اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 كتاب "ملف الإنقلابات في الدول العربية المعاصرة" الفصل الثاني
 

المشهد الإقليمي وراء الانقلابات

 

 

تميز المشهد السياسي الإقليمي مع بدايات النصف الثاني من القرن الماضي بمجموعة عوامل كانت على احتكاك وتفاعل دائم فيما بينها وكان لها دور رئيسي في رسم وتحديد جانب هام من المسار التاريخي لهذه المنطقة، وتحديداً الجانب المتعلق بما شهدته من انقلابات، إلاّ أن تلك العوامل لم تكن تعمل وحدها أو منفردة على هذه الساحة بل كانت تتأثر على الدوام بأجواء الحرب الباردة التي ألهبت الجوار منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك لو وضعنا الجانب المتعلق بالنفوذ الخارجي وظروف الحرب الباردة جانباً، كي نعود إليه في وقت لاحق، لوجدنا أن المعطيات الإقليمية السائدة في تلك الفترة كانت كفيلة بلعب دور رئيسي أخذته المراجع العربية والوثائق الغربية بالحسبان، ولو أن كل منهما تعامل معه من وجهة نظر مختلفة، وهذا ما سنستعرضه في الفصل التالي.

تكمن أولى العوامل الإقليمية التي نتحدث عنها بما كان للموجة القومية والناصرية والإحباط السائد جراء هزيمة الجيوش العربية في فلسطين من دور إقليمي واسع النطاق، أسهم في كثير من الحالات بإثارة الاضطرابات وأعمال العنف والمخاوف لدى القوى الإقليمية والمحلية المختلفة مما يمكن أن يجلبه عليها من ويلات، أقله حرمانها مما تتمتع به من امتيازات ما كان أحد لينافسها عليه في داخل الإقليم العربي الواحد.

هذا ما ينطبق على ما شهدته كل من سوريا والعراق وليبيا والجزائر من انقلابات لا يمكن التنكر فيها لما كان للناصرية وموجة القومية العربية من تأثير فيها، حتى السعودية التي كانت تقف مع الناصرية في عهد الملك سعود بن عبد العزيز أخذت تتبع سياسة إقليمية مختلفة في عهد خليفته الملك فيصل الذي بدأ يستشعر القلق القادم من المدّ القومي وما يشكله من تهديد على الحكم الوراثي للعائلة المالكة.

ولم يكن لوقوف الملك سعود بن عبد العزيز إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر أن ينبع من المشاعر القومية التي كانت تجتاح المنطقة فحسب بل كانت له حسابات أخرى هي أقرب إلى شعور الأسرة السعودية المالكة بالقلق من اتساع الرقعة الجغرافية التي أخذت تسيطر عليها الأسرة الهاشمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لما ساد بين الأسرتين من خصومة تعود إلى بدايات القرن الماضي.

هذا ما يقودنا إلى العامل الرئيسي التالي في الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة، والذي يكمن بسعي الأسرة الهاشمية إلى استعادة سلطتها على سوريا بإعادتها إلى العرش الهاشمي، وإصرار هذا الأخير على تشكيل ما عرف حينها بدولة الاتحاد العربي، حيث بذل رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد باشا الغالي والنفيس، كما دفع أموالاً طائلة لإثارة الانقلابات في سوريا وحرك قطاعات من الجيش لحماية العرش في الأردن، وبلغ حد التباين الشديد مع حلفائه البريطانيين لإقناعهم بالسماح له بضم الكويت إلى اتحاده الحلم.

تظهر الوثائق الغربية والأدبيات السياسية أيضاً أن الموجة القومية والمخاوف السعودية والأطماع التوسعية الهاشمية ترافقت في تلك الفترة مع تشكيل أحزاب ومنظمات وحركات سياسية تخطت الحدود القطرية وأسست فروعاً لها في بلدان عربية مختلفة، وهو ما انطبق على المنظمات الإسلامية كحركة الإخوان المسلمين التي انتشرت وما زالت في كثير من الدول العربية، والأحزاب القومية كحزب البعث العربي الاشتراكي وما أقامه من فروع في العديد من البلدان العربية رغم انشقاقها اللاحق وتأسيسها منظمات حزبية مستقلة عن بعضها البعض. هذا بالإضافة إلى الأحزاب الشيوعية التي كانت تغطي عدداً لا بأس به من بلدان المنطقة.

والميزة في هذه الأحزاب جميعها أنها تأسست من فرع واحد وأنها في بدايتها على الأقل كانت تتبع قيادة وتسعى لأهداف مشتركة، وبالتالي فسوف نرى لاحقاً في هذا البحث أنه حينما يقوى حزب البعث ويتمكن من الاستيلاء على السلطة في العراق نجد أصداء مشابهة له في سوريا، حيث نجد انقلاباً مشابهاً، أو انقلاباً آخر في السودان يقوده عسكري آخر ربما كان بعيداً عن البعث ولكن الحجة القومية كانت حاضرة هناك.

أما العسكريون فتجمع الوثائق والأدبيات السياسية على أنهم كانوا العامل النشط والفاعل الرئيسي بامتياز في تلك الوقائع، إذ كانوا دائماً على أهبة الاستعداد لتلبية نداء التحالف مع خصوم الغد والانقلاب على حلفاء الأمس، جاهزين للاستفادة من القوة التنظيمية لتلك الأحزاب بامتداداتها الجيوسياسية اللازمة لنجاح الحركة الانقلابية وضمان استمراريتها، والاعتماد على الدعم المعنوي واللوجستي أو حتى العسكري التي توفره القوى الإقليمية لهذا الغرض.

شاءت الأقدار أن يكون للأسرة الهاشمية نفسها دور في الانقلاب الذي أطاح بعرشها في بغداد، ذلك أن الفرقتان اللتان كانتا متوجهتان لتدعيم حكم الملك حسين في عمّان قد غيرتا اتجاههما وتوجهتا للاستيلاء على مقر الحكومة والقصر الملكي في بغداد. وهذا ما تؤكِّده واحدة من أبرز الوثائق التي تتحدث عن دور وأهمية الظروف الإقليمية في حصول الانقلاب العسكري الذي أطاح بالأسرة الهاشمية في العراق عام 1958 وذلك تقرير صادر عن وزارة الخارجية البريطانية حول الوقائع التي رافقت تلك الأحداث في 22/8/1958، وقد كتبها مايكل رايت السفير البريطاني في بغداد، ليشرح من خلالها كيف جرى ذلك الحدث التاريخي الهام مستهلاً تقريره بالقول إن فرقتين من القوات العراقية كانتا في طريقهما إلى الأردن في 13/7/1958، لمساعدة حسين، (الملك الأردني)، لوقف مؤامرة ضده، لكن الفرقتين العراقيتين بقيادة قاسم، (عبد الكريم قاسم)، الذي أراد الإطاحة بالنظام الهاشمي منذ 1956، قد حول القوات إلى بغداد وحاصر القصر فجر 14/7/1958.

سرّي

هذه الوثيقة أولوية لحكومة جلالة الملكة

وزارة الخارجية ومكتب توزيع وايت هول

العراق 22-8-1958

الثورة العراقية في 14-7-58

سير مايكل رايت إلى السيد سلوين لويد (وصل في 22-أغسطس)

سيدي،

1- في عده تلغرافات ورسائل عاجلة أرسلت تقارير حول الأحداث في العراق منذ حدوث الثورة في 14-7-58. ما زال الوقت مبكراً لتقديم تحليل متوازن أو تقرير كامل عما يحدث. لكن لي الفخر أن أرسل الإضافات التالية:

2- في صباح الرابع عشر من يوليو وفي الساعة الثامنة, كان من المفترض أن يحلق الملك، وولي العهد، نوري وغيرهم متجهين إلى أنقرة للمحادثة مع رؤساء تركيا وباكستان ورئيس الوزراء الإيراني وذلك قبل اجتماع مجلس الوزراء من حلف بغداد بلندن في الثامن والعشرون من يوليو.

في صباح الثالث عشر من يوليو ذهب إلى الأردن الفرقة 19 و20 الموجودين في بعقوبة، وذلك بناءً على طلب من الملك حسين والذي اكتشف وجود مؤامرة ضده. يتابع العراقيون والأردنيون بحزن وقلق شديدين ما يحدث في لبنان، ولديهم قناعة أن ناصر شجع الأعمال التخريب والتدخل في لبنان من قبل سوريا, ويشعرون بخيبة الأمل لفشل مراقبي الأمم المتحدة ومستر هماركجولد للقيام بأي عمل مؤثر لمنع هذا التدخل من قبل الجمهورية العربية المتحدة في لبنان. لعدة أسابيع حث نوري اللبنانيين على الاستعانة بالتدخل الأمريكي لحماية استقلاليتهم.

3- لقد زعم أن الفرق العراقية التي طلب منها التوجه إلى الأردن، قد طلب منها القيام بفعل ما في الموضوع اللبناني.

ومن حديثي مع نوري وتوفيق سويدي والوقت الذي اعتقد أن ما يقولوه غير صحيح يقولون إنهم لم يستطيعوا دخول لبنان دون المرور من خلال مستعمرة سورية، وعلى حد علمي لا يوجد طلب بهذه الطبيعة حدث في لبنان.

4- لقد عرف الآن أن الفرقة التاسعة عشرة، ومن الواضح أيضاً أن معها الفرقة العشرين يقودهم ضباط منشقون ويرئسهم البريجادير قاسم والعقيد عارف كالرجل الثاني. ووفقاً لتصريحاته اللاحقة فقد انتظر البريجادير قاسم الفرصة منذ عام 1956 للإطاحة بالنظام الحاكم. ومنذ انشقاق الفرق 19, و20 عن الفرق التي كان يقودها اللواء البريجادير داغستاني (النائب السابق لرئيس الأركان والوفي جداً للنظام الحاكم) هناك سؤال لم يتم الإجابة عنه حتى الآن وهو لماذا كان هو ورئيس الأركان لا يعلمون أي شيء عن وجهات نظر الضباط المنشقين أو ما يهمهم؟

5- من الواضح أن القضية هي عدم وجود أي وحدة جيش مؤثرة في بغداد نفسها في الرابع عشر من يوليو. وعندما تلقى البريجادير قاسم الأوامر للذهاب إلى الأردن عن طريق بغداد وجد قاسم أن الفرصة قد جاءت للإطاحة بالملك، وولي العهد ونوري بدون أي مقاومة فورية وذلك إذا نفذت العملية بسرعة وبلا رحمة.

لقد تمت هذه العملية في وقت بعد الخامسة والنصف صباحاً من يوم الرابع عشر من يوليو حيث تم تطويق القصر ثم الهجوم عليه. من المؤكد أن ولي العهد ووالدته وواحدة من أخواته البنات قد قتلوا وقد جرحت ولية العهد.

أما الملك فإما قتل على الفور أو جرح جرحاً قاتلاً. وفي الحالتين فمن المحتمل أن يكون قد مات في مساء يوم 14 يوليو أو 15 يوليو.

هوجم منزل نوري لكنه قد هرب للمدينة. ووضعت جائزة 10000 دينار لمن يرشد عليه، وفي السادس عشر من يوليو تم العثور عليه وقتله. وتم تسليم جسد ولي العهد للناس ومن المحتمل أن يكونوا قد شنقوه علناً وجرته الجماهير عارياً في الشوارع.

ويزعم أن جسد نوري إما سلم للجماهير في 16 أو 17 أو أخرجته الجماهير من قبره بعد دفنه، ثم قطعوا أوصاله وجروه في الشوارع.

6- وبعد ذلك وفي حوالى السادسة صباحاً في الرابع عشر من يوليو سمع صوت عبر راديو بغداد يعتقد انه صوت العقيد عارف يعلن عن قيام الثورة ويطلبون من الشعب أن ينهبوا ويسلبوا القصر الملكي. ولقد شاهد شاهد عيان ضباطاً في عربات عسكريه يحثون الجماهير على السلب والنهب. بعد وقت قليل سمع تصريح أخر ينص على أن أرواح الأجانب وأملاكهم ومنازلهم يجب أن تحترم.

7- وبعد الساعة السادسة صباحاً تم إعلان أسماء وزراء الحكومة الجديدة. لم يذكر أسماء أي من الوزراء المدنيين مع انه لو فعل ذلك لبث أجواء تبعث على الراحة.

8- لم يدم طويلاً حين بدأ الغوغاء في الخروج عن السيطرة. فدخلوا القنصلية البريطانية ونهبوها ومكتب الاستخبارات الموجود في مبنى قريب من محطة الإذاعة والذي كان المركز الرئيسي لإثارة الأحداث كما أنه كان محاطاً بضباط من الجيش منفصلاً عن باقي الجيش حيث يستطيعون الحفاظ على القانون والنظام. ثم اقتحموا السفارة وسلبوا كل ما فيها ثم أشعلوا النار في المبنى. الجيش المخصص للحفاظ على النظام كان على مقربة من السفارة لكنهم فشلوا في القيام بما هو ضروري لمنع ما حدث.

وقرب الظهر أصبحت الحكومة الجديد تخشى من أن الغوغاء أصبحوا كاملاً خارج السيطرة. ووفقاً لما حدث فرضوا حظر التجول في حوالى الساعة الواحدة بعد الظهر. وأثناء اليوم تم القبض على كل الأعضاء الذين يتم العثور عليهم من الحكومة القديمة، وعدد من الآخرين، جزءاً منه للاستيلاء كاملاً على الحكم، ويمكن أن يكون جزء منه، كما زعموا أن يمنعوا الغوغاء من الهجوم عليهم. وفى تلك الأثناء تم القبض على ثلاثة وزراء أردنيين (من حكومة الاتحاد) داخل فندق بغداد. تم قتل اثنين منهم على يد الغوغاء وذلك أثناء توجههم إلى وزارة الدفاع بالإضافة إلى ثلاثة مواطنين أمريكان ومواطن ألماني كان قد قبض عليه عن طريق الخطاء.

9- على الرغم من أن الانقلاب الفعلي خططه ونفذه عدد قليل من الضباط في غضون 24 ساعة، فقد نجحوا سابقاً في تجنيد عدد من الضباط في نقاط رئيسية. واحد من هؤلاء الضباط من الحرس الشخصي للملك، وآخرين من وحدات المراكز الرئيسية. حاول اللواء عمر على القائد الحيوي للفرقة العسكرية الأولى في (الديوانية) وشديد الوفاء للملك أن يعطى أوامر بمقاومة الثورة لكن تم السيطرة عليه. وأخذ قادة الفرقة العسكرية الثانية الموجودة في كركوك في المناقشة حتى الساعة الخامسة مساءاً في يوم 14- يوليو حول الفعل الذي يجب أن يتخذوه ولكن في النهاية قرروا انه ليس هناك طائل في مقاومة الثورة فمنحوا مساندتهم للحكومة الجديدة. والحقيقة أن كل الأسرة المالكة تجمدت من هول الصدمة، واعتقال كل القادة السياسيين ( وتقول الإشاعات أنه قد تم قتلهم) كل ذلك يعنى أنه لا يوجد شخص بارز يعلو صوته طالباً المقاومة الفورية ضد الانقلاب.

10- في بغداد كان أعضاء الحكومة الجديدة مصدومين وخائفين من العنف والوحشية التي قام بها الغوغاء، بينما من ناحية يشجعون للحماس لأهداف الثورة فعملوا على وضع الأمور في نصابها مرة ثانية عن طريق عودة الأمن بالجيش ومن ناحية أخرى عن طريق الدعوة للتعقل بما يتوافق مع مصلحة الثورة. لكن لعدة أسابيع ظلت المدينة نقطة توهج. حدث انفجار شديد في مستودع شركة جناكين للبترول في وسط المدينة مما تسبب في حريق هائل واستمر الدخان في سماء بغداد لمده أسبوع، مما ساعد على استمرار التوتر.

نزول القوات البحرية الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأردن زاد من التوتر حتى مع وجود التأثير الجاد القوي في المقابل. اليوم وبعد خمسة أيام من حدوث الثورة من السهل إثارة التوتر الشديد مرة ثانية.

12- كنتيجة لعنف الغوغاء وإمكانية تكرار هذا العنف أصبح يخيم على عقول الكل. تاركين وراءهم القلق على مصير ولي العهد ونوري واغتيال الملك فيصل. هناك دلائل على وجود همسات جزي وحزن على طريقة قتله.

13- لقد أرسلت تقارير في تلغرافات أو رسائل حول سياسة الحكومة الجديدة والتي أعلنت أن هدفها داخلياً وجود برنامج إصلاح جذري تحرري، وبالنسبة للسياسة الخارجية هي العلاقات الجيدة مع كل الدول التي لديها الاستعداد للتعاون معهم ومع التأكيد على الوحدة العربية. كما أرسلت تقريراً حول رغبتهم في استمرار العلاقات القوية بينهم وبين المملكة المتحدة وإذا أمكن تقويتها أكثر. لن أتوسع في هذه المواضيع في هذه الرسالة العاجلة ولا عن تصريحهم لنية التعاون عن قرب مع الجمهورية العربية المتحدة ولا عن رغبتهم الواضحة في بقاء الشيوعيين تحت أيديهم. لكن يمكن أن يكون وثيق الصلة بإعطاء تعليقات على الوضع الداخلي والخارجي ومع خلفيه للأسباب التي ساهمت في حدوث الثورة.

 

تؤكد الوقائع التاريخية المجمع عليها أن الاجتماع المهم والحاسم لقادة الانقلاب الذي تقرر فيه مصير العراق آنذاك ومصير الملكية والملك الشاب كان في الحادي عشر من تموز عام 1958، حين اجتمع أبرز قادة اللجنة العليا للضباط الأحرار وضم الاجتماع عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف والعقيد عبد اللطيف الدراجي ورشيد مطلك الصديق المقرب للزعيم قاسم.

 

ويقول حازم جواد، أمين سر القيادة القطرية ورئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة الأسبق في مذكراته التي نشرتها صحيفة القدس العربي في 9 - شباط 2006 "أن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قد تعاونا قبل الانقلاب على الملكية مع الأجهزة السرية المصرية والمكتب الثاني السوري ( جهاز المخابرات السوري السابق).

 

بعد محاولات شتى لتدبير الانقلاب في الفرصة السانحة وبعد مداولات كثيرة بين الضباط الأحرار استمرت سنتين، تم الاتفاق على اغتنام أول فرصة تسنح لأي من القطعات العسكرية التي يسمح لها بالمرور في بغداد للقيام بالانقلاب، فتحتل العاصمة وتوفر فرصة كبيرة لإسقاط النظام. واتفقوا على أن يتولى قيادة هذا الانقلاب أي ضابط منهم تسنح له تلك الفرصة دون الرجوع للآخرين وعلى البقية حينها واجب التحرك الفوري لمساندته. وكان الدافع لهذا القرار شحّ الفرص. وتسرب معلومات عن تحركات الجيش إلى الدوائر الأمنية الملكية.

عام 1958 قام الاتحاد بين العراق والأردن، وفي مطلع تموز طلب الملك حسين من العراق إرسال قوة عسكرية عراقية للمرابطة في الأردن. ووصل رئيس الأركان وفيق عارف إلى عمان للتباحث مع أقرانه الأردنيين في تدابير هذه القوات. قابل الملك حسين وأخبره بحضور بهجت التلهوني رئيس الديوان بأن العراق قرر إرسال اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى الأردن.

امتعض الملك حسين معللاً ذلك بتوفر معلومات عن قاسم وجماعته تفيد بوجود حركة غير طبيعية في الجيش. وحينما أبدى وفيق عارف استغرابه نافياً تلك المعلومات، استدعى الملك حسين ضابطين أردنيين كانا في زيارة عسكرية للعراق واطلعا على الأوضاع الداخلية للجيش العراقي، وعادا بمعلومات تفصيلية عن وجود نشاطات للإعداد لانقلاب عسكري، وضمنا تقريرهما أسماء المشتبه فيهم ومنهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. عاد الفريق وفيق عارف إلى بغداد في يوم 11 تموز مستاء من الإنذارات الأردنية بعد أن قال لرئيس الوزراء الأردني آنذاك سمير الرفاعي وبحضور رئيس الأركان الأردني اللواء المجالي أنه لا يجوز أن نصدق الإشاعات التي تريدنا أن نعتقل ألف ضابط عراقي من ضباطنا المخلصين.

تقرر بعد ذلك تأجيل إرسال اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم إلى الأردن، وأن يسافر قبله أحد أفواج اللواء العشرين بقيادة العقيد عبد السلام عارف الذي يحوز على ثقة رئيس أركان الجيش. وحينما دخل الفوج ومن ثم اللواء العشرون بغداد صبيحة هذا اليوم الرابع عشر من تموز كان كل شيء هادئاًَ ولم يجد في طريقه أي مقاومة. فقد جرت العادة أن يتم إخطار وزير الداخلية ورئيس الوزراء بدخول أي قطعات عسكرية إلى بغداد لكي يتم استنفار آلاف الشرطة وقوى الأمن الداخلي ووضعها في حالة الإنذار لكن شيئاً من هذا لم يحصل. فوقع الانقلاب.

أخذت بريطانيا تسعى للتعامل بواقعية مع ما يجري في العراق محاولة تطويق التفاعلات الإقليمية الخطيرة والتي كانت تعتبر العراق جزءاً أساسياً من تحالفاتها السياسية في المنطقة، فالأردن كان يرتبط باتفاقية وحدة مع العراق ويعتمد عليه في تقوية سلطته الداخلية الضعيفة أصلاً، بينما كانت تركيا ترتبط مع العراق بما عرف بحلف بغداد، وهو جزء من بنية التحالفات الإقليمية التي أقامها الغرب ضمن إطار الحرب الباردة ضد النفوذ السوفيتي في المنطقة. هذا دفع أنقرة إلى مطالبة بريطانيا للتدخل العسكري في بغداد بهدف إعادة الأمور إلى نصابها.

أما الرد البريطاني فقد جاء واضحاً عبر وثيقة صدرت عن السفارة في أنقرة إلى الخارجية البريطانية بتاريخ 12/8/1958 لتتحدث حول احباطها محاولات السلطات التركية في التدخل بالعراق.

وعن تعاملها مع الجانب الأردني تجاه الانقلاب جاءت وثيقة بريطانية أخرى من سفارتها في عمان موجهة إلى الخارجية في لندن بتاريخ 12/8/1958 تتحدث فيها حول العراق والأردن، لتعكس لقاء أجري مع هزاع المجالي (أحد الوزراء الأردنيين) حول المصالح الاردنية في العراق.

وكانت وثيقة من السفارة البريطانية في بغداد قد جاءت إلى الخارجية في لندن بتاريخ 23/7 تتحدث عن لقاء أجراه السفير البريطاني في بغداد مع بابا علي وزير الاتصالات العراقي آنذاك، وهي بصيغة تقرير يتحدث عن ملف فيه معلومات حول احتمال ومخاوف مطالبة حسين ملك الأردن بعرش العراق والتدخل بشؤون العراق بدعم وموافقة بريطانيان على ذلك أيضاً.

سرى

من مركز قيادة بغداد إلى وزارة الخارجية

سير أم وايت

وزارة الخارجية ومكتب وايت هول السري للتوزيع

رقم 24

من 23-7-58

فوري

سري

فبينما كوني حريصاً ألا أقول أو أفعل أي شيء يوحي باعتراف بريطاني, أقوم بتقوية وتوسيع علاقاتي مع الإدارة الجديدة. عندما ذهبت أمس لرؤية وزير الخارجية للمرة الثانية قابلني الرئيس (Rubiya), ورئيس الوزراء, وزير الخارجية, ووزير المالية. بدأت بتأمين اتفاقهم حيث يجب حضور اثنين من الفيكونت غداً لمساعدة أفراد بريطانيين لديهم أسباب للذهاب إلى بلادهم وأيضاً حضور طائرة في الأسبوع المقبل. يأملون أن يعمل المطار بشكل طبيعي في خلال أسبوعين. تحدثت عن الحبّانية وسوف أسأل عن إمكانية وجود طائرة إضافية للأسر البريطانية هناك ولكني غير متأكد من ذلك بعد. خلال ذلك وافقوا على ذهاب بعض أعضاء السفارة لزيارة الحبّانية بحرية. كابتن المجموعة سى. إدوارد جاء من الحبّانية الليلة السابقة وتناول العشاء معي. فقال لي أن كل شيء هناك طبيعي جداً باستثناء عدم السماح لرجوع الاتصالات مع لندن.

2- الوزراء كانوا ودودين معي جداً وطلبوا مني المساعدة على تأكيد رغبتهم في الصداقة والتعاون مع بريطانيا لدى البرلمان والصحافة والإذاعة البريطانية. كما يأملون في الهدوء الكامل في أنحاء البلاد والتأكيد على علاقات الصداقة بينهم وبين رجال الأعمال البريطانيين. أتمنى أن يحدث ذلك. قلت لهم إنه سيكون من القيّم لو سمعت منهم بشكل شخصي ما الذي يجب أن أقوله ليكون مفيداً عن سياستهم. قالوا إنه عموماً انها كانت على شروط صداقة مع كل البلدان, أما بالنسبة لبريطانيا والعراق فكانت العراق صديقة وحليفه لها. إن رغبتهم أن تستمر نفس هذه العلاقة. قلت لهم أن هناك العديد من الاتفاقات بيننا. فأجابوا إنها ليست رغبتهم في تغيير أي اتفاقات موجودة إلا عن طريق التفاوض. ثم أكدت لهم إن الحفاظ على الصداقة والتعاون بين بريطانيا والعراق هي أيضاً رغبه بريطانية (تجنبت استخدام كلمة الحكومة). لقد عبروا عن رضائهم لكن ذكروا أن كل الذي يهمهم في هذا الموضوع هو الاعتراف. وأنهم يشعرون بالأسف أن الدول الشيوعية اعترفت بهم بينما بريطانيا لم تفعل, وطلبوا مني أن أوضح لك أهمية الاعتراف البريطاني والذي على أساسه وبشكل قطعي ستتأسس علاقة الصداقة والتعاون.

3- أرسلت تلغراف منفصل عن النقطة التي أثاروها حول تحرير أصول البنك العراقي المركزي. كما قالوا أن مكاتب سفارة العراق في لندن قد تم إغلاقها مثل مكاتبهم في الأردن.

4- أعتقد أن من أهم مخاوف الإدارة أن الملك حسين يحاول الاستيلاء على العراق بمساندتنا. و بخصوص هذا الموضوع يخشون حدوث حمام دم في العراق والذي لن يزاح إلاّ بمساندة الملك حسين, أو إذا فشلت المحاولة, فسيزاح بالمتطرفين أو الشيوعيين. ومع بقاء ذلك في عقولهم فخطوات تجاه الاعتراف البريطاني يبدو مهماً جداً لهم, لكنهم يرغبون في الحصول على الاعتراف على أي الأحوال بكل صدق. من الواضح أن الدولة تطيع الإدارة والتي تمارس وظائفها في الوقت الحالي بشكل طبيعي وبكامل سلطاتها. وهي في الحقيقة إدارة إصلاحات متحررة. لا توجد أي بدائل, وبالطبع لا توجد إدارة أفضل من هذه في الوقت الحالي. فهمت أن الشيوعيين قرروا عدم التعاون مع الإدارة وقرروا تكوين منظمة منفصلة تعمل على المدى الطويل ضد الإدارة. في الوقت الحالي ومن المحتم تصاعد التوترات حول الإدارة. ومن الضروري لديهم عمل إصلاحات للحياة الاقتصادية والمالية في البلاد, ولا يستطيعون عمل ذلك إلاّ بمساعدة البريطانيين والأجانب الغربيين الموجودين في العراق. و المساعدة على ذلك يتضمن الإفراج عن أصول بنك العراق المركزي, ومتفق أنهم سيكونون سخيين في طريقهم للتعاون والدفاع باستمرار على العلاقات مع الغرب.

5- ولكل هذه الأسباب, فأنا اعتقد أنه من الحكمة أن نتخذ قرارات مبكرة حول ذلك أو خطوات تجاه شكل من أشكال الاعتراف. وقلقهم الدائم من تدخل الملك حسين بمساعدتنا يمنحنا قوة معينه للعب بحذر.

هناك بعض الأشياء المحددة التي نرغب أن ينفذوها بشكل سريع ويتضمن ذلك عودة حرية حركة الخروج من العراق واستمرارية التعاون عند الحبّانية. ووفقاً لذلك ولبعض المتطلبات السريعة التي نرغب فيها ومع التطور في كل هذه المواضيع أعتقد أنه من الحكمة أن نخبرهم على الفور أو قريباً أننا نضع في الاعتبار الاعتراف بهم أو نتفق معهم على شكل من أشكال الاعتراف. ومن الممكن أن يسمح لي أن أبدأ هنا بإعطائهم فكرة على أمكانية حصولهم على شكل من أشكال الاعتراف خلال أسبوع أو اثنين وذلك وفقاً للأحداث. أرحب بإرشاداتكم سريعاً حيث أن كل الأعمال التي أقوم بها معهم يسيطر عليها هذه القضية.

6- و يمكن أن أضيف أن رشيد عالي الكيلاني والذي يتحدثون عنه كرئيس محتمل أو كعضو في الإدارة تم إحضاره من سوريا منذ يومين. وبالطبع يمكن حدوث مظاهرة إذا قررت الإدارة أن ترحب به بشكل رسمي. لكن في الحقيقة هم يبقون زيارته سراً. علمت أنه عاد الآن إلى دمشق مع خيبة أمل حاملا ًمعه عفواً عامه لكل أتباعه السابقين.

7- قال لي أمس وزير المالية أنه عندما ذهب رئيس الوزراء وغيره من الوزراء بما فيهم هو إلى سوريا اتفقوا على إنشاء خط أنابيب بترول إضافي من خلال سوريا. قال إنه من الضروري للعراق لتأمين وحماية إنتاج البترول للمتوسط.

تكرار المعلومات إلى أنقرة, طهران, pomef للحفظ لعمان وواشنطن والبحرين وبيروت.

ولا يكتفي البريطانيون بإعلان المواقف وحسن النوايا تجاه التفاعلات الإقليمية كما لا يقف الأمر عند حدود تهدئة الخواطر التركية والأردنية تجاه ما يجري في العراق، بل امتد ليشمل بقية الدول المرتبطة بالعراق على مستوى حلف بغداد فجاءت وثيقة من الخارجية البريطانية إلى البصرة بتاريخ 30/7/1958 للتأكيد على إعادة ما تمخض عن اجتماع حلف بغداد في هذا الإطار، وإضافة عبارة تقول أنه من وجهة نظر أصدقاء حلف بغداد وبمشاركة الناتو والبريطانيين أن المناقشات السياسية حول توازن القوى تسير في صالح الاعتراف بالحكومة العراقية الجديدة.

سري

من الخارجية إلى ستوكهولم

وزارة الخارجية ومكتب توزيع وايت هول السري

30-يوليو 1958 الساعة العاشرة وسبع دقائق

أولوية

سري

تلغرافك رقم 223 (الاعتراف بالنظام الجديد في العراق)

اتفاق عام تم التوصل له في اجتماع حلف بغداد في 28 يوليو أن الاعتراف المبكر سيكون مستحباً وذلك قبل نهاية هذا الأسبوع. وقررت حكومة جلالة الملكة الاعتراف بعد يوم من اعتراف أعضاء الحلف المحليين, للقاء برغبة الأخير (الحلف) في أن تكون له الأولوية.

2- و في شرح موقفنا للـM.F.A. السويدي يمكنك أن تلفت الانتباه إلى:

أ. دورنا هو الاعتراف بالحكومة بمجرد اقتناعنا بأن الحكومة لديها سيطرة فعالة, وإمكانيات البقاء.

ب. أن وجهة نظر حلفاء حلف بغداد وبمشاركته الناتو أن المناقشات السياسية حول توازن القوى هي في صالح الاعتراف.

ج. إننا لن نتغاضى عن الأحداث الفظيعة من 14 يوليو, لكن أعضاء الحكومة الجديدة تفصل نفسها عن الاغتيالات ولديهم الرغبة في استمرار العلاقات السياسية والتجارية وغيرها من العلاقات على الأسس القديمة.

د. معلوماتنا الضئيلة تشير أن هؤلاء الرجال وطنيين (وليسوا شيوعيين) مع أنهم يحافظون على علاقات الصداقة مع ناصر, فلن تخضع مصالح العراق لمصر.

هـ. على الرغم من أن الموقف الظاهري للحكومة يمكن أن يكون نتاج الخوف من احتلال الغرب, فنحن نعتقد أنه من مصلحتهم البقاء على صلة طيبة خصوصاً أن اقتصادها (بالتحديد البترول) والبنية العسكرية مجهز للغرب.

و. إذا جرت الأمور بشكل طيب فالنظام الحالي قد يكون مشكلة أكبر لناصر من النظام القديم و يمكننا التعامل معهم وإذا سقطوا فمن سيخلفهم سيقع ضحية الاعتماد على ناصر والشيوعيين.

ح. وبعلاقتنا مع الملك حسين سنحاول جعل موضوع الاتحاد العربى في الخلفية وعلى الأردن أن يقرر بشأنه.

وفي اليوم التالي من تهدئة الأوضاع الإقليمية من حول العراق بعد دراسة عميقة وحسابات دقيقة لتبعات ذلك، جاءت برقية من الخارجية البريطانية إلى السفارة في بغداد بتاريخ 31/7/1958 تؤكد من خلالها إعلان الاعتراف البريطاني الرسمي بالنظام العراقي الجديد.

سرى

من الخارجية إلى بغداد

وزارة الخارجية ومكتب التوزيع السري وايت هول

غير مرقم

31 –7-58

طارئ

سري

موجة إلى بغداد تلغراف غير مرقم من 31-7-58

تكرار المعلومات إلى واشنطن (فوري)

عمّان (فوري)

بيروت (فوري)

بى . أوه. إم. أي. إف (فوري)

أحب أن أعلن اعترافنا بالنظام العراقي الجديد وذلك في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً بالتوقيت الصيفي البريطاني يوم الجمعة الأول من أغسطس لذلك عليك تسليم مذكرة عن أي نص قد أرسلت لك بواسطة واشنطن.

في أي وقت قبل هذه الساعة غداً. إذا لم أسمع منك خلاف ذلك, سأفترض أنك تمكنت من فعل ذلك.

2 – نقترح نشر نص مذكرتك

3- الرجاء عرفني باستلام هذا التلغراف كتلغراف طارئ.

 

ولم تتوقف الحركة الدبلوماسية البريطانية عند ذلك فحسب بل تابعت مساعيها الحميدة لمنع أي تدخل محتمل من قبل الجوار يسمح بإفلات الخيوط من أيديها، وهذا ما تؤكده وثيقة أرسلت من السفارة في عمان إلى الخارجية في لندن بتاريخ 31/7/1958 لتحمل خبر إبلاغ حسين (الملك) وسمير الرفاعي (رئيس وزراء ووزير خارجية) بالموقف البريطاني، موضحة أن سمير يصر على خطأ الاعتقاد البريطاني بأن النظام الجديد ليسوا عملاء لناصر أو الشيوعيين... وكذلك حسين... وأن الملك قد ينتقد موقف بريطانيا بالاعتراف على خلفية الثأر، والفهم البدوي للتراخي في حال القبول.

سرى

من عمان إلى وزارة الخارجية

المكتب السري للخارجية والتوزيع السري لوايت هول

السيد جونسون

رقم 1115

31-7-58 الساعة 10.33

فوري

سرى

موجة إلى وزارة الخارجية تلغراف رقم 1115 في 31 يوليو

تكرار المعلومات إلى واشنطن, أنقرة, كراتشي, بيروت, القدس, طهران, تل أبيب الناتو.

وتحفظ لي: كل مكاتب الناتو

      بغداد, طرابلس, تونس, منيلا, البحرين, الخرطوم, بانكوك, سنغفورة, ويلنجتون, سنبيرا

تلغرافك رقم 2398: العراق

1- تحدثت اليوم كما تم توجيهي, الأول مع رئيس الوزراء ثم مع الملك حسين. تولى سمير الرفاعي الاتصالات بشكل جيد. لقد رأى قوة المناقشات حول الاعتراف وهو يعتقد أننا أخطئنا في الاعتقاد بأن النظام الجديد ليسوا عملاء لناصر والشيوعيين, لكنه لم  يعترض عندما قلت أنه حتى لو تم إثبات أنه كان على صواب فمحاولة التعايش مع الجمهورية العراقية يستحق العمل عليها وذلك لمصلحة الجميع بما فيهم الأردن.

2- أما بالنسبة للاتحاد العربي فقال سمير أنا لا أرى فائدة في استمرار ماسيبدو كروايه ليس أكثر أو أقل بعد اعتراف أصدقاء الأردن بالجمهورية العراقية سوف يستشير مع الملك حسين في هذا الموضوع.

3- كما كان متوقعاً تلقى الملك الأخبار بشكل غير جيد. هو أيضاً مقتنع أننا أخطأنا في افتراضنا عن النظام العراقي الجديد. وإذا صارت الأمور بشكل غير جيد وجدنا أنفسنا مضطرين للقيام بفعل للدفاع عن مصالحنا في العراق فسيكون من الصعب على الأردن مساعدتنا بعد قرارنا بالاعتراف. كما قال الملك أن الأخبار عن قرارنا سيكون له تأثير محبط على مؤيديه وأنه قد يجبر على إظهار استنكاره. ضغط عليه حتى لا يفعل ذلك, لكنى غير متأكد من نجاحي في فعل ذلك.

4- بينما يرون المشكلة بشكل واقعي فالملك حسين لديه أفكار عربية قديمة عن علاقات الأخذ بالثأر وأنه بلا شك يشعر أن مؤيديه من البدو سينظرون إلى الموقف كأنه ضعف من قبله إذا قبل القيام بأي فعل يبدو كأنه وعد بإفلات قتلة الأسرة الملكية العراقية من العقوبة. أرجو أن نضع ذلك في الاعتبار إذا قام الملك بنقد قرارنا علنياً.

5- القائم بالأعمال الأمريكي لديه تعليمات متشابهه لتعليمات البريطاني. الوزير الألماني فعل ذلك أيضاً.

على وزارة الخارجية أولوية إرسال التلغراف إلى واشنطون, أنقرة, كراتشي, بيروت, طهران.

وحفظها لمكاتب الناتو, بني غازي, تونس, خرطوم, مانيلا, بانكوك, بحرين وسنغافورة.

 

بعيداً عن انعكاسات الدور الأردني والتركي في العراق نجد دوراً آخر أكثر فاعلية من سابقيه، اللذان كان يدوران في فلك الغرب ليقعان بالتالي تحت النفوذ البريطاني، نتحدث هنا عن الورقة المصرية التي إن لم يكن لها الدور الحاسم في تنفيذ الانقلاب، فقد كان دورها في استقراره يستحق الإشارة، إلى حد أقلق الدول البعيدة عن العراق بل والتي بالكاد يمكن اعتبارها متاخمة لحدود الوطن العربي على خارطة أفريقيا السوداء.

نقصد هنا وثيقة فرنسية جاءت بتاريخ 18 يوليو 58 من أديس أبابا لتقول أن الإمبراطور هيلاسي لاسي يشعر بقلق من امتداد سيطرة ناصر وتأثير الوضع على السعودية واليمن اللذين سيخضعان إلى الاستعمارين الروسي والمصري، وأن تدهور الوضع في لبنان والعراق سيجر كل الشرق الأوسط وشرق أفريقيا في فلك مصر.

 

برقية واردة

"أديس أبابا", 18 يولية 1958

إلى الشئون الخارجية

لقد قابلت الإمبراطور صباح اليوم, فوجدت أن أحداث "العراق" قد أثرت فيه كثيراً إلا أنها لم تدهشه.

لقد استعاد الإمبراطور فكرة مألوفة عنده, فلاحظ أن التاريخ يعيد نفسه, وسره أن يدرك الأمريكيون أخيراً ضرورة توجيه ضربة تعويقية إلى المشروعات الإمبريالية للعقيد "ناصر", أو "هتلر" الجديد. وأبدى استياءه مرة أخرى من أن الحالة الصحية للسيد "إيدن" ساهمت في فشل عملية "السويس", التي دلت التطورات الأخيرة على أنها كانت مبررة تماماً.

إن العاهل, الذي أسرّ لي عدة مرات بتخوفه من امتداد التوسع المصري إلى الجنوب, يأمل في أن يعارض قوميو "القاهرة" المخربين بـ "تحالف مقدس" من الملوك, إلا أن الانقلاب العراقى الأخير يوجه ضربة قاصمة إلى هذا المخطط العظيم. ولا يخفي الإمبراطور أن "السعودية", التي افتتح معها تقارباً يراه مبشراً, ستتعرض لضغوط قوية جداً.

لكنه مهموم بالأخص بالتهديد المحتمل من "اليمن" إذا استعمره المصريون والروس, وكذلك بمصير "السودان" الذي يبدو له أن مصير "إثيوبيا" مرتبط به. إنه مقتنع بأن أي تفاقم في موقف "لبنان" و"العراق" من شأنه إسقاط الشرق الأوسط كله, والشرق الأفريقي أيضاً دون شك, في الفلك المصري.

ومع ذلك فإن التدخل الأمريكي يبدو وقد رد إليه بعض الثقة في إمكانية استقرار الأوضاع.

لقد راجعنا الوضع الحالي للمحادثات الفرنسية الإثيوبية, فشددت على أنه سيكون من المفيد أن نصدر بياناً مشتركاً يسجل الاتفاق الكبير فيما بيننا على المبادئ.

لم يبد صاحب الجلالة "هيلا سيلاسي" اعتراضاً على هذا الاقتراح, لكنه أصر على أن يكون الاتفاق على "جيبوتي" والاسم غير واضح مجرد خطوة أولى, تؤدي إلى تعاون أكبر بين البلدين في المجال السياسي.

واختتم الإمبراطور بالتعبير عن سعادته بأن "فرنسا", في لحظة عصيبة بصفة خاصة, لجأت من جديد إلى الجنرال "ديغول", الذي يرغب في أن يحظى بفرصة رؤيته من جديد, والذي كلفني بأن أنقل إليه أخلص تمنياته.

 

ضمن هذا الإطار أيضاً يأتي ما تورده وثيقة من السفارة البريطانية في بغداد إلى الخارجية في لندن بتاريخ 20/9/1958 حول وصول فيلق من الطائرات المصرية إلى الحبّانية، وتساءل البريطانيون في الوثيقة حينها هل هي هدية مؤقتة أم دائمة؟؟

 

بعد تشكل مجلس الوزراء يوم 14 يوليو برئاسة عبد الكريم قاسم الذي تولى وزارة الدفاع، وعبد السلام عارف نائباً لرئيس الوزراء ووزير الداخلية.

ويقول الدكتور محمد حمدي صالح الجعفري في الصفحتين 208-209  من كتاب له يحمل عنوان: (نوري السعيد وبريطانيا/ خلاف أم وفاق) أن "الحكومة العراقية الجديدة قررت تشكيل وفد برئاسة نائب رئيس الوزراء العقيد عبد السلام عارف لمقابلة عبد الناصر وطلب المعونة والمساندة لمواجهة التهديدات الخارجية.

 

اعتبر انهيار النظام الملكي في بغداد، في البداية، انتصاراً للجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر، الذي عمل على مساندة هذا الانقلاب فأمر المشير عبد الحكيم عامر في القاهرة بإرسال بعثة عسكرية مصرية لدعم العراق، وكلف عامر بدوره البكباشي عبد المجيد فريد بالسفر فوراً إلي بغداد. فور وصول عبد المجيد إلي بغداد أبلغ قادة ثورة 14 تموز الدعم الكامل واستعداد القوات المسلحة والقوات الجوية العربية للوقوف بجوار القوات المسلحة العراقية إضافة إلي تقديم كل الدعم الإعلامي والمادي الذي يطلبه قادة الثورة العراقية.

ثم يتابع الدكتور محمد حمدي في كتابه أن الجمهورية العربية المتحدة أرسلت باخرة محملة بالأسلحة، كما وصلت إلى قاعدة الحبّانية كتيبة مدفعية سورية مضادة للطائرات، ثم أُرسل سرب من طائرات الميج التابع للجمهورية العربية المتحدة تعزيزاً لجحافل القوات هناك.

 

بعد إعلان الاعتراف بالحكومة الجديدة، وحث عبد الناصر الاتحاد السوفيتي على تقديم الدعم والمساندة والاعتراف بالحكومة الجديدة.

وكان جمال عبد الناصر يخشي من تحرك القوات البريطانية المرابطة في قاعدة الحبّانية فدعا خروتشيف إلى توجيه إنذار للغرب شبيه بما سبق العدوان الثلاثي عام 1956 للتحذير من أي تحركات غربية ضد العراق أو سوريا.

يبدو أن البريطانيين كانوا يتساءلون حول هذا النوع من التواجد العسكري، وما إذا كان هدية مؤقتة أم طويلة الأمد كما جاء في الوثيقة السابقة. ليس هناك معلومات دقيقة ومحددة عن قوات جوية مصرية كبيرة أرسلت للإقامة في العراق فترات طويلة، إلا ما جاء على لسان الرئيس المصري حسني مبارك في صحيفة دنيا الوطن الإلكترونية يوم الأربعاء 19-1-2005 حين قال: أنا عشت في العراق في مطار الحبّانية أربعين يوماً كنت حفظتهم كويّس في الأربعين يوم.

يذكر أن عددا من القطعات العسكرية والأسراب الجوية المصرية والفلسطينية قد استقبلت في العراق في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف، للقيام بعمليات عسكرية انطلاقاً من الأراضي العراقية من ضمنها عملية إيلات. وكان من بين الشخصيات المصرية المعروفة التي عملت في العراق في أواخر الستينات الرئيس حسني مبارك الذي كان من بين آمري أسراب الطائرات الموجودين في قاعدة الحبّانية في الفلوجة وكذلك رجل المخابرات المصري رفعت الجمال الملقب برأفت الهجان.

تشير الأدبيات السياسية العراقية إلى أن الدور المصري قد رافق التجارب الانقلابية في العراق منذ بداياتها الأولى. ففي عام 1956 وسيراً على خطى الانقلاب الناصري في القاهرة، تشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار في العراق، ووضعت هذه اللجنة العسكرية برنامجاً لها يقوم على أهداف إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية والخروج من التبعية البريطانية وتشكيل حكومة تتمسك بالديمقراطية وغيرها من أهداف نص عليها البيان الأول المشابه جداً للبيان الصادر عن المصرية.

والأمر لا يقتصر على مجرد تشابه في التسميات أو البيانات المعلنة، بل في نشاطات بدأت منذ السنوات الأولى لنجاح الانقلاب الناصري في مصر، إذ تقول الدكتورة عصمت السعيد في كتابها (نور السعيد رجل الدولة والإنسان)،" أن الحكومة المصرية قد شكلت كوادر سياسية في أوساط أساتذة المعاهد الذين يتم إرسالهم إلى الدول العربية وجعلوا من المشاعر القومية سحراً ينفذون به إلى عقول ونفوس الشباب حتى أدرك المسئولون العراقيون خطورة ذلك فقام وزير التربية والتعليم في عهد نور السعيد بإخراج العديد منهم وإرسالهم إلى الألوية النائية من العراق". (ص212)

ويقول الدكتور محمد حمدي صالح الجعفري في كتاب (نور السعيد وبريطانيا/ خلاف أم وفاق) "شكل النصر الذي حققه عبد الناصر ضد بريطانيا بداية لأفول النجم البريطاني في المنطقة برمتها، ما جعل نوري السعيد وحكومته في موقف ضعيف أما الشعب العراقي الذي كان يفاخر بعبد الناصر طيلة أيام العدوان الثلاثي ويلوم حكومته لتواطؤها مع دول العدوان، ولا ينسى تقديم الإذاعة العراقية لبرامج تقلل من شأن عبد الناصر، وعدم وقوف العراق إلى جانب مصر في محنتها لتفقد بذلك آخر رصيد شعبي لها". (ص184)

 

وكان سوء العلاقات بين القاهرة وبغداد قد بلغ أشده منذ العدوان الثلاثي على مصر، إلى درجة أنه تحول إلى موضوع اهتمام سفراء الدول الغربية ودبلوماسييها. هذا ما تؤكده وثيقة صدرت عن سفارة جمهورية ألمانيا الاتحادية في العاصمة العراقية وموجهة إلى وزارة الخارجية في بون في 2- كانون الثاني يناير من عام 1957. تتحدث الرسالة عن الأعمال الدعائية المناهضة التي تقوم بها كل من الحكومة المصرية والسورية والأردنية ضد الحكومة العراقية مما دفع حكومة بغداد لرفع احتجاجات عبر سفاراتها في البلدان الثلاثة إلى الحكومات المسؤولة عن تلك الهجمة الدعائية.

وأعربت الحكومة العراقية في مذكرة بعثت بها إلى السفارة المصرية في بغداد عن أسفها بشأن ما تضمنه خطاب نوري السعيد في الـ 16 من ديسمبر 1956 بشأن حجب الحقائق عن الرأي العام لاسيما حقيقة أن العراق وقف إلى جانب مصر خلال الهجوم على قناة السويس وأعلن كأول بلد مساندته لكامل حقوق مصر وقدم هبة مالية بمبلغ 200 ألف دينار عراقي لضحايا تلك الاعتداءات.

كما تفيد الرسالة بأن المبعوث العراقي في دمشق نفى صحة بيان صادر عن المدعي العام العسكري السوري يتهم العراق بالمشاركة في تهريب أسلحة إلى سوريا بهدف تنفيذ انقلاب حكومي فيها. وتقدم الرسالة مقتطفات من البيان وهي بالانجليزية كما رفعت الحكومة العراقية احتجاجاً قوياً إلى السفارة السورية في بغداد ضد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السوري في الأسبوع الماضي أمام البرلمان السوري والتي أفادت أن طائرات أجنبية استخدمت مطارات عسكرية عراقية لشن غارات جوية على مدن مصرية.

 

بغداد، 2 يناير 1957 سفارة ألمانيا الاتحادية

بغداد

الموضوع: النشاط الدعائي ضد العراق

أدت الأعمال الدعائية المناهضة التي كانت تقوم بها كل من الحكومة المصرية والسورية والأردنية ضد الحكومة العراقية إلى أن ترفع الحكومة العراقية احتجاجات إلى حكومات البلدان الثلاثة المذكورة عن تلك الهجمة الدعائية.

ولقد عبرت الحكومة العراقية في مذكرة بعثت بها إلى السفارة المصرية عن أسفها بصدد ما قاله نورى السعيد في خطابه في 16 من ديسمبر 1956 والذى حجب الحقائق وخصوصاً حقيقة أن العراق قد وقف إلى جانب مصر خلال الهجوم على قناة السويس وأعلن كأول بلد مساندته الشاملة لحقوق مصر، كما أنه أعطى هبة مالية بمبلغ 200 ألف دينار عراقي لضحايا الاعتداءات. إلى جانب أنه كان العامل الأساسي أثناء مؤتمرات القوى الإسلامية الأربعة في اتفاقية بغداد في طهران وبغداد في مساندة مصر. وعندما ساءت العلاقات بين البلدين قام السفير المصري بترك بغداد يوم 30 من ديسمبر 1956 ورحل إلى القاهرة.

في دمشق قام المبعوث العراقي بنفي صحة بيان صادر عن المدعى العام العسكري السوري واتهم العراق بالمشاركة في تهريب أسلحة إلى سوريا بهدف تنفيذ انقلاب حكومي فيها. وقد جاء في هذا البيان:

وفى بيان موجه إلى السفارة السورية رفعت الحكومة العراقية احتجاجاً حاداً ضد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السوري في الأسبوع الماضي أمام البرلمان السوري والتي أفادت أن طائرات أجنبية استخدمت مطارات عراقية عسكرية لشن غارات جوية على مدن مصرية. ولقد وضعت العراق شروطاً لإرسال جيوشاً إلى الأردن، كما أنه كان له رأياً معادياً لتأميم قناة السويس وأخيراً بأنه أتخذ خطة مشابهة لخطة مندريس لحل محنة قناة السويس في الوطن العربي.

إلى جانب هذا فإنه يشار إلى رئيس الوزراء السوري قد طلب مجيء نائب السفير العراقي في 1 من نوفمبر 1956 إليه. وفي مذكرة له أصر على أنه يتجه إلى الحكومة العراقية من أجل إرسال وحدات مشاة إضافية على القوات الحربية الجوية التي قد بعثت من قبل. إضافة إلى ذلك توبخ الحكومة العراقية البلاغ الرسمي الذي أصدرته في 5 أغسطس 1956 والذي اعترفت فيه بحق مصر في تأميم قناة السويس وكانت هي أول حكومة عربية تقدم الحماية لمصر. وتقول المذكرة الشفهية في النهاية:

رفع المبعوث العراقي في الأردن احتجاجاً حاداً ضد البيان الموجه من رئيس الوزراء الأردني في 5 ديسمبر 1956 بالنيابة.

 

كما تكشف الأرشيفات الألمانية وجها آخراً من الدور الإقليمي في الانقلاب العراقي، وما شهدته العاصمة العراقية من تفاعلات وأحداث، يتجسد بالجانب المتعلق بما لعبته السلطات الملكية العراقية وحكومة نوري السعيد في بغداد من دور فاعل في إثارة الاضطرابات في دول الجوار وخصوصاً في سوريا، حيث سعى الهاشميون دوماً إلى مد سلطاتهم إلى هناك، وعمل نوري السعيد على بناء ما اتفق على تسميته بمشروع الاتحاد العربي بين العراق والأردن ليشمل كذلك سوريا والكويت.

 

تشير رسالة من السفارة الألمانية في بغداد بتاريخ 25 آب 1958 مكونة من صفحتين ونصف موضوعها: محاكمة استثنائية ضد الجنرال داغستاني، تشير إلى أن المحكمة الاستثنائية تنظر منذ 16 من آب في مصير العناصر القيادية للنظام السابق في العراق وأن المحكمة بدأت في الاستماع إلى الشهود ضد الجنرال غازي الداغستاني. الوثيقة تسرد الأعضاء الذين يكونون المحكمة وغالبيتهم متحدرة من الجيش. وقد اتهم الداغستاني حسب الوثيقة بالتخطيط لانقلاب في سوريا بين عامي 1956-57 وذلك بمساندة شخصيات بارزة في مقدمتهم الأمير عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد.

المخطط كان مصمماً على الشكل التالي: أن تهدد إسرائيل الأردن وتدفع بوحداتها إلى الحدود السورية. تزويد قبائل سورية بالأسلحة والذخيرة والمال للتسبب في مواجهات مع الجيش السوري. وخلال تطور العملية يشن الجيش السوري هجوماً على القوات العراقية التي تدعم القبائل. وعلى هذا الأساس يتم الإيحاء بأن الجيش العراقي تحرك لضرورة دفاعية. كما تتدخل تركيا عسكرياً لصالح العراق.

تقول الوثيقة أن تصريحات الشهود أكدت أن الجيش العراقي كان يخطط للإطاحة بالنظام السوري. وتشير في إحدى الفقرات إلى أن أحد الشهود أوضح أن السفارة الأمريكية في بغداد كانت مشاركة مع الداغستاني في تنظيم خلايا مقاومة. وتذكر الوثيقة أيضاً أن رئيس الأركان الأردني السابق الجنرال علي أبو نوار أدلى بتصريحات شاملة ضد الداغستاني مفادها أن المخطط كان يهدف أيضاً إلى الزج بالأردن في هذه المغامرة لأن الأمير عبد الإله كان يطمح إلى بسط نفوذه على العرش الأردني.

 

رسالة من السفارة الألمانية في بغداد بتاريخ 25 آب 1958 مكونة من صفحتين ونصف ومختومة بإمضاء يد غير مقروء. موضوعها: محاكمة استثنائية ضد الجنرال داغستاني.

الجنرال داغستاني كان إبان انقلاب 14 تموز قائداً للفرقة العراقية الثالثة وكان قبلها لفترة نائباً لرئيس الأركان. ويتهم مع شخصيات قيادية في النظام السابق لاسيما مع ولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد بالتخطيط في عام 1956/57 لانقلاب ضد سوريا. وأفادت تصريحات ممثل الادعاء العام أن المخطط جاء على النحو التالي:

توجب على إسرائيل تهديد الأردن ونشر وحداتها العسكرية على الحدود السورية. كما وجب تزويد قبائل سورية بأسلحة وذخيرة وأموال والتسبب في مواجهات مع الجيش السوري. وخلال تسلسل العملية وجب على الجيش السوري شن هجوم على القوات العراقية التي كانت تدعم القبائل. وعلى هذا النحو يتم افتعال موقف دفاع عن النفس من قبل الجيش العراقي. ووجب أن تتدخل تركيا عسكرياً لصالح العراق ومن خلال اعترافات شهود الادعاء الـ 35 تقريباً والتي تمت إلى حد الآن في مداولات مفتوحة أمام المحكمة بينهم وزير شؤون البلاط السابق عبد الله بكر والرئيس السابق لمجلس النواب خليل قنة والوزيران الدكتور جمالي وبشايان ورئيس الأركان السابق رفيق عارف وأيضاً من خلال تقارير خطية لداغستاني تستخدم ضده يتضح أن انقلاباً داخل سوريا كان مدبراً بمساعدة الجيش العراقي والذي كان يهدف على ما يبدو في نهاية الأمر إلى تنصيب عبد الإله على العرش السوري. واقتصر دور داغستاني في العملية كلها على تزويد قبائل البدو التي تمتلك مراعي بالقرب من الحدود العراقية السورية بأسلحة وتقديم رشاوى لسياسيين سوريين بمبالغ مالية عالية لإقناعهم بالمشاركة في المؤامرة. ويبدو أن داغستاني دفع تلك الأموال عبر الملحق العسكري العراقي في بيروت.

الجنرال داغستاني نفى إلى حد الآن مشاركته في كافة العمليات وأعلن مثل غالبية الشهود الآخرين أن التحرك برمته كان مدبراً من قبل ولي العهد عبد الإله ونوري السعيد شخصياً. الأمر الذي يثقل كاهل داغستاني هو العثور على تقارير مكتوبة بخط يده تعكس تورطه. لكنه أوضح إلى حد الآن أن تلك التقارير إملاءات من نوري.

وخلال جلسات الاستجواب اتضح أيضاً أن داغستاني عمل منذ حوالي 1951 على تنظيم خلايا مقاومة وزودها بالأسلحة والمال يتمثل دورها في شن حرب عصابات في حال احتلال البلاد. ولتنظيم هذه الخلايا استعان داغستاني بضباط تم فصلهم. شاهد يؤكد أيضاً أن السفارة الأمريكية هنا شاركت في تنظيم خلايا المقاومة...

رئيس الأركان الأردني السابق الجنرال علي أبو نوار الذي وصل إلى هنا قبل 3 أيام كشف في الـ 23 من آب خلال شهادة شاملة عن اتهامات جديدة ضد داغستاني. فحسب تصريحات أبو نوار كان المخطط يشمل إقحام الأردن في عملية سوريا. عبد الإله كان يتطلع إلى الاستيلاء على العرش الأردني بعد تصفية ضباط أردنيين معارضين. ... ورغم أن الجانب الإدعائي يظهر من حين لآخر خلال المحاكمة بقوة إلاّ أن السجل المبدئي للوقائع بتدبير مؤامرة ضد سوريا يكتسب احتمالاً قوياً.

ويقول الباحث السوري هاشم عثمان في الصفحات(223-225) من كتابه (المحاكمات السياسية في سوريا، الصادر عن دار الريس في نوفمبر من عام 2004)، أنه "وسط أحداث العدوان الثلاثي الآثم على مصر عام 1956 وضعت السلطات العسكرية السورية يدها على شحنات كبيرة من الأسلحة الحربية الخطيرة أثناء محاولة نقلها من بلد عربي مجاور فوضعت اليد عليها وباشرت بالتحقيق ومطاردة الجناة، فكشف التحقيق الأولي عن الجهة التي تعامل معها الجناة".

وينقل هاشم عثمان عن الرواية الرسمية في دمشق قولها "أن العقيد صالح مهدي السامرائي، الملحق العسكري العراقي في بيروت كان مكلفاً بمتابعة الانقلاب فوضعت بيده الأموال اللازمة لتحقيقه، ولما وجدت الحكومة العراقية عدم قدرته على ذلك بمفرده أرسلت اللواء غازي الداغستاني معاون رئيس أركان الجيش العراقي لمتابعة تفاصيل الخطة، فجرى الاتفاق على تشكيل لجنة عسكرية تضم محمد صفا وغسان جديد ومحمد معروف لمتابعة الأمور قبل الانقلاب وبعده، ولجنة مدنية يرأسها الدكتور منير العجلاني سميت باللجنة السياسية كلفت بوضع ميثاق يتحول إلى دستور يعمل الجميع على تنفيذه".

ومتابعة لأهمية الدور الإقليمي الهام الذي لعبته بغداد في التفاعلات والأحداث التي شهدتها دول المنطقة إبان الانقلاب في العراق، تشير وثيقة ألمانية أخرى هي رسالة من صفحة واحدة مرفقة بتقرير مكون من 4 صفحات يقدم تقييماً لتسلسل عملية تنفيذ الانقلاب الذي وقع في آب في العراق ويكشف عن بعض من أبرز أسبابه. تحمل رسالة سفارة ألمانيا الاتحادية في بغداد تاريخ 5 أيلول 1958 وهي تتابع موضوع سابقتها فتقول: خلال مداولات المحكمة ضد الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكري العراقي أحمد ميري تمت قراءة فاتورة موقعة من قبل السيد بومنت Mr. R. Beaumont المستشار السابق لشؤون المشرق في السفارة البريطانية في بغداد. تكشف الفاتورة أن السيد بومنت تلقى من المتهم أحمد مرعي مبلغاً مالياً بقيمة 20 ألف دينار عراقي حولت عبر البريد البريطاني من بغداد إلى بيروت. هذا المبلغ المالي وجب تسليمه إلى الملحق العسكري العراقي الذي يسلمه من جانبه إلى الرئيس (اللبناني كميل) شمعون. ويؤكد تصريح لخلف السيد بومنت أن الفاتورة حقيقية. وينظر الرأي العام العراقي إلى هذه القضية كدليل جديد على الدور "الإمبريالي" للبريطانيين في عراق ما قبل الثورة.

يقول محرر الوثيقة في إحدى الفقرات بأن التدخل البريطاني الأمريكي في لبنان والأردن يهدف إلى بسط الاستقرار في البلدين وتوجيه تحذيرات إلى كل من ناصر وللسوفيات. كما يوضح المحرر أن مصدره العراقي يستبعد أن يتدخل السوفيات في لبنان والأردن لأنهما لا ينتميان إلى منطقتهم الحيوية.

الفقرة الأخيرة في التقرير تقول بأن السفارة البريطانية في بغداد لها مؤشرات تدل على أن بعض الأوساط التركية وكذلك بعض العسكريين يحبذون تدخلاً بريطانيا أمريكياً في العراق بمشاركة تركية. ويذكر أن السفير البريطاني أوضح للأتراك أن بريطانيا ليس لها أي اهتمام بهذه المخططات.

 

رسالة من صفحة واحدة مرفوقة بتقرير مكون من 4 صفحات يقدم تقييماً لتسلسل عملية تنفيذ الانقلاب الذي وقع في آب في العراق ويكشف عن أبرز أسبابه. الرسالة من السفارة الألمانية في بغداد بتاريخ 5 أيلول 1958 موقعة بإمضاء يد غير مقروء:

"خلال مداولات المحكمة ضد الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية العراقي أحمد مرعي تمت قراءة فاتورة موقعة من قبل السيد بومنت Mr. R. Beaumont المستشار السابق لشؤون المشرق في السفارة البريطانية ببغداد. الفاتورة تكشف أن السيد بومنت تلقى من المتهم أحمد مرعي مبلغاً مالياً بقيمة 20 ألف دينار عراقي حولت عبر البريد البريطاني من بغداد إلى بيروت. ويبدو أن هذا المبلغ تم تسليمه في بيروت إلى الملحق العسكري العراقي الذي سلمه بدوره للرئيس شمعون. وتؤكد تصريحات لخلف بومنت أن الفاتورة حقيقية. وينظر الرأي العام العراقي إلى هذه القضية كبرهان جديد على الدور "الإمبريالي" للانجليز في العراق قبل الثورة."

التقرير المكون من 4 صفحات المرفق بهذه الرسالة يقدم لمحلة عن تسلسل تنفيذ الانقلاب وأسبابه. محرر هذا التقرير يقول بأن أسباب الانقلاب وتسلسل مراحله تبين أنه لم ينفذ لأسباب سياسية والهدف منه هو إنهاء نظام الحكم الملكي.

" طبقاً لأسباب التمرد وتسلسله فإن الأمر لا يتعلق بانقلاب لأسباب سياسية. نظام الحكم الملكي يكون بذلك قد انتهى. زعيم العائلة الهاشمية ما يزال على قيد الحياة وهو الأمير زيد الذي كان سفيراً عراقياً في لندن. لكن ليست له ولأي من أقارب العائلة الملكية أية حظوظ للتربع على كرسي العرش. وهذا ينطبق بوجه الخصوص على الملك حسين الذي حتى لو فرض نفسه على كرسي الملك بقوة السلاح لن يفلت من القتل. محاوري يخشى أن يكون نزول قوات وحشدها حول العراق يهدف إلى التدخل في العراق والقضاء على الحكومة الحالية. سؤالي حول ما إذا قررت الحكومة العراقية الجديدة ربما لهذا السبب استئناف علاقات دبلوماسية مع روسيا ـ العلاقات تم إلغاؤها بطلب عراقي بداية 1955 لأنه كما صرح لي كاتب الدولة غيلاني مرة أن السفارة الروسية لم تكن سوى مركز للدعاية الشيوعية وللتجسس ـ للحصول على دعم لم يلقى جواباً من محاوري الذي عبر مقابل ذلك عن قلقه تجاه ذلك القرار.

إضافة إلى ذلك تم التعبير عن بعض التخوفات من أن تلجأ بريطانيا إلى حجز الودائع المالية العراقية لديها التي تتراوح قيمتها النقدية الإجمالية بين 125 و130 مليون جنيه إسترليني وتدفع بالعراق إلى أزمة مالية صعبة. أما مدخرات الذهب والعملة الصعبة الموجودة في العراق فهي ليست مهمة.

محاوري الذي يرحب بالتحول السياسي الراهن لا يأمل في أن يحصل تقارب وثيق مع الجمهورية العربية. إنه ينظر إلى هذا النوع من التوحد كخطر كبير على بلاده لأن مصر غير مهتمة بالتنمية في العراق بل تريد فقط أمواله لتوظيفها في أغراضها الخاصة بها. وبذلك سيتحول العراق مجدداً إلى منطقة قاحلة. لكن يبقى من الضروري التوصل إلى علاقات أفضل مع مصر. أشرت هنا إلى أن رئيس الوزراء السابق علي جودات حاول تحقيق ذلك في صيف 1957 وعرض على ناصر زيارته إلاّ أن هذا العرض قوبل بالرفض من قبل ناصر...

حكومة نوري السيد كانت تتمتع بمساندة 10% من مجموع الشعب والإطاحة بها كانت حتمية عاجلاً أم آجلاً والمؤسف فقط هو أن يتم ذلك بهذا الشكل وفي هذا التوقيت. التدخل الأمريكي البريطاني في الأردن ولبنان كان يهدف إلى بسط الاستقرار في هذين البلدين وتفادي أي تدخل من الخارج أو مؤامرة داخلية محبوكة انطلاقاً من الخارج. العملية برمتها هي تحذير لناصر لكي لا يحاول إنشاء أمبراطورية عن طريق القوة وللسوفيات كي يوقفوا أنشطتهم المعادية. جميع الأخبار المتاحة هنا تقول إن العملية أدت إلى نشر الاستقرار في لبنان والأردن وهو لا يعتقد بأن السوفيات سيتدخلون في هذين البلدين لأنهما لا ينتميان إلى مناطقهم الحيوية الهامة.

السيد ستيوارت وصف موقف تركيا الذي يتبناه السيد بينلير بأنه جد خطير لأنه يفتح الباب أمام سلسلة من الشائعات تغذي فقط اللآلة الدعائية للسوفيات. السفارة البريطانية لديها عدة مؤشرات على أن بعض الأوساط التركية ـ حول زورلو وكذلك لدى بعض العسكريين ـ تنظر بايجابية إلى تدخل بريطاني أمريكي في العراق مع إثارة مشاركة تركيا. غير أن الحكومة التركية ليس لديها أي دافع لتفترض أن بريطانيا ستدعم هذا النوع من العمليات، وهذا ما تم توضيحه بدون لبس للأتراك من قبل السفير البريطاني".

 

يقول الكاتب العراقي فاضل الجلبي في مقالة نشرتها (صحيفة الحياة في 1-6-2005) "أن وقائع انقلاب تموز (يوليو) العام 1958، وما بعده أشارت بوضوح تام إلى إصرار السياسيين العراقيين على فرض آرائهم على الآخرين، ولو باللجوء إلى العنف، أو سفك الدماء. بعد أيام من نجاح الانقلاب نشأ صراع على السلطة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، ورفع البعثيون شعار الوحدة الفورية مع مصر، وهو شعار سياسي يمكن طرحه بالسبل السلمية، ولكن حزب البعث الذي كان طرفاً صغيراً في الجبهة الوطنية عام 1957 اتجه إلى العنف لفرض هذا الرأي السياسي، عبر محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم سنة 1959. وكان صدام حسين من بين منفذيها.

كما كان الشيوعيون، من جانبهم، يرددون شعار الاتحاد الفيدرالي، وليس الوحدة الفورية. ولطخوا أيديهم بسفك الدماء واللجوء إلى لغة العنف في محاورة الآخر، مما أفسد الأهداف المعلنة لما عرف بثورة 14 تموز. أعرب القوميون، من ناحية أخرى، عن رأيهم في الوحدة مع مصر عبر محاولة انقلاب فاشلة للإطاحة بعبد الكريم قاسم قام بها رشيد عالي الكيلاني في 8 كانون الثاني يناير من عام 1959، تبعها ما سمي بحركة الشوّاف في الموصل في 8 آذار مارس من نفس العام".

وكان لهذه الوقائع جذورها وانعكاساتها الإقليمية التي تحدثت عنها الوثائق الألمانية بإسهاب، ففي رسالة صدرت عن سفارة ألمانيا الاتحادية في بغداد بتاريخ 18 ديسمبر 1958 موجهة إلى وزارة الخارجية في بون. موضوعها: مؤامرة 8 من ديسمبر1958 المزعومة في العراق. يقول محرر الرسالة بأن الإذاعة والتلفزة تبثان تعليقات تشير إلى تورط قوى أجنبية دون تحديد ملموس لهذه الشبهات. كما أظهرت التلفزة صوراً لبعض الأسلحة التي تحمل علامات صنع أمريكي إلاّ أن عددها هزيل. وقد ألقي القبض على رشيد عالي الكيلاني وعلى عدد من أعضاء عائلته. وتضيف أن رشيد عالي كان يعيش في ظروف تشبه النفي في شمال البلاد. وأن محرر الرسالة قام بزيارته بعد وصوله إلى بغداد ولم تعد له اتصالات مع السفارة.

وتضيف الرسالة بأن اعتقال الكيلاني المعروف بنضاله من أجل التحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة بناء على نموذج الوحدة بين مصر وسوريا يهدف إلى النيل من العناصر التي تؤيد مخطط الانضمام.

ويقول محرر الرسالة بأن السرية التامة المحاطة بمحاكمة المتآمرين المزعومين لها سببان: الأول هزال الأدلة ضد المتهمين وثانياً حماية الواقفين الحقيقيين وراء المؤامرة. وتكشف هذه المعطيات ولاسيما اعتقال رشيد عالي أن المؤامرة جاءت ممن يسمون بالعناصر المؤيدة لناصر. ويذكر هنا بأن الملحق العسكري المصري في بغداد متورط في القضية.

 

رسالة تقييمية لكل ما ينشر ويذاع في بغداد عبر وسائل الإعلام حول المؤامرة المزعومة في الـ 8 من ديسمبر 1958. الرسالة من سفارة ألمانيا الاتحادية في بغداد بتاريخ 18 ديسمبر 1958 موجهة إلى وزارة الخارجية في بون. موضوعها: المؤامرة المزعومة في العراق.

"كما سبق الإبلاغ عنه تم الإعلان هنا في الـ 8 من الشهر الجاري عبر الإذاعة عن الكشف عن مؤامرة. تعليقات مفعمة أشارت إلى قوى أجنبية قد تكون واقفة وراء هذه المؤامرة دون تحديد هذه الشبهات. كما ذكر أن المحاكمة ضد المتآمرين ستتم أمام محكمة الشعب وأظهرت التلفزة في مساء الـ 8 من ديسمبر بعض الأسلحة التي تحمل علامات صنع أمريكي. إلاّ أن مجموعة الأسلحة كانت هزيلة إلى حد أنها لا تثير أي اعتبار. ومنذ تلك اللحظة توقف سيل الأخبار الرسمية حول المؤامرة وحجمها والمشاركين والأسباب." ...

"ألقي القبض على رشيد عالي الكيلاني وعدد من أفراد عائلته لاسيما حفيد كان يشغل هنا منصب نائب مدير البنك الفرنسي بالإضافة إلى عدد من الشيوخ المعروفين الذين تم أطلاق سراح بعضهم. رشيد عالي الذي استقبل لدى عودته في آب باحتفالات شرفية كبيرة تم تهميشه بسرعة من قبل الحكومة وظل يعيش في الشهور الأخيرة في نوع من المنفى في شمال البلاد. قمت بزيارة رشيد عالي بعد وصوله إلى بغداد، وكنت قد كتبت تقريراً حول تلك الزيارة ولم تعد لديه اتصالات أخرى مع السفارة. لكن كان معروفا أن الكيلاني من المناضلين من أجل وحدة سريعة وكاملة للعراق مع الجمهورية العربية المتحدة وكان يقوم هنا بنشاط واسع. إلقاء القبض عليه يستهدف القضاء على العناصر التي كانت تعمل من أجل التحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة على النموذج السوري. ويتم الحديث حالياً عن نية طرد رشيد عالي لمدة خمس سنوات خارج البلاد، أما ابن أخته فقد حكم عليه كما ذكر سلفاً بالإعدام. تنفيذ الحكم أكدته لي شخصية يمكن الارتكان إليها غير أن ذلك تم نفيه مجدداً من طرف آخر.

إلى ذلك يؤدي اعتقال عدد من الشيوخ إلى فرضية أن الحكومة تريد في الوقت نفسه تخويف ما يسمى بالعناصر الإقطاعية الذين هم غاضبون من النظام الجديد لاسيما من إصلاح الأراضي. ويبدو أن بعض الضباط كانوا من بين المعتقلين لكن ليس من ذوي الرتب العالية. كما أنه لا توجد إلى حد الآن أدلة على أن الأمر مرتبط بأنصار العقيد عارف الذي اعتقل في الـ 4 من نوفمبر، عارف لم يكن ولا يتمتع إلى حد الآن حسب كل ما أسمعه بأي دعم يذكر داخل الجيش.

وحقيقة أن المحاكمات المستمرة ضد ما يسمون بالمتآمرين ـ ويتعلق الأمر ربما بـ 30 شخصاً أو أكثر ـ تحاط بسرية تامة من قبل الحكومة يمكن تفسيرها بسببين، من ناحية بهزال الحجج التي تم تبيانها إلى حد اليوم ومن ناحية أخرى بالرغبة في حماية الواقفين الحقيقيين وراء المؤامرة. هذه المعطيات ولاسيما اعتقال رشيد عالي قد تؤشر على أن المؤامرة برمتها انطلقت في جزئها الكبير ممن يسمون العناصر الناصرية. وكما تم الإعلان عنه سابقاً يبدو أن الملحق العسكري المصري هنا متورط في القضية".

رشيد عالي الكيلاني، رئيس وزراء، ووزير مخضرم في العهد الملكي، حيث شغل العديد من المناصب الوزارية ولعب دوراً كبيراً في إسقاط العديد من الوزارات، والإتيان بغيرها. قاد عام 1941 انقلاباً ضد حكومة ياسين الهاشمي [بمعاونة قادة الجيش، العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ] و كامل شبيب ومحمود سلمان و فهمي سعيد وشكل وزارة برئاسته، وعلى أثر ذلك هرب الوصي عبد الإله إلى القاعدة البريطانية في الشعيبة، لكن القوات البريطانية احتلت بغداد وأعادت الوصي عبد الإله إلى العرش من جديد، وهرب الكيلاني إلى خارج العراق، حيث تمكن من الوصول إلى ألمانيا، وبقي فيها إلى ما قبل سقوط برلين حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية، وأخيراً أستقر به المقام في مصر.

 وعندما قامت ثورة 14 تموز عام 1958، أصدرت حكومة الثورة قراراً بالعفو عنه، حيث كان قد حكم عليه بالإعدام، واعتبرت حركة أيار 1941 حركة وطنية، وأُعيد الاعتبار إلى قادتها. وعليه فقد عاد رشيد عالي الكيلاني إلى العراق في الأول من أيلول 1958، بعد غياب دام 17 سنة مكرماً معززاً كأحد أبطال حركة مايس 1941، وقبل عودته قابل الرئيس عبد الناصر، وصرح بعد المقابلة، أنه يشعر بوجوب إقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة .

قام عبد السلام عارف بزيارته في بيته، كما أستقبله عبد الكريم قاسم في مقره، بوزارة الدفاع مرحباً به، بوصفه قائداً لحركة أيار 1941، لكن الكيلاني سرعان ما أخذ يشبع رغبته بالحكم، ولم يمضِ على عودته سوي أيام قلائل حتى أصبح داره ملتقى لأصدقائه وأعوانه من القوميين، وكان في مقدمتهم أبن أخيه مبدر الكيلاني، والمحامي عبد الرحيم الراوي، وعبد الرضا سكر، كما كان على علاقة وتجمع المراجع العراقية أنه كان على صلة وثيقة بسفارة الجمهورية العربية المتحدة.

فُوجئ الشعب العراقي في 8 كانون الثاني 1959 بإذاعة بيان من دار الإذاعة جاء فيه: أنه تمّ اكتشاف مؤامرة خطيرة كان مقرراً لها أن تنفذ ليلة 8/9 تهدد الأمن الداخلي، هذه المؤامرة هي من تدبير بعض العناصر الفاسدة أُعدت بمساعدة الأجنبي من خارج البلاد، وإن الأدلة، والأموال، والأسلحة التي كانت ستستخدم لتنفيذ هذه المؤامرة قد تم وضع اليد عليها، كما أن الضالعين، والمدبرين لها قد أُحيلوا إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة محكمة الشعب لمحاكمتهم بتهمة الخيانة والتآمر على الوطن.

كما قام تلفزيون بغداد بعرض جانب من الأسلحة، والأموال التي تم ضبطها مع المتآمرين. لم يوضح البيان بادئ الأمر طبيعة المؤامرة، ولا أسماء القائمين بها، ولا الدولة التي كانت وراءها غير أن الراديو ذكر في اليوم التالي، أن الرجعية التي تضررت مصالحها سبب قانون الإصلاح الزراعي، والشعارات القومية، كانت وراء المحاولة الانقلابية.

وبعد أسابيع من صدور البيان، أُعلن أن رشيد عالي الكيلاني كان على رأس المحاولة التي ضمت عدداً من الضباط المحسوبين على الجناح القومي، وكان من بينهم ابن أخيه مبدر الكيلاني بالإضافة إلى عدد من شيوخ العشائر، وعدد من الضباط، كان من بينهم طاهر يحيى مدير الشرطة العام وعبد اللطيف الدراجي معاون رئيس أركان الجيش، ورفعت الحاج سري رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية وغيرهم من الضباط. كما تبين للمحكمة أن رشيد عالي الكيلاني كان على اتصال وثيق بسفارة الجمهورية العربية المتحدة، وبشكل خاص مع رجال المخابرات، الملحقين العسكريين عبد المجيد فريد وطلعت مرعي ومحمد كبول.

كان مقرراً تأليف مجلس لقيادة الثورة مؤلفاً من 15 عضواً، وتقرر أيضاً فور نجاح الانقلاب تأليف وزارة جديدة، وإعلان انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة، كما هيأ الانقلابيون الأسلحة المهربة من العربية المتحدة ـ القطر السوري ـ لكي توزع على مناصريهم حال بدء الحركة، كما أُعدت الطائرات العسكرية في سوريا لإسقاط التجهيزات العسكرية في أي منطقة من العراق يكون الانقلابيون بحاجة إليها. وقيل أن الكيلاني تلقى الأموال من السفارة المصرية لتوزيعها على شيوخ العشائر، عن طريق المصرف الوطني للتجارة والصناعة.

مثُل رشيد عالي الكيلاني، ومبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة ـ محكمة الشعب ـ حيث جرت محاكمتهم ليلة 9/10 كانون الأول، وصدر الحكم على مبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي، بالإعدام، ولم يثبت الاتهام ضد رشيد عالي الكيلاني، وتمت تبرئته من تهمة الاشتراك في المؤامرة، غير أن المحكمة استدعته مرة أخرى يوم 15 كانون الأول بتهمة جديدة، هي تحريض دولة أجنبية على القيام بأعمال عدوانية ضد العراق.

بعد أن تقدم كل من مبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي برسالة إلى رئيس المحكمة طالبين الحضور إلى المحكمة لتقديم إفادة جديدة عن دور رشيد عالي الكيلاني في محاولة الانقلاب، فاستدعتهما للتحقيق مرة أُخرى، حيث تحدثا أمام الهيئة التحقيقية بالتفصيل عن دور رشيد عالي الكيلاني، وهكذا أصبح الاثنان شاهدا إثبات في قضية جديدة. وفي 17 كانون الأول صدر الحكم ضد رشيد عالي الكيلاني بالإعدام شنقاً.

وعن مخاوف نظام عبد الكريم قاسم من القوميين والمساعي الوحدوية للمحسوبين عليهم جاءت رسالة ألمانية أخرى على شكل تقرير من السفارة الألمانية في بغداد بتاريخ 25 نوفمبر 1958 مكون من صفحة واحدة لا يحمل توقيعاً ولم تكتب عليه الجهة المرسل إليها.

الفكرة البارزة لهذا التقرير تتمثل في ما يلي: في مساء الـ 4 من نوفمبر أصدر قاسم بياناً أعلن فيه أن السفير العراقي السابق في بون عبد السلام عارف عاد إلى العراق دون توكيل أو رخصة. ونظراً لمحاولته إلحاق الضرر بالأمن العام فتم اعتقاله اليوم. "لقد علم أن عارف كان على اتصال مع دوائر إمبريالية ويحتمل مع الولايات المتحدة عبر السفارة التركية في بغداد. وثائق المؤامرة التي دبرها عارف ورفاقه ستنشر قريباً. عارف ورفاقه استخدموا بوجه خاص شعارات حزب البعث التي كانت تطالب بوحدة فورية مع الجمهورية العربية المتحدة. وبعد الكشف عن أهداف هذه المجموعة وبعد المظاهرات الحاشدة التي تمت في بغداد ومناطق أخرى في البلاد في الـ 5 من نوفمبر والأيام التالية حصل انشقاق داخل البعث أدى إلى بروز جناح يميني وآخر يساري لجأ إلى دعم قاسم.

 

تقرير من بغداد بتاريخ 25 نوفمبر 1958 مكون من صفحة واحدة لا يحمل توقيعاً ولم تكتب عليه الجهة المرسل إليها.

"مساء الـ 4 من نوفمبر صدر بيان عن قاسم ورد فيه أن "الكولونيل السابق عارف السفير العراقي في بون قد وصل إلى العراق دون توكيل أو رخصة. ونظراً للاهتمام العام وتكرار محاولته الإخلال بالنظام تم اعتقاله اليوم. سيقدم اليوم أمام المحكمة بسبب تهديد أمن البلاد. كل شخص يجب أن يعلم بأن مصلحة الشعب وأمن الجمهورية العراقية تعلو على المصالح الفردية" لقد انكشف أن عارف له اتصالات مع أوساط إمبريالية ربما مع الولايات المتحدة عبر السفارة التركية في بغداد، وينتظر قريباً نشر وثائق مؤامرة عارف وأنصاره. عارف ومجموعته استخدموا لأهدافهم شعارات حزب البعث الداعية إلى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. بعد الكشف عن أهداف هذه المجموعة وبعد المظاهرات الجماهيرية التي حصلت في بغداد وجميع مناطق البلاد في الـ 5 من نوفمبر والأيام التالية وقع انقسام داخل البعث إلى جناح يميني وآخر يساري تحول إلى مساندة قاسم. البعث الذي كان دوماً في موقع هجومي تم دفعه إلى موقف دفاعي. جماهير الشعب التفت بوضوح حول قاسم وطالبت بعقاب صارم للمتآمرين.

 

وبعد أقل من شهر على تلك الوثيقة جاء تقرير ألماني آخر مكون من 3 صفحات ويحمل في آخره توقيعاً باليد غير مقروء. التقرير حرر في بغداد بتاريخ 12 ديسمبر 1958 وهو يقول بأن الوضع السياسي الداخلي يواجه اضطرابات جديدة إذ تم كشف النقاب في الـ 5 من ديسمبر عن مؤامرة أعلن عنها بصفة رسمية في بيان صادر عن رئيس الوزراء في الـ 8 من الشهر نفسه والتي كانت ستنفذ في الـ 9 و الـ 10 من ديسمبر.

المدبرون لهذه المؤامرة هم في المقام الأول الولايات المتحدة مع إشراك كافة الدول المجاورة للعراق. والصحافة العراقية تربط بين الزيارة المعلن عنها لنائب وزير الخارجية الأمريكي رونتري إلى بغداد، والمؤامرة. أما هدف المؤامرة فتمثل بوجه خاص في تنظيم اضطرابات في كركوك بمساعدة الفرقة الثانية المرابطة هناك. ولتأمين الحدود كان مبرمجا أن تتدخل كل من تركيا وإيران فوراً. وحتى الجمهورية العربية المتحدة مشاركة هي الأخرى في المؤامرة الجديدة. ومن بين المنظمين الأساسيين داخل العراق هناك مستشار سفارة الجمهورية العربية المتحدة (عزام) وهو سوري ومن عائلة خالد عزام إضافة إلى قنصل الجمهورية العربية المتحدة (خليل) وهو أيضاً سوري يتولى أنشطة ربط العلاقات مع الدول الاشتراكية في بغداد. ويتم التكتم عن مشاركة الجمهورية العربية المتحدة في هذه المؤامرة، والمؤكد هو أن جميع الأسلحة المصادرة تأتي من الجمهورية العربية المتحدة وتم نقلها عبر الحدود السورية العراقية وهي من صنع بريطاني أمريكي. كما عثر لدى شخصين معتقلين في الـ 8 من ديسمبر على رسائل من المكتب الثاني للجيش السوري.

 يشير التقرير في فقرته الثالثة إلى العناصر العراقية المشاركة في المؤامرة تحت غطاء الشعارات القومية والوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة من أجل القضاء على حكومة قاسم. بل وهناك وزيرين اثنين مشاركين في المؤامرة لم تذكر أسماؤهما. يقول التقرير إن الخطر الكامن وراء هذه المؤامرة الخامسة والأخطر يتجلى في تورط أجزاء من الجيش في الأعداد لها. وإلى جانب الاعتقالات تمت مصادرة أسلحة ووثائق وأموال مصدرها البنك الفرنسي في بغداد.

تقرير مكوّن من 3 صفحات ويحمل في آخره توقيعاً باليد غير مقروء. التقرير حرر في بغداد بتاريخ 12 ديسمبر 1958.

"يواجه الوضع السياسي الداخلي قلاقل متجددة. في الـ 5 من ديسمبر تم الكشف عن مؤامرة أعلن عنها رسمياً في الـ 8 من ديسمبر في بيان صادر عن رئيس الوزراء والتي كانت ستنفذ في الـ 9 والـ 10 من ديسمبر.

منفذو ومنظمو هذه المؤامرة كانوا في المقام الأول الولايات المتحدة مع إشراك جميع الدول المجاورة للعراق. الصحافة العراقية أثارت الزيارة المعلن عنها لنائب وزير الخارجية الأمريكي Rowntree إلى بغداد في ارتباط مع هذه المؤامرة. هدف المؤامرة تمثل في تنظيم تمرد لاسيما في كركوك بمساعدة الوحدة الثانية المتمركزة هناك. و"لتأمين الحدود" وجب على تركيا وإيران أن تتدخلا بسرعة. وحتى الجمهورية العربية المتحدة متورطرة في هذه المؤامرة الجديدة. بين المنظمين الفاعلين داخل العراق هناك سفير الجمهورية العربية المتحدة عزم وهو سوري وأحد أقارب خالد عزم إضافة إلى قنصل الجمهورية العربية المتحدة خليل وهو أيضاً سوري كانت له أنشطة بارزة في ربط اتصالات مع الدول الاشتراكية في بغداد. مشاركة الجمهورية العربية المتحدة في هذه المؤامرة تحاط بالسرية ولا ينشر عنها شيء. الأمر المؤكد هو أن جميع الأسلحة المصادرة تأتي من الجمهورية العربية المتحدة عبر الحدود السورية العراقية والتي هي من صنع أنجلو أمريكي. وعثر لدى شخصين تم اعتقالهما في الـ 8 من ديسمبر على مخطوطات للمكتب الثاني للجيش السوري.

ومن الجانب العراقي شارك في المؤامرة ممثلون عن الجناح اليميني للأحزاب المدنية الذين تحالفوا مع القوى الرجعية داخل البلاد وأعداء حكومة قاسم في الخارج والذين عملوا تحت غطاء الشعارات القومية مثل الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة على تنحية حكومة قاسم. ويبدو أن وزيرين متورطين في المؤامرة إلاّ أن أسماءهما لا تعرف مثل أسماء الذين اعتقلوا بسبب هذه المؤامرة. رسمياً تم الإعلان عن حقيقة وجود مؤامرة.

خطر هذه المؤامرة الخامسة إلى حد الآن والأكثر جدّية يكمن في أن أطرافاً من الجيش شاركت في الإعداد لها. المدير العام لقوى الشرطة أقيل عن منصبه بالإضافة إلى قائد الشرطة في محافظة بغداد. العناصر القيادية تم اعتقالها كما أن اعتقالات إضافية ماضية على قدم وساق. وصودرت أسلحة ووثائق وأموال مصدرها البنك الفرنسي في بغداد. السلوك المتردد لقاسم في مواجهة الرجعية والمتآمرين المكشوفين إلى حد الآن يؤثر سلباً على الاستقرار الداخلي. قاسم يحاول بناء "ديمقراطية للجميع" إلى أن أظهرت له هذه المؤامرات المخاطر المرتبطة ببقاء الجمهورية. فهو يتردد مثلاً في تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة ضد الخونة لنظام نوري السيد فهو ما يزال يعتبر عارف "صديقاً" ويؤجل المحاكمة المرتقبة. الوزارات والجيش لم يشهدوا أي عمليات تطهير ملموسة. فالمدير العام للقسم السياسي في وزارة الخارجية كان بمقدوره وصف نوري السعيد في تقرير نشر في صحيفة "البلاد "ك" إصلاحي في العراق"...

علاقات السياسة الخارجية مع الدول الرأسمالية لم تسجل أي تغيرات. وفد عراقي أبرم اتفاقية تجارية في الهند تشتري بموجبها الهند 85.000 طن من التمور. وزارة التنمية أصدرت بياناً قالت فيه أن سلسلة من الشركات من بلدان رأسمالية لم تعد تقم خلافاً للاتفاقيات بمهامها."

 

الملفت في جميع الوثائق الألمانية بالتحديد هو أن أياً منها لا يأتي على ذكر أي من المعلومات التي تأكدت لاحقاً عن طبيعة وعمق العلاقة التي أثبتت الوقائع التاريخية صحة وجودها بين عبد السلام عارف والجمهورية العربية المتحدة، كما أن أياً منها لا يتناول ما اعترف به العديد من زملاء عارف ومعاصريه من توافق بلغ حد التنسيق والتعاون بين البعثيين بقيادة عارف والأجهزة الأمريكية في المنطقة.

هذا ما أورده حازم صاغية في الطبعة الثانية من كتابه: (بعث العراق/ سلطة صدَام قياماً وحطاما) الصادر عن دار الساقي بيروت، حيث تحدث عن "دعم المخابرات الأمريكية المهجوسة يومها بمحاربة الشيوعية. واعتراف علي صالح السعدي في مذكراته بأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي أي إيه)، زودت البعثيين قوائم بأسماء الشيوعيين لتصفيتهم".

 

ويستمر تعقب الوثائق الألمانية التي ترصد الانعكاسات الدور الإقليمي في الأحداث والمحاولات الانقلابية في العراق، وقد جاء الـ تقرير من بغداد بتاريخ 16 مارس 1959 مكون من 4 صفحات عنوانه: تفاصيل حول التمرد في الموصل. يقول التقرير إن من بين الحقائق التي أظهرها التمرد ما يلي:

1 ـ صلابة القوى التقدمية التي كانت قادرة على القضاء على المؤامرة الرجعية الإمبريالية

2 ـ ضعف الرجعية

3 ـ ضعف الحكومة العراقية

4 ـ ضرورة تنفيذ الطلبات التي ترفعها القوى التقدمية

5 ـ عدم صدقية بعض وحدات الجيش لاسيما بعض الضباط القياديين

6 ـ مشاركة الجمهورية العربية المتحدة

7 ـ مشاركة ضباط أتراك وإيرانيين وأمريكيين

 

يذكر التقرير بأن وفوداً كثيرة انتقلت إلى بغداد لإطلاع السلطات هناك على ما يجري في الموصل وهذه التحذيرات لم تؤخذ على محمل الجد مما عزز شوكة أعداء الجمهورية. وتقول مصادر موثوق بها أنه تم إخبار السلطات المسؤولة وقاسم في الـ 23 من فبراير بأن ناصر يستعد لتنفيذ انقلاب يطيح بحكومة قاسم. ويشمل المخطط التسبب في اضطرابات داخل كبريات المدن العراقية لاسيما في الموصل.

وقد بدأت المؤامرة حسب التقرير باتصالات منتظمة بين شخصيات رسمية سورية وعراقية وأخرى بين أعضاء في المكتب الثاني السوري وقائد المنطقة الشمالية للجيش العراقي. ... بعد عدة تفاصيل يشير التقرير إلى أنه في ليلة الـ 5 من آذار مارس زادت حركة تهريب الأسلحة عبر الحدود السورية. وسلسلة من الأسلحة المتوفرة لدى المتآمرين مصنوعة في بور سعيد وغالبية الرشاشات من نوع Vickers.

يصف التقرير فيما بعد تسلسل أحداث التمرد والقضاء عليه من قبل الجيش العراقي. وفي الفقرة الأخيرة يشير التقرير إلى أن ناصر كان متورطاً في المؤامرة إلى جانب ضباط أتراك وإيرانيين وأمريكيين مما جعل غضب الجماهير ينصب على المسؤولين في الجمهورية العربية المتحدة.

 

في شباط فبراير من عام 1959 حلت القطيعة بين أحزاب التحالف الجمهوري الحاكم فاستقال الوزراء القوميون والمحافظون، ومن بينهم فؤاد الركابي. لتبدأ بعد ذلك سنة عرفت بعام محنة البعثيين في العراق. فقد شعروا بفقدان المرجعية الفكرية والسياسية في دمشق بعد أن جرى حل الحزب في سوريا، وتردت علاقات رفاقهم السوريين بالقيادة الناصرية، ليتوج ذلك كله بتمرد الضابط القومي عبد الوهاب الشوّاف في الموصل في آذار مارس أدت إلى مذبحة نالت من البعثيين عميقاً.

وزاد من إضعافه على الساحة الشعبية العملية التي نظمتها قيادته لاغتيال قاسم، ففي 7 تشرين أول أكتوبر، حاولت مجموعة كان في عدادها بعثي في الثانية والعشرين من عمره اسمه صدام حسين التكريتي اغتيال الزعيم قاسم، ولكن المحاولة باءت بالفشل، فقتل من بينهم عبد الوهاب الغريري وأصيب البعض الآخر وفر الباقون إلى سوريا ومصر.

تعكس الوثائق الفرنسية تلك الحقبة بما تراه فيها من أبعاد تؤثر كما تتأثر بها على حد سواء، وهذا ما نقرأه في وثيقة تحمل تاريخ 15 يوليو 1958 من السفارة في واشنطن تحمل توقيع السيد فاند.. وهي تقول: زملائي في إيران وتركيا يتابعون بأهمية تطور الوضع في الشرق الأوسط. والسيد أردلان.. الذي كان وزيراً للخارجية في طهران يؤكد أنه أعطى بنفسه قبل أسابيع معلومات لسفارة الولايات المتحدة عن المؤامرة التي يتم التحضير لها في بغداد مع لائحة بأسماء الجنرالات المستعدين لتولي السلطة.

كما أبدى انزعاجه لأن الولايات المتحدة لم تبد أي اهتمام بمعلوماته. وتشير الرسالة إلى أن السيد أرغوبلو.. التركي الجنسية يأسف بأنه إذ لم تقدم الولايات المتحدة على تدخل عسكري فإن الشرق الأوسط سيقع برمته تحت سلطة (الرئيس جمال) عبد الناصر. كما تتحدث الوثيقة عن صلات قائمة بين جنرالات أتراك وعراقيين. كما تشير إلى الوضع في لبنان وكيف طلب الرئيس (كميل) شمعون من تركيا التدخل في حال لم تتدخل القوى الغربية ولم تف بالتزاماتها. ثم تختتم بالحديث عن اجتماع حلف بغداد في أنقرة لاتخاذ موقف موحد تجاه المتمردين العراقيين (الانقلابيين).

 

برقية واردة من واشنطن

إلى الشئون الخارجية

15-7-1958

 

إن زميليّ الإيراني والتركي يتابعان ببالغ القلق تطور الأحداث في الشرق الأوسط.

السيد "أردلان" , الذي كان قبل أسابيع قليلة وزيراً للشئون الخارجية في "طهران", يذكر أنه قام بنفسه منذ شهور بإعطاء السفير الأمريكي في "طهران" تفاصيل دقيقة عن المؤامرة الجاري تدبيرها في "بغداد", إضافة إلى قائمة بالعقداء المستعدين لتولي السلطة. وهو يشكو من أن أحداً لم يبال بتحذيراته في "واشنطن".

من جهة أخرى, حظيت عصر 14 يوليو بمقابلة طويلة مع السفير التركي, وفيها أبدى السيد "أرغوبلو" استياءه من تردد السياسة الأمريكية, في نظره, حيث أن الشرق الأوسط مرشح للسقوط بالكامل في القبضة الناصرية, في غياب عمل عسكري فوري. إن الموقف بالغ السوء, لا في "العراق" وحده, بل أيضاً في "الأردن" و"الكويت" و"السعودية", ولا يمكن أن يوصف بالامتياز في بلده هو "تركيا", فـ "تركيا" تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة, بينما لا تفعل "الولايات المتحدة" سوى القليل لمساعدة حليفتها الشرقية الرئيسية. قبل أسابيع قليلة تم اعتقال 20 ضابطاً تركيا, وظهرت أدلة على اتصالهم بالعقداء السوريين والمصريين, واستعدادهم لتولى السلطة هم أيضاً.

الموقف اللبناني يشغل بال الأتراك بصفة خاصة, وقد توجه الرئيس "شمعون" قبل حوالى 15 يوماً إلى الرئيس "جلال بيار", يسأله إن كان بوسعه التعويل على التدخل العسكري التركي, إذا ترددت القوى الغربية في الوفاء بالتزاماتها. وقد أرسلت الحكومة التركية لتوها الرد مع مبعوث إلى "بيروت". إن "تركيا" تمنح "لبنان" كل تأييدها, لكنها لا ترى في نفسها الأهلية للتدخل, في حالة امتناع "الولايات المتحدة".

أما عن الوضع الداخلي اللبناني فمن الصعب الحكم عليه بتفاؤل. يقول السيد "أرغوبلو" إن الرئيس "شمعون", بعد أن اقتنع أخيراً باختيار الجنرال "شهاب" خليفة له, نصح الأخير بتعيين رئيس وزراء مسلم يتمتع بقبول الغرب, وذكر بين أسماء أخرى اسم السيد "أحمد الداعوق", السفير اللبناني السابق في "باريس". فرد الجنرال "شهاب" بأنه سيضع على رأس الحكومة إما السيد "رشيد كرامي" أو السيد "صائب سلام", أي زعيمي التمرد والحزب الناصري. في تلك الظروف سيكون مصير "لبنان" تحت قيادة قائد الجيش حالي معرضاً للخطر, وهو ما يقلق "أنقرة" كثيراً.

 

ثم جاءت الوثيقة الفرنسية التالية في هذا المحتوى في اليوم التالي مباشرة، أي بتاريخ 16 يوليو من عام 1958 من العاصمة الإيرانية، وهي تؤكد أن طهران أصبحت بين أمبراطوريتين حمرائين. زعماء العراق الجدد موالين للشيوعية. أحداث بغداد ستقضي على لبنان. وتحامل إيران على بريطانيا والولايات المتحدة اللتان لم تقوما بأي شيء لتدارك ذلك. وسفير إيران في واشنطن كان أطلع قبل أشهر سفير الولايات المتحدة في طهران على المؤامرة التي تحاك في بغداد وأن السفير التركي كان يرى أنه في حال عدم تدخل عسكري مباشر فإن الشرق بأكمله سيقع تحت سيطرة ناصر. الوضع في بيروت يقلق تركيا، الرئيس شمعون انضم إلى موقف شهاب لكنه اختار رشيد كرامة مما يقلق تركيا.

 

برقية صادرة

الشئون الخارجية , مكتب أفريقيا والشرق الأوسط

"باريس" , 16 يولية , 1958

إلى السفارة الفرنسية , "بيروت"

وتنسخ إلى "أنقرة" و"طهران"

أتشرف بأن أبلغكم فيما يلى فحوى برقية وردت من "واشنطن" بتاريخ 15 يولية.

لقد قام السفير الإيرانى في "واشنطن" بإبلاغ السيد "ألفان" بأنه نقل منذ عدة أشهر إلى السفير الأمريكي في "طهران" معلومات عن المخطط الذي كان يتم تدبيره في "بغداد".

ومن جانبه قال السفير التركي إن الشرق الأوسط, في غياب عمل عسكري, يبدو مهيأً للسقوط السريع في قبضة "ناصر". إن الموقف في "بيروت" يشغل "تركيا", فهذا البلد يمد "لبنان" بالتأييد, وهو مستعد للتدخل إلى جانب "الولايات المتحدة". يرى السيد "أرغوبلو" أن السيد "شمعون" يؤيد الجنرال "شحادة (؟) ـ الخط غير واضح بالمرة, وأرجو التصحيح من مصادركم الأخرى" خليفة له, كما أنه ينصحه بتنصيب السيد "أحمد الداعوق (؟)" رئيساً للوزراء, بينما كان من شأن الجنرال أن يجيب بأنه يفضل "رشيد كرامي" أو "صائب سلام". وتلك الميول تقلق "أنقرة".

أضاف السيد "أرغوبلو" أن هناك اتجاهاً في "تركيا" يهدف إلى توسيع حلف "بغداد" بحيث يضم "الولايات المتحدة" و"فرنسا" و"إسرائيل". وقد أبرز السيد "أرغوبلو" الخطر الناصري, مشدداً على "جحافل" المدرسين والفنيين التي أرسلتها "القاهرة" إلى "ليبيا" و"السودان" بالأخص. كما تتعرض "تونس" لنفس التغلغل, وإن بدرجة أقل. لن تتمكن "تركيا" طويلاً من مقاومة حصار يتخذ كل يوم أبعاداً أكثر درامية.

 

لا شك أن الاتحاد السوفيتي أصبح على مقربة كبيرة من دائرة الحكم العراقي بعد انقلاب 14 تموز/يوليو من عام 1958، خصوصاً بعد إقامة التحالف الشديد والواضح بين الزعيم عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي هناك، وبالتالي فقد كان معنياً كذلك بمراقبة مصادر الخطورة التي يتعرض له نظام الحكم الجديد في بغداد، وهكذا نلاحظ أن وكالة تاس الحكومية الرسمية أخذت تنقل وقائع وأحداث تهدد بتنامي التهديد الإقليمي الذي يواجه حكومة قاسم في تلك الفترة.

وهكذا نجد بين تقارير الوكالة الحكومية السوفيتية:

 

رسالة في العاشر من آذار مارس من عام 1959 تتحدث عن مظاهرات عراقية حاشدة تجمعت أمام مبنى السفارة المصرية في العراق مطالبة بطرد موظفيها وعدم التدخل في الشؤون العراقية عبر تصريحات المعادية للقادة العراقيين. مشيرة بذلك إلى التدخل المصري المباشر في الشئون الداخلية العراقية.

 

ثم تبعت الوكالة الإعلامية السوفيتية الرسمية تاس ذلك بتغطية شاملة لما يعلنه راديو بغداد في 16-3-1959 عن أن إذاعة دمشق قد أعلن عن محاولة الانقلاب العسكري التي استهدفت قلب النظام القائم في العراق قبل أن تعلم به الحكومة العراقية نفسها. وكأنها تؤكد بهذا على التدخل السوري المباشر في الشئون الداخلية لبغداد.

 

وفي اليوم ذاته 16-3-1959 أصدرت وكالة تاس السوفيتية الحكومية تقريراً رسمياً آخر يقول، حسب الأنباء السورية، أن غرفة عمليات التمرد العراقي تقع في منطقة (سرسنك) في الجبال المحاذية للموصل حيث من عادة الملك فيصل أن يستجم. وهي تدعو في البيان الشباب العراقي أن يظل مؤمناً بالقومية العربية والمقدرة على حمل السلاح ومساعدة الثورة هناك.

 

حسب الأنباء السورية غرفة عمليات التمرد العراقي في منطقة (سرسنك ؟؟؟) في الجبال المحاذية للموصل حيث الملك فيصل كان يستجم.

في البيان طلب من الشباب العراقي أن يظل مؤمناً بالقومية العربية والمقدرة على حمل السلاح ومساعدة الثورة 16-3-59.

 

وإن كانت هذه الايحاءات بمجموعها غير كافية فقد تبعتها بنشر تصريحات أدلى بها الزعيم الشيوعي الشهير آنذاك خالد بكداش في 23-3-1959 يؤكد من خلالها أن ما حصل في العراق كان بدعم أطراف من الجمهورية العربية المتحدة و بعض المتورطين العراقيين والإمبريالية وأن هدف ذلك شن حملة شعواء ضد الشيوعيين.

 

الأنباء السورية تؤكد قصف الطائرات لقوافل اللاجئين إلى الحدود السورية من الموصل 2-3-59.

- خالد بكداش يصرح ما حصل في العراق كان بدعم أطراف في العربية المتحدة وبعض المتورطين العراقيين والإمبريالية وأن هدف ذلك شن حملة شعواء ضد الشيوعيين 23-3-59

 

وأخيراً تدق الوثائق السوفيتية اسفينها في نعش التدخل والنفوذ الإقليمي في شئون العراق حين تعلن في تقرير لها يحمل تاريخ 6-4-1959 أن الراديو السري للمتمردين والذي أطلق عليه لقب "صوت العراق الحر" يبث من محاذاة مدينة دير الزور السورية وقد قرأ مجموعة من البيانات التي تحدث فيها عن اشتعال معارك مزعومة بين قوات رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والمتمردين العسكريين هناك.

 

الراديو السرّي للمتمردين والذي أطلق على نفسه اسم "صوت العراق الحر" والذي يبث من محاذاة مدينة دير الزور السورية قرأ مجموعة بيانات تحدث فيها أنه بين قوات رئيس الوزراء قاسم والمتمردين العسكريين تدور معارك 6-4- 59.

 

وهكذا تشير الوثائق بوضوح إلى حجم الدور الإقليمي الذي لا يمكن تجاهله فيما شهده العراق من أحداث وانقلابات دامية، كما تشير أيضاً بما لا لبس فيه إلى الدور العراقي النشط والفاعل جداً فيما شهدته المنطقة برمتها من أحداث وانقلابات وخصوصاً على مستوى سوريا التي لا شك تستدعي منا تناولها بإسهاب في الجزء التالي من هذا الفصل.

 

يقول الباحث والسياسي المخضرم وليد المعلم في كتابه (سورية (1918ـ 1958)، الطبعة الأولى، دمشق، 1985، صفحة 117ـ 133)،"أن اللواء محمد سامي حلمي الحناوي كان على صلة مع العراق، ولما قام بالانقلاب في 14-8-1949 أي بعد أشهر فقط من انقلاب حسني الزعيم، دعى إلى وضع دستور جديد، وأعلن أنه لن يتدخل. وهنا طالب العراق بضم سورية إليها. وبعد يومين على الانقلاب سامي الحناوي السلطة رسمياً إلى هاشم الأتاسي الرئيس الأسبق الذي أذاع فوراً تشكيل الوزارة، ثم أعلن الحناوي أن مهمته الوطنية المقدسة قد انتهت، وأنه سيعود إلى الجيش، ولكنه عاد مجدداً بعد النكسات التي أصابت جهود زعامة حزب الشعب لإقرار الصيغ الدستورية الكفيلة بإعلان الاتحاد مع العراق.

اتفق أقطاب الحزب مع اللواء (سامي الحناوي) على قيام الجيش باعتباره الورقة الأخيرة المتاحة في أيديهم، بالتحرك لتحقيق هذا الهدف، وبتاريخ 16 كانون الأول/ 1949 وجه اللواء سامي الحناوي دعوة إلى خمسة من كبار الضباط للاجتماع به لمناقشة موضوع الاتحاد السوري ـ العراقي، فشعر هؤلاء بأن حضورهم يعني وضعهم تحت سلطة قائد الجيش فيفرض عليهم ما يريد، فاتخذوا التدابير اللازمة لاعتقاله، وبالفعل اعتقل الحناوي وأسعد طلس وآخرين من أنصارهما".

 

اشترك أديب الشيشكلي مع حسني الزعيم في الانقلاب الأول في (30 آذار/1949)، لكنهما اختلفا فصرفه الزعيم من الخدمة، كما اشترك مع الحناوي في الانقلاب الثاني في (14 آب/1949) والذي عينه قائداً للواء الأول برتبة عقيد، لكن الشيشكلي لم يحقق في الانقلابين طموحه الشخصي، ارتبط الشيشكلي بصلات قريبة مع العقيد أمين أبو عساف والنقيب فضل الله أبو منصور اللذين ساهما في اعتقال سامي الحناوي، ومهدا الطريق لأديب الشيشكلي المسيطر على مجلس العقداء، لمنازعة رئيس الدولة هاشم الأتاسي على السلطة، حيث أصدر الشيشكلي في صباح (19 كانون الأول/1949) بلاغاً بتوقيعه، أكد فيه إقصاء سامي الحناوي وأسعد طلس عن القيادة، لتآمرهم على سلامة الجيش وكيان البلاد ونظامها الجمهوري.

عُرف عهد الانقلاب الثالث بعهد الحكم المزدوج (أديب الشيشكلي وهاشم الأتاسي)، ولما كان الشيشكلي عضواً في مجلس العقداء ومسيطراً عليه فقد حل هذا المجلس وألّف بديلاً عنه مجلساً أسماه المجلس العسكري الأعلى.

وهكذا دخلت البلاد في عهد الانقلاب الرابع. ففي ليل 31 تشرين الثاني/1951 تمت خطوة الشيشكلي الحاسمة في الطريق إلى الحكم إذ اعتقل رئيس الوزراء معروف الدواليبي وزج به وبمعظم أعضاء وزارته في السجن، واعتقل رئيس مجلس النواب وبعض النواب، فما كان من رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إلا أن قدم استقالته.

 

يقول الدكتور معروف الدواليبي في مذكراته: "كشف العراقيون اتصال أديب الشيشكلي ببعض الضباط العراقيين الذين كانوا ملحقين عسكريين في سورية، وتفاهم معهم على إحداث انقلاب في العراق وضمه إلى سورية، على أن يجعل الضابط الذي يقوم بالانقلاب نائباً لرئيس الجمهورية. وصادف أن الضابط الذي اتصل به الشيشكلي كان من أنصار القصر الملكي في العراق. فبلّغ الخبر إلى القصر وكتمه عن غيره.

طلب القصر الملكي العراقي إلى الضابط الذي اتصل به الشيشكلي أن يقبض المبلغ المتفق عليه مع الزعامة السورية، ثم أجرى البلاط اتصالاً بهاشم الأتاسي واتفق معه على أن يحدث تمرداً أو ثورة في جبل الدروز عن طريق منصور بن سلطان باشا الأطرش ضد الشيشكلي، برئاسة الحكومة السورية غير المستقيلة، وقالوا لهاشم الأتاسي: أرسل لنا مندوباً بالنيابة عنك وسنقبل به.

أرسل الأتاسي إليهم صبري العسلي ليتفاوضوا معه على تفاصيل بدء الثورة في جبل الدروز. في هذه الأثناء كان أديب الشيشكلي يفاوض الوزارة التي لم تستقل بعد انقلابه، ثم أطلق سراح أعضائها بعد التأكد من الترتيبات الجارية لإعلان ما عرف بثورة الدروز بين العراق ومنصور بن سلطان باشا الأطرش.

أطلقت في سوريا دعوة للاستفتاء على الدستور الذي وضعه أديب الشيشكلي. وكان المؤتمر الأول في حمص حيث اتخذ قرار برفض الدستور الذي اقترحه أديب الشيشكلي. وفي آخر المؤتمر جاء رسول من العراق يدعو المؤتمرين للتعاون مع بغداد ضد الشيشكلي، بحجة أن فرنسا اتصلت به ليحدث انقلاباً في العراق بالاتفاق مع انجلترا وأميركا فقرَّر العراقيون إزالته".

ويقول خير الدين الزركلي في الصفحات 285،286 من الجز الأول من كتابه (الأعلام) الصادر عن ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عام 1980 "ولما شعر الشيشكلي بأن زمام الأمور أًفلت من يده، كلف أحد أعوانه بالاتصال مع الحكومة اللبنانية لقبوله كلاجئ سياسي ثم اتخذ ترتيبات مغادرته لسورية وسطر كتاب استقالته وسلمه للزعيم شوكت شقير، وتوجه إلى بيروت في 25 شباط/ 1954 ناجياً بنفسه إلى المملكة العربية السعودية.

 

انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية العربية السورية في 17/8/1943، وهو أول زعيم وطني تولى رئاسة الجمهورية السورية وبقي على رأسها حتى انقلاب حسني الزعيم عام 1949 حيث انتقل القوتلي إلى مصر، واستقر في الإسكندرية، حتى تغيرت الأوضاع في سورية بعد رحيل الشيشكلي وتنامي الحركة القومية العربية المؤيدة لمصر، فعاد إلى دمشق وانتخب رئيساً للجمهورية عام 1955 للمرة الثالثة.

في عام 1958 قصد القاهرة على رأس وفد من سورية، فاتفق مع رئيس الجمهورية هناك الرئيس جمال عبد الناصر على توحيد القطرين وتسميتهما (الجمهورية العربية المتحدة)، وتنازل عن منصبه لصالح الوحدة، وانتخب عبد الناصر رئيساً لها، وقد أُطلق عليه لذلك لقب المواطن العربي الأول. تنقل بعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر وأوروبا، وعندما وقع انقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961 كان في جنيف، فعاد إلى دمشق بطلب من حكومة الانفصال، وبقي في دمشق حتى انقلاب 8 آذار 1963 حيث غادرها إلى جنيف مجدداً وبعد عام انتقل إلى بيروت واستقر فيها حتى وافته المنية متأثراً بمرضه.

يقول باتريك سيل في كتابه (الصراع على الشرق الأوسط). أنه إباّن الوحدة السورية المصرية كان صلاح جديد برتبة رائد في سرب للطيران الليلي، وقد نقل هذا السرب أواخر عام 1959م إلى مصر. وكان قد أصاب جديد وأربعة من رفاقه شعور بالصدمة والسخط ضد عفلق والبيطار، مؤسسي حزب البعث، اللذين اتخذا قرار حل الحزب سنة 1958م، وقرر جديد ورفاقه (محمد عمران ـ حافظ الأسد ـ عبد الكريم الجندي ثلاثة علويون وواحد إسماعيلي ويقال أن أحمد المير كان من مؤسسي اللجنة) أن يقيموا تنظيماً سرياً أطلقوا عليه اسم (اللجنة العسكرية)، وكانت أهدافهم الظاهرة هي: إعادة بناء حزبهم المشتت، ووصول حزب البعث إلى السلطة، ومن ثم النظر في أمر الوحدة العربية.

بعد الانفصال (28 أيلول 1961) أودع صلاح جديد وزملاؤه السجن في مصر، ثم أطلق سراحهم في عملية مبادلة مع مجموعة من الضباط المصريين المحتجزين في سورية، وصرفتهم القيادة العليا الجديدة ومجموعة من الضباط البعثيين من الجيش، فراح جديد ورفاقه يعملون بشكل جدي على توسيع التنظيم السري الذي بدأوه في القاهرة، وجرت اتصالات بينهم وبين عفلق مؤسس حزب البعث، إذ حصلوا منه على تعهد بدعمهم للقيام بانقلاب على حكومة الانفصال.

ساهم صلاح جديد بصفته واحداً من ضباط اللجنة العسكرية في انقلاب 8 آذار 1963م، واستطاع ورفاقه البعثيون الوصول إلى الحكم، والقضاء على كل مقاومة منظمة لحكمهم.

ورقي جديد إلى رتبة لواء في الجيش، وفي عام 1964م استقال منه وانضم إلى الجناح المدني، وأطلق عليه اسم الرفيق صلاح جديد، وفي مؤتمر حزب البعث في نيسان 1964م انتخب أميناً مساعداً للحزب، وكانت هذه أول مرة يصعد فيها بعثيون عسكريون إلى القيادة.

كان الرفيق جديد يمثل اليسار الماركسي المتطرف في قيادة الحزب، ويطلق الشعارات اليسارية المتطرفة، وقد مهد لصدور قرار التأميم عام 1965م، واستطاع أن يقلب معركة الحزب بين الجناحين العسكري والمدني، ولكن تحت شعار الصراع بين اليسار واليمين، وبذلك استطاع كسب المعركة لمصلحته، وبدأ يفرض إرادته على الحكم ضمن شرعية حزب البعث ونظامه الداخلي، وكان ينادي بالاشتراكية العلمية والحزب القائد والجيش العقائدي.

لقد أقصي أمين الحافظ، الذي سمي رئيساً لمجلس الرئاسة والأمين العام للقيادة القطرية والقائد العام للجيش ورئيس الوزراء، بعد أن انحاز هذا إلى عفلق وتخلى عن اللجنة العسكرية، في لعبة الصراع على السلطة، وهي خطوة وضعته فوراً على طريق المجابهة مع صلاح جديد، الذي كان سيد القرار في الشؤون السورية منذ أواخر صيف 1965م، حيث استطاع أن يبني لنفسه قاعدة شخصية هامة، عندما قام بمراقبة الجهاز الحكومي من خلال صديقه (يوسف زعيّن) الذي عينه رئيساً للوزراء، وكذلك التنقلات والترفيعات العسكرية بواسطة وزير الدفاع حمد عبيد، وأخيراً من خلال رفيقه في اللجنة العسكرية حافظ الأسد وجهازه الحزبي في القوات المسلحة. كان جديد مطمئناً إلى ولاء هذه القوات. وهكذا كان جديد يحكم الجيش باسم الحزب ويتسلط على الحزب باسم الجيش.

بتاريخ 23 شباط 1966م قام صلاح جديد ورفاقه بالانقلاب على أمين الحافظ، فأمسك جديد بالسلطة وبات الجميع في الحزب والجيش والجهاز الحاكم من جماعته، علماً بأنه ظل محتفظاً بمنصبه الحزبي (الأمين العام القطري المساعد)، أماّ الواجهة الجديدة فكان رئيس الدولة نور الدين الأتاسي".

 

ضياع الجولان في حرب 5 حزيران 1967م، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى وزير الدفاع حافظ الأسد عضو اللجنة العسكرية، مما أثار في نفسه شعوراً ملحاً مادام سيتلقى اللوم فليكن له صنع القرارات، فعقد العزم على أن يصبح سيد سوريا.

جاء المؤتمر القطري الرابع في أيلول 1968م ليعلن على الملأ ازدواجية السلطة وصراع القائدين رفيقي الأمس: صلاح جديد وحافظ الأسد، الذي لم يتباطأ في اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد أنصار جديد، مما جعل صلاح جديد يصبح في موقف دفاعي.

 وجاءت الخطوة القاتلة مع انفجار الحرب الأهلية في الأردن، وبقي التدخل العسكري البري للقوات السورية، المدعوم من صلاح جديد، مكشوفاً بلا غطاء جوي، مما أوقعه تحت سطوة النيران الأردنية. فدعى صلاح جديد إلى مؤتمر طارئ للقيادة القومية في 30 تشرين الأول لمحاسبة حافظ الأسد وزير الدفاع، وما أن انتهى المؤتمر الذي أكد خط صلاح جديد ونهجه حتى عاجله الأسد في 16 تشرين الثاني 1970 بانقلاب (الحركة التصحيحية) واعتقل خصومه، فأرسل جديد إلى سجن المزّة وظل محتجزاً فيه إلى أن توفي في 19/8/1993م.

تعكس الوثائق الفرنسية تلك الانقلابات في سوريا بحذر شديد مما يشوبها من تفاعلات إقليمية قد تشكل خطراً آخر على مصالحها في دمشق، خصوصاً وأن فرنسا كانت قد أجبرت على الخروج من هناك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقد وجدت نفسها مهددة بإحلال النفوذ البريطاني مكانها بعد ما شهدته فرنسا من ازدواجية في السلطة خلال الحرب الأخيرة أضعفت مكانتها في البلدان التي كانت تستعمرها عموماً.

وهكذا كانت باريس تنظر بحرص بالغ من نفوذ دول الجوار التي تقع تحت النفوذ البريطاني، ولديها طمع معلن بالاستيلاء على سوريا تحت شعارات مختلفة كإعادة العرش الهاشمي إلى دمشق، التي قادها نوري السعيد وعبد الإله في بغداد الواقعة تحت نفوذ بريطانيا حينها، أو نداءات وحدة الصف القومي التي كانت تنادي بها القاهرة وربما الرياض خلال النصف الأول من عقد الخمسينات.

 

يتحدث السيد سير سفير فرنسا في سوريا عبر وثيقة تحمل تاريخ 27 أغسطس 1949 وتتحدث عن وقائع الرابع عشر منه بكثير من تفاصيل الإنقلاب على حسني الزعيم ومحسن البرازي وكيف تم اقتياد الأول من منزله وإعدامه. ثم يضيف تعليقاً منه في ختامها شعوره بأن حفنة من العسكريين قد شعروا بالمذلة لأن الزعيم قد استبعدهم ولم يستفيدوا من الحالة الجديدة. ويبدو أن نفحة إقليمية ساعدت على تأجيج الحقد. يبدو أن الإنقلابيين لا يؤيدون حكماً مدنياً. حالة الغموض ما تزال قائمة.

 

"دمشق", 27 أغسطس 1949

"سير", السفير الفرنسي في "دمشق"

إلى سعادة وزير الشئون الخارجية

مؤامرة 14 أغسطس:

رغم أن أبعاد مؤامرة 14 أغسطس لم تتكشف بالكامل بعد, تلك المؤامرة التي ذاعت في عدد كبير من النسخ, ضاعف منه الخيال الشرقي الخصيب, فإن بعض الوقائع قد تأكدت الآن بحيث تستحق الإشارة إليها.

منفذ المؤامرة هو النقيب طيار "عصام مرود", ابن شقيق "على", منفذ محاولة اغتيال الجنرال "غورو" عام 1920, وابن "محمد" الضابط السابق في الجيش العراقى, قبل انضمامه إلى الجيش السوري, كما نجد أيضاً بعض المحيطين بـ "فوزي القاوقجي", الذي انسحب إلى "لبنان" بعد انقلاب "حسني الزعيم", الذي لم يكن يحبه, ولم يكف منذ ذلك الحين عن شن حملة شعواء عليه, فلا يدهشنا إذن أن نجد إلى جانب النقيب "مرود" النقيب "الرفاعى", رئيس أركان "فوزي القاوقجي" خلال الحملة الفلسطينية, المحب للألمان مثله, المتزوج من ألمانية مثله, والمظلي السابق لسلاح "الفيرمارش" الألماني في "روسيا" و"تونس".

كان مع "القاوقجي" في "فلسطين" أيضاً العقيد "أديب الشيشكلي" والنائب "أكرم حوراني", وكلاهما حموي من حماة؟؟؟ وعضو في الحزب الشعبي السوري, وكلاهما تعاون مع "حسني الزعيم" في أعقاب 30 مارس. وقد علمت من مصادر موثوقة أن "أكرم حوراني" تواجد في مقر القيادة ليلة الاغتيال, وأن "أديب الشيشكلي" , الذي تورط في شجار عنيف مع "حسني الزعيم" عقب إعدام "أنطون سعادة", كان معروفاً بالتدبير منذ أسابيع لخلع رئيس الجمهورية, الذي نقله إلى حامية "حلب" بعد أن سحب منه إدارة الشرطة, وكان يفكر في نفيه من "سوريا".

هؤلاء هم مدبرو المؤامرة.

لقد قرر النقيب "مرود", مع ضابطين آخرين, قتل "حسني الزعيم" في ليلة الخميس إلى الجمعة 12 أغسطس, بينما كان رئيس الجمهورية يعود إلى "دمشق" من حفل الصليب الأحمر الذي ترأسه في "بلودان". لقد ترصد المتآمرون الموكب الرئاسى على الهضبة الصحراوية الطويلة الواقعة بين "الهامة" و"دمشق", لكن رئيس الجمهورية غادر "بلودان" في الثالثة صباحاً, فخافوا أن يفاجئهم الصباح, وتركوا مواقعهم قبل مرور السيارات.

بعد تلك المحاولة الفاشلة, قرر المتآمرون ضم العقيد "الحناوي" إلى المؤامرة, لحماية أنفسهم بسلطته, والحصول على المدرعات. وكان على "علم الدين القواص" و"أبو عساف" و"حسين الحكيم", والثلاثة من أعضاء الحزب الشعبي, أن يتبعوه على الفور, أما وجود العقيد "بهيج الكلاس", الحموي وعضو الحزب الشعبي, فما كان ليُحس إلا في اللحظة الأخيرة. ولعل القائد "إبراهيم الحسيني", الذي قام يوم 30 مارس باعتقال "شكري القوتلي" و"خالد العظم", والذي كان يتولى مع المكتب الثاني قيادة الشرطة العسكرية, قد قبل الاشتراك في المؤامرة بشرط الامتناع عن إعدام "الزعيم", لأن الكل يبدو وكأنه تورط في تلك المؤامرة المظلمة: "البرازي" لعزل الزعيم, و"الزعيم" ربما للتخلص من "البرازي" بوساطة "إبراهيم الحسيني", و"الكلاس" وغيره ضد "البرازي" من حيث المبدأ السياسي, وضد "الزعيم" من حيث الحقد الشخصي, كما يبدو أن اللواء "عبد الله عطفة" فكر هو الآخر في خيانته الصغيرة, إذا صدقنا تصريحات الأمير المثير للاحتقار "عادل أرسلان", الذي كان نائب رئيس المجلس الذي قاده "حسني الزعيم" لمدة شهور ثلاث.

كيف كان لـ "الحناوي" و"القواص" ألا يسخطا على "الزعيم", الذي لم يرقهما للرتبة الأعلى إلا بشكل صوري, يوم 18 أبريل؟ من هنا استهدف أول مرسومين يصدران عن الحكومة الجديدة رفع هذا الظلم البين.

أما العقيدان "سكيلو" الأمين العام للوزارة, و"أنور محمود", رئيس القيادة العامة, فقد ظلا بعيدين عن كل تلك الترتيبات.

المدنيون:

مع "أكرم حوراني" تواجد في القيادة العامة ليلة المؤامرة "فيضى الأتاسي", ابن شقيق "هاشم الأتاسي", وأول رئيس للمجلس الذي وضعه "الزعيم" في أعقاب 30 مارس. لقد راق لمجلة "الريفو دو ليبان" أن تعيد نشر الصورة التي يظهر فيها "الزعيم" نازلاً من "السراي", وخلفه الأمير "عادل أرسلان" و"فيضى الأتاسى": لقد أدت به زلة لسان إلى حبس قصير في يونية, أما ابن عمه "فيصل الأتاسي" فقد كان ويظل مدير المكتب الأول للقيادة العامة, وما كان ليُستبعد من المؤامرة.

كان النائب السابق "سامي كبارة" , الحاصل على دبلومة "مونبلييه", والمتعاطف مع "SPIO" أحد الأحزاب السورية على الأرجح, لكني لم أتعرف عليه وأرجو التصحيح من مصادركم الأخرى, والذي اعتنق الماسونية خلال إقامته في "فرنسا" , قد جرب رضا "الزعيم" وسخطه.

من "الفالوجا" حيث كان يصطاف, وحيث عُقد مؤتمر الحزب الشعبي في نوفمبر 1948, قام "كبارة" بتأليب المعارضة التي برز من وسطها "منير عجلاني", الذي استبعد من تشكيل الوزارة بسبب تواطئه المتكرر مع "شكري القوتلي" و"جميل مردم". ولعلنا نذكر أن الشقاق بين الحكوميين والمعارضين نشأ بعد واحد من خطاباته في البرلمان كوزير ممارس.

رياح الخارج:

فوق كل هذه الأهواء والميول الشخصية, كانت تهب دون شك رياح الدعاية الانجليزية العراقية, التي علم بها "الزعيم" و"البرازي" قبل اغتيالهما ببضعة أيام, والتي تنم عن مساهمة أجنبية في المؤامرة. لم يخف العملاء الموالون لـ "العراق" و"انجلترا" ميولهم ,

الوقائع :

ما نعلمه اليوم من الوقائع يمكن تلخيصه كما يلي:

في ليلة 13 إلى 14 أغسطس توجهت 3 مدرعات إلى منزل "حسني الزعيم", فلم تلق الفصيلة الشركسية التي كانت ترافق المتآمرين أي مقاومة من حرسه الشركسي, ومع ذلك فقد سمعت طلقات نارية متفرقة ودفعة رشاش, فهل دافع "الزعيم" عن نفسه؟ وهل جرح؟ لم يزل هذان السؤالان دون إجابة, ومهما يكن من أمر فقد اقتيد في إحدى المدرعات إلى مقر القيادة, ومنه إلى طريق "المزة", ثم أوقف على الطريق قبل المقبرة الفرنسية بقليل, وهنا ذبح على عجل, في وقت واحد مع "محسن البرازي", ويدعى النقيب "مرود" لنفسه شرف هذا الفعل, أو خسته.

في نفس الوقت كانت عربة مدرعة تقتاد إلى منزل "محسن البرازي" مجموعة الرجال التي كان عليها أخذه, هو وابنه, ثم اقتيدا إلى القيادة العامة فلاحظا قتالاً ناشباً فيها, وتعرفا هناك على "أكرم حوراني" و"فيضى الأتاسي". وبعد أخذهما فوراً إلى طريق "المزة", في الموضع الذي يوجد فيه "الزعيم", وضع "البرازي" تحت أضواء السيارات الأمامية, وذبح في وقت واحد مع المشير.

بقي القائد "إبراهيم الحسيني" في ضاحية "عين الكرخ", ودافع عن نفسه بالمسدس دفاعاً مستميتاً, بينما اعتقل "ناظر الفـ...؟ غير واضح" في شارع "بغداد", غير بعيد عن هناك.

باختصار إذن, تكفل سخط بعض العسكريين على قائدهم, الذي نسيهم بعد أن صعد إلى ذروة السلطة, وبعض الساسة الذين جرح كرامتهم التخلص منهم, بعد أن ظنوا أن بوسعهم الإفادة من النظام الجديد, وبعض الرياح الأجنبية التي أذكت الضغائن, تكفلت بتنفيذ مؤامرة تركت الجيش مفرقاً وبلا قائد, لكنه واع بقوته العمياء, التي تبث القلق في نفوس السلطة المدنية, ولم تجلب للبلاد إلا الريبة والتوجس.

 

ولكن الأحداث جاءت لتؤكد عكس ما كتبه سعادة السفير الفرنسي في دمشق، حيث أظهرت أن سامي الحناوي قد أعاد تسليم السلطة إلى الحكومة المدنية التي كان الحكم بيدها قبل انقلاب حسني الزعيم الذي تبين أيضاً أنه جاء بدعم من الفرنسيين لتنفيذ بعض أهدافها ومصالحها المحددة التي تحدث عنها الدكتور معروف الدواليبي والتي سنأتي على ذكرها في الفصل الأخير من هذا البحث.

من جهة أخرى تتأخر الوثائق الفرنسية نفسها بالتوضيح فبعد أيام جاءت رسالة أخرى تشير إلى مصادر القلق الفرنسية عبر وثيقة تحمل تاريخ الـ 21 من أغسطس من 1949 من بغداد هذه المرة لتقول أنه مساء الانقلاب في سوريا أعرب القائم بالأعمال الأميركي بمبادرة شخصية إلى وزارة الخارجية عن اهتمامه بعلاقات حسن الجوار في الشرق الأوسط. موضحاً أن إنجاز وحدة سوريا الكبرى يجب أن يتم بقبول متبادل – حسب بغداد- وخاصة إذا تم ضبط الأمن في سوريا...

 

وارد

"بغداد", 21 أغسطس, 1949

في مساء الانقلاب قام القائم بأعمال "الولايات المتحدة", بمبادرة منه, بالتعبير أمام وزير الشئون الخارجية عن اهتمام حكومته العميق بألا تتأثر علاقات حسن الجوار التي ترغب في رؤيتها سائدة في المشرق بأي مبادرة أحادية الجانب يتخذها "العراق" أو "الأردن" , فرد الدكتور "جمالي" بأن فكرة الاتحاد مع "سوريا", ولو كانت عزيزة على الشعب العراقي, إلا أنه لا سبيل لتحقيقها بغير الاتفاق المتبادل, خاصة إذا استتب النظام في "سوريا".

أما القائم بالأعمال البريطاني, الذي أبلغه زميلي الأمريكي بفحوى هذا الحوار بعد ذلك, فقد أبلغه بأنه نصح الوزير, في أعقاب الأحداث, بالتروّي والاعتدال.

وقد تلقى القائم بالأعمال الأمريكي في اليوم التالي لهذه الحوارات برقية من الخارجية الأمريكية تحظر عليه تنبيه حكومة "بغداد", إذا تولد لديه انطباع بأن "العراق" يدبر شيئاً, فاكتفى بتأكيد ما قاله من قبل أمام الوزير.

وقد عرّف زميلي الأمريكي, الذي يشاركني الانطباع المشترك, الموقف العراقي, بتعبير بالغ الدقة هو "ضغط خفيف على الدواسات".

ينسخ إلى "القاهرة" و"بيروت" و"دمشق" و"عمان".

"دنيزو"

 

لا بد من الإشارة هنا إلى أن القلق الأمريكي من مساعي محمد سامي الحناوي إلى توحيد سوريا مع العراق لم تكن أقل شأناً من المخاوف الفرنسية حينها، فمن المعروف أن الولايات المتحدة بدأت تعمل منذ تلك الفترة على إجلاء النفوذ البريطاني من المنطقة وإحلال وجودها الفعلي على حساب الميراث البريطاني القديم، ومن المعلوم أن العراق الهاشمي حينها بزعامة نوري السعيد في تلك الفترة كانت ما يزال تحت نفوذ وسيطرة التاج البريطاني وقواته العسكرية هناك.

 

وهكذا نقرأ مذكرة أميركية وقعت في لندن في 1 فبراير 1950

لتؤكد أنه لا يزال هناك محاولات عراقية بالتدخل بالشؤون السورية وبالتالي فإن الهدف الرئيسي منها يكمن في دعم النفوذ البريطاني في المنطقة.

 

إلى وزارة الخارجية في واشنطن

السفاره في لندن

1-فبراير 1950

تم عمل توصية على تلغرافك رقم 456 في 26 يناير. تقيم الإدارة حول الوضع السوري قائم على تقارير من البعثات الموجودة في بغداد ودمشق.

أنه توجد نشاطات ضد المجموعة الحاكمة حالياً ولا توجد دلائل على أن انقلاباً رابعاً قريب الحدوث، لا يمكن أن نسقط من الحساب حدوث قلائل أخرى في سوريا.

الإدارة لم تتمكن من التأكد من تفاصيل المصادر الأخرى ليس لديها أي دلائل موثوق بها حول التدخل المباشر للحكومة العراقية. ومع ذلك توجد تقارير أخرى تنص على مشاركة العراق في نشاطات sub rosa انظر لتلغراف دمشق رقم 35 في 17 يناير وتلغراف 37 في 18 يناير والتي سترسل لك بشكل منفصل بالهواء.

 

وما كانت تعقيدات النفوذ الإقليمي لتقتصر على تطلعات نوري السعيد والأسرة الهاشمية في عمان وبغداد فحسب، بل امتدت لتشمل جلالة الملك فاروق في القاهرة، وقد عثر في هذا الإطار على وثيقة فرنسية تحمل تاريخ 31 يناير 1950 تستند إلى حوار جرى مع جميل مردم بك (رئيس وزراء سوري سابق) يتم فيها التأكيد على معارضة مصر للوحدة بين سورية والعراق، معللاً ذلك بسوء الأوضاع السائدة في سوريا وعدم شرعية وتمثيل هاشم الأتاسي الذي تخف سلطته يوماً بعد يوم. وتختتم الوثيقة بالقول إن الكولونيلات (العقداء) الثلاثة الذين نفذوا الانقلاب الأخير يتحملون مسؤوليات ليست من اختصاصهم.

 

31 يناير 1950

من السيد "شارل لوسيه" القائم بالأعمال

إلى سعادة وزير الشئون الخارجية

مقابلة مع "جميل بك مردم"

في خطابي بتاريخ 18 نوفمبر الماضي قمت بإطلاع الوزارة على زيارتي للسيد "جميل بك مردم", رئيس الوزراء السوري السابق, بناءً على طلبه.

ومنذ أيام قليلة طلب السيد "جميل مردم" مقابلتي مرة أخرى, وخطا عتبة هذه السفارة للمرة الأولى.

لقد كان رئيس الوزراء السوري السابق يرغب في الاطلاع على تطور الأحداث في "سوريا" منذ لقائنا الأخير, فهو يرى أن الأوضاع في بلاده تتدهور يوماً بعد يوم, وتميل في اتجاه الفوضى على نحو متسارع, فالبلد ممزق في الوقت الحاضر بين عدد من القوى, لا تشعر إحداها تجاه الأخرى بغير الريبة, ولم يعد من الممكن لرئيس الجمهورية "هشام الأتاسي" القيام بأي عمل مجد , حيث تتضاءل سلطته يوماً بعد يوم. أما الحكومة فهي لا تمثل البلاد ولا حتى الجمعية الوطنية , وأخيراً فإن العقداء الثلاثة منفذي الانقلاب الأخير يتولون سلطات لا يصح أن يتولاها العسكريون.

إن عقدة هذا الوضع غير الطبيعي لا يمكن أن تنحل إلا بعودة الشرعية الدستورية, وإعادة "شكري القوتلي" إلى منصبه السابق.

لقد قام السيد "جميل بك مردم", في روح من المصالحة, وبالاتفاق مع الرئيس السابق "القوتلى", بتقديم اقتراح إلى السفير السوري في "باريس" "عدنان بك الأتاسي", خلال زيارة الأخير إلى "القاهرة" منذ شهرين, يتضمن حلاً وسطاً من شأنه الحفاظ على مظهر الشرعية الدستورية. ويقضى الاقتراح بإعادة العمل بالدستور السابق, وفى المقابل يستقيل السيد "القوتلي" من منصب الرئيس, ويعترف بالسيد "هشام الأتاسي" خليفة له, إلا أن "دمشق" رفضت هذا الحل الوسط, الذي قبله "عدنان الأتاسي". وعلى هذا الأساس لم يعد ممكناً تصور حل سوى عودة الوضع بكل بساطة إلى ما كان عليه قبل انقلاب "حسنى الزعيم".

في سياق لقاء له بـ "النحاس باشا", اقتنع "جميل بك مردم" بأن الحكومة المصرية الجديدة لا تقل عداءً عن سابقاتها لمشروع الاندماج السوري العراقي, إلا أن عاملاً جديداً قد ظهر, فـ "النحاس باشا" يرى أن عودة "شكري القوتلي" إلى "سوريا" صارت ضرورية, وقد بدأ يعمل على تأييدها, وقد وافق "القوتلي" بعد أن نبهه "جميل مردم" من حيث المبدأ, إلاّ أنه ينتظر من تطور الشعور العام في "سوريا" أن يسمح بعودته دون خطر عليه.

في تلك الظروف تبدو العودة إلى الحالة السابقة قريبة, لكن معرفة الظروف المواتية لها لم تزل متعذرة. ويعتقد "جميل مردم" شخصياً أن المجلس الدستوري السوري المنعقد حالياً سيصل قريباً إلى طريق مسدود, وسيتحتم وقتها, بمعونة انتفاضة الشارع لو لزم الأمر, إقناع الرئيس "القوتلي" بتسهيل الأمور قليلاً.

فور الانتهاء من تلك العملية, ستعلن الحكومة الجديدة ارتباطها بالنظام الجمهوري, ورفضها للوحدة مع "العراق", بأشد اللهجات حسماً. ويرى "جميل مردم", وفق ما أسر له به أحد الدبلوماسيين البريطانيين حديثاً, أن الإنجليز لم يعودوا يعارضون هذا الحل, بل إنهم يرون أن عودة "القوتلي" هي الحل الأكثر عملية. سيكون من المؤسف أن نترك للإنجليز وحدهم الإفادة من هذه العملية.

فيما يخص العلاقة مع "فرنسا", يرى "جميل مردم" أن من مصلحة بلاده أن تحافظ على هذه العلاقة ودية ووثيقة بقدر الإمكان, لكن من اللازم طبعاً تجنب التفاخر وإثارة اللغط. لقد بالغ العقيد "الزعيم" في مظاهر الود الخارجي, ومن الممكن الإبقاء على ودية العلاقة دون الإسراف في الإشارة إلى هذا. وقد ذكرني "جميل مردم" بأنه, قبل استقالته في فبراير الماضي لأسباب صحية, كان قد سوى مع السيد "فري؟" كافة القضايا التي كانت تفصل "سوريا" عن "فرنسا", وأعد الأذهان لاستقبال اتفاقية التمويل, واستقدم الأساتذة الفرنسيين إلى "دمشق", وأعاد فتح مدارسنا. إن الأمر يتعلق الآن بالمضي قدماً في نفس الطريق. إن رئيس الوزراء السوري السابق لا يطلب من "فرنسا" أية مساعدة ذات طابع مادي, ويتنصل ممن يلمحون, باسمه, إلى الحصول على دعم مادي ولو كان غير مباشر. إنه يطلب ببساطة التأكد من دعمنا المعنوي, ويرغب في أن يكون ... فشلت في العثور على الصفحة الأخيرة.

 

ويستمر سيل الوثائق الفرنسية التي تلخص مخاوف باريس من النفوذ الإقليمي، مع أنه لم يكن على أشده في تلك الفترة بالمقارنة مع سنوات النهضة القومية بعد. وفي 16 فبراير – شباط 1950 جاء من دمشق تقرير يحمل وجهات نظر جميل مردم بك وتقييمه لقدرات حكومة خالد العظم في استعادة سيطرتها على البلاد، وإجهاض محاولة النواب الإعتراض على محاكمة الحناوي و4 من ضباطه.

وتضيف الوثيقة في جانب آخر منها أن حكومة الأتاسي والعظم تفعل كسابقاتها (حكومتي القوتلي والزعيم) في تلقي الدعم من السعودية ومصر مادياً واقتصادياً وعسكرياً... ويقول كاتب الوثيقة أن جميل مردم بك يبيض صفحته تجاه فرنسا بالقول إنه حل المشكلات التي كانت عالقة بين البلدين أثناء تواجده بالحكم. وتختتم الوثيقة بالقول إن نحاس باشا مستعد لإعادة تأهيل شكري القوتلي.

 

البعثة الفرنسية في "سوريا"

"دمشق", 16 فبراير, 1950

من القائم بالأعمال الفرنسي في "دمشق"

إلى صاحب السعادة وزير الشئون الخارجية

آراء السيد "جميل بك مردم" :

لقد رغب القائم بأعمالنا في "القاهرة" في منحي نسخة من كتابه بتاريخ 31 يناير, عن حواراته التي أجراها مؤخراً مع السيد "جميل مردم".

وقد وجدت أن آراء رئيس مجلس الوزراء السوري السابق تستدعي التعليق من جانبي.

يرى السيد "جميل مردم" أن الموقف في "سوريا" يزداد تدهوراً بشكل يومي, وأن الحل الوحيد لتلك الأزمة هو العودة إلى الشرعية الدستورية, وإعادة السيد "شكري القوتلي" إلى منصبه.

ومن المؤكد أن السلطات الثلاث القائمة فعلياً في "سوريا" حالياً: المجلس الدستوري المنتخب شرعياً, والحكومة المعينة, وقيادة الجيش التي تعلو هاتين السلطتين, تجد نفسها في حالة توازن قلق, الواحدة تجاه الأخرى, فالمجلس بأغلبيته الساحقة ينكر على العقداء حق التدخل في الشئون العامة, وينكر ثقته على حكومة لم يخترها, إلاّ أنها تتمتع أكثر فأكثر بمساندة الجيش. إذا لم يستسلم أحد الأطراف, سيتبع من هذا استعراض مستمر للقوة, يتطلب من كل طرف من الأطراف المعنية منتهى اليقظة.

كما أن أعمال وضع الدستور تتقدم بدورها ببطء شديد, ولن يحصل البلد على استقرار إلاّ بعد تمتعه من جديد بجهاز حكومي معين بصفة طبيعية.

رغم كل هذا فإن حكومة السيد "خالد العظم" تؤكد كل يوم سيطرتها على الموقف, ويبدو أن محاولات بعض النواب التحرك ضد إدانة اللواء "الحناوي" وأربعة من ضباطه قد باءت بالفشل, و"سوريا" الخاضعة لحكم "الأتاسي" و"العظم", مثلما كانت في ظل "الزعيم", تلتفت من جديد إلى "السعودية" و"مصر" للحصول على الدعم الاقتصادي والمالي, إن لم يكن العسكري.

في يوم 25 يونية, إبان الاستفتاء الذي نظمه "حسني الزعيم", وفي الانتخابات العامة التي جرت في جو ملحوظ من الحرية , برهن الشعب السوري على رغبته في تجديد الأطقم السياسية, ومعارضته, بالإغفال المتعمد, لعودة "شكري القوتلي".

فالصحافة في الأغلب متحفظة, إن لم تكن معادية, حيال هذا المشروع, ورجال الأعمال الذين أحاطوا من قبل برئيس الجمهورية, لا تبدو عليهم الحرارة في الدفاع عن عودته.

أما في الجيش فإن عناصر الأقلية, الدروز والشركس والعلويين, إلخ, التي قمعها "القوتلي" بقسوة بعد جلاء القوات الفرنسية, تعارض عودته بكل عنف.

إن الجهود المبذولة لضمان عودة الحكومة السابقة وإعادة تنصيب السيد "شكري القوتلي" تبدو الآن عبثية, ولا يبدو هذا الاحتمال في عيني أكثر من ورقة أخيرة, لن يتسنى اللعب بها إلا إذا قدم الطاقم الحالي أمارات على التعب, أو استعصم المجلس بموقف سلبي, سيجر عليه الضياع في النهاية.

بعد هذا أبرز السيد "جميل مردم" مشاعره الودية حيال بلدنا, وتباهى بأنه كان قد نجح فعلياً في حل كافة المسائل العالقة بين "فرنسا" و"سوريا", حين طرد من السلطة في الأول من ديسمبر 1948, في الفتنة الدموية.

وهنا سمحت لنفسى بأن أشير إلى أن السيد "خالد العظم" هو الذي عقد الاتفاقية النقدية الفرنسية السورية, الموقعة يوم 2 فبراير 1949 في "دمشق", بينما كان السيد "جميل مردم" رئيساً للحكومة قبل ذلك التاريخ بعام, حين سعى السيد "شكري القوتلي" إلى ضمان إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية, فعارض الاتفاق مع "فرنسا" في وقت واحد مع "لبنان".

أما "الإخوة المريميون ـ Les Fréres Maristes", الذين كان السيد "شكري القوتلي" يغذي ضدهم تعصباً لا سبيل لمقاومته, فلم يتمكنوا من إعادة افتتاح جامعتهم في "حلب" إلا في نوفمبر 1949, ولم يتمكن عمداء الكليات إلا بعد رحيل السيد "جميل مردم", بل بعد اغتيال "حسني الزعيم", من الاستعانة بوساطة البعثة في استقدام الأساتذة لتدريس القانون والطب والعلوم.

على نفس النحو تم بتاريخ 2 فبراير 1949 إرسال ثمانية ضباط سوريين للتدريب في "فرنسا", مما خلق تياراً مستمراً, لم ينقطع على الرغم من تقلبات السياسة السورية, التيار الذي تضخم الآن بطلبات لتدريب ضباط الشرطة, والضباط المعلمين, وضباط متخصصين في الطوبوغرافيا, وفى طب الطيران العسكري.

وأخيراً فقد صرح السيد "جميل مردم" في لقائه بالسيد "لوسيه" بأن "النحاس باشا" يميل الآن إلى تأييد عودة السيد "شكري القوتلي". ومن المؤكد أن العديد من الذكريات السياسية تربط الرجال الثلاثة بعضهم ببعض, سأذكر منها فقط أن عودة السيدين "مردم" و"القوتلي" إلى السلطة في "سوريا" عام 1948 تمت بفضل تدخل نشيط من "النحاس باشا".

ومع ذلك فأنا أشك في أن يستطيع رئيس الوزراء المصري في الوقت الراهن, الوقت الذي تتفاوض فيه وزارة الاقتصاد السورية على معاهدة تجارية مع "مصر", لعلها تشمل بعض الصفقات العسكرية, أشك في أن يستطيع تقديم التزام بهذه الصراحة.

سيكون من الشائق أن يتمكن السيد "لوسيه", الذي لا يمكنني إيفاءه حقه من الشكر على حصافة الردود التي أدلى بها لرئيس الوزراء السوري السابق, من الاستعلام لدى "النحاس باشا" عن هذا الموقف.

 

وفي 21 فبراير 1950 تأتي وثيقة من شارل لوسيه في القاهرة إلى الوزير شومان في باريس لتناقش الأوضاع الداخلية في سوريا. ويتم فيها الإعراب بوضوح شديد عن القلق المتعاظم من دور الجيش في سوريا بعد الإنقلاب التالي (إنقلاب الشيشكلي) هو أسوأ حالاً من حسني الزعيم. كما تشير إلى القلق من محاولة إعلان الإسلام دين الدولة. والخوف من رؤية هؤلاء الضباط السوريين يتجهون نحو العراق. وتخوف المستشار المصري حسن كامل من معروف الدواليبي الذي يعتبره خطراً فعلياً.

 

السفارة الفرنسية في القاهرة

"القاهرة" في 21 فبراير, 1950

من "شارل لوسيه" القائم بالأعمال

إلى صاحب السعادة السيد "روبير شومان" وزير الشئون الخارجية, "باريس"

الموقف الداخلي السوري:

منذ أيام التقيت بـ "حسين كامل" السكرتير السابق للسفارة المصرية في "باريس", الذي كلفه الملك بصفة شخصية بمهمة استعلام في "سوريا", البلد الذي يعرفه جيداً بما أنه كان القائم بالأعمال فيه لمدة طويلة.

وقد أطلعني هذا الدبلوماسي المصري على انطباعاته بكثير من الصراحة, وقال إنه يفعل هذا بدون تحوط يذكر, بما أن الموقفين الفرنسي والمصري يكادا يتطابقان في المسألة السورية, وبما أن الحكومتين تسعيان إلى هدف واحد.

إن الموقف الداخلي في رأيه أصبح بالغ التهديد, فالجيش صار الآن مكروها من الشعب كله تقريباً, والعقيد "الشيشكلي" يتصرف بطريقة تعيد إلى الأذهان أسوأ أيام "الزعيم". والعقداء السوريون لم يمتنعوا عن العودة إلى ثكناتهم فحسب, بل إنهم يبسطون سلطانهم على كل شيء, دون امتلاك أدنى قدر من مواهب الإدارة أو مواهب رجال الدولة, واحتمال الثورة قائم من لحظة إلى أخرى.

لقد عرض "حسن كامل" وجهة نظره في مؤتمر الدبلوماسيين المصريين في البلدان العربية الذي عقد لتوه في "القاهرة". وهو يرى أن على "مصر", بمساندة من "السعودية", أن تدعو العقداء السوريين دون إبطاء إلى التخلي عن إدارة الشئون العامة والاقتصار على وظائفهم العسكرية. ولا يرى ما يدعو للخوف من لجوء أولئك العقداء إلى الجانب العراقي بدافع الكيد.

ومع ذلك فهو يعترف بأن الموقف سيظل مشوباً بالاضطراب بعد استبعاد العسكريين, فلا يوجد سياسي يحظى في الوقت الحاضر بثقة الشعب السوري. لقد فقد "خالد بك العظم" مصداقيته, كما أنه عار من مواهب رئيس الحكومة, أما "أكرم حوراني" فهو متآمر خان كافة الأحزاب, وهو حالياً ألعوبة في يد العقداء, و"رشدي الكخيا" ينحاز علنا إلى "العراق", أما عن رجال السياسة السوريين من النظام السابق اللاجئين حالياً في "مصر" فإن مصداقيتهم محدودة في "سوريا" الآن. وهو يعتبر "جميل مردم" شخصاً شديد الخطورة, وبدون نفوذ يذكر في "دمشق". ويظل "شكري القوتلي" أفضل اختيار متاح, إلا أن إعادته إلى منصبه لن تتم دون صعوبات, كما أن رئيس الجمهورية السابق لا يبدي ميلاً كبيراً إلى العودة في الظروف الحالية, وسوف يرفض, من جهة أخرى, أن يتعهد بالعفو عن العقيد "الشيشكلي", المصرّ من جهته على إبعاد الرجل الذي يعتبره عدواً شخصياً عن "سوريا".

في هذا التشوّش الشامل تظهر أشد الأفكار تناقضاً, ويرى الدبلوماسي المصري أن مشروع جعل الإسلام ديانة رسمية لـ "سوريا" هو مشروع في غاية الخطورة. من الصحيح أن ذلك الموقف يلقى القبول في "مصر", لكن على الرغم من هذا الموقف النظري, لم ير المرء للحكومات المصرية رئيساً متديناً, كما لم يصل للسلطة أحد رجال "الأزهر", ويكاد يكون "طه حسين" هو الاستثناء الوحيد, لكن الكل يعرف أن عقلية وزير المعارف المصري الحالي من أكثر العقليات علمانية.

على العكس من هذا, وبالنظر إلى الاتجاهات الحالية للمسلمين السوريين, فإن إعلان الإسلام ديانة رسمية سيكون من شأنه تسليم السلطة إلى أكثر العلماء تشدداً, مما يؤدي إلى اضطهاد الأقليات التي سترتمي في أحضان من هب ودب, تركياً كان أم عراقياً. ويبدو أن "حسن كامل" يخشى بصفة خاصة من تأثير "معروف الدواليبي", وزير الاقتصاد القومي السوري, الذي يرى فيه متعصباً خطيراً, وله أسبابه في هذا.

بالنظر إلى هذا الموقف, يرى الدبلوماسي المصري أن إعلانات عدم التدخل في الشئون السورية التي يسرف في تقديمها رئيس الوزراء ووزير الخارجية المصريان لا يمكن أن تتفق تماماً مع الحقيقة, فالامتناع عن التحرك الفوري قد يؤدي إلى اضطرابات لا تنقطع في "سوريا", وسقوطها قبل نهاية العام في أحابيل "العراق". لا بدّ في "دمشق" من ممثل مصري من الطراز الأول, قادر على ضمان تسيير الأمور في غياب السلطة المحلية, والسفير المصري الحالي في "سوريا", "أحمد بك حقي", لم يخلق بالتأكيد لتلك المهمة. ويبدو أن "حسن كامل", الذي لا يفتقر للذكاء ولا للثقة في مواهبه, يرى أنه الوحيد القادر على التصدي لها. لكن بما أن القواعد تعارض مثل تلك الترقية السريعة (كما أكد له الملك منذ قليل) فقد طالب بإلحاح بالعودة إلى منصبه في "باريس" بدلاً من البقاء في "دمشق" في منصب أدنى, كشاهد عاجز على تطورات مزعجة.

 

وأخيراً تأتي دراسة مفصلة للوضع السياسي في سوريا وأبعاد الإنقلاب الإقليمية عبر وثيقة كتبها جاك إميل من السفارة الفرنسية في دمشق يوم 11 ديسمبر 1951 بما لا يترك مجالاً للشك في المخاطر الجدية للتفاعلات الإقليمية التي تؤثر على سوريا وما شهدته من انقلابات في تلك الفترة من تاريخها.

 

السفارة الفرنسية في "العراق"

"بغداد" , 11 ديسمبر 1951

من السفير الفرنسى في "العراق"

إلى وزير الخارجية الفرنسى

رد الفعل العراقى على الأحداث السورية :

لم تقل ردود أفعال الصحافة العراقية على الأحداث السورية في حدتها عن ردود أفعال الحكومة نفسها. ومن الصعب أن نحدِّد إلى أي مدى تأثرت تلك الأخيرة بالرأي العام, أو حرضته بنفسها, حتى تبدو وكأنها تستجيب له, فمثل تلك الإجراءات شائعة في "بغداد".

لقد وضع حزب الأمة الاشتراكي, بزعامة "صالح جابر", نفسه مباشرة على رأس قائمة المنددين بالانقلاب السوري, ولعلنا نذكر أن رئيس المجلس السابق, في أعقاب اغتيال الملك "عبد الله", وبعد أن رافق "نورى السعيد" إلى "عمان", نادى بالوحدة بين "الأردن" و"العراق", ثم عاد إلى "بغداد" مقتنعاً بأن أغلبية الرأي العام الأردني تؤيد الفكرة الوحدوية, إلاّ أن تحقيق المشروع فسد بسبب المناورات الشخصية, وكان أكثر المراقبين يتفقون وقتها على أن "صالح جابر" يتصرف بالاتفاق مع "نوري باشا". ثم أتى ما تم بخصوص "سوريا" ليؤكد الاعتقاد بأن الرجلين كانا يقتسمان الأدوار, إن لم يكن صراحة فضمناً, فيتمسك أحدهما بالتحفظ الذي تفرضه عليه مهام منصبه, ويتقدم الثاني في صورة الزعيم التنويري. إن الاقتراح الذي تقدم به "صالح جابر" إلى الحكومة العراقية يطالب, باسم حزب الأمة الاشتراكي بالذات, "باتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الحياة الدستورية السورية, وحماية حرياتها العامة, وإعادة النظام والسلام إليها", بل إن بعض الصحف, التي تتلقى الوحي من رئيس المجلس السابق, ذهبت إلى حد المطالبة بتدخل مسلح في "سوريا", إلا أن الحكومة كما رأينا لم تذهب إلى هذا المدى. في نفس الوقت نشرت "الحوادث", التي يعتقد أنها تعبر عن آراء "نورى السعيد", افتتاحية تقول: "إن الشعب العراقي يجمع على أن الحل الأفضل لحركة العقيد "الشيشكلي" الأخيرة هو التدخل المسلح, لوضع حد للفوضى وعدم الاستقرار الذين فرضهما الجيش السوري, و"العراق" هو البلد العربي الوحيد الذي يمكنه النجاح في تسوية هذه المسألة, وعلى تدخله أن يكون سريعاً وحاسماً".

ومع ذلك فلا يبدو "نورى السعيد" حتى الآن مضطراً لخوض مخاطرة بهذه الجسامة, إلا أن المعارضة اليسارية واليمينية انضمت إلى حزب الأمة الاشتراكي في شجبه, إضافة إلى أغلبية الحكومة. إن حزب "الاستقلال", بسبب من مذهبه الحيادي دون شك, علاوة على الحزب الديمقراطي, ينسب انقلاب العقيد "الشيشكلي" إلى مؤامرات القوى الغربية, التي تعتقد أنها بهذا تسهل تنفيذ مخططها الدفاعي, وتجر "سوريا" إلى معسكرها, وتعلن "لواء الاستقلال" بتاريخ 6 ديسمبر: "أن العقيد ألقى بقناعه, وأظهر نفسه أداة في يد الإمبريالية". على الطرف الآخر من الطيف السياسي, تعبر "صدى الأهالي" عن نفس الرأي, إلا أن هؤلاء وأولئك أقل تشدداً في المطالبة بالتدخل العسكري من حزب الأمة الاشتراكي, فقد اكتفت "لواء الاستقلال" (4 ديسمبر) بالمطالبة بأن تقوم الحكومة العراقية فوراً بإبلاغ بقية الحكومات العربية بأنها لن تعترف بالوضع الذي خلقه الانقلاب في "سوريا", واقترحت اجتماع اللجنة السياسية للجامعة العربية, بهدف تبنى موقف موحد من "العدوان الذي وقعت ضحيته السلطة التشريعية السورية". وهو ما ردت عليه "الشعب", الصحيفة المسائية, يوم 7 ديسمبر, معلنة أن هذه الدعوة للانعقاد لن تفيد بشيء, حيث أن "العالم كله يعرف أن الدول العربية تعجز عن الاتفاق على شيء".

أما الطروح التي يتبناها "مزاحم البچاچي" و"طه الهاشمي", زعيما الجبهة القومية الموحدة, فهي تختلف قليلاً عن طروح بقية المعارضة, ولا شك أنها تهدف في المقام الأول إلى إحراج "نوري باشا", عن طريق وضعه في تناقض مع نفسه, إلا أنها لا تفتقر مع ذلك للاتساق, فـ "مزاحم البچاچي" يذكر أن "نوري السعيد" حين ذهب يقابل "حسني الزعيم" في "دمشق", قام بتشجيع كافة محرضي الانقلاب المنتظر, وإذا كانت الحكومة العراقية قد اعترفت بـ "الزعيم", فلماذا ترفض اليوم قبول انقلاب "الشيشكلي"؟ إن الحكومة السورية الشرعية الوحيدة هي حكومة "شكري القوتلي", ومن هنا فالمفروض أن يلغى كل ما حدث في "دمشق" منذ رحيل رئيس الجمهورية الأسبق.

وعلى الرغم من هذا التحريض, لا يبدو أن انقلاب العقيد "الشيشكلي" قد أثر كثيراً في الرأي العام المحلي, فقد تعود هذا الأخير تعسف الحكومات حتى لم يعد يأبه بحادث داخلي الطابع, لن يغير الكثير في ملامح الحياة السورية العادية, وهو يعرف الدوافع الشخصية التي تحرك التحالفات والتعارضات هنا, بحيث لا يهتم حين يرى "نورى السعيد" و"صالح جابر" و"مزاحم البچاچي" و"طه الهاشمي" ينحازون جميعاً ضد قائد الجيش السوري. إن كل هذا يمر من جوار اهتماماته الحقيقية, أو من فوقها أو تحتها, أما الضجة التي أثارتها الأزمة الإنجليزية المصرية فهي تنبئ, بالعكس, عن قدرة حقيقية على تعبئة الشارع والجماهير.

ثم أن الموقف الذي اتخذته العواصم العربية من الانقلاب السوري يسبب هنا حرجاً بالغاً, فـ"العراق" المعزول بفعل الموقف الذي اتخذه على عجل, بأمل أن يجر وراءه بقية أعضاء الجامعة العربية, وهو الأمل الذي خاب مرة أخرى, يجد نفسه الآن أمام طريق مسدود. إن "الأردن", الذي يحكمه هاشمي, كان أول من أعلن عن اعتباره الانقلاب مسألة سورية داخلية, ليس له أن يتدخل فيها, كما عبر "عزام باشا" علناً عن نفس الرأي, ومن المستبعد أن يكون القرار المصري أو السعودي أكثر تأييداً للموقف العراقي, فنحن لا نرى كيف يمكن لـ "بغداد" أن تعود أدراجها دون أن تفقد ماء وجهها. صحيح أن السيد "شهبندر" لم يزل في "دمشق", ولم يغادر "خليل مردم" "بغداد", لكن في هذا البلد الذي يكتسب الأشخاص فيه أهمية تفوق أهمية المباديء, يندر أن يلتزم الشخص بالموقف الذي تبناه, كما نفعل في العالم الغربي. ولعل "نوري باشا" يتعلق بالأمل في إخفاق سريع للعقيد "الشيشكلي", يعفيه من الحرج ويبرر قراره بأثر رجعى.

 

وعن الانقلاب البعثي الذي قام به الرئيس عبد السلام عارف في العراق بدعم مصري واضح جاء تقرير فرنسي من تونس يحمل تاريخ 12-2-1963 ليتحدث عن القلق السائد حيال آثار الانقلاب الجنرال عبد السلام عارف العراقي على كل من اليمن والمغرب.

 

برقية واردة

"تونس" العاصمة , في 12 فبراير 1963

إلى الشئون الخارجية

إن تأخر "تونس" عن "الجزائر" و"المغرب" في الاعتراف بالنظام العراقي الجديد يتباين بشكل واضح مع مسارعتها إلى الاعتراف بالجمهورية اليمنية. والظاهر أن المخطط قد أثبت مع الوقت لقادة هذا البلد أن المثال الذي تضربه "الانقلابات العسكرية" في الشرق الأوسط, والتي طال حديث الرئيس "بورقيبة" عنها في خطابه الأخير, يمكن أن يكون معدياً.

ورغم أن الحكومة التونسية تظهر التحفظ في إصدار حكمها على التوجه السياسي للنظام العراقي الجديد نحو "مصر" (ولا شك في أن السيد "المنجي سليم" سيحدثني في هذا الموضوع بلغة مشابهة لحديثه عن "اليمن") إلا أن رد الفعل المبدئي للسيد "المنجى سليم", حين وصف أحداث "بغداد" بأنها "مؤسفة", يبدو انعكاساً أميناً لهذا الحكم.

لا شك في أن تلك الأحداث ستلقى بظلها على محادثات "الرباط" ولن تساهم في تصفية أجواء المؤتمر الثلاثي, بل لا يستبعد أن يتحجج "المنجي سليم" بها, على الصعيد الثنائي, لإبراز وجهة نظره للسيد "بلفريج", القاضية بأن كل تعزيز لقوة الوضع الناصري في الشرق الأوسط يزيد التقارب التونسي المغربي ضرورة وإلحاحاً.

 

بدأ الاتحاد السوفيتي حضوره في المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، ولم يتوانى عن مراقبة حقيقة ما يجري، ومع أنه كان يكرس اهتمامه بتواجد الدول الكبرى في الجوار إلا أنه لم يغفل مسألة النفوذ الإقليمي الفاعل في الأحداث الجارية هناك ليدرك حقيقة ما يجري ويتلمس الفجوات التي سمحت له باختراق الاحتكار الحصري للمنطقة من قبل الدول الاستعمارية السابقة.

 

وكان أول ما عكسته وكالة الأنباء السوفيتية الرسمية لحكومة الكرملين وقائع انقلاب الانفصاليين في دمشق وذلك في تقرير من دمشق يحمل تاريخ 14- 4- 62 ليقول فيه أن ناظم قدسي وافق على منصب الرئاسة بعد الانقلاب، وأنه قام بعد تسلم الرئاسة مباشرة بإطلاق سراح شخصيات سياسية من السجون. ويشير إلى ما أوردته الأهرام من أن بعض أعضاء الانقلاب العسكري الذين قدموا إلى جنيف يصرحون بأن الملك حسين أعطاهم رشوة مليون جنيه حتى " يتخلوا عن " جمال عبد الناصر.

أما صحيفة برافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفيتي الحاكم فقالت في الانقلاب الذي جاء بلؤي الأتاسي إلى السلطة في سوريا عام 1963 فقد كتبت من اسطنبول في 10 آذار مارس أن وزير خارجية تركيا يمنح اللجوء السياسي للوزير العظم الموجود في سفارتها في دمشق، مشيراً بذلك إلى جانب من الأدلة التي تؤكد الأبعاد الإقليمية ودورها في الانقلابات. وفي 11 آذار مارس من عام 1963 كتبت عن الوضع في سوريا أن الرئيس السوري ناظم قدسي و 6 من الوزراء إضافة إلى الجنرال زهر الدين ما زالوا تحت الإقامة الجبرية، وأن الاجتماع الأول للحكومة الجديدة تم برئاسة بيطار وبحث النهج السياسي للحكومة الجديدة.

ثم تبعت ذلك في 12 آذار مارس 63 من دمشق تقول أنه في هذه الأيام وبعد يوم على الانقلاب الصحفيون الأجانب يتجهون إلى الحدود مع لبنان لتشير بذلك إلى وجهة إقليمية أخرى عرفت بتأثيرها على الانقلابات في سوريا. وتتابع برافدا تقريرها بالقول: الطريق خطر مكتظ بالسيارات على امتداد المسافة البالغة 15 كيلومتراً. مساء فقط سمحوا للمصريين واللبنانيين بعد ذلك الأمريكان والإنكليز، ثم الجزء الأكبر الذي كان من ضمنهم مراسلا البرافدا وازفستيا. الشوارع خالية الجنود يحتشدون حول المباني الحكومية تحت حراسة مشددة ليخرج العظم وعائلته من السفارة التركية المغلقة ...

الانقلاب حصل بعد شهر عن انقلاب بغداد وهكذا أصبح البعث يحكم هنا وهناك. حملات اعتقال واسعة إلى سجن المزة. وكأنك ترى صدى الأحداث التراجيدية التي تمت في بغداد عبر ما يجري في دمشق. الراديو يعلن الحرب على الشيوعيين. اعتقالات لزعماء شيوعيين. 10 مارس بالطائرة حل وفد حكومة بغداد. مفاوضات بين الجانبين. ركّزوا على العوامل المشتركة بينهما. وأكدا على توسيع العلاقات مع مصر. توحيد الجهود لدعم ثورة اليمن بكل الوسائل. وكذلك لخلق جزائر عربي. وحدة المصير بين مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر. وحدة عربية وضد الانضمام إلى الأحلاف.

 

كثيراً ما كانت وسائل الدعاية السوفيتية تعرب عن موقفها بشكل غير مباشر وذلك عبر الترويج لبيان حكومي ما وتولي مهمة نشره وإيصاله إلى الجهات الأربع وكأنه موقفها الخاص، وهذا ما اتبعته أحياناً للدفاع عن انقلاب ما أو لإدانة هذا الانقلاب والإعراب عن وقوفها إلى جانب السلطات الحاكمة كما فعلت وكالة تاس الحكومية السوفيتية في تقرير لها خلال فترة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد يحمل تاريخ 4-2-1967 تتحدث فيه عن اكتشاف السلطات السورية مؤامرة انقلاب "كان يقودها بنفسه سرياً" الملك الأردني حسين، الذي أطلق موجه "ضد النظام الاشتراكي السوري" كما صرح رئيس الحكومة السوري.

ويشير التقرير إلى أن المسؤول السوري يؤكد في البيان أن المؤامرة أعدّت في الأردن ولبنان... وأنه قد تم اعتقال الخونة والعملاء وصودرت الأموال المرسلة إليهم لهذا الغرض.

 

والحال في سوريا الشرق لا يختلف من حيث المبدأ في الدور الإقليمي لدعم الانقلابات عن الجزائر في أقصى الغرب، حيث كانت الروح القومية في أوجها وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لا يتوانى في تقديم الدعم منذ ما قبل خروج الفرنسيين من هناك، أما بعد الاستقلال فاستمر الدعم المصري لحكومة بن بللا الذي جمعته بالرئيس عبد الناصر علاقات شخصية مميزة أثارت قلق الفرنسيين ودفعتهم إلى مزيد من الترقب والحذر خصوصاً وأن تلك العلاقات بلغت من التقدم حد الدعم العسكري المباشر على مرأى من العين الفرنسية المراقبة.

 

هذا ما تؤكده وثيقة فرنسية من مصادر سرية في العاصمة الجزائرية تعكس قدرة عينها المراقبة وهي موقعة في 7 تشرين الثاني نوفمبر من عام 1962 مصدرها الجزائر العاصمة وهي تتحدث عن وصول وتسليم بارجتين حربيتين من قبل سفير الجمهورية العربية المتحدة في العاصمة الجزائرية على شكل هدية إلى البحرية الجزائرية.

 

برقية واردة

"الجزائر" العاصمة, 7 نوفمبر, 1962

وصلت إلى ميناء "الجزائر" اثنتان من كاسحات الألغام التابعة لـ "الجمهورية العربية المتحدة", من نوع "واي إم إس", مصحوبة بفرقاطة من نوع "ريفر", في الساعة 1300 يوم 4, وتمت مراسم نقل ملكيتهما إلى "الجمهورية الجزائرية" في الساعة 1000 يوم 6, ومن المقرر أن ترحل الفرقاطة يوم الجمعة 9.

فيما بعد طلب السيد "خضر" الكلمة, ممتدحاً العلاقات المصرية الجزائرية, فقال: "حين وصلنا إلى "مصر" استُقبلنا بالقول إن "الجزائر" تبدأ ها هنا, ونحن نقول اليوم إن "مصر" تمتد حتى هنا", كما تذكر الأمين العام للمكتب السياسي الدور الذي لعبته البحرية الجزائرية في الماضي, مشدداً على تدخلها في "مصر" عام 1829.

وكان الرئيس "بن بللا" آخر المتحدثين, فأثنى على "مصر" والرئيس "ناصر", قائلاً: "وصل إلى "مصر" عام 1953 ثلاثة من الأخوة, هم "حسين آيت أحمد" و"محمد خيضر" و"مزيد مسعود" (الاسم الحركي لـ "بن بللا"), وليس في جيوبهم أكثر من 2000 فرنك لإطلاق الثورة, كان النجاح فيها بتلك الوسائل الضئيلة معجزة. لكن المعجزة تحققت بفضل بلد واحد ورجل واحد: هذا البلد هو "مصر" وهذا الرجل هو "جمال عبد الناصر". ثم هتف "بن بللا" بقوة: يقال الآن إني "ناصر" آخر. فليعلم من يقول إني سعيد بهذا.

إن الوحدتين اللتين تشكلان جنين البحرية الجزائرية كانتا فيما مضى كاسحتي ألغام أمريكيتين, محدودتي القيمة العسكرية, وتقول الصحافة إنهما ستستخدمان كزوراق مرافقة. أما طاقمهما فسوف يكون جزائرياً بالكامل, تحت قيادة ضباط جزائريين تلقوا تدريبهم في "مصر".

 

دعم جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية وكان يمدها بالأسلحة عبر الحدود التونسية, كما منح كل التسهيلات والإمكانات لرجال جبهة التحرير الوطني الذين أقاموا في القاهرة ومنها انطلقوا للتعريف بالثورة الجزائرية في العالم العربي والعالم الثالث وحين سئل بن بللا عن وفائه لجمال عبد الناصر فقال: أنا وفيّ لفكر جمال عبد الناصر لأنني أعتبره رجلاً عظيماً ساهم في دعم الثورة الجزائرية أكثر من أي شخص أخر في الوطن العربي.

 

تشير إحدى الوثائق الأمريكية الموقعة في 23 يونيو 1965 من الجزائر

إلى مستوى الحرج المصري الشديد من الوضع الناجم عن انقلاب الرئيس هواري بوميدين وذلك عبر تعقيبها على تأكيد محمد حسنين هيكل في إفتتاحية الأهرام المعتادة بأن الجمهورية العربية المتحدة كانت تدرك مدى وعمق الأزمة القائمة في الجزائر وتدرك أن إنقلاباً سيقع ولكنها تفاجأت بالتوقيت. ويكشف بأن بوتفليقة سلم المصريين رسالة مباشرة بعيد الإنقلاب في بلاده.

 

تلغراف

من السفارة بالقاهرة

إلى: وزارة الخارجية: واشنطن

23 – يونيو – 65

الساعة التاسعة وثمن دقائق صباحاً

الصفحة الأولى بجريدة الأهرام العدد الرئيسي، بها مقالة طويلة كتبها حسنين هيكل ورئيس تحرير جريدة الأهرام حول زيارته الأخيرة للجزائر بصحبه المشير عامر ويؤكد هيكل أن القاهرة كانت تدرك منذ زمن المشكلة بين قوات الثورة الجزائرية و الحكومة الجزائرية و لذلك لم يكن الانقلاب مفاجأة سوى في التوقيت.

حيث أن القاهرة لم تكن تتصور أن يتم الانقلاب قبل المؤتمر الأفرو-آسيوي.

كشف هيكل أن بوتفليقة سلم السفير مرتجى سفير الجمهورية العربية المتحدة رسالة ليسلمها إلى رئيس الجمهورية المتحدة ناصر من مجلس ثورة الجزائر بعد الانقلاب.

وتحتوى الرسالة على ثلاث نقاط:

1- تفاصيل الانقلاب وأسبابه

2- مجلس الثور واثقاً أن ناصر سوف يميز بين علاقته الشخصية ببن بللا وبين علاقة الجزائر والجمهورية العربية المتحدة.

3- الحاجة إلى استمرار وتقوية الروابط بين الجزائر والجمهورية العربية المتحدة

 

وتسهب وثيقة أخرى تحمل تاريخ 28-6-1965 في تحليل وضع العلاقة بين مصر والجزائر عبر تلغراف أرسل عقب انقلاب بومدين ويقول كاتب التلغراف بأن على مصر عدم الاعتماد كثيراً على علاقتها القديمة مع بومدين لأن الصحافة المصرية تركت انطباعاً سيّئاً لدى الجزائريين بسبب المقالات التي نشرت عقب الانقلاب.

وفي إحدى صفحات الوثيقة نفسها يقول الكاتب بأن مصر قد أساءت التعامل في علاقاتها مع الجزائر بسبب اهتمامها بمصير بن بللا (الذي كان صديقاً شخصياً لناصر) كما يصف التلغراف المشاحنة التي وقعت بين بوتفليقة ووزير الخارجية المصري.

 

تلغراف قادم وزاره الخارجية الأمريكية

سري

من: الجزائر

تكرار المعلومات إلى عمان, بغداد, بيروت, القاهرة, جدة, الخرطوم, الكويت, الرباط, طرابلس, تونس, سناوان.

التاريخ 28-6-6

العلاقات المصرية الجزائرية كانت الموضوع البارز في المناقشات بين الوفود العربية في مؤتمر باندونج الثاني. استطاع بعضهم بصعوبة التكتم على ما يشعرون به تجاهه مثال إضافي لإساءة مصر في التعامل في علاقاتها بدولة عربية أخرى. بينما توجد عدة تقارير يمكن أن تسمع بها حول التبادل بين بومدين وعامر ’ابلغني السفير الجزائري جلال في واشنطن في حضور شخصيات جزائرية ذوي مراكز تمكنهم من معرفة معلومات, أنه بعد الجهود الجزائرية الأولى لإقناع عامر (وزير الخارجية المصري) بشكل مهذب أن التعامل مع عزل بن بللا ومستقبله هي شؤون جزائريه.

أصبح بومدين شديد الغضب وأخبر عامر أنه عليه أن يفهم أن الجزائر ليست منطقة نفوذ للجمهورية العربية المتحدة. ووفقاً لجلال، بومدين أضاف أن الجزائر ليست مثل اليمن أو سوريا أو العراق ويجب أن تعود لتخبره ذلك ( يقصد ناصر).

ظهر سابقاً السفير المصري وعضو رفيع المستوى من أعضاء الوفد في العداء الذي أقيم لوزراء الخارجية أمس ورحلوا قبل أن يقدم الغداء ويبدو أنهم لم يتحدثوا مع الجزائرين أثناء تواجدهم هناك.

تعليق: التأثير المصري المعاكس هنا تأثر بي. احتجاجاتهم وتعليقات الصحف على التطورات في الجزائر وعلى الجمهورية العربية المتحدة القيام بمجهود لجعل الأمور في وضع أحسن. لقد تعلموا بطريقة صعبة ألاّ يعتمدوا على علاقه السابقة للجمهورية العربية المتحدة وبومدين أو على نزعته العربية الإسلامية. إذا استمرت دول المغرب العربي في التعامل مع الأمور بشكل حكيم وبحذر فيجدون أن النظام الجزائري سيشعر بارتياح عند إمكانيات علاقات جيدة معهم على عكس المشاكل التي تحدث مع الجمهورية العربية المتحدة. سوف نقدر تخمين سفارة القاهرة لأسباب الضغط الثقيل للجمهورية العربية المتحدة على النظام الجزائري. هل قررت سلطه الجمهورية العربية المخاطرة بالمشاكل مع الجزائريين وعلى تحسين صورتها في عيون الدول العربية والأفريقية ورجحت عليها ألاّ تظهر في صورة الذي تخلى عن رمز من رموز العالم الثالث مثل بن بللا؟

هل تصاعد موجات معادية لبومدين ومع بن بللا، أو تحكم السوفيت في الصحف الشيوعية، ورمز مثل كاسترو يعني ضمناً أي شيء لسلطات الجمهورية العربية؟ فالجمهورية العربية في الوقت الحالي عضو بارز من هذه المجموعة من المعلقين.

 

ولم يكن الشأن الجزائري مصدر قلق للناصرية في القاهرة التي تقع على الجهة الأخرى من حدود القارة الأفريقية بل كانت مصدر اهتمام أولى للبلدان المجاورة لها مباشرة، وهذا ما تشير إليه وثيقة أمريكية أخرى تحمل تاريخ 19-6-1965 يتم الحديث فيها عن قيام الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بإطلاع القنصل الأميركي في تونس على خبر الانقلاب العسكري في الجزائر صبيحة التاسع عشر من يونيو/حزيران 65 ويذكره بأنه تنبأ بأن أي خلل في توازن العلاقة بين بن بللا وبومدين سيؤدي إلى خلق نظام أصعب من النظام القائم.

 

الوثيقه2

19 – يونيو 1965

اتصل بي هذا الصباح بورقيبة ليحدثني عن انقلاب عسكري حدث في الجزائر، وأشار إلى تصريح كان قد ذكره للسكرتير في أبريل أن الوضع في الجزائر ليس سهلاً وأن هناك التوازن غير الثابت في القوى بين شعارات بن بللا والجيش الذي هو تحت سيطرة بومدين، وأن أي شيء يحدث لخلل هذا التوازن سيؤدي إلى خلق نظام يصعب التعايش معه.

 

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن عوامل إقليمية من طابع آخر عززت مكانة الجيش الجزائري ومنصب وزير الدفاع هواري بومدين قبيل انقلابه عام 1965 إثر النزاع الحدودي المسلح الذي نشأ بين الجزائر والمغرب حول السيادة على صحراء حاسي بيضا حيث تعرضت الجزائر لهجوم عسكري ردت عليه باجتياح مركزين للحدود المغربية في (حاسي بيضا) و(تينجوب)، ثم وسع الجزائريون هجومهم العسكري بدعم من وحدات أممية كوبية وتمويل عسكري سوفيتي على مركز (إيش) العسكري الواقع على بعد 50 كلم شمال شرق مدينة (فيكيك) بإقليم وجدة المغربي حيث اندلعت حرب الرمال التي استمرت ثلاثة أيام أوقف فيها المغاربة على مسافة 36 كلم من مدينة تيندوف التي تعتبر اليوم القاعدة الرئيسية لجبهة البوليساريو!، فتدخلت الوساطات الدولية لتنهي تلك الحرب من خلال اجتماعات باماكو في (مالي) اواخر أكتوبر 1963.

 

وقد انعكست تلك الأجواء في وثيقة أمريكية تحمل تاريخ 17 أكتوبر 1963 من الجزائر تتحدث حول مشكلة صحراء حاسي بيضا مع المغرب، لتعكس أجواء اجتماع مجلس النواب في جلسة طارئة لحل أعمال المجلس وإفساح المجال أمام النواب للمشاركة في المعركة وذلك كما قال رئيس المجلس الحاج بن علاء أن يجد كل نائب مكانه الطبيعي في الميدان الذي اختاره العدو.

وارتدى معظم النواب ورئيسهم للمناسبة لباس الجنود الكاكي وأحذية عسكرية. ونوه الرئيس بهذا التغيير في الزي. ويشير كاتب الوثيقة إنه لا يجب الاستخفاف بهذا التطور فإرادة التشبه إلى هذا الحد بنمط كاسترو يدل على طموح يسعى إليه القادة الجزائريون.

 

قد لا نستطيع إقفال دور التدخل الإقليمي فيما شهدته المنطقة من انقلابات دون التحدث عن هذا الجانب العصي من تاريخ اليمن السعيد الذي جعلته أحداث النصف الثاني من القرن الماضي بعيداً كل البعد عن صفته المجازية الملازمة، حين تحول إلى أشلاء من يمنين تتنازعهما ضغائن وحروب وانقلابات أطاحت بالشرعية وأخرى نالت من الانقلابيين في دوامة لم تكن دول الجوار المحاذية أو البعيدة إلا على تماس وعلاقة مباشرة بوقائعها.

أوضح "شابتاي شافيت" - رئيس المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب- في ندوة عقدها المعهد بعنوان "سبل التصدي لإرهاب الانتحاريين" في تل أبيب: إنه حين كان يرأس جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد"، أصدر أوامره لضباط الجهاز بمعاونة قوات الإمام بدر الملكية حتى يستعيد حكمه الذي أطاح به الثوار عام 1962، وقد قام الموساد تنفيذًا لذلك بإمداد الملكيين بالأموال والسلاح، وأرسل عسكريين إسرائيليين لتدريب قوات الإمام.

وبرر شافيت ذلك بقوله: إن إسرائيل كانت تريد إضعاف الاقتصاد المصري وإرهاقه بهذه الحرب التي تورَّط فيها بوقوفه بجانب الثوار بجزء كبير من الجيش المصري يقارب ثلث عدد أفراده، وبأننا -والكلام لشافيت- كنا نريد أن نتعرَّف عن قرب على حقيقة القدرات العسكرية للجيش المصري المحارب في اليمن، وقد ساعدنا ذلك على إلحاق هزيمة مروعة به عام 1967.

وتابع رئيس جهاز الموساد السابق حديثه الذي نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الاثنين 21-2-2000 بقوله: إن التدخل في الحرب الأهلية اليمنية كان جزءاً من نظرية إستراتيجية شاملة لجهاز الموساد الذي يسعى إلى إثارة الانقسامات والنزاعات في صفوف العالم العربي، والبحث عن حلفاء له في المنطقة. كما أن التدخل الإسرائيلي في تلك الحرب مكّن الموساد من دسّ عملاء له ليحصلوا على معلومات حول قدرة الجيش المصري في تلك الفترة الحساسة التي سبقت حرب يونيو عام 1967.

في 26 سبتمبر أيلول/1962م حين أعلنت الجمهورية في اليمن ضد الحكم الملكي وكانت مصر أول دولة اعترفت بها وبعد ذلك بيومين وصلت أول طائرة عسكرية مصرية إلى اليمن، توالت بعدها الإمدادات العسكرية بالتدفق على اليمن حتى بلغ عديد القوات المصرية هناك 70 ألف جندي متورطين في حرب بين الجمهوريين وأتباع الإمامة ممن تدعمهم العربية السعودية، واستمرت الحرب في اليمن خمس سنوات خسرت مصر خلالها 12 ألف عسكري حسب مصادر مصر التي أخذت تنسحب من اليمن عام 1967.

تعكس الوثائق الأمريكية بدايات الحرب اليمنية بعدد من الوثائق تتألف إحداها من تلغراف يحمل تاريخ 27 أيلول سبتمبر يذكر محادثة جرت بين أنور السادات (الذي كان آنذاك مستشاراً للرئيس المصري جمال عبد الناصر) والسفير الأميركي في القاهرة وفيها يحذر السادات الولايات المتحدة من مساعدة الأمير حسن لاستعادة الملكية في اليمن والانصياع لطلب سعودي بهذا الخصوص. وفي الصفحة الثانية من الوثيقة، يعتبر السفير الأميركي الجمهورية العربية المتحدة على علاقة وثيقة مع قادة انقلاب اليمن عام 1962 إذا لم تكن مسؤولة عنهم.

 

وزارة الخارجية الأمريكية

سرّي

من: القاهرة

إلى وزير الخارجية الأمريكي

رقم 510 سبتمبر 27

الساعة الثالثة مساءً

أولوية

وزارة العمل رقم 510 المعلومات إلى جدة 60 ولندن 33

في محادثه مع أنور السادات (الرئيس السابق للوحدة العربية, ومستشار السياسي للرئيس عبد الناصر) طلب مني إعادة تقييم للوضع في اليمن، بعد رد الفعل على المعلومات العامة وعدم إعلان رأيه بصراحة أعلن السادات أن رويتر أعلن هذا الصباح عن قيام الانقلاب في اليمن وتأسيس الجمهورية واغتيال الإمام محمد. ثم اقترح (استخدم كلمة نصيحة) أن تعيد الحكومة الأمريكية موقفها من الانقلاب. مقراً أنه الاعتقاد العام في اليمن ولدى قادة الانقلاب أن الحكومة الأمريكية تدعم وتؤيد الأمير حسن. وقال أن ذلك يعتبر خطأ قاتل حيث أن 90 % من النخب الثقافية في اليمن يؤيدون الانقلاب وقيام الجمهورية.

وما كان يقلقه على وجه التحديد خشية سعود من تعرض مركزه إلى الخطر. وإنه يضغط على الحكومة الأمريكية لدعم النظام الملكي والأمير حسن وهذا على وجه الخصوص ممكناً حيث أن السفير الأمريكي في السعودية كان قد أقر هو الآخر باليمن. كما ذكر السادات أن عدداً من القادة المحتملين للنظام اليمني الجديد قد كانوا في مصر فحثهم (السادات) على الاتصال بي ليخبروني على خططتهم ووجهات نظرهم.

ورداً على ما قيل أعدت باختصار أن موقف الحكومة الأمريكية هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية إلاّ إذا حدث تهديد للمصالح الحيوية للولايات المتحدة، موضحاً ذلك من خلال المساعدات السابقة التي قدمتها الولايات المتحدة إلى دول مختلفة مثل إيران, الأردن، والجمهورية العربية المتحدة.

كما أكدت للسادات أنه لا توجد أي دلائل على أن الولايات المتحدة تؤيد أو تدعم حسن أو أي عناصر يمنية أخرى.

ثم أكد لي السادات أن النظام الجديد في اليمن ليس له علاقة بالشيوعية وسيكون نظاماً صديقاً للغرب, و أعرب عن أمنيته في أن يساعد الغرب اليمن عند الحاجة في حالة حدوث أي تطورات غير مستحبة.

تعليق AP قد أكد تقرير رويترز. افتراضات عادلة من خلال فحوى تعليقات السادات أن الجمهورية العربية على علاقة وثيقة مع قادة الانقلاب وربما يكونوا مسئولين عن هذا الانقلاب. والإشارة إلى سعود ومخاوفه من أن تنصاع الولايات المتحدة لضغوط سعود، كل هذا يطرح تساؤل هل هناك احتمالية حدوث انقلاب مماثل في السعودية من قبل الجمهورية العربية المتحدة.

تطلب السادات أن يتم إرسال وجهة نظره حول إعادة الموقف تجاه اليمن إلى وزاره الخارجية.

 

وكان الأمير حسن شقيق الإمام المخلوع والذي كان مندوب اليمن لدى واشنطن، يطالب بعرش اليمن ويدعو الولايات المتحدة لمساعدته في ذلك لدى وقوع الانقلاب، وفق ما ورد في وثيقة أمريكية تعود إلى تلك الفترة مع أنها لا تحمل تاريخاً واضحاً.

وفي وثيقة أمريكية أخرى جاءت على شكل تلغراف (17) غير مؤرخ يخبر فيه أحد الوزراء اليمنيين السيد شامي رئيس العلاقات الخارجية في القسم العربي في الخارجية البريطانية يخبره بأن الانقلاب الذي شهدته اليمن عام 1962 يعتبر دون أدنى شك مدعوماً من قبل الجمهورية العربية المتحدة.  وفي جانب آخر من الوثيقة ذاتها ( (17يتم الإشارة إلى استقبال حكومة عدن لعدد من أمراء العائلة اليمنية المالكة استقبالاً رسمياً بعيد انقلاب السلال.

 

وزارة الخارجية

من: لندن

إلى: وزير الخارجية

رقم: 1288 بتاريخ 27 سبتمبر 1962 الساعة الثانية مساءً

وزاره العمل 1288   المعلومات لجدة 23 وأولوية لتعزّ 9 وأولوية لعدن 14.

اتصل بنا ولمسلي (رئيس العلاقات الخارجية في القسم العربي) في وزارة الخارجية البريطانية، ليطلعنا عن زيارة السيد شامي أحد وزراء اليمن له منذ دقائق.

وأخبره شامي عن الحدوث الفعلي للانقلاب في اليمن كما جاء في التقرير. وأنه يشعر أنه دون أدنى شك أن الانقلاب الذي حدث في اليمن كان مستلهماً ومدعوماً من قبل الجمهورية العربية المتحدة.

وقال أنه باكراً اليوم تحدث تليفونياً مع الأمير حسن في نيويورك الذي أعلمه، يبدو أن جلالته سيقوم بفعل الذي اقترحه (الأمير حسن) فقد قال له حسن أنه يخطط الاتصال بحكومة الولايات المتحدة والسفير كايال للحصول على دعمهم ومباشرة تصريح حكومة المملكة العربية السعودية للذهاب على الفور إلى السعودية حيث قد تعلو الأحداث من هناك لإعادة تسوية الموقف في اليمن، الإقرار بأنه يمكن أن يأخذ وقتاً طويلاً حتى ينجح. لكن خسائر كبيرة يمكن أن تحدث للتمرد من قبل القبائل الشمالية الثائرة.

واضعاً ذلك في الاعتبار قرر حسن القدوم من خلال لندن اليوم أو غداً ويرغب في معرفة وجهة نظر حكومة جلالتها، ولمسلي تذكر تأييد حكومة جلالتها للنظام الصديق والثابت في اليمن، لكن حذرت حكومة جلالتها من القيام بأي اقتراحات عامة لتأييد حسن مع احتمال أن خسائر فادحة يمكن أن تحدث في العالم العربي ومحتمل اليمن. فاتفق الشامي معي في الرأي وقال إنه من الأفضل ألاّ يعود حسن من خلال بريطانيا.

ثم سأل إن كانت حكومة جلالتها تؤيِّد سيطرة حكومة الجمهورية العربية المتحدة في اليمن. فأجاب ولمسلي أنه لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال مباشرة, لكن اليمنين على معرفة وثيقة برأي حكومة جلالتها.

قال الشامي إنه سيتحدث تليفونياً مع الأمير حسن لاحقاً اليوم، وسيخبره حينها عن انطباعه أن حكومة جلالتها ليست معادية لأي خطة.

رقم 17B

كما ذكر ولمسلي أنه قد تلقى تقريراً من عدن عن وصول سيف الإسلام عبد الرحمن و ابن أخيه (أو اخته) سيد يحي بن حسين إلى عدن قادمين من جدة، وذلك في طريقهم للعودة إلى اليمن.

وعند علمهم بالانقلاب الذي حدث في اليمن قررا البقاء لفترة في عدن.

من المفهوم أن عبد الرحمن يحاول الاتصال بحسن في نيويورك لتحدد خططه. وفي هذه الأثناء منحت حكومة عدن استقبالاً رسمياً والتبجيل لأصحاب المقام الرفيع اليمنيين.

 

أما الوثيقة الأمريكية الأخيرة (18) في هذا المجال، فهي تحمل تاريخ 27-9-1962 وهي عبارة عن تلغراف يؤكد أن التقارير المتوفرة لديه تشير إلى أن من قاموا بالثورة يعملون مع الجمهورية العربية المتحدة وقد طلب الأميركيون من حكومة الجمهورية العربية المتحدة ومن اليمنيين حماية المواطنين الأميركيين الموجودين هناك.

 

سري

وزارة الخارجية

العمل: السفارة الأمريكية في جدة

السفارة الأمريكية في لندن

القنصلية الأمريكية في أسمرة

السفارة الأمريكية في القاهرة

المفوضية الأمريكية في تعزّ

القنصلية الأمريكية في عدن

يوم: 27-9-62

الآتى تجميع للتطورات اليمنية

الوزارة لم يصلها أي تأكيد أو أي اتصال منذ أن وصلها تقرير عبر اللاسلكي عن الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية.

التقارير تؤكد وبوضوح أن من قاموا بالثورة يعملون مