذين ما زالوا يحملون أسماء عائلات أسياد أجدادهم. أي أن أمريكا قامت منذ ما قبل نشأتها على العنصرية وإلغاء الآخر، إنها عنصرية فئة من الأمريكيين المالكين والمسيطرة على السلطة، فكما رأينا جورج واشنطن من كبار أصحاب العقارات حينها نرى اليوم أن القائمين على السياسة الخارجية الأمريكية عادة ما يكونوا من العاملين في قطاعات النفط وتجارته. لا بد من التأكيد هنا على أن إلغاء الآخر ليس ماليا فحسب بل وحضاري يرتكز على ثقافة مسيحية غربية تعتبر الهنود والأفارقة متوحشون وتستخف بالحضارات الآسيوية وترى في الحضارة العربية إرهابا، حتى أنها تتنكر للحضارة الأوروبية التي تنحدر منها، وتعتبر نفسها أرقى وأرفع مستوى. أي أننا نتحدث هنا عن ولادة أمة قوامها أرض مغتصبه تدعي الديمقراطية والحرية التي تقتصر على نخبة تعلن التسامح وهي تلغي الآخر والتاريخ وتعلن التآلف لتمارس التسلط ضد أعداد لا تحصى من البشر وتصر على أنها تحمل رسالة قيم عالمية تحتكر صنعها. وقد تجسد ذلك في الخطاب الوداعي الذي ألقاه جورج واشنطن عام 1797 قال فيه: إن قاعدة سلوكنا الكبرى تجاه الأمم الأخرى يجب أن تعتمد على توسيع علاقاتنا التجارية مع قليل من العلاقات السياسية معها قد المستطاع.. إن سياستنا الحقيقية تكمن في عدم عقد التحالفات الدائمة مع أي طرف في العالم.
هذا ما يؤكد عزم مزدوج لدى مؤسسي هذه الأمة فهم يسعون من جهة إلى الإيحاء بالحياد والانعزالية التي طالما تم الحديث عنهما مع الإبقاء على حرية الحركة والتصرف بعيدا عن الضغوط والتأثيرات الخارجية الغير مرغوبة أصلا كونها لا تشارك في أمركة العلاقات الخارجية في العالم. أما هذه الأمركة فهي تعني الانفتاح على العالم بلا حدود أو قيود حتى اجتياحه كليا انطلاقا من المناطق الأضعف والأقرب أولا، ما يسمح للولايات المتحدة بفرض مصالحها الاقتصادية وتوسيع رقعة هيمنتها على العالم أجمع.
أدت هذه الحرب كسابقتها إلى عدة حروب أخرى وتشريد السكان الأصليين لأمريكا واغتصاب أراضيهم كما أدت إلى نشوب حرب ضد المكسيكيين والاستيلاء على تكساس ما شكل بداية لفرض إرادة الشمال على مناطق الجنوب عبر حرب أخرى عرفت بالانفصالية. سعى الأميركيون دائما للتوسع وتعزيز احتلال الأراضي بالعنف أو بغير العنف وهذه أساليب ما زال يتبعها الأميركيون اليوم في الأماكن التي لا يستطيعون فيها استخدام القوة فيأتون بأساليب كالسوق المشتركة والسوق الأميركية وغيرها من التسميات المعاصرة.
كما يتم اليوم الاعتماد على انتشار الشركات العملاقة ونظام العولمة والاتفاقات الاقتصادية التي تتم مع البلدان الأقل نموا بهدف ابتلاعها. والحقيقة أن جذور هذه الأفكار تعود إلى القرن الثامن عشر، وكان أول روادها جون أو سوليفان وهو صحافي عمل في مجال الفكر الأميركي وكان له دور كبير في بناء الفكرة التي تقول أنه لن يتحقق ما يرد في البيان الذي عرف في تلك الفترة بالقدر الجلي إلا إذا وسعنا الحدود عبر القارة إلى أرجاء أخرى تكفي لما لدينا من ملايين تتضاعف أعدادها عاما.
