|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
الهيمنة السياسية والاقتصادية
والتوسع الجغرافي
نرى فيما سبق ما لا يحتمل الالتباس في أن السياسة الخارجية الأمريكية نشأت على مبدأ التوسع التاريخي وفرض النفوذ الذي اتخذ عدة مبررات وتسميات سياسية وقانونية كان من بينها أن أمريكا بلد الحرية الاستثنائية في العالم وبالتالي يحمل رسالة فريدة يريد تبشير العالم بها ما يبرر له مسعاه التوسعي في جميع الاتجاهات.
بعد إنهاء الحرب الانفصالية وإحكام السيطرة على الولايات المتحدة بكاملها تم الاعتماد على قوّة هذه الدولة المكتسبة للاستفراد بالقارة الأمريكية بكاملها وإخراجها من دائرة النفوذ والصراعات الأوروبية أولا وذلك بطرد فرنسا وبريطانيا ثم اسبانيا وأخيرا البرتغال منها للعمل انطلاقا من مبدأ مونرو على استفرادها بالدول الأمريكية اللاتينية المستقلة حديثا للتوسع جنوبا والسيطرة على المقدرات الاقتصادية والبشرية للقارة الأمريكية بكاملها. اختصر الرئيس جيمس مونرو عام 1823 العقيدة التي تحمل اسمه بأن القارة الأمريكية هي كلاّ متكاملا وأن الولايات المتحدة هي حاميتها الممتازة من أي تدخل أوروبي، وهكذا استعملت هذه العقيدة لتعميم التوسع الإقليمي في أرجاء القارة الأمريكية الجنوبية بدءا من المكسيك وحتى تشيلي والأرجنتين.
تضاعف عدد سكان الولايات المتحدة ثلاث مرات بين عامي 1860 و 1914 بعد أن تضاعفت مساحة أراضيها عشرة مرات عبر السنوات الخمسين التي سبقت ذلك. فقد نزل خلال هذه الفترة خمس وعشرون مليون شخص على شواطئ الولايات المتحدة جاءت غالبيتهم من ايرلندا والصين والدول الاسكندنافية وألمانيا، وروسيا وإيطاليا واليونان وبولندا وليتوانيا والشرق الأوسط.
هاجر بعض هؤلاء هربا من طغيان الحروب والتمييز، أما الغالبية فكانت تبحث عن الحلم الأمريكي وتهرب من طغيان الفقر لتجد نفسها بين نساء ورجال وأطفال يعملون ساعات طويلة ضمن ظروف عمل قاسية في مصانع المدن الرئيسية مثل نيويورك وبوسطن وغيرها التي شهدت ازدهارا على جميع الصعد بلغ حد تركيز عدد كبير منها في مجموعة احتكارية واحدة. تم هذا بداية في مجال الصناعة على وجه الخصوص حيث بدأ تتجمع بعض المؤسسات الكبرى عل حساب اختفاء أخرى أو الدمج بين شركات أحيانا ما كانت تتنافس فيما بينها، ما شكل علامة فارقة للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة على وجه الخصوص عام 1870. تميزت عمليات الاندماج والتركيز هذه بظاهرتين رئيسيتين أولهما أن عدد الشركات أخذ يحتشد في مجموعات محددة أخذت أعدادها تقل شيئا فشيئا، أما الظاهرة الثانية فهي أن أعداد المساهمين أخذت تقل أيضا ما يعني لأن المؤسسات الصغير أخذت تختفي ما أدى إلى انخفاض عدد الملاكين. وهكذا أخذت ثروات البلاد تنحصر في أيدي حنة متضائلة من الاحتكاريين.
هذا ما حدث في مجموعة ستاندرد أويل على سبيل المثال التي وضع جون دي روكفيلير من خلالها عمادات إمبراطورية مالية هائلة فحول خلال عشرة أعوام فقط شركة نفطية صغيرة في أوهايو إلى مجموعة احتكارية هائلة تشمل 95% من تكرير النفط دون أن تعتمد على انتاج الخام وحده بل وتسيطر أيضا على غالبية وسائل النقل والتوزيع التجاري في البلد. رغم محاولات الجمعيات الأهلية والمؤسسات القانونية والتشرعية وضع حد لهذه الاحتكارات إلا أنها جميعا لم تتمكن من التغلب على هذه الشركات القادرة على استئجار كل المكاتب الاستشارية القانونية الكفيلة بحماية مصالحها بل وتسخير البلاد للاستمرار في خدمة هذه المصالح داخل الحدود وخارجها.
بعد اكتمال مرحلة التوسع القاري أخذت تنضج شروط الانتقال من القارة الأمريكية للتوسع والهيمنة على مناطق أخرى من العالم مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تحالف كبار الصناعيين مع أصحاب المصارف الهامة لينجم عن ذلك نوع جديد من الاحتكارات كما حدث عندما استطاع روكيفيلر عام 1890 السيطرة ناشيونال سيتي بنك أوف نيويورك.
أدى ذلك إلى مزيد من تركيز الأموال والثروات بأيدي أعداد أقل من الأشخاص وهذا ما حصل عام 1912 عندما تحالف180 شخصا يعملون في 18 مؤسسة استثمارات وبنوك تجارية وشركات تأمين للسيطرة على 746 مقعدا من مجالس إدارة 134 شركة تملك حوالي 26 مليون دولار، وهذا مبلغ كبير جدا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة اشترت نصف أراضي المكسيك مقابل خمسة عشر مليون دولار.
كما سيطرت مجموعة مورغين في الفترة نفسها على 341 في مجالس إدارة 112 من كبرى الشركات التي تملك ما يقارب 23 مليون دولار توزعت على 34 مصرفا و24شركة تجارية وصناعية و12 مؤسسة للخدمات العامة.
وهكذا مرت الولايات المتحدة خلال هذه الفترة بمجموعة من التحولات التي لا بد من فهمها لمعرفة الدوافع الكامنة وراء حملات التوسع والهيمنة المتعاقبة التي ما زالت تشكل جزءا أساسيا من السياسة الخارجة الأمريكية المتبعة حتى اليوم. يمكن اختصار هذه التحولات بأن النمو العشوائي للانتاج في ظروف المنافسة قد ساهم في تركيز الثروات في أيدي مجموعات قليلة من الأشخاص وبالتالي نشوء شركات عملاقة في مجالات الصناعة والمصارف والتجارة وغيرها، وقد ترافق تكوين هذه الشركات العملاقة مع ظهور الاحتكارات الكبرى أو ما يعرف ب تراستيس التي فرضت نفسها على مختلف القطاعات الاقتصادية للبلد.
بعد تشكيل هذه الاحتكارات على جميع الصعد ونموها في مختلف الاتجاهات أخذت تسعى لتخطي الحدود الأمريكية وتبحث عن موطئ قدم لها في الخارج ما أدى إلى نشوء شركات الصناعة والتجارة العالمية مترافقة مع ما يعرف بالاستثمارات الخارجية.
لم يتوقف أويقتصر دمج وتركيز الشركات المتنوعة الكبرى على الداخل الأمريكي فحسب بل قام بمرافقتها إلى خارج البلاد ما ساهم بتركيز الثروات العالمية بأيدي حفنة أمريكية متحالفة من أصحاب الثروات في العالم الذين تتقارب مصالحهم وتتخطى حدود الوطن. وهكذا فإن حاجة هذه الشركات الملحة لتوسيع أسواقها ومصادر حصولها على المواد الخام الرخيصة يدفعها إلى مزيد من التوسع الجغرافي واتباع سياسة الهيمنة في بلدان مختلفة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
وهكذا انطلقت السياسة التوسعية الأمريكية من دائرة تعزيز أوضاعها الداخلية ضمن القارة إلى خارجها مع نهاية القرن التاسع عشر تحت تسميات مختلفة اعتمدت حسب الظروف التاريخية فكان من بينها الامبريالية التقدمية ومبدأ ويلسون أو الليبرالية العالمية واحتواء العالم وإصلاحه وغيرها من الهرطقات السياسية التي امتدت إلى ما بعد نهاية الحرب الباردة وهي لا تستهدف إلا الاستخفاف بذكاء الشعوب والعمل على إخضاعها لسيطرة النخبة التي تمثل المؤسسات المالية الحاكمة هناك وذلك من خلال حروب تدعي القيام بها من أجل شعارات حضارة أمريكية جوفاء كادت تحسد الأدغال على شريعة الغاب السائدة فيها. أما على مستوى الخطاب الداخلي فكانت الأمور شديدة الوضوح بالنسبة لرجال الإدارة الأمريكية، فعام 1896 أعلن الرئيس غروفر كليفلاند أن الولايات المتحدة أصبحت تنعم بحق السيادة على أراضي القارة الأمريكية بكاملها حتى تمتعت بقوة وإرادة لا تهزم.
بعد ذلك بعامين فقط وضع السيناتور بيفيريدج الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأمريكية حين قال: على التجارة الخارجية في العالم أن تصبح ملكا لنا، وعلى سفننا التجارية أن تشمل العالم، لهذا علينا بناء أسطول عسكري يتناسب مع عظمتنا..على مؤسساتنا العسكري أن ترعى المصالح والأعمال الأمريكية وتنفذ القوانين الأمريكية وتنشر الحضارة الأمريكية وترفع الأعلام الأمريكية في مناطق في العالم لم نصلها حتى الآن، كي تنعم بتنوير وتجميل مؤسساتنا السياسية الرائعة.
ولم يأت تحديد هذه السياسة الخارجية من فراغ بل انطلق من مجموعة سياسات ومبادئ توسعية متراكمة تشمل مبدأ الرئيس مونرو وفكرة القدر الجلي لجون أوسوليفان وخطابات كالتي ألقاها السيناتور هارت بينتون أمام مجلس الشيوخ عام 1846، وقال فيها: "أن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها كعصا هارون التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال، هكذا ستغزو أمريكا الأراضي وتضمها مساحة بعد أخرى، هذا هو القدر المتجلي، أعطها الوقت وستجدها تبتلع كل بضع سنوات مساحات بوسع معظم ممالك أوروبا، هذا هو معدل توسعها". انطلقت الولايات المتحدة من مثل هذه المبادئ للقيام بأول مغامرة لها خارج الحدود الأمريكية حين أرغمت الصين عام في آب أغسطس من عام 1842 على توقيع معاهدة نانكين، ثم شاركت في استقطاع امبراطورية الوسط لتجني أرباحا هائلة من تجارة الأفيون على وجه الخصوص.
ثم توجهت بسفنها من هناك إلى بحار اليابان حيث هددت الشواطئ اليابانية بمدافعها حتى حصلت على إذن برسو أسطولها أمام إيدو المطل على مركز باكوفو الإداري الحيوي ليتخذه الأمريكيون هدفا للقصف أو الإغلاق إذا رفضت اليابان إبرام المعاهدات التجارية الأولى مع الولايات المتحدة. تبين أن هذه المعاهدات قد وقعت تحت الضغط والابتزاز وكانت مضرة جدا بمصالح اليابان إذ خفضت حقوقها الجمركية بنسبة 50%، بينما استفادت الولايات المتحدة بأن تحولت إلى مورد الأسلحة والسفن المخصصة لتغذية الصراعات الداخلية في البلاد.
ترافق هذا مع ارتفاع في الأسعار الناجمة عن استبدال المنسوجات المحلية بأخرى أجنبية، بالإضافة إلى ما بلغته المحاصيل من تلف ناجم عن سياسات ضريبية عقيمة أسهمت جميعها في نشر البطالة والهلع الاجتماعي في الجزر اليابانية جميعها.
على مقربة من هناك اعتادت السفن الأمريكية أن ترسو في هواي منذ بدايات القرن التاسع عشر حين عين الرئيس مونرو وكيلا دائما في هونولولو، ترافق ذلك مع استيطان بعثات التبشير البروتستانتية في عدة مناطق لجعل المواطنون يعتنقون هذا المذهب المسيحي وينشرون دعاية مؤيدة للأمريكيين.
اختار المستوطنون الانتشار في مناطق تصلح لمزارع قصب السكر التي تجد أسواقا وحيدة لها في الوطن الأم. استمر السلل تدريجيا حتى تم عام 1875 توقيع معاهدة تبادل تجاري مع الملك كلاكاو تمكن من دخول منتوجات هواي بحرية إلى هواي، بينما أصبح استعمال بيرل اربور مضمونا للسفن الأمريكية.
مع حلول عام 1893 دبر المستوطنون الأمريكيون المقيمون في هاواي انتفاضة وخلعوا الملكة ليليوكالاني وطالبوا بانضمام هاواي إلى الولايات المتحدة، ثم أقاموا جمهورية هاواي التي تولوا حكمها واعترفت بها واشنطن على الفور، وفي تموز يوليو من عام 1898، أعلن الأمريكيون ضم هواي تدريجيا بالتفاهم مع الحكومة المحلية للمستوطنين هناك.
وهكذا تمكنت الولايات المتحدة بعد الحرب ضد اسبانيا عام 1898 حسب تعبير بيفيردج، من "تنوير وتجميل" مناطق وأراض جديدة عبر معاهدة باريس التي ضمت بموجبها أراضي الفلبين وجزيرة غوام وبويرتو ريكو تحت السيادة الأمريكية. شكل استيلاء الولايات المتحدة على الفلبين أهمية كبيرة إذ مكنها من نقل البضائع الأمريكية إلى الشرق عبر كليفورنيا وأوريغون الطامحة لتشكيل نقاط تجارية هامة بعد حصول الولايات المتحدة على جزيرة ميدواي عام 1859 وشراء ألاسكا عام1867 وضمها جزر هاواي بعد أعوام قليلة أخرى.
أدى هذا التوسع الأمريكي في المحيط الهادئ وبلوغها خليج مانيلا وقلب شرق آسيا إلى تعزيز أهمية بناء قناة تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ وتسهل الحركة التجارية والعسكرية بين الموانئ الأمريكي على جانبي القارة، فأصدر الكونغريس سنة 1902 قانون سبونير الداعي للتفاوض على بناء القناة. بدأت المفاوضات مع كولومبيا التي كانت باناما تشكل جزءا منها، وفي العام التالي وضعت أسس معاهدة هيران التي تحدد سبل العمل في القناة والتي رفضها الكونغريس الكولومبي لما تشكله من تهديد للسيادة على أرضه.
لجأت الولايات المتحدة إلى أسلوب آخر لبناء القناة والسيطرة عليه وذلك باستغلال رغبات لدى قطاع من أبناء بنما للانفصال عن كولومبيا، فانتهزت أجواء الاستياء والأزمة الاقتصادية الداخلية الناجمة عن حرب الألف يوم بين الأحرار والمحافظين ووضعت خطة لاستقلال بنما تحت الحماية الأمريكية. شيدت الولايات المتحدة قناة بنما ضمن شروط وقيود أسوأ من تلك المفروضة في معاهدة هيران هاي على سيادة بنما حيث وضعت الولايات المتحدة الأميركية يدها عنوة على القناة الشهيرة التي تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ بموجب اتفاقية أصبحت تنص على أن تتخلى الولايات المتحدة الأميركية عن حق السيطرة على القناة وتعيدها للسيادة البنامية عام 2000 بعد ذلك أثيرت مجموعة من الأحداث المفتعلة التي اشتهرت عالميا حول الرئيس منويل أنطونيو نورييغا مورينو كللت بإلقائه في السجن بعد ترتيب عملية اغتيال للرئيس الأسبق أومار توريخوس الذي طالب بانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من بناما تنفيذا للاتفاقات المبرمة. وهكذا تمكنت واشنطن من إبقاء وحداتها فوق الأراضي البنامية واستيلاءها على قناة باناما التي ما زالت تحت السيطرة الأمريكية.
ثم تعاقبت الإجتياحات الأمريكية مع بداية القرن حتى بلغت معدل يفوق تدخلا عسكريا واحدا أو أكثر في العام الواحد. فقد استغل الأميركيين هزيمة إسبانيا وما تلاها من مراحل لاحقة تبعت عام 1898 عندما بدأت تنهار المستعمرات الإسبانية في الجنوب الواحدة تلو الأخرى لإيقاعها في أيدي أميركية الواحدة تلو الأخرى إن لم يكن بشكل مباشر فبشكل غير مباشر
أرسلت أمريكا قواتها إلى بعض المناطق منها مثلا ما حدث في هافانا في تلك الفترة وتحديدا عام 1902 بعد الاستقلال بفترة قصيرة حين أرسلوا باخرة سميت إيغل واخرجوا من فيها من جنود وفجروها واتهموا الكوبيين بها واعتبروا أن هذه عملية مضادة لأميركا في كوبا فقاموا باجتياح عسكري حصلوا من خلاله على قاعدة جزيرة لوس بينوس وأقاموا فيها مستعمرة دائمة. لم يخرجوا بعد ذلك من كوبا نهائيا وما مازالت هناك قاعدة أميركية موجودة في شرق الجزيرة الكوبية هي قاعدة غوانتامو البحرية الشهيرة التي تستخدم اليوم معتقلا لسجناء الإرهاب المتهمين بالانتماء لحركتي الطالبان والقاعدة.
بعد اجتياحها الأول لأراضي كوبا إثر الانسحاب الاسباني جاء اجتياحها الثاني عام 1906 ليستمر حتى عام 1909، وكان ليبقى لولا تفاقم الحركات الشعبية الرافضة والمطالبة برحيل القوات الأمريكية التي جاءت هذه المرة بقيادة الجنرال شارلز مورغان.
أثناء غزو كوبا تم أيضا اجتياح جزيرة بويرتو ريكو التي كانت قد حصلت من اسبانيا على برلمان عام1897 ، فأقامت فيها حكومة عسكرية استبدلت بعد سنوات قليلة بحكومة مدنية تحت تصرف الرئيس الأمريكي مباشرة ثم أنشأ قرار أولمستد نظارة تنفيذية أعدت فيما بعد لقرار جونز الذي اعتبر بويرتو ريكو اقليم منظم وليس مضموما، بينما اعتبر سكان الجزيرة مواطنين أمريكيين تابعين لسلطات إجرائية تحت تصرف الرئيس والبيت الأبيض.
في هذه الأثناء صادرت كبرى الشركات الأمريكية معظم الفلك الاقتصادي في الجزيرة فأخلت الزراعات الغذائية السابقة الساحة لزراعة البن والسكر بتشجيع من الاستثمارات والدخول الحر إلى السوق الأمريكية، ما جعل السكان يستوردون 50% من غذائهم وموادهم الأساسية الأخرى من الولايات المتحدة.
وهكذا ألحق ما تبقى لهم من استقلال نسبي بأسعار السكر والبن الذي يعلو ويهبط حسب انصياعهم لمشيئة واشنطن ورغباتها. أدى ذلك إلى ميل شديد في الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة فاقم التوتر الاجتماعي السائد وما رافقه منذ العقد الأخير من ازدهار في تجارة المخدرات والعنف والتهريب وتبيض الأموال بما لم يسبق له مثيل.
وفي سياق الحرب الاسبانية الأمريكية أيضا غادر الأميرال ديوي هونغ كونغ متوجها نحو خليج منيلا حيث دمر الاسطول الاسباني في 1-5-1898 وتعهد للزعيم الثائر أغينالدو بمنح الفلبين استقلالها مقابل مساعدته ضد اسبانيا. إلا أنه بعد انتهاء الحرب منع وفد أغينالدو من المشاركة في مؤتمر باريس حيث تنازلت اسبانيا المهزومة عن الفلبين لصالح الولايات المتحدة التي حصلت على ملكية الأرخبيل بكامله مقابل تعويضات بلغت قيمتها 20 مليون دولار. رد أغغينالدو على ذلك بإعلان استقلال بلاده في كانون الثاني يناير من عام 1899 فأطلقت الولايات المتحدة حملة ضده دامت ثلاثة أعوام وانتهت باستسلامه وانقياده عام 1901. ولكن بعد استعادة الأرخبيل من اليابان إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية تحقق الاستقلال، غير أن النفوذ الأمريكي هناك لا يبدو قابلا للمحو.
عام 1907 دخلت الولايات المتحدة إلى جمهورية الدومينيكان بحجة فرض قوانين جباية الضرائب والإشراف على تنفيذها. وفي نفس العام فرضت على بلدان أمريكا الوسطى معاهدة الصداقة والسلام التي تنتقص من سيادتها. عام 1909 قطعت علاقاتها مع نيكاراغوا وقامت باجتياحها عسكريا لتثبيت قواعد عسكرية لها هناك. تم ذلك بقوة السلاح حين دخلت إلى مدينة غرانادا وحدات أمريكية مقاتلة لتعلن فيها قيام ولاية أمريكية جديدة، وقد نصب القائد العسكري لتلك الوحدة نفسه رئيسا على نيكاراغوا، ذلك البلد الذي يقع في وسط القارة الأميركية والذي تفصل بينه وبين الولايات المتحدة كل من المكسيك وغواتيمالا وهندوراس أي أنه لا يوجد حدود مشتركة بين البلدين. ولم تخرج القوات الأمريكية من هناك إلا بعد حصول واشنطن على قاعدة أميركية عسكرية دائمة استقرت في ماناغوا ومازالت حتى اليوم تقبع في إحدى ضواحي هذه العاصمة.
عام 1912 اجتاحت كوبا للمرة الثالثة بحجة حماية المصالح الأمريكية بعد أن أثارت مجموعة من الاضطرابات الداخلية فيها.
في نفس العام اجتاحت جمهورية الدومينيك مستعينة بقوات البحرية والمشاة للقضاء على التحولات الاجتماعية والسياسية الجارية في هذا البلد الذي بقيت فيه عمليا حتى خرجت منها شكليا عام 1925 إلا أنها بقيت على الأرض حتى عام 1933 حين قامت بتدعيم وجودها العسكري في نيكاراغوا بمزيد من السفن الحربية وقوات البحرية والمشاة.
ذكرنا في الفصل السابق أن الولايات المتحدة استولت عام 1848 على مساحات كبيرة أخرى من الأراضي المكسيكية ليبلغ مجموع ما استولت عليه من المكسيك حوالي مليون ميل مربع تشكل اليوم كل من ولايات تكساس وأريزونا ونيو مكسيكو وكليفورنيا ونيفادا وأوتا وجزء من ويمينغ. وبعد استيلائها على هذه المساحات الشاسعة حاولت تشريع ذلك بدفع مبلغ يقارب 26,8 مليون دولار. ولكن الولايات المتحدة لم تكتف باقتطاع وضم أكثر من نصف مساحة المكسيك بل عملت مع نهاية القرن التاسع عشر على الاستيلاء على بقية البلد حين أصبحت نسبة الرساميل الأمريكية العاملة في المكسيك تتعدى 65% والتي أصبح الجزء الأكبر من تبادلاتها التجارية مع الولايات المتحدة.
من جهة أخرى تمكن أصحاب رؤوس الأموال الساحلية الأمريكية من خنق القطاع الزراعي المكسيكي ما أدى إلى إبقاء مساحات شاسعة دون زراعة ولم تعد تكفي لتغطية حاجات السكان فصار ضروريا استيراد القمح من الولايات المتحدة.
ترافق ذلك مع توطيد شركات عقارية تعمل على الاستيلاء على الأراضي العامة وفقا لمسار المحميات التي ضمنت ثراء كبار الملاكين وعجلت في إفقار وبؤس غالبية كبيرة من سكان الأرياف.
عام 1913 تدخل السفير الأمريكي هنري لان ويلسون في الشؤون الداخلية للمكسيك حين أشرف على انقلاب سيوداديلا الذي اغتيل فيه الرئيس ميديرو ونائب الرئيس بينو سواريس.
عام 1914 فرضت على نيكاراغوا معاهدة براين- تشامورو التي حصلت من خلالها على الحق في إقامة ممر دائم بين المحيطين شبيها بقناة بنما. عام 1915 قامت الولايات المتحدة باجتياح مسلح لهايتي واستمرت باحتلالها حتى 1934. عام 1916 صادق الكونغرس الأمريكي على معاهدة براين تشامور رغم رفض محكمة العدل في أمريكا الوسطى لها.
الحرب العالمية الأولى.
وسط هذه المجموعة من الظروف الاقتصادية وحملات التوسع الجغرافي والهيمنة السياسية على مستوى القارة الأمريكية وخارجها اشتعلت الحرب العالمية الأولى في أوروبا عام 1914 لتحدد الجهة التي سيسيطر على العالم وموارده الغنية.
لم يكن من السهل على الرئيس وودرو ويلسون تحقيق أطماع المجموعات المالية المتنفذة في السياسة الأمريكية الراغبة بالاشتراك في الحرب وحصد غنائمها، وذلك لما واجه من معارضة داخلية كانت تفضل الانتظار وعدم التسرع في دخول الحرب.
ولكن هذا الموقف من الحرب العالمية الأولى لم يستمر طويلا فرغم اعتراض البعض على خوضها قام الرئيس وودرو ويلسون عام 1917 أي قبل عام من انتهائها بإرسال الجنود عبر البحار للقتال لأول مرة، في نزاع أوروبي واسع النطاق. مبررا دخول الحرب بادعاء يقول أن ألمانيا أخذت تتمركز في المكسيك وهي تسعى لاحتلال سان فرانسيسكو ولوس أنجيلوس لتقيم فيهما دولة قوية على طول الشاطئ الغربي المطل على المحيط الهادئ.
كان توماس ويدرو ويلسون الذي ولد 1856 وتوفي 1924 هو يعتبر الرئيس 22 للولايات المتحدة كان له كلمة شهيرة خلال الحرب العالمية الأولى طلب من الأميركيين سواء الرسمي أو الشعبي أن يبقوا على الحياد سواء بأفعالهم أو بأفكارهم ونلاحظ أن قبل انتهاء الحرب بسنة واحدة 1917 أعلن الحرب على ألمانيا بعد إعلان ألمانيا حرب الغواصات التي قالت ستضرب الغواصات بالبحار سواء كانت معادية أو محالفة وكانت تأمل في إضعاف كلا الطرفين كي يكون لها حصة الأسد في ختام هذه الحرب ولكنها لم تبق في أي حرب لا سابقة ولا تالية خارج أي حرب تقام في أي بقعة من بقاع الأرض بل كانت تسعى في البداية لإضعاف الأطراف وبالتالي المشاركة في ساحة القتال. هذا ما حصل في الحرب العالمية الأولى عندما لم يطل بقاء الولايات المتحدة خارج الصراع أكثر من عامين ونصف العام. أي أن الولايات المتحدة لم تر على المدى المباشر ضرورة للتدخل في النزاع، بل فضلت البقاء طليقة الأيدي رافضة اعتبار نفسها من الحلفاء، عملت على الاستفادة من وقوفها على الحياد طوال عامي 1914 و1916، ولم تتردد في تزويد المتحاربين بالأغذية والأسلحة مقابل المال.
وهكذا تزايدت حصتها من التجارة مع إنجلترا بين عامي 1914 و1916 بنسبة هائلة، وهذا ما ينطبق أيضا على البلدان الاسكندنافية وهولندا وإسبانيا وسويسرا. دون أن تقتصر الاستفادة من الحياد على التجارة فحسب بل امتد ذلك إلى العمل على إعداد الشروط الملائمة للتوسع الأمريكي نحو أوروبا هذه المرة.
اغتنم الرئيس ويلسون ظروف الحرب للمساهمة في إرساء العلاقات الدولية على مرتكزات جديدة، والتي تكمن بأمركة العالم وتحريك مصالح أوساط الأعمال الأمريكية والإعداد لبنى اقتصادية أوروبية في خدمة الولايات المتحدة أولا.
وبعد ذلك استخدم نفس الحجج لإرسال الجيوش والوحدات إلى ساحة القتال في أوروبا مدعيا ضرورة الحفاظ على التوازن العالمي والدفاع عن حرية التجارة وخصوصا البحرية وإنقاذ الديمقراطية وغيرها.
بعد الترويج لأفكار مونرو التي لا يسمح بموجبها للدول الأوروبية بالتدخل في شؤون أميركا الجنوبية أو الشمالية على وجه الخصوص وكأنها أصبحت ملكا خاصا لواشنطن، بعد هذا الاعتراف الأوروبي بسيطرة أميركا الشمالية على مصائر بلدان أميركا اللاتينية وبقاءها على الجانب الأخر من المحيط أصبحت الولايات المتحدة الأميركية تسعى لمشاركة أوروبا في مصائرها إلى جانب ثرواتها البلدان التي تسيطر عليها. وهكذا رفضت التوقيع على معاهدة فرساي وغيرها من الاتفاقات الناجمة عن الحرب.
خرجت الولايات المتحدة منتصرة الحرب العالمية الأولى بحصولها مقابل الأسلحة التي مولت بها البلدان الأوروبية على حقها الحصول على المواد الخام الضرورية من البلدان الأفريقية والآسيوية والشرق أوسطية الواقعة تحت السيطرة الأوروبية.
على الصعيد الداخلي استفادت الولايات المتحدة الأميركية من هذه الحرب بقضائها على جميع الحركات الداعية إلى الحقوق المدنية والسياسية داخل البلاد، وكان من بينهم الأفارقة الأمريكيين ومناهضة العنصرية ودعاة حقوق المرأة والمشاركة السياسية لدى الأقليات ودعاة السلام وغيرها.
كان الانتماء لأي من هذه المجموعات كافيا لاتهام صاحبها بالعمالة لألمانيا ليتم زجه في السجن والقضاء على موارد رزقه ومطاردته إلى ما هنالك من وسائل قمع مشابهة.
بلغت حملات الترهيب حدا منع فيه التخابر الهاتفي باللغة الألمانية ليشكل ذلك شكلا إضافيا من أشكال ممارسة القمع المباشر والاضطهاد والتنكيل بالناس تحت غطاء الحرب مع ألمانيا، أما الهدف الأساسي وراء كل تلك الحملات فهو القضاء على جميع الحركات المطلبية الداعية إلى نيل الحقوق المدنية والسياسية للمواطن الأميركية.
تم ذلك بهدف تعزيز البنية التحتية والتماسك الداخلي من خلال الضغط على الأجراء والسيطرة على الوضع الداخلي تماما كما حدث حلال الحرب العالمية الثانية تجاه ألمانيا واليابان وفي الحرب الباردة ضد المعارضين المتهمين بالشيوعية وما يحدث اليوم بالعرب والمسلمين بتهمة الارهاب.
تعزز الاقتصاد الأميركي خلال الحرب لما أصبحت تصدره الصناعات الأميركية إلى أوروبا من بضائع خلال الحرب وبعدها. هذا إلى جانب صادراتها إلى بلدان أخرى تقع في دائرة النفوذ الأوروبي استوردت بعضا من هذه الصناعات مقابل ما لديها مواد خام تسهل الحصول عليها بأسعار رخيصة، ما عزز الصناعات الأميركية بنسب عالية.
أي أن الولايات المتحدة ضمنت خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها أن لا يقترب أحد من "حديقتها الخلفية" المتجسدة بأميركا اللاتينية وحوض الكاريبي. أضف إلى ذلك أنها أصبحت تمتلك اليد الطولى في الوصول إلى مناطق أخرى في العالم خلف المحيط، وتحديدا في أفريقيا والشرق الأوسط ذلك أن أصحاب الثروات فيها اصبحوا على مستوى من التوسع والنمو يجعلهما بحاجة إلى فرض الهيمنة على مناطق أبعد من حدود القارة.
لعب الرئيس الأمريكي دورا هاما في تأسيس عصبة الأمم منذ الإعلان عنه في النقطة الأخيرة من خطاب ألقاه أمام الكونغريس في كانون الثاني يناير من عام 1918، إذ دعا إلى أن تتطابق بنيتها الضمنية مع نظام عالمي قائم على ليبرالية تدين الحرب وتعط الحق للمدافعين عن النظام العالمي باستعمال السلاح ضد كل دولة معتدية.
حصل الرئيس ولسون كصاحب المبادرة في قيام عصبة الأمم على جائزة نوبل للسلام تقديرا لمساعيه الحميدة في هذا المجال، علما أن إدانة الحرب لفرض دولة معتدية ترمي في الواقع إلى إدانة أي قوة مناوئة للولايات المتحدة.
لقد جرى خفض الأسلحة بالنسب المطلوبة في كل مكان إلا في الولايات المتحدة، التي أصبح بمقدورها وحدها التدخل ضد "مسببي الاضطرابات في العالم"، والأخطر من ذلك أنه لم يعد بإمكان أي بلد الدفاع عن نفسه في مواجهة الأمريكيين أنفسهم. وهذا ما يؤكد اليوم بأن جذور هذه العصبة الحقيقة ليست متكافئة ولا تمنح جميع الشعوب حقوقها بل تم بناءها لغايات مشبوهة وعلى قياس المصالح الأمريكية التي خدمت مصالحها وحدها.
ففي المادة التي تتحدث عن حرية التجارة البحرية والتي يقصد الرئيس ويلسون من خلالها الكفاح ضد المجابهات الاقتصادية، إنما هي طريقة لفرض امكانية سيطرة الأمريكيين على الجزء الأكبر من الأسواق العالمية، فبدون حماية تجارية وجمركية لا يستطيع أحد مواجهة المد الآتي من الولايات المتحدة، ذلك أن احتياطها من الذهب بات يوازي 60% من احتياطي جميع دول العالم سنة 1929.
وهكذا أصبحت الولايات المتحدة المنتج الأول للفحم في العالم، وتضاعف انتاجها من الفولاذ وصادرتها من القمح عدة مرات، كما أتاحت لها ديون الحرب ابتزاز البلدان الأوروبية حتى تقاسمت المستعمرات الألمانية معها ما شكل دليلا آخر يكشف بوضوح عن زيف ادعاءات رؤسائها الكاذبة.
خرجت أوروبا مدمرة من هذه الحرب التي أدت بدورها إلى جعل أمريكا أشد البلدان قوة م بل تحولت إلى محور اقتصادي وتجاري ومالي رئيسي في العالم اجمع كما تحسن المستوى المعيشي لدى السكان بشكل عام رغم أن هوة المظالم قد ازدادت عمقا. ففي السنوات الست الأولى من العشرينيات أثرت الشركات الصناعية بمعدل 62% دون ان ترتفع الأجور إلا بمعدل 26%، وفي مقابل عودة البطالة بعد انتهاء المجهود الحربية قفز عدد أصحاب الملايين من 4500 سنة 1914 إلى 11000مليونير سنة 1926. كما واصلت الأسواق المحلية احتماءها بحواجز جمركية لا تخترق في حين كانت الولايات المتحدة تنادي بإلغاء جميع أشكال الحواجز الجمركية لدى الآخرين.
انتهت هذه المرحلة على المستوى الاجتماعي الأمريكي بانتشار الرعب في الورش وأماكن العمل وتفاوت في الحقوق بين الرجال والنساء والسود وانتشار العمالة بين الأطفال وظروف عمل قاهرة لا إنسانية في بعض الأحيان.
بعد هذه الفترة القصيرة من الانفجار الاقتصادي الهائل شهدت الولايات المتحدة الأميركية مرحلتين قصيرتين استمرت الأولى حتى عام 29 عندما تعرضت الولايات المتحدة الأميركية لأكبر أزمة ركود اقتصادي عرفتها في التاريخ، وتحديدا عند انهيار أسعار أسهم البورصة لديها، وكان هذا مؤشر كبير على عدم وجود توازن اقتصادي في العالم وبنية تحتية كافية لاستمرارية نمو الاقتصاد في الولايات المتحدة على هذا النحو، ما دعا هذه الدولة إلى تعزيز مواقعها الخارجية على اعتبار أن كل ما تصنعه في الداخل لابد من إيجاد مخرج مناسب له في الأسواق العالمية. هذا ما يؤكد حاجتها الماسة للأسواق الخارجية وبالتالي حاجتها الماسة للسيطرة على المزيد من شعوب العالم خارج حدود الولايات المتحدة. يبين انهيار عام 1929 إلى أي حد شكل النظام الاقتصادي سلاحا خطيرا اعتمدته الولايات المتحدة أداة لغزو العالم، فبعد انتهاء الحرب بلغت الديون الأمريكية على أوروبا حدودا هائلة وبرزت قوة الولايات المتحدة بمضاعفة مبادلاتها التجارية بين عامي 1919 و 1930حتى أصبح إنتاجها وحده يشكل ثلثي إنتاج العالم.
تسببت أزمة النظام النقدي الدولي سنة 1930 وانفجاره عام 1933 إلى نشوب معارك نقدية طاحنة ومضاربات لا سابق لها على أسعار العملات. ما يعزز النظرية القائلة بأن أميركا لا تشهد ازدهارا اقتصاديا في القارة إلا بواسطة الحروب الخارجية.
هذا ما توصلت إليه الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة الأولى على وجه الخصوص، ونرى في المرحلة الثانية انعكاسات شراسة هذه السياسة علىجميع المستويات في كل من أميركا اللاتينية وآسيا إلى جانب بدء تعاظم الدور الأمريكي في الشرق الأوسط.
جاءت هذه الفترة لتؤكد أن ما حصل في الحرب العالمية الأولى لم يكن ليرضي الولايات المتحدة الأميركية ويشبع تطلعاتها في السيطرة على بلدان العالم ومشاركة أوروبا في ثرواته، وبالتالي عادت أسباب الحرب التي اشتعلت في فترة الحرب العالمية الأولى لتتفاعل من جديد وتتكرر مرة أخرى إعدادا للحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية هناك عدة نقاط مشتركة بين الحربين العالمية الأولى والثانية، المفارقة في الأمر أن نقاط اللقاء والنقاط المشتركة بين الحربين كانت أيضا مشتركة مع الحروب الأربعة التي قامت بها في القرن السابق داخل القارة الأميركية وهنا نتحدث عن عنصر الرغبة التوسعية والسياسة التوسعية الأميركية منذ نشأتها في حربها الأولى ضد فرنسا توسعت شمالا ونحو الغرب أيضا في حربها الثانية ضد البريطانيين أخرجت البريطانيين من القارة وفي حربها الثالثة كانت ضد أسبانيا واستولت على نيو مكسيكو، لوس انجلوس، كاليفورنيا وفي حربها الرابعة كانت حربا داخلية وهي حرب الانفصال عززت بها التوسع جنوبا نحو المناطق التي استقلت حديثا فانتهزت فرصة ضعفها لتؤكد بداية سيطرتها على جنوب القارة وتمنع توحد هذه الدول الناطقة باللغة الأسبانية كي تبقى فيما بعد مهيمنة عليها. هذا ما جرى تحديدا بعد الحرب العالمية الأولى إذا لم تدخلها الولايات المتحدة الأميركية منذ البداية بل دخلتها عام 17 بعد أن كانت الدول العظمى قد تعبت من ويلات الحرب على مدار عامين ونصف العام فحصدت نتائجها مستفيدة من المواد الخام التابعة للدول العظمى استغلتها وعززت بناء اقتصادها الداخلي. كانت تلك بداية لنشر النفوذ الأميركي في العالم على اعتبار أن الأميركيين لم يوقعوا على المعاهدات التي جرت بعد الحرب العالمية الأولى وخصوصا منها معاهدة فرساي، لأنها تقسم السلطات في العالم على الدول العظمى، ولم تشأ أميركا أن تقبل بهذا التوزيع الذي لا يأخذ حصتها بعين الاعتبار.
بقيت جميع الأسباب مفتوحة لاشتعال حرب عالمية ثانية نشبت في ظروف مشابهة إذ أن أميركا لم تتدخل منذ البداية في الحرب بل دخلت عام 1941 بعد ضرب بيرل هاربير.
أرسلت الولايات المتحدة وحداتها إلى أوروبا لتشارك في إنزال النورماندي إلى جانب ما أنزلته في شمال أفريقيا واجتياحها لإيطاليا أي أنها أرسلت وحداتها إلى مناطق مختلفة من العالم. وقد نجم عن ذلك أن أصبحت أوروبا مدينة للأميركيين بفضل مشروع مارشال بعد أن وصلها الأميركيون منتصرون ومنقذون، كما أن الجندي الأميركي أصبح قوة عسكرية متواجدة على الأرض في العديد من دول أوروبا كما هو حال ألمانيا التي لم يخرج منها حتى الآن هذا إلى جانب إيطاليا واليونان وغيرهما. كانت الولايات المتحدة الأميركية متواجدة في القارة الأسيوية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى بوصولها إلى هاواي والفيليبين ونزاعاتها مع بعض الدول الأوروبية على مناطق من آسيا بشكل خاص ولكن الحرب العالمية الثانية عززت من هذا التواجد وجاءت لتؤكد سيطرتها على هذه المناطق.
على مستوى الجبهة الداخلية تكرر ما تعرضت له الأقليات العرقية في الحرب العالمية الأولى من مطاردة وقمع وتنكيل وممارسات عنصرية استهدفت ذوي الأصول الألمانية واليابانية الذين وضعوا في معسكرات اعتقال بعد إرسال أبناءهم للمشاركة في الحرب ضد اليابان وألمانيا. هذا إلى جانب القيود التي فرضت على الحريات ومطاردة المناضلين في سبيل الحقوق المدنية ودعاة السلام وغيرهم. ما يذكرنا بما يتعرض له العرب والمسلمين من اضطهاد مشابه بحجة محاربة الإرهاب.
مع انتهاء الحرب وعندما أوشكت اليابان على الاستسلام قذفت الطائرات الأمريكية قنبلتين نوويتين على مدينتي هوروشيما وناغاساكي فأودت بحياة مئات آلاف من المدنيين الأبرياء. حصل ذلك مع سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا وانهيار الامبراطورية اليابانية في أرجاء أسيا وتراجعها وانحسارها في الجزيرة اليابانية. أي أن أميركا أسقطت هاتين القنبلتين الجريمتين لتأكيد سيطرتها ونفوذها وحكمها المطلق في العالم. كانت الدفاعات اليابانية قد أنهكت حتى بلغت مرحلة يأس عبرت عنها بطائرات الكاميكازي الانتحارية التي أطلقها اليابانيون محملة بالمتفجرات لتصطدم بحاملات الطائرات العسكرية الأميركية الراسية حول أرخبيل اليابان، وكانت هذه العمليات قد بلغت ذروتها إذا لم تعد تسجل أي نجاح يذكر بعد الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها السفن الحربية الأمريكية هناك.
هناك عدة أسئلة يطرحها المؤرخون في هذا المجال، فلو لم يكن الهدف من القنبلتين إرهاب العالم وتأكيد نفوذ الولايات المتحدة وحكمها المطلق على العالم لماذا لم تستعن بالأسلحة التقليدية لإخضاع اليابان؟ لماذا لم تصغ إلى تأكيدات المسؤولين والمستشارين الذين أكدوا استسلام اليابان قبل نهاية عام 1945 حتى لو لم ينزل الجنود الأمريكيين إلى أرخبيل اليابان؟ وأخيرا لماذا قصفت ناغاساكي بالقنبلة النووية بعد هيروشيما إن كانت قنبلة واحدة تكفي لإقناع طوكيو بجبروت الآلة العسكرية الأمريكية؟
أدى قصف اليابان بالقنابل النووية عدة وظائف أساسية يبرز أهمها في فرض شبح الدمار الشامل على كل من تسول له نفسه عدم الخضوع لاملاءات الولايات المتحدة من أعداء محتملين وخلق إحساس بالتهديد الدائم لدى الحلفاء والأصدقاء بأنهم لن يجدوا الأمن والسلام إلا في حماية المظلة الأمريكية.
إلا أنها أعلنت بذلك بداية لسباق تسلح كانت له نتائج سلبية أسست لظروف المجاعة التي أصابت أعداد كبيرة من البشر كما هددت بوقوع حرب عالمية ثالثة إذ أن الأميركيين اعتقدوا حتى فترة طويل أنهم الوحيدون الذين يملكون هذا السلاح والقادرون على استعماله دون رادع من أحد.
وقد حدث فعلا أنهم في الحرب الكورية التي اشتعلت مع بدايات الحرب الباردة أرادوا أن يؤكدوا للعالم ويذكروه العالم بما لديهم من سلاح إبادة جماعية والحقيقة أنهم كانوا على وشك استخدامه ضد لائحة من خمسة عشر مدينة في العالم على الأقل لولا معرفتهم في اللحظات الأخيرة وتأكدهم بالوثائق والمعلومات المبينة التي أرسلها السوفيت يبينون فيها أنهم يملكون السلاح نووي وأنهم يستطيعون الرد على أي حماقة أمريكية بأشد منها. لا بد من التذكير هنا أن صناعة القنابل النووية والذرية بدأت تكلف مليارات المليارات وخاصة في تلك الفترة لما تتطلبه التكنولوجيا الحديثة من أبحاث ودراسات للتوصل إليها ومازالت حتى اليوم صناعة مكلفة ومع ذلك لدينا اليوم من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية أكثر من ثمانين مرة.
علما أن صناعتها كلفت ثروات تكفي لإطعام جميع ما عليها من بشر لمئات السنين ومع ذلك هناك 800 مليون شخص في العالم يعانون من الجوع حسب إحصاءات الأمم المتحدة. أي أنهم يستغلون ثروات العالم ويأخذونها من أفواه الناس ويسببون المجاعة في كثير من بقاع الأرض وتحديدا بين الأطفال، لترويج الصناعات النووية والعسكرية الأمريكية الهادفة إلى تأكيد هيمنة الولايات المتحدة على هذا العالم الذي تعرضه لخطر الفناء في آن معا.
وهكذا أصبحت الدول تطمح بعد ذلك إلى تعزيز أمنها القومي من خلال التسابق النووي على حساب الاحتياجات الاقتصادية لشعوبها. الحرب الباردة استغلت ظروف التجربة الشيوعية في العالم لإطلاق حملات مستمرة لضرب الحركات الديمقراطي بحجة أنها تشكل جزءا من مساعي السوفيت للسيطرة على العالم لابد من كبح جماحها وحماية العالم الحر منها كما كانوا يقولون، هذا العالم الذي تبين بوضوح أنه لم يكن ولم يعد
حرا، بل هو عالم أصبح بعد انهيار الشيوعية أسير المصالح الأمريكية الضيقة لا يملك من إرادته الوطنية الحرة أحيانا إلا العلم والنشيد الوطني.
أطلق الرئيس ترومان نظرية الحرب الباردة بعد توليه السلطة عام 1945، كما أعلن أيضا ما اتفق على تسميته بمذهب ترومان عبر جملته الشهيرة التي تقول: "سياستنا يجب أن تكون مساندة الشعوب الحرة التي تقاوم الإذلال الذي تفرضه عليها أقليّات مسلحة أو ضغوط خارجية". والحقيقة هي أن هذه النظرية لا تتعدى كونها مجرد استمرارية لمبدأ مونرو واستئنافا له، إذ يؤكد من جهة أخرى أن" الحفاظ على اقتصاد أمريكي متوازن وتمكينه من النمو يكمن في تشجيع إنماء الباقي" ما يعني ضرورة تحول البلدان الأخرى إلى أسواق تستورد المنتجات الأمريكية وتكون امتدادا لها.
ويقول ترومان في جانب آخر من خطاباتها" علينا أن نبحث في لابرادو وليبيريا عن المعادن اللازمة لحسن سير مصانع فولاذنا وعلينا استقدام نحاسنا من الخارج، لدينا نحاس في أريزونا وأوتاه ، لكننا لم نعد قادرين على الاستغناء عن نحاس تشيلي. وهناك القصدير في بوليفيا وماليزيا والكاوتشوك في أندونيسيا وبالطبع يمكننا إطالة اللائحة عن كل ما نحتاج إليه من بقية العالم".
هذه اللائحة من البلدان التي ذكرها الرئيس ترومان هي بعض من الدول التي تتعاون معها الولايات المتحدة لثلاثة أسباب أساسية، أولها أنها جميعا كانت موالية لواشنطن بطريقة أو بأخرى، ثانيا أن الشركات ورؤوس الأموال الأمريكية تتمتع بالنفوذ الاقتصادي الأكبر هناك لدرجة أنه يسيطر بنسبة عالية جدا على موارد ومقدرات البلاد، ثالثا سيطرة الولايات المتحدة على عناصر اللعبة السياسية بما يتوافق مع فرض مصالحها عنوة على الآخرين. ما حصل في تشيلي منذ إعادة الجيش عام 1925 حتى الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي في السبعينات، وما حصل في إيران منذ ما قبل الإطاحة بحكومة مصدقي وإعادة الشاه إلى السلطة، وما حصل في غواتيمالا منذ الإطاحة بحكومة هاكوبو أربينز المنتخبة ديمقراطيا وما تسببت به الولايات المتحدة من اضطرابات أودت بحياة مئات الآلاف من الفلاحين هناك، كلها أحداث تشير إلى الإصرار الأمريكي على الحضور الخفي والعلني الدائم والفعال في جميع المناطق لفرض مشيئتها على سيادة الشعوب. وكأن ترومان يعلق على ذلك بالقول: "نحن مضطرون إلى الاهتمام بالشعوب الأخرى.. لكي نحافظ على مسيرة برنامجنا الإنتاجي الخاص". ثم يضيف:" نحن لا نستطيع التطور ما لم يتطور العالم". وكأنه حريص فعلا على تطوير العالم، وكأن التطور هو إخضاع الآخر وفرض مصالحهم عليه.
كانت الحرب الباردة وسيلة أساسية لتعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم وكل ما شهدته الكوريتين وألمانيا والصين وأميركا اللاتينية والهند الصينية وحتى في أفريقيا والشرق الأوسط من تدخل أمريكي كان يتم تحت ستار محاربة التمدد السوفييتي.
أي شعب يطالب بحرية تقرير المصير واستقلاله الوطني وحرية التعبير عن ذاته واختياره الحر وهويته وحضارته كان يواجه اتهام العمالة للاتحاد السوفييتي ما يستدعي التدخل الأمريكي العاجل للقضاء على تطلعاته وتنصيب عملاء يضمنون السيطرة على ثرواته بحجة إنقاذه وضمه إلى العالم الحر. استمرت هذه السياسة على هذا الحال طوال الجزء الثاني من القرن الأخير حتى تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين، حين جاء سقوط الاتحاد السوفييتي ليعبر عن عدة مسائل أساسية أولها أن الاتحاد السوفييتي سقط بمساهمة من قوة حصار وضغوط الولايات المتحدة الأميركية والغرب، والمسألة الثانية هي أن انهياره قد ساهم في انتشار عصابات المافيا في الاتحاد السوفييتي السابق، ومسلسل الحروب العرقية داخله أو ضمن ما كان يعرف بيوغوسلافيا السابقة كما أدى إلى إضعاف روسيا اقتصاديا وسياسيا ما أضعف بالتالي دورها على الصعيد الدولي في كبح جماح الحملات التوسعية الأمريكية التي لم تجد بعد من يردعها.
ولكن سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية أكدت من جهة أخرى بأن الحرب الباردة أو الحروب التي كانت تتم في ظل الحرب الباردة لم تكن إلا وسيلة لإعلان الولايات المتحدة حروبها على بعض الشعوب والإطاحة بالحكومات وفرض الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية عليها، لأن السياسة الأميركية لم تتغير بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فما زالت رغم غياب مبررات محاربة الشيوعية تسعى للتمدد والانتشار والهيمنة والتوسع بإيجاد ذرائع مختلفة للهيمنة على العالم منها محاربة الإرهاب والدكتاتورية وانتصارا للديمقراطية والنظام الحر.
من السذاجة القول بأن الاتحاد السوفييتي وحده كان سببا لتلك الحروب والمؤامرات الأمريكية في الماضي فغالبا ما كانت تحل المسائل بين القوتين العظميين باتفاق ما بينهما. وقد اعتقد البعض في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة الأميركية ستخفف من عدوانيتها تجاه الشرق الأوسط إذ لم يعد هناك شيوعية تحاربها، وأنها ستبدأ بتحسين علاقاتها مع شعوب المنطقة وحكوماتها، وهذه سذاجة كبيرة لأن سقوط الاتحاد السوفيتي كشف عن إستراتيجية الولايات المتحدة في الاستفادة من إضعاف الخصوم وسقوط حلفائهم لتعزيز سياستها التوسعية في العالم.
حتى أن بعض السياسيين البارعين في منطقتنا أكدوا في تلك الفترة أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لن تعد أميركا بحاجة إلى إسرائيل كحارس لمنهاضة الانتشار السوفييتي في المنطقة العربية وأنها بالتالي ستخفف مساعداتها لإسرائيل وستقدم الدعم للدول العربية، وكانت النتيجة أن المساعدات الأميركية التي كانت تقدم لإسرائيل في العهد السوفييتي كانت بقيمة مليارين ونصف المليار أما اليوم وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتسكع روسيا في المحافل الأوروبية أصبحت أميركا تقدم لإسرائيل مساعدات سنوية تفوق الأربعة مليارات دولار.
أي أن الحروب التي شنت في ظل الحرب الباردة لم تكن إلا وسيلة لفرض سياسة الهيمنة والتوسع الأمريكية التي تعززت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بحجج وادعاءات أخرى توجت اليوم بحرب طويلة الأمد ضد الإرهاب إما أن نكون فيها مع أو ضد الولايات المتحدة التي أصبحت اليوم أشد شراسة وأكثر عدوانية وإصرارا على إخضاع الشعوب والهيمنة عليها.
العولمة الأمريكية هذا ما يؤدي إلى الخوض في آفاق النظام العالمي الجديد الذي يحدد لنا ملامح الإستراتيجية الأميركية المفروضة على العالم والتي بدأت بفرضها على العالم انطلاقا من سيطرتها على السكان الأصليين للقارة الأميركية. هكذا تتضح معالم النظام العالمي الجديد وتتجلى الإستراتيجية الأميركية بالسيطرة والهيمنة على العالم؟ لا شك أن العالم يتجه اليوم نحو نظام عالمي جديد نشأ في ظروف الهيمنة الأميركية المعززة بانتشار المجموعات والشركات العالمية الكبرى وصندوق النقد الدولي والديون الخارجية ومؤسسات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي غيرها.…
ولا يمكن لهذا النظام العالمي الجديد إلا أن يقوم على إلغاء جميع الحضارات وثقافات شعوب العالم واستبدالها بسيادة وسلطة الولايات المتحدة الأميركية وحضارتها التوسعية وثقافتها الاستهلاكية وعنصريتها التي ترفض الآخر حتى يتأمرك ويعترف بتفوق الجنس الأبيض الأنجلوسكسوني ويتفانى في خدمته.
هناك موالون يسعون إلى تجميل هذا الوجه الحضاري الأمريكي ويدافعون عنه باعتباره وجها للتقدم البشري، وهناك أيضا محاولات جدية لإثبات إمكانية بلوغ الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والتعبير عن الذات والهوية الشخصية وهذه كلها وقائع صحيحة قائمة أحيانا ما تشكل عقبة في وجه النظام العالمي الجديد على الطريقة الأمريكية. أما الإستراتيجية العامة التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية لتعزيز أواصر هذا النظام فيمكن أن نراه فيما تسعى إليه اليوم عبر تشتيت التجمعات العرقية الكبرى بدعم إقامة دويلات لها، هذا ما رأيناه في يوغسلافيا السابقة التي تنبري الولايات المتحدة الأميركية لحماية أقلياتها وتحاكم الذين قاموا بجرائم حرب من غير حلفائها وتشجع قيام دويلات منفصلة كالبوسنة وكرواتيا ومقدونيا وألبانيا وكوسوفو كما تسلح الشيشان متى أرادت الضغط على روسيا وتسلم زعمائها لبوتين متى أرادت عقد صفقة معه تتعلق ببحر قزوين أو بمسألة تواجدها في المناطق المجاورة لها.
تحدث الكثيرون عن دعم الولايات المتحدة الأميركية للشيشان وعن شحنات كبيرة من الأسلحة والعتاد التي وصلت إلى الثوار هناك من الولايات المتحدة مباشرة، وقد تناقلت الصحف بإسهاب أنباء الطائرة الخاصة بالسفارة الأمريكية في موسكو والتي استغربت الاستخبارات الروسية في عهد الرئيس بوريس يلتسن الكميات الكبيرة التي كانت تحملها من الملابس والعتاد العسكري، لتؤكد لاحقا أنها تتوافق مع تلك المستخدمة من قبل ضباط ومقاتلي الشيشان. هذا إلى جانب حربها المستمرة في أفغنستان ومحاولاتها الهادفة للتواجد في الهند بعد الباكستان لمحاصرة الصين والعمل على إثارة القلاقل فيها ولا غرابة في دعمها لإقامة دويلات صغيرة في أي مكان من العالم بغض النظر عن هويتها وقوميتها. فهذه هي إحدى الإستراتيجيات الأساسية التي تسعى إليها الولايات المتحدة الأميركية لتسهيل تواجدها الجغرافي وسيطرتها على العالم.
لا يمكن أن نقلل من أهمية سعي الشعوب لحماية هويتها ولكن شراسة الهجمة الأمريكية تؤدي إلى الإذعان لكثرة الضغوط الممارسة من جميع الاتجاهات، فما تسعى إليه الولايات المتحدة اليوم هو تعزيز الحروب الداخلية في جميع المناطق لإضعاف عناصرها كما أنها تعزز الحكومات العسكرية والسلطات الغير مشروعة لإبقائها رهينة لديها كما يحدث في الباكستان وبعض بلدان أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. هذا ما نراه اليوم في السلطات العسكرية والدكتاتورية التي تدعمها في مختلف أنحاء العالم، رغم ما تدعيه الولايات المتحدة من دعم للديمقراطية. المؤسسات الدولية أدوات نفوذ "سلمية"
ما زالت السياسة الأميركية تركز على سلسلة من أدوات الهيمنة التي أخذت تعدها منذ بدايات الحرب الباردة في نهاية الأربعينات وما زالت تستعين بها لمواجهة أي بلد يتردد في إرضاء المصالح الأمريكية على حساب مصالحه.
تقف هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمني الدولي وما يتفرع عنهما من مؤسسات دولية على رأس هذه الأدوات ثم يليها حلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي والمعاهدات الدولية الكبرى ووسائل الدعاية والإعلام والثقافية على أشكالها هذا إلى جانب اعتمادها على أجهزة الاستخبارات وعصابات الجريمة المنظمة مافيا الأمريكية وغير الأمريكية المنتشرة في العالم ، والتي لها سنخصص فصلا خاصا. بدأ العمل بميثاق الأمم المتحدة في تشرين أول أكتوبر من عام 1945 بعد أن جرت صياغته بإشراف الرئيس روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية فجاء ثمرة استراتيجية أمريكية بعيدة المدى، أما مجلس الأمن فجاءت أنظمته لتحد مسئوليته في حفظ السلام كما ورد في المادة 39 التي تنص على أن من صلاحيته التدخل كلما تهدد السلام، ولكن هذه المادة تتضمن نمطان من العمل الأولى وهي المادة 41 بعدم استخدام القوة والثانية 42 التي تدعو لاستخدام القوة. عادة ما تفشل جميع مهمات الأمم المتحدة ذات الصلة بالأمن الدولي إلا إذا كانت تمس مصالح الولايات المتحدة كما حصل في حرب الخليج حين أصرت واشنطن على جر العالم أجمع على التحالف ضد العراق لتثبيت أقدامها في الجزيرة العربية والبقاء قريبة من آبار النفط.
حتى في الحالات التي لا يتم الإجماع عليها كما هو حال الحالة الليبية التي تطلبت الرجوع إلى محكمة العدل الدولية التي لم تتدخل بل تركت الأمر مفتوحا لأصحاب النفوذ الدوليين فكانت النتيجة أن قامت الولايات المتحدة بقصف طرابلس الغرب موقعة عددا من القتلى والجرحى كانت من بينهم ابنة الرئيس معمر القذّافي. علما ان مجلس الأمن لم يتدخل أثناء الغزو التركي لقبرص عام 1974 وأوقع 3000 قتيل في الجانب اليوناني وحده، كما لم يتدخل عند اجتياح اندونيسيا لجزيرة تيمور عام 1975 متسببا بسقوط أكثر من مائة وخمسين ألف بين قتيل وجريح، بل على العكس من ذلك قدمت الحكومات الأمريكية المتعاقبة مليارات الدولارات على شكل مساعدات عسكرية واقتصادية مختلفة.
من الأدوار المشينة التي لعبتها الأمم المتحدة بين عامي 1959 و1960 تلك التي قام بها رسميو هذه الهيئة الدولية بالتنسيق الوثيق مع سفارة الولايات المتحدة بالتهجم على مركز حكومة باتريسيو لومومبا التي سعى الأمريكيون لزعزعتها وإسقاطها الذي تم بتشجيع أمريكي أدى إلى أزمة دستورية أغرقت البلد في حالة من الفوضى المصطنعة.
وكان رئيس عملية الأمم المتحدة في الكونغو أندريو كورديير الذي حمل الأوامر من واشنطن إلى المنظمة الدولية، وبعد اغتيال لومومبا على يد السي أي إيه علق موبوتو البرلمان والدستور ودعم الرئيس كندي ترشيح النقابي كيريل آدولا لمنصب رئيس الوزراء نظرا لتأييده المواقف الأمريكية، فاجتمع البرلمان برئاسة الأمم المتحدة في تموز يوليو من عام 1961.
كما قامت قوات الأمم المتحدة بمحاصرة المبنى لمنع أي تأثير خارجي معاد لمساعي الولايات المتحدة الهادفة للمجيء بحكومة موالية لها، فحفرت نفقا يربط البرلمان بخارجه مرر من خلاله الرئيس المحلي لوكالة السي أي إيه مغلفات دولارات مخصصة لشراء |أصوات النواب، وقد لعب دور الوسيط في هذه العملية من الداخل الموظف الكبير في الأمم المتحدة محمود خياري.
الحلف الأطلسي
درع توسعي
أعلنت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب في ألمانيا عزمها على ضم المناطق العسكرية الغربية الثلاث لبرلين في منطقة واحدة ما أثار حفيظة السوفييت فردوا بمحاصرتها، ما أقلق أحد عشر بلدا أوروبيا سارعت في نيسان أبريل من عام 1949 إلى توقيع ميثاق الأطلسي الذي فرضت الولايات المتحدة نفسها عليه بوصفها القائدة الوحيدة للحلف نظرا لاحتكارها السلاح النووي إلى جانب ما كانت تقدمه إلى الحلف من مساعدات عسكرية ضرورية.
رغم الإصرار الأوروبي الخجول على مواجهة التفرد الأمريكي بالناتو والذي غالبا ما كان يقتصر على الرئيس الفرنسي الراحل شارلز ديغول، إلا أن الأزمة الألمانية والحرب الكورية وأزمة الصواريخ في كوبا وغيرها من أزمات الحرب الباردة عززت المكانة القيادية للولايات المتحدة على رأس الحلف.
لا شك أن عولمة الحلف الأطلسي قد تعززت بعد تعديلات عام 1956 رغم الممانعة الديغولية ما أدى إلى تأكيد الهيمنة الأمريكية على الحلف جعلت من الجيوش الأوروبية مجرد أركان دولية ترأسها أمريكا التي حصلت من خلال الحلف على مكاسب في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وأصبحت قادرة على ابتزاز الأعضاء الأوروبيين والتلاعب بالتسهيلات والعراقيل النقدية والتجارية، مهددة عند الضرورة بخفض حصتها في تقاسم الأعباء والنفقات. أما على الصعيد السياسي فإن الأعضاء لا يقومون إلا بالموافقة على القرارات المتخذة في البيت الأبيض. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة أخذت الولايات المتحدة تعمل تأكيد سيادتها على العالم، وقد جاء تقريري الأميرال جيرما وبول ولفويتز اللذان رفعهما البنتاغون إلى الرئيس بوش الأب عام 1992 ليؤكدا صراحة ضرورة" توسيع الهيمنة الأمريكية على كل الأرض، وبكل الوسائل العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية اللازمة.
كما أضاف التقريران ضرورة أن يمتلك الجيش قوة نووية قادرة على التدخل ضد أي خصم كان، ووحدات تتمركز في اليابان وكوريا لمواجهة القوات النووية والتقليدية الصينية ومراقبة الشرق الأقصى الروسي وكوريا الشمالية، وقوة طوارئ مستعدة للتدخل السريع أينما استعدت ذلك المصالح الأمريكية. هذا ما تبناه الرئيس كلينتون عندما أعاد تنظيم حلف شمال الأطلسي وعزز سلطة القيادة العليا للتحالف في اوروبا وسلم الضباط الأمريكيين كل المراكز الأساسية فيها. ثم عادت هذه الهيمنة على الحلف لتتعزز من جديد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر وما شهدته أفغانستان من حملة عسكرية أكدت على الزعامة الأمريكية المتفردة بحلف الأطلسي.
مؤسسات هيمنة اقتصادية
تؤسس بنية صندوق النقد الدولي لهيمنة الولايات المتحدة بما لا يحتمل التأويل، فهو يتشكل اليوم من 140 عضوا يقدم كل منهم مساهمات مالية تتوافق مع حصته في التجارة العالمية، تتمتع واشنطن بما يقارب ربع الأصوات إلى جانب حق النقض وأكثرية فعلية تمكن عدم البحث والتصويت إلا في المسائل التي تريدها.
يعني ذلك أنه لا يمكن إطلاقا تمرير أي مشروع لا يخدم الأهداف السياسية والاقتصادية الأمريكية وأن السيولة لا تمنح لأي بلد إلا بقدر التزامه بإعداد ظروفه التجارية والاقتصادية لاستيعاب المنتجات الأمريكية وتصدير مواده الخام إلى الولايات المتحدة وتنفيذ برنامج نهوض لبرالي صارم مهما كلفت عواقبه الاجتماعية من أثمان.
أضف إلى ذلك أن أعلى نسبة من عمليات صندوق النقد الدولي تعود بالمنفعة على الولايات المتحد منذ تأسيسه ذلك أن قيمة حقوق الاصدارات الخاصة بكل بلد كانت تحدد بالنسبة إلى الذهب الذي تملك واشنطن أول احتياطي منه في العالم، ثم قبلت عام 1974 إلى ربطه بسلة من العملات يحتل منها الدولار نسبة 43% ثم طرأ تغيير آخر على الدور المناط بحقوق الاصدارات عام 1978 ليبقى الدولار الوسيلة الأكثر استعمالا والتي بلغت ستة أضعاف ما كانت عليه من قبل. تأسس المصرف الدولي للعمل على تحويل البنى الاقتصادية الوطنية تدريجيا إلى سوق التبادل الحر والاقتصاد المعولم الذي تسوده الولايات المتحدة، وهو يحصل على رؤوس أموال من البلدان الأعضاء وفقا لحجمها الاقتصادي الذي يحدد بدوره عدد الأصوات التي تمتلكها هذه البلدان كما هو الحال في صندوق النقد الدولي.
وهكذا فإن واشنطن تملك الأغلبية المطلقة في كلا المؤسستين المصرفيتين، ما يعني أن القروض تمنح من خلالها تقاس أولا بضمانات إنتاجيتها المالية دون الخروج عن الأساس الأيديولوجي الذي تنطوي عليه مبادئ السياسة الأمريكية التي عادة ما تضع لائحة من الشروط المسبقة تسميها بخطط التكييف البنيوي.
عادة ما تتلخص هذه الشروط بتحرير الأسعار وخفض العملة الوطنية والنفقات العامة وتجميد وخصخصة المرافق العامة الرئيسية في البلد. ولكن هذه الشروط عادة ما تؤدي إلى تزايد البؤس وتهميش المزيد من الفئات الاجتماعية في هذه البلدان إلى جانب زعزعة الدولة وجعلها عاجزة عن تحقيق إرادتها السياسية المتطابقة مع المصلحة العامة للوطن.
فتحرير الأسعار يؤدي بالضرورة إلى ارتفاعها وحرمان الغالبية منها، كما يتسبب خفض العملة برفع أسعار البضائع المستوردة الأساسية للسكان، بينما يفاقم تجميد الأجور التضخم الناجم عن تحرير الأسعار ويساهم مع خفض النفقات العامة في تعززي انعدام الكفاءة ونشر الفساد في المؤسسات الحكومية.
يكفي اليوم إلقاء نظرة عابرة على بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية على وجه الخصوص كي نتأكد بأن آثار مخططات صندوق النقد الدولي تندرج في نطاق آليات المنظمة الدولية للتجارة، وكل ما يسودها من يأس اقتصادي يشكل جزءا من أعراض نشر مبادئ الهيمنة ا|لأمريكية في العالم.
عملت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على عقد مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات مع بقية بلدان العالم تندرج جميعها ضمن مبدأ تسهيل الهيمنة الأمريكية من خلال تسخير الروابط السياسية لخدمة فرض المصالح الاقتصادية الأمريكية.
وقع أبرز هذه الاتفاقيات مع بلدان المجموعة الأوروبية التي وضعتها خطة مارشال على طريق الإلحاق والتبعية الذي يسير باتجاه واحد لا رجعة عنه، فبعد حفنة من المؤتمرات المتعاقبة جرى التوقيع على سلسلة من الاتفاقيات التي تقيد الأوروبيين ولا تلزم الولايات المتحدة بشيء يذكر.
وقد شهد عام 1948 التوقيع على ما يعرف اليوم بالمعاهدة العامة للتجارة والتعرفة (GATT)
وقعت هذه المعاهدات لتكون عائقا في وجه كل محاولة أوروبية لانتهاج طريق عن ذلك الذي رسمه الأمريكيون، علما أن عواقبها كانت وخيمة على مختلف الصعد، فقد أدت في المجال الزراعي إلى خفض الانتاج الأوروبي من الفاكهة والخضار والحبوب وذلك في أثناء زيادة حصة الانتاج الأمريكي الزراعي المخصص للتصدير إلى الأسواق العالمية. يتطلب السعي الأمريكي للسيطرة الكاملة على أسواق التغذية توقيع معاهدات ترمي إلى تدمير القوة العالمية في هذا المجال، فالزراعة المصرية التي كانت في الماضي توزع القمح على جميع البلدان المجاورة في سنوات الجفاف أصبحت اليوم تستورده من الولايات المتحدة، كما تتعرض الزراعة الفرنسية لتبوير متصاعد لم تعد فيه قادرة على تزويد سكانها بما يكفيهم لأكثر من ثلاثة أسابيع في حال نشوب أزمة ما، في حين تمتلك واشنطن بالمقابل50% من السوق العالمية للقمح وحده.
وسائل إعلام تروج للأمركة
تعتبر وسائل الإعلام من أهم الأسلحة في العولمة الأمريكية ذلك أنها تعمل من خلال التضليل والتسلية والترفيه على تجمل وجه الهيمنة الأمريكية ونفوذ الولايات المتحدة وتسعى لإقناع الجميع بأن هذا هو الوجه الحضاري الأرقى في العالم. تستخدم الولايات المتحدة هذه الأدوات لتبرير هجماتها وشراستها في العالم وذلك بوسائل عدة لا تقتصر على الصحافة وحدها بل تعتمد على أكبر وكالات أنباء وأوسعها انتشارا وعلى أكبر مصانع سينما في العالم حيث تتراوح نسبة ما يراه المشاهد اليوم من أفلام سينمائية أمريكية بين ثمانين إلى تسعين بالمائة من مجموع ما يراه من أفلام في العالم. هذا إلى جانب انتشار المحطات التلفزيونية الموجهة من خلال المعلن الهادف لفرض حضارتها الاستهلاكية على العالم. تلعب وسائل الداعية والإعلام والثقافة التابعة للولايات المتحدة أو المرتبطة بها دورا أساسيا في سياسة التوسع والهيمنة الأمريكية وذلك بالترويج لهذه السياسة وتعبئة الشعوب وإعدادها للاعتراف بالتفوق "الحضاري" وقبول ملامحه كحقيقة واقعة بعناصرها التي كادت تصبح محببة في مساحات شاسعة من العالم.
ولا شك أن الإعلام الأمريكي قد حقق نجاحا كبيرا في هذا المجال رغم التدخل العسكري الدائم خارج حدودها، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد تمكنت من خداع قطاعات واسعة من الشعوب بما يتناسب مع فرض مصالحها انطلاقا من خبرتها الطويلة وأجهزتها الإعلامية المتشعبة والمنتشرة في جميع أرجاء العالم، إلى جانب ما تقدمه من دعم مالي للمؤسسات الصحفية الرسمية وغير الرسمية، خصوصا في فترات التوتر كتلك التي سبقت ورافقت العدوان الأمريكي على العراق واجتياح أفغانستان أو ما سبقهما من اعتداءات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم. نشأت الأجهزة الإعلامية الرئيسية في الولايات المتحدة في أجواء التوسع الجغرافي والتدخل العسكري، فقد ولدت وكالة أسيوشتيدبرس الصحافية مثلا في فترة استيلاء واشنطن على أكثر من نصف مساحة المكسيك، ثم تلتها وكالتي يوناتيد بريس أسوسيشين وإنترناشيونال نيوز سيرفيس بين عامي 1907و 1909، وهي الفترة التي تعزز فيها التدخل العسكري في حوض الكاريبي وأمريكا الوسطى على وجه الخصوص. أما اليوم فقد أصبحت وكالات الأنباء الأمريكية بالتعاون مع تلك التي تدور في فلكها تغطي وتراقب حوالي 90% من البث الإعلامي في العالم أجمع. كما تعتمد واشنطن على شبكة من المجلات والصحف وشبكات التلفزة واسعة الانتشار في العالم كما هو حال نيويورك تايمز ونيوزويك والتايم وCNN وABC وNBC كما أخذت منذ ما بين الحربين تحتل مكانة مرموقة في صناعة السينما التي ساعدتها في التسلل إلى العقول باللغة والثقافة والآداب والإقناع دون التخلي عن القوة العسكرية الضاربة.
كما يلعب المؤسسات الإعلانية الأمريكية والشبكة العالمية المتعاونة معها دورا خطيرا في الترويج للرؤية الأمريكية التي تستخف بجميع القيم الإنسانية والتاريخية التي لا تقاس بالمعايير التجارية وعبارات السوق. أخذ إنتاج هوليود يسيطر اليوم على العروض السينمائية في العالم بحيث أصبحت نسبة الأفلام الأمريكية التي نشاهدها تزيد عن 80% مما تعرضه صالات العرض أو المحطات التلفزيونية في العالم، والأمر لا ينطبق على العالم الثالث فحسب بل يشمل أوروبا أيضا حيص تحتل الأفلام الأمريكية هذه النسبة نفسها إلى جانب أن شركات التوزيع الخمسة الأولى في أوروبا هي شركات أمريكية لا تتورع عن اللجوء إلى أسلوب البلوكبوكينغ الذي يلزم الشاري بسلسلة من الأفلام الرديئة مع كل فيلم رئيسي يريد الحصول عليه. لا تقل شبكة التلفزة شأنا على السينما إذ تصل CNN
تروج هذه الشبكة الدعائية الهائلة يوميا لفكر توسعي أمريكي لا يقتصر على الميادين السياسية والعسكرية فحسب بل يسعى إلى تشويه التاريخ والفلسفة ويستخف بالتقاليد والأعراف بل ويخوض في تفاصيل حياتنا اليومية فهو لا يعمل على أمركة حياتنا اليومية بما نشاهده عبر صالات العرض السينمائية أو الشاشة الصغيرة في غرف نومنا بل يتعدى ذلك ليمس ما نأكل وما نشرب وما نرتدي من ملابس أيضا. فرغم انتشار شبكات الفلافل والشاورما واللحم المشوي في بلادنا كأطباق سريعة تتناسب مع إيقاع الحياة المتسارعة في المدن، نجد أن شبكة مطاعم هامبرغر ماكدونالد و KFC
وعادة ما تأتي هذه الوجبات المرغوبة جدا بين الأجيال الجديدة مرفقة بالكوكا كولا والبيبسي أو غيرها من المشروبات الغازية الأمريكية التي تقيم مصانع لها في الغالبية العظمى من بلدان العالم وخصوصا منها ذات الأجور العمالية الرخيصة والضمانات الصحية الاجتماعية المعدومة لتصنع هناك وتصدر إلى بلدان أخرى. ينطبق هذا على أنماط مختلفة من العلكة وألواح الشوكولاته وموسيقى الروك وملابس الجينز التي ألغت كل الألوان والقصات والأزياء لتعكس زي أمريكي موحد استوحي من رعاة البقر في الولايات المتحدة لتوليف الأذواق وخلق ذهنية بسيطة ترفض الذات وتعدديتها الثقافية، وهذا ما نراه اليوم في المدارس الثانوية والجامعات حيث يرتدي غالبية الشبان والشابات على حد سواء جينز رعاة البقر بلونية الأزرق والأسود. هذه صورة لم تكتمل بعد لما يسعون إليه من إذعان عالمي للمعايير الاستهلاكية الموحدة ألغيت من خلالها أطباق استغرق الوصول إليها آلاف السنين من المهارة المطبخية وأزياء لها تاريخ من الثقافة والتقاليد والمعتقدات الدينية والفلسفية، ساخرة بكل القيم التي لا يمكن التعبير عنها بالكمّ والثمن ولغة السوق والتبادل التجاري. يأتي هذا التسلل الثقافي مترافقا مع استيطان المجموعات الاقتصادية الأمريكية في بلد ما ليصفي منافسيه العاملين في الصناعات المحلية تماما كما يعمل على الصعيدين العسكري والسياسي، أي أن هذا العمل يأتي مترافقا ومكملا للمساعي والمشاريع التوسعية على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأدبية وغيرها دون أن يغفل جانبا من جوانب الحياة اليومية للجنس البشري.
إلى متى؟
رغم الحجم الهائل لهذه الهجمة الأمريكية الشرسة فهي تقابل عدة أشكال من المقاومة في أنحاء مختلفة من العالم وهي على عدة مستويات، منها ما نراه في آسيا حيث تمكنت الولايات المتحدة من الاعتماد على النظام الياباني الذي هو من صنع الولايات المتحدة أصلا والذي أرادت منه مع كوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية أن يكون نقطة ارتكاز للسيطرة على بقية أنحاء آسيا، وقد نمّت التجارة والصناعة هناك بما يخدم تمويل التواجد الأميركي هناك، ما أدى إلى قيام اليابان الوسيط الذي يسهل بالتعاون مع كوريا الجنوبية التوسع الأمريكي في المنطقة. ولكنا نلاحظ أن لدى اليابان اليوم مشاريعها وتطلعاتها المختلفة إلى حد كبير بما يتنافس وقد يختلف في بعض الأحيان مع المصالح الحيوية الأميركية هناك.
إلا أن هذا التباين الخجول لا ينطبق نهائيا على ما أصبحت تشكله الصناعات والبضائع الصينية بأعدادها وأسواقها الهائلة في الجوار، كما ترى واشنطن بعين الحيطة والحذر ما لديها من طموحات وتطلعات تجارية واقتصادية وقومية خاصة بها وهي تصر على التعبير عنها، بما يتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
ينطبق هذا الحال على الهند التي أصبحت من أهم الدول التي تسعى بقوتها البشرية الهائلة وتقدمها الصناعي والتكنولوجي للحفاظ على هويتها والتوسع بأسواقها نحو تحقيق إنجازات هائلة على المستوى التجاري، وقد تمكنت من الوصول إلى أسواق منافسة هامة إلى جانب الصين وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها. ولا شك أن اجتياح أفغانستان والتواجد العسكري الأمريكي في بلدان الاتحاد السوفيتي السابقة إلى جانب الفلبين التي تحايلت على القوانين التي تمنع تواجد قوات أجنبية فيها لتدعي أنها وحدات تدريب تستهدف من خلالها استعادة التواجد العسكري الذي فقدته بعد خروجها من فيتنام ومن القواعد الفلبينية السابقة.
تدرك الصين أنها مستهدفة بالتواجد العسكري هناك ولكن مخاوفها حركات التحرر في المناطق الإسلامية في الصين إلى جانب ابتزاز الولايات المتحدة لها بقضية التيبت يجعلها تسكت عن هذا التواجد خصوصا وأنها تدرك عدم قدرتها على منعه، إلى أنها تعمل على تعزيز تحالفاتها الإقليمية مع بلدان آسيا المجاورة وروسيا التي لها ظروف مشابهة للصين.
وصل التواجد العسكري الأمريكي في أراضي الاتحاد السوفيتي السابقة إلى حدود داغستان وجيورجيا ما يشكل تهديدا للأمن القومي الروسي، ما دفع روسيا لسلوك الطريق الصيني في تعزيز التحالفات الإقليمية دون تفويت الفرصة في الاستفادة من التواجد الأمريكي هناك للتعاون مع واشنطن في القضاء على حركات التحرر الشيشانية التي كان بعضها يتلقى دعما أمريكيا مباشرا.
كما نرى التعبير عن رفض السياسة التوسعية الأميركية عبر أشكال مختلفة في القارة الأفريقية التي أكدت رفضها للهيمنة الأمريكية بـأشكال وحدوية رمزية عبرت عنها عبر اجتماعات الوحدة الأفريقية والتي كان آخرها إعلان دوربان للوحدة في تموز يوليو من عام 2002.
هذا إلى جانب المساعي الأوروبية العاملة على التباين عن الموقف الأميركي خصوصا على الساحة الدولية، ما انعكس مؤخرا في حالة المحكمة الدولية الدائمة التي رفضتها الولايات المتحدة وإسرائيل، هذا رغم التقارب في الرغبات التوسعية والهيمنة وإخضاع الآخرين.
أي أن التباين الأمريكي الأوروبي رغم أهميته في مواجهة الأطماع التوسعية الأمريكية وكونه يعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومقارعة الجنرال ديغول لهذه الأطماع، إلا أنها قد لا تختلف كثيرا عنها في العمق، فلا شك أن هذه التباينات لا تتعدى الاختلاف على حصة كل طرف من الهيمنة على العالم.
أما العالم العربي والإسلامي فهو أسير حملات عسكرية متتالية تشغله في نزاعات داخليه تحول دون استقراره الداخلي وتوحد صفوفه للدفاع عن هويته وكيانه ونظامه السياسي ضد الهجمات الأمريكية التي أصبحت النخبة فيه تدرك مدى خطورتها عليه. لا تتمثل هذه الخطورة في الدعم الأمريكي اللامحدود للكيان العنصري الصهيوني في إسرائيل فحسب بل وفيما تقدمه من دعم للمجموعات التي تهز الاستقرار في الجزائر، والاعتداءات العسكرية الدائمة على العراق، وشق الصف العربي بالاعتماد على حفنة من الأنظمة التي لا يقل تعاونها مع واشنطن عن وقوف بعض الحكومات الأوروبية معها حتى ولو كان ذلك على حساب مصالحها القومية، هذا إلى جانب الإعداد لمشاريع تقسيم جديدة تعزز سيطرتها المحكمة على منابع الثروة النفطية في المنطقة، وهذه مسألة تستحق البحث المطول في فصل خاص بها سنعود إليه لاحقا. رغم ذلك تشهد بعض التحالفات الإقليمية لدينا أشكالا من النجاحات المتعثرة التي تعد بما يخدم مصالح هذه الأمة من المحيط إلى الخليج. ومنها ما نلحظه من تنشيط ولو بطيء لمنظمة التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي وجامعة الدول العربية، هذا بالإضافة إلى ظهور خطوات نسبية محسوسة من التعاون الاقتصادي الواعد بين الدول العربية، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر.
إن دلت هذه التفاعلات المحتدمة الآن بين واشنطن وهذه المجموعات الإقليمية على شيء فهي تدل على أن الولايات المتحدة الأميركية ستزيد الآن من تركيزها على صناعة الأسلحة وترويجها وتعزيز دورها في الهيمنة العسكرية على العالم. لا يمكن لهذه الحملات العسكرية أن تدوم طويلا بعد الحرب الباردة إلا بخلق عدو هائل يهدد الأمن والاستقرار الدوليين، كما هو حال ما تدعيه الآن من مواجهة الإرهاب الدولي، ولكن إلى متى تستطيع الولايات المتحدة الأميركية وضع كل بيضها في سلة واحدة، هي سلة الحرب أو صناعة الحروب والدور العسكري والشرطي الوسيط المهيمن على هذا العالم؟ هذه مسألة ما زالت قيد البحث. =-=-=-=-=-=-نهاية الفصل السادس. © 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف
[مقدمة اولى]
[مقدمة ثانية]
[مقدمة ثالثة]
[مقدمة رابعة]
[ملخص الكتاب]
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م