التوسع غربا
بعد عام من ذلك أخذوا يبررون التوسع شمالا وغربا وجنوبا نحو مستعمرات فرنسا والاسكا ولويزيانا وغيرها. والحقيقة أن الاستيلاء على الراضي بالقوة كان تبريره ضرورة التوسع الجغرافي الناجم عن تنامي أعداد السكان في الولايات المتحدة وحاجتها إلى المزيد من الأراضي تلك المبررات الشبيهة جدا بما تدعيه إسرائيل اليوم من حاجة مستوطناتها في الضفة الغربية لمصادرة مزيد من الأراضي الفلسطينية تلبية لاحتياجات نموها السكاني المزيف. وهكذا تأكد بعد إعلان الدولة وانتهاء ما عرف بحرب الاستقلال أن بريطانيا لم تكن الخاسرة الوحيدة فيها بل رافقها في ذلك العبيد من السكان السود والفقراء من البيض وغيرهم فيما بعد، إلا أن الخاسر الأكبر فيها كان الهنود. أرادت أمريكا مساحات إضافية لإشباع رغباتها التوسعية، فبرز شخص مثل هذا الطموح إلى ابعد الحدود، إنه الرئيس توماس جيفيرسون، الذي أدرك السبيل إلى تحقيق الأطماع التوسعية. على الجانب الآخر من المحيط كان نابليون بونابارت يشن حربا طاحنة ضد الإنجليز. وهو بأمس الحاجة إلى المال لتمويلها، فباع جيفرسون الأراضي الواقعة إلى الغرب من المسيسبي، وقد بلغت مساحتها ثمانمائة وثمانية وعشرون ألف ميل مربع. ما ضاعف حجم الولايات المتحدة، وذلك مقابل أربع سنتات فقط للإكر الواحد. وهكذا تم شراء ولاية لويزيانا.
أرسل الرئيس توماس جيفيرسون, سكرتيره الشخصي م. ويذير بوتس بصحبة زميله في الجيش وليام كلوك, إلى ما أسماه بجولة استكشافية. تكمن مهمتهما باستطلاع الشمال الغربي, من نهر المسيسبي إلى المحيط الهادئ.
كانت الحملات التجارية التي انطلقت منذ عام 1780 واستمرت حتى القرن التاسع عشر عبر أراضي الشمال الغربي قد لفتت انتباه الكثيرين إلى أن المنطقة التي تربط بين أمريكا وكندا وزادت من اهتمام المستوطنين الشديد بها.
كان جاكوب أستر عام 1811 أول مليونير أمريكي يقوم ببناء مركز تجاري عند مصب كولومبيا وقد أسماه أستوريا. كان أستر يعلم بالقوة التجارية لكولومبيا، فبنى أستوريا لتكون مركزا لأعماله في الشمال الغربي، لتكون هذه أول شركة أمريكية تستقر في الشمال الغربي.
في الوقت نفسه بعثت شركات الشمال الغربي بالإنجليزي ديفيد تومسون عبر كولومبيا من الشمال ليبحث عن شركاء لهم من السكان الأصليين هناك، والحصول منهم على الأراضي، وقد نجح في ذلك تماما حين تمكن رجال أستر من رفع علم النجوم الأمريكية على جميع الأراضي المجاورة. ساهمت هذه السياسة التوسعية بفتح الشمال الغربي على الأعمال بعد أن اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تقاسم الثروات هناك ووقعتا معاهدة مشتركة تسمح لتجار كلا البلدين بالعمل هناك. وقد تم هذا بطرق تساعد على خداع الهنود وجعلهم يعتقدون بأن الأوروبيين لم يأتوا للاستقرار في المنطقة بل هم مجرد مجموعات من التجار العابرين فقط..
ولكن إلى جانب المجيء بالتجارة الجديدة إلى نهر كولومبيا حمل تجار الجلود معهم وحشية ما كانوا يتوقعونها، أدت إلى موت غالبية السكان الأصليين بسبب حملات الإبادة الجماعية والأمراض التي حلت بهم بعد وصول الرجل الأبيض. انتشرت حينها خمس أوبئة على الأقل ساهمت بإبادة قبائل السكان الأصليين. فقد حمل تجار الجلود معهم الملاريا إلى السكان من قبائل والولاما وأسفل نهر كولومبيا. كما تولت الأوبئة المشابهة تصفية من لم يموتوا بالحملات العسكرية من سكان قبائل الوالا والا والنيس بيرس والياكو التي تعرضت لخسائر بشرية جسيمة. وفقدت قبائل الكاييس نصف سكانها عام 1830، كما قتل حينها ثلاثة أرباع السكان الأصليين ممن سكنوا بالقرب من فانكوفر. وفقدت قبائل الشونوك 90% من أبنائها.
اشتهر الرئيس الأمريكي السابع أندريو جاكسون بحملاته العسكرية المتتالية ضد الهنود الذين شكلوا عقبة بشرية كبيرة في طريق مساعيه التوسعية نحو الغرب وخصوصا من قبل شعوب وقبائل الكريك، والشيروكي، والسمنول، وغيرها من تلك التي عرفت بالقبائل المتحضرة الخمس، التي تحتل الأراضي الجديدة التي أراد جاكسون توزيعها على أصدقائه ومؤيديه. عملت بعض القبائل بجدية ونشاط مثل قبائل الشيروكي حتى تبنت الادعاءات الأمريكية ومبادئها ومفاهيمها حتى اكتسبت صفة المواطنية الأمريكيين الصالحة، إلا أن هذا لم يتشفع لها ولم يحميها من الرغبات التوسعية الأمريكية.
شكلت جمهورية الشيروكي تجربة سياسية مبدعة عملت على جعلها شبيهة جدا بما فعلته الولايات المتحدة حينها. كانت تعتمد دستورا، وتنشر القراءة والكتابة بلغتها الخاصة، وتتولى إدارة عدد من المدن والمزارع، حتى أنها اعتمدت على بعض العبيد أيضا. وكانت تدير أراضي فيها مناجم ذهب وأخرى خصصت لزراعة القطن، وعندما انتخب أندريو جاكسون رئيسا اعتبر هذه مشكلة كبيرة. فلو عاشت قبائل الشيروكي في ظروف من البؤس المعتادة وسط الجبال لما واجه أي صعوبات، أما أن تتمكن قبائل الهنود مثل الشيروكي من تحقيق النجاحات على طريقتها، وأن يعتبروا أنفسهم أمريكيين على طريقتهم الخاصة أيضا، فهذا أمر لا يمكن القبول به. بدأت منذ ما قبل اشتعال حرب الاستقلال عملية قيام أمريكا جديدة عند الحدود الغربية خلف جبال الأبالاشي. إنها مناطق صعبة المنال، كما أن قبائل الشيروكي التي تسكنها، أصرت على الدفاع عنها سلما رغم قلة إمكاناتها فلجؤا إلى المحكمة العليا التي أنصفتهم وأصدر القاضي جون مرشال قرارا يؤيد حقهم باسترداد أراضيهم التي صادرتها ولاية جورجيا في عهد الرئيس أندرو جاكسون الذي سخر من قرار المحكمة العليا وتابع طرد الشيروكي من أراضيهم إلى غرب المسيسبي. عام 1830، وقع أندريو جاكسون على قرار ينص على إجلاء الهنود من أراضيهم، ليجبر جميع الهنود على التوجه إلى الغرب من نهر مسيسبي، وكأنه هو صاحب الأرض وهم مجرد دخلاء وليس بالعكس. لم يجد غالبية أبناء الشيروكي خيار آخر إلا اتباع قوافل عربات النازحين التي تشكلت بالقوة لإجلاء الهنود عن أراضيهم، وقد اشتهرت تلك المأساة بالنسبة للهنود لاحقا، بدروب الدموع، التي قادتهم نحو الأراضي البعيدة لما يعرف اليوم بأوكلاهوما. مات من الهنود في هذه المسيرة الإجبارية آلاف مؤلفة وقعت ضحايا انتشار الأمراض والجوع وبرد الشتاء القارس.
عام ألف 1843، قاد ماركيز ويتمن وهو طبيب ورجل دين بعمل على نشر المسيحية، قاد قافلة من العربات تضم أكثر من ألف شخص, عرفت فيما بعد بالهجرة الكبرى. اتبع 350 ألف أمريكي طريق العربات نحو الغرب عبر مسافة تزيد عن ثلاثة آلاف ميل, على مدار العشرين عاما التالية. في تشرين الثاني من عام1847، كان تسع وستين من البيض يسكنون في مقر بعثة ويتمن التبشيرية ويوسعون مساحة الأراضي المجاورة لها، فخشيت قبائل الكايو من تنامي التوسع السكاني للمستوطنين البيض في أراضيهم واستفزازاتهم المستمرة\، هذا إلى جانب ما حملوه معهم من الأوبئة والأمراض التي لم يألفها الهنود، فزادت من استياء السكان الأصليين من قبائل الكابو.
بعد عامين من الاستفزازات ومصادرة الأراضي والقتل والتدمير وفي تشرين الثاني من عام1849 جاء ستين من مقاتلي قبائل الكايو إلى منزل ويتمن الذي قتل وسلخت فروة رأسه انتقاما وأطلق النار على زوجته وطعنت حتى الموت. أدى هذا العمل الانتقامي المعبر عن مستوى الإحباط ومحاولات الهنود اليائسة للدفاع عن أراضيهم، أدى إلى مقتل أربعة عشر شخصا من أتباع وتمن وأسر واحد وخمسين آخرين على يد رجال الكايو. انتشرت بالمقابل أعمال التعبئة والتحريض للقضاء على الهنود وتصفيتهم الجسدية وإبادتهم بالكامل من على ضفاف نهر كولومبيا.
بدأت حادثة وتمن ثلاثين عاما من حملات الإبادة على ضفاف كولومبيا. فقد قام المستوطنون في أوريغين بمطاردة قبائل الهمود وقتلهم لأكثر من عامين بحجة البحث عن قتلة وتمن. وبعد أن عجزت قبائل الكايو عن جمع ما يكفي لإطعام عائلاتها والبقاء على قيد الحياة, قررت تسليم جميع المقاتلين من رجالها لمارشال في الجيش أمريكي مقابل وعد منه بأن يأمن الشيوخ والنساء والأطفال من الهنود. ولكنه بعد أن حكم على المقاتلين بالموت الفوري في 22-5-1850، استمرت عمليات الإبادة والهجمات والمطاردة دون توقف. وقد تحدث أحد المشاركين في المجازر المرتكبة بحق هنود النوتكا قائلا "أن قرية تسمى أوبتستاتيه كانت تضم مائتي منزل في غاية الإبداع، فهي جميعها مرسومة الجدران والسقوف ومزينة بتماثيل غريبة الأشكال، أما شبابيكها وأبوابها فلها شكل كائنات حية، ولكي تدخلها فإن عليك أن تعبر بابا له شكل الإنسان ورأس أحد الحيوانات. إنها ثمرة أجيال من العمل الفني دمرت في لمح البصر وقتل جميع أهلها في مذبحة جماعية قال القائد الذي ارتكبها أنه فعل ما فعله مأمورا وأنه نادم على ما اقترفت يداه"
نذكر هنا بأن السكان الأصليين أواسط القرن التاسع عشر, كانوا قد تعرضوا لكثير من التجارب المأساوية المؤلمة جدا, وقد لاحظوا بعدها عدم قدرتهم على الاستفادة من ثروات الأرض أو على الأقل البقاء على قيد الحياة في المناطق النائية التي دفعوا نحوها.
عام 1853، أقام الكونغريس الأمريكي في منطقة واشنطن التي كانت تتألف من الأراضي الممتدة من شمال نهر كولومبيا إلى الحدود مع كولومبيا البريطانية في كندا. وقد عين إسيك إينغوستيفين حاكما على هذه المنطقة.
وجه الحاكم دعوة لمندوبين عن قبائل النيز والكايو واليوماتيلا والوالا والا, والياكوما وذلك لعقد اجتماع أرغمهم فيه على التوصل إلى معاهدة في أيار مايو من عام ألف وثماني مائة وخمس وخمسين, فقال لما يزيد عن الستة آلاف مندوب حضروا إلى هناك بالحرف الواحد: لقد كنتم طيبون وكرماء جدا, ولا بد أن أفعل شيئا من أجلكم". الخدمة التي ستسديها لكم الحكومة هي نقلكم جميعا إلى محميات تجمعكم فيها معا.
المفارقة الساخرة هي أن الحكومة كانت تتفاوض على هذه المعاهدة وفق عبارات ودية من السخاء والكرم, وهي تتضمن وعودا بأنهم لن يأخذوا من الهنود ما يخصص لهم من "محميات" خاصة في المعاهدة. المهم بالنسبة للمفاوضين, هو التوصل إلى اتفاق ما يضمن للحكومة حقا في بيع تلك الأراضي".
استغرقت المفاوضات أكثر من أسبوعين ونصف. لم يوافق الكثير من قادة الهنود على مشروع الحكومة. من بين المعارضين للمعاهدة, برز كاماياكان زعيم الياكاما. وما زالت قصص الياماكا تتحدث عن الطريقة التي دعا بها ستيفين مندوبي الكاماياكان إلى اجتماع مغلق في وقت متأخر من الليل قال فيه، إن لم توافقوا على ما يرد في المعاهدة وتوقعون على هذه الورقة, ستخرجون من هنا مضرجين بالدماء. في الحادي عشر من حزيران يونيو, وقع زعيم الكاماياكان على معاهدة عام 1855، بخطين متقاطعين. وعض على شفته, حتى أدميت. وكان زعيم هنود دواميش قد ألقى كلمة بشعبه عرفت بخطبة سياتل في حفل استسلام لابرام معاهدة أجبر فيها على تسليم بلاده وقال فيها" زعيم واشنطن الكبير يقول في رسالته أنخ يريد أن يشتري بلادنا، وأنه صديقي ويكن لي المودة، ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، سيما وأنه في غنى عني وعن صداقتي، لكننا سننظر فيما يعرضه علينا لأننا نعرف إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا مدججا بسلاحه وينتزعها.
لم تتوقف حروب الإبادة التوسعية نحو الغرب رغم توقيع الهنود على المعاهدات السلمية وتقديم التنازلات تلو الأخرى بل أدى ذلك إلى إصرار السلطات الأمريكية على إبادتهم والقضاء على نسبة تفوق التسعين بالمائة منهم عبر مجازر لم تتوقف إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حين سيطرت الولايات المتحدة على جميع الأراضي الواقعة تحت سيطرة الهنود بعد معركة بيغ هورن الشهيرة حول ما يعرف بالجبل الأسود المقدس لدى الهنود، والذي أصر الأمريكيون على مصادرة ما حوله من مناجم ذهب وما تلى ذلك من إبادة للقرى والمحميات الهندية في الغرب. التوسع جنوبا
بعد التوسع الأمريكي نحو الغرب بدأ مفهومها التوسعي للحرية يتخذ منحا منهجي ما زال يثير المخاوف حتى يومنا هذا. فبعد شراء لويزيانا عام 1803 بثمن بخيس لا يتعدى خمسة عشر مليون دولار لمساحة تقارب المليون ميل مربع، ةتعاظم شأن الأمة عام 1810عندما صارت فلوريدا الغربية ملكا لأمريكا وحصلت من اسبانيا على مساحات أخرى بالاستيطان والتمرد و عام 1819 عبر مفاوضات تلت نزاعات حدودية توجت بتخلي اسبانيا عن مواقعها شرقي المسيسبي وما لها من حقوق في أوريغون، واستيلايها على ما تبقى أراضي فلوريدا بما فيها من 58,700 ميل نربع مقابل خمسة ملايين دولار فقط.
ثم عززت الولايات المتحدة من ضغوطها على بريطانيا في العقد الخامس من القرن التاسع عشر حتى تخلت عن حصتها في آخر ملكية لها في أمريكا الشمالية ما مكّن الولايات المتحدة من الحصول على 286,500 ميل مربع تشكل اليوم ولاية أوريغون وواشنطن وأيداهو وأجزاء من ويومينغ ومونتانا.
في هذه الفترة نفسها أصر عضو الكونغريس الأمريكي السابق وحاكم تينيسي سام هيوستن مع حفنة من المستوطنين وأصحاب الأراضي الأمريكيين الذين كانوا يسكنون في الأراضي المكسيكية على امتلاك العبيد رغم أن قوانين السيادة المكسيكية كانت تمنع ذلك. فتسلحوا بالمنهجية التوسعية الأمريكية السائدة لإعلان قيام جمهورية خاصة بهم فوق أراضي تكساس.
رفضت السلطات المكسيكية هذه الوقاحة التي صدرت عن حفنة متغطرسة من الأمريكيين وعملت على استعادة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها. فقام الجيش المكسيكي بقيادة رئيس البلاد شخصيا أنطونيو لويبيث دي سانتا آنا، بالتوجه نحو الشمال، فلم يجدوا أمامهم إلا وحدات مبعثرة يقودها سام هيوستن، الذي عرف بعدوانيته وخبرته الطويلة في قيادة الرجال وتدريب الجنود. في الثالث والعشرين من شباط فبراير من عام 1836 حاصر أنطونيو لويبيث دي سانتا آنا مدينة سان أنطونيو تفاديا لسفك الدماء. وفي اليوم الثالث عشر من الحصار، سيطر المكسيكيون على الموقع الذي عرف باسم ألامو.
يتخذ التاريخ الأمريكي من هذه الحادثة ذريعة لتبرير اجتياحه الواسع للأراضي المكسيكية بعد شهرين فقط إذ عاد سام هيوستن نفسه وبطريقة رمزية على رأس جحافل أمريكية تفوق الوحدات المكسيكية عددا وعدة وخبرة في المعارك والخدع العسكرية التي استطاعت من خلالها التغلب على الجيش المكسيكي والقبض على الرئيس أنطونيو لويبيث دي سانتا آنا، وإجباره على توقيع معاهدة يتخلى بموجبها عن تكساس بالقوة إلى جانب مساحات شاسعة أخرى من الأراضي المكسيكية. لم تكتفي الولايات المتحدة الأمريكية بذلك بل قامت عام 1848 بالاستيلاء على مساحات كبيرة أخرى من الأراضي المكسيكية ليبلغ مجموع ما استولت عليه من المكسيك حوالي مليون ميل مربع تشكل اليوم كل من ولايات تكساس وأريزونا ونيو مكسيكو وكليفورنيا ونيفادا وأوتا وجزء من ويمينغ. وبعد استيلائها على هذه المساحات الشاسعة حاولت تشريع ذلك بدفع مبلغ يقارب 26,8 مليون دولار. ثم توجهت أمريكا للاستيلاء على ما تبقى من الأراضي المكسيكية، التي تصل إلى المحيط الهادئ. 1848 تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من الاستيلاء على جميع أراضي الجنوب الغربي، وثروات كليفورنيا. سرعان ما ثبت بأن هذه الآفاق هي أكثر قيمة مما تخيل أي إنسان على الإطلاق. وبعد ذلك حصلت الولايات المتحدة على مساحات حدودية أخرى من المكسيك ضمن اتفاقية غادسدين أو ميسيلا الموقعة عام 1853 عبر الضغوط والتهديدات الأمريكية المتعددة الأشكال.
وهكذا إذا وضعنا مسألة شراء الولايات المتحدة لأراضي ألاسكا من روسيا بعد سنوات قليلة بمبلغ سبعة ملايين دولار نستطيع القول أنه على مدار نصف قرن من الزمن فقط، تضاعفت الأراضي الأمريكية عشرة مرات وذلك بحصولها عبر عدة سبل على ما يقارب المليونين ونصف المليون ميل مربع بقيمة لا تزيد كثيرا عن خمسين مليون دولار.
كان ذلك عصرا من التوسع الجغرافي المنقطع النظير، الذي برر فيما عرف بالقدر الجلي لجون أوسوليفان الذي برر فيه ما للأمريكي من حق مطلق بإقامة إمبراطورية شاسعة من الفرص والحريات.
يكفي ان نذكر هنا بأن عدد سكان الولايات المتحدة لم تتعد عام 1790 الأربعة ملايين نسمة، وبعد سبعين عاما فقط أصبح عدد السكان يقارب 32 مليون نسمة. الحرب الانفصالية
هناك عدة حقائق أساسية لا بد من الانطلاق منهما للحديث عن هذه الحرب وهي أولا أن الحرب الانفصالية كانت حربا نفوذ من الدرجة الأولى جاءت لتعزز الحملات التوسعة الكبرى وتسخرها لخدمة الفئة الصناعية والتجارية الحاكمة في الشمال الأمريكي وتغليبها على مصالح الفئات الزراعية المنتشرة في الجنوب. أما الحقيقة الثانية فهي أن ظروف هذه الحرب كانت على مستوى من النضوج عام 1860 يكفي لاشتعالها وحصول الانفصال دون الحاجة للخوض في تعقيدات العبودية التي فرضت نفسها وحولتها ادعاءات الفكر التعبوي الأمريكي إلى قضية تاريخية أساسية لتلك الحرب.
يختصر النزاع الأساسي بين المنطقتين في كون الجنوب مجتمعا زراعيا بالكامل، بينما أخذ الشمال يتحول إلى مجتمع صناعي، ما أدى إلى نشوء صراع بين مصالح المزارعين في الجنوب عن مصالح أصحاب المصانع والتجار في الشمال.
تجسدت هذه التناقضات على مستوى القوانين التي كانت تخدم فئة دون أخرى، كما هو حال النظام النقدي الذي أيد فيه الجنوب تسهيل المعاملات المصرفية والإصدارات المالية تلبية لاحتياجاتها الدائمة إلى السيولة، وقد تحالفت مع الشمال الغربي لإفلاس البنك الأمريكي الثاني في الولايات المتحدة كما أثرت في النظام المصرفي السائد منذ عام 1835 حتى الانفصال.
أنتصر الجنوب على الشمال في مسائل القوانين والسياسة النقدية والشؤون المصرفية إلى جانب الجدال المتعلق بسياسة بيع أراضي الأملاك العامة والتوسع نحو الغرب، كل هذا بالتحالف مع ولايات الشمال الشرقي. إلا أن وصول السكك الحديدية والطرقات إلى هذه الولايات فتح أمامها أسواقا جديدة في الولايات الشرقية وأوروبا، ما أدى إلى خلق روابط من نوع جديد بين ولايات الشمال الشرقي القديمة والولايات الساحلية.
تعزز هذا التحالف عبر وعود تقدم بها الحزب الجمهوري بمنح الأراضي التي يتم التوسع فيها للمستوطنين مجانا، ما أثر سلبا على ولايات الجنوب الزراعية التي رأت في ذلك تآمرا على نفوذها السياسي في الكونغريس وبالتالي قدراتها على اتخاذ القرارات.
من عوامل الصراع الأخرى الداعية إلى الانفصال رغبة الجنوب في توسيع دائرة الاقتصاد الزراعي في الغرب، فدعى إلى منح الأراضي بأسعار رمزية للمهاجرين وصغار المزارعين، بينما أصر الشمال على حصرها وبيعها بأسعار باهظة وذلك لتركيز السكان في مساحات ضيقة تساهم في تعزيز المجتمعات الصناعية والتجارية.
أضف إلى ذلك أن عدد السكان في الشمال أخذ يتفوق على الجنوب ما يعني أن عدد أعضاء مجلس الشيوخ المندوبين عن الشمال أصبح أكثر من ممثلي الجنوب، ما يكفي للسيطرة على الكونغرس وحماية مصالح الشمال على حساب الجنوب. هذه مجموعة من العوامل التي تشرح الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء الحرب الانفصالية التي يمكن اعتبارها في الواقع حربا لاستقلال الجنوب من مساعي الهيمنة الشمالية على مصالحه ومقدراته وإصراره على فرض المتغيرات اللازمة على نظامه الزراعي السائد. وإذا تصفحنا الأدبيات السياسية التي تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر في الولايات الجنوبية سنرى بأن كل ما يقوله جيفرسون ديفيس وألكسندر ستيفنس اللذان يعبران عن رأي أوسع القطاعات السياسة في الجنوب، هو أن جميع المعضلات الاقتصادية السائدة حينها تنجم عن الهيمنة التي يفرضها الشمال، وأن السبيل الوحيد لحل هذه المعضلات هو الاستقلال السياسي. هذه هي المعتقدات والأفكار والقناعة نفسها التي دفعت أصحاب المزارع إلى دعم حركة المستعمرين والمستوطنين الساعية للتخلص من بريطانيا وإقامة الدولة الأمريكية عام 1776.
وفي هذا السياق نستطيع التأكيد بأن مؤامرات الشمال كانت تسعى للحصول على أغلبية في الكونغرس الأمريكي وتحويل الحكومة إلى أداة طيعة في خدمة الملاكين في الشمال وسطوتهم التوسعية الهادفة للسيطرة على الجنوب ونهب ثرواته. هنا يتبين بوضوح كامل أن ظروف الحرب جميعها كانت ناضجة حتى لو لم يكن عامل العبودية متوفرا. أي أن كل ما قيل ويقال اليوم في وسائل الدعاية الأمريكية من أن الحرب الانفصالية اشتعلت لسبب أخلاقي يتعلق بتحرير العبيد هو ادعاء كاذب لا أساس له من الصحة.
عندما اشتعلت الحرب علق العبيد آمالا كبيرة على تلك الحملات الدعائية ففروا بأعداد هائلة من مزارع الجنوب بهدف الانضمام إلى صفوف الجيش الشمالي الذي رفضهم واعتبرهم غير مرغوبين. ثم اضطر بعد ذلك لقبول بعضهم كعمال في صفوفه لينخرطوا من هناك في صفوف وحدات خصصت للسود وحدهم.
والحقيقة هي ان الأسباب التي أجبرت الشماليين على قبول السود هي رغبتهم في حرمان الجنوب من نصف مليون رجل أسود لعبوا دورا هاما في اقتصاده، فأدى خروجهم إلى إضعاف الاقتصاد الجنوبي، في حين عزز القوة العسكرية والاقتصادية للشمال. إلا أن مبادرة العبيد هذه هي التي انتزعت من لينكون قرار إعلان إعتاقهم عام 1868 مع أنه لم يخرج إلى حيز التنفيذ الكامل على الأرض. وقد أعرب أبرهام لينكون عن عدم حماسه الجدي لإلغاء العبودية في أكثر من مناسبة لتهدئة الجنوب حين لاحت الحرب الأهلية في الأفق والتركيز على حل جوانب النزاعات الأخرى التي كانت أشد أهمية بكثير من مسألة إلغاء العبودية التي كانت تقع في آخر سلم الأولويات بالنسبة للشمال الراغب في الهيمنة والتوسع، كما لم تكن بالنسبة للجنوب إلا ذريعة يبرر من خلالها إصراره على الاستمرار في الهيمنة على مؤسسات الحكم والمصارف, والحقيقة هي أن أبراهام لينكون لم يشهر لواء تحرير العبيد إلا بعد أن ساءت الأنباء القادمة من ساحات القتال تؤكد تفوق الجنوب في عدد من المعارك الأولى بين الطرفين، ما دفعه عام 1862 لإصدار بيان يعد فيه بتحرير العبيد داعيا إياهم للانضام إلى صفوف القوات الاتحادية، فجندوا بعشرات الآلاف وساهموا عضويا في إلغاء التوازن الذي كان سائدا في القوى مع بداية الحرب، وهكذا تمكن لينكون من إضعاف الاقتصاد الجنوبي بتشجيع السود على الفرار من مزارعه، وتعزيز مكانته السياسية ومكانة الشماليين في الحرب.
على مدار خمس سنوات من المعارك الضارية في هذه الحرب، سقط ستمائة وعشرون ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى والمفقودين بين الأمريكيين من كلا الطرفين، هذا إلى جانب ما جلبته الحرب من دمار وخراب إلا أنها تكللت بفوز الفئة الحاكمة في الشمال الذي استعمر الجنوب بقوة السلاح وأطلق فيه العنان لحالة من الفوضى والمضاربة والفساد حتى فرض عليه الركوع الكامل.
ثم فرض الشمال نوعا من الدكتاتورية العسكرية عززها بحرمان المزارعين الثوار من حقهم في الانتخاب والتصويت، كما منح هذا الحق للعبيد السابقين لتعزيز سلطته الكاملة على البلاد.
صحيح أن العبودية لم تعد إلى الولايات المتحدة بعدها إلا أن الحقوق التي منحت للفقراء من البيض والعبيد السابقين لم تدم طويلا، فسرعان ما عزز الشمال سلطته على الملاكين في الجنوب وأخضعهم لجميع املاءاته ولم يعد بحاجة إلى دعمهم لضمان تفوقه، وما أن حدث ذلك حتى عاد التحالف الذي انقطع بين ملاكي الجنوب والنخبة الحاكمة في الشمال إلى سابق عهده.
تعزز هذا التحالف على وجه الخصوص إثر النمو الصناعي الهائل وأزمة عام 1873 الاقتصادية التي شكلت أولى عوارض التمرد العمالي في الشمال ما تطلب نشر أجواء الرعب والخوف الذي يستهدف الفقراء كلما ثاروا، ما يدعو إلى تعزيز التحالف بين الفئات المستفيدة الحاكمة عموما.
وهكذا تفاقمت القوانين المحلية والإقليمية على مستوى الولايات المناهضة لجميع الحقوق المدنية المكتسبة في المراحل الثورية، وتحديدا المتعلقة منها بتحرير السود من نير العبودية. تعزز ذلك على المستوى الشعبي بتأسيس منظمات فاشية عنصرية وإرهابية أصولية كما هو حال الكو كلوس كلان، التي مارست شتى أشكال القمع والمطاردة والتنكيل بحق المواطنين السود لإخضاعهم والعودة بهم إلى أسوأ شروط الاضطهاد في المجتمع الأمريكي، ليعيشوا ضمن ظروف هي أشبه بقبول العبودية طوعا، وذلك من خلال أجواء الرعب والخوف التي أحيطوا بها. أي أن الهدف الأساسي لهذا التجمع الإرهابي لم يكن إلا لإعادة الأمور إلى نصابها بعد إحكام الشمال سيطرته على الجنوب. هذا ما نراه بوضوح تام في أحد المبادئ الأساسية التي أعلنتها الكو كلوس كلان والتي تقول فيها أنها تسعى لاستعادة مكانة المزارعين وحماية ممتلكاتهم من أطماع العبيد الذين لا بد من إعادتهم إلى ما كانوا عليه من ظروف الخدمة، ما يعني باختصار حرمان العبيد المحررين من حقوقهم السياسية.
هنا يتأكد بوضوح أن الحرب الانفصالية كانت حتمية حتى لو غابت العبودية عن الأفق وذلك لما أحاط بها من ظروف النزاعات الاقتصادية والسياسية ونضوج التناقضات واختلاف المصالح بين الفئات الحاكمة في الشمال والجنوب حتى وصلت إلى نقطة أصبحت الحرب فيها حتمية بعد أن تهددت مصالح الجنوب وأصبح عرضة لسيطرة الشمال، ما دفعه إلى العمل على نيل الاستقلال الكامل عن الشمال.
هنا يتبين بوضوح تام أن هذه الحرب لم تكن إلا جزء من سلسلة الحروب التوسعية الأمريكية ولو أنها جرت على المستوى الداخلي، وذلك بإخضاع طرف أمريكي من الفئات الحاكمة إلى الآخر، رغم الكلفة العالية لهذه الحرب وما نجم عنها من ويلات ودمار، إلا أنها عززت الرغبات التوسعية الأمريكية وأعدتها لمرحلة أخرى من الحملات خارج حدود الشمال أولا ومن هناك إلى خارج القارة الأمريكية بكاملها وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل التالي.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-انتهى الفصل الخامس. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[مقدمة اولى]
[مقدمة ثانية]
[مقدمة ثالثة]
[مقدمة رابعة]
[ملخص الكتاب]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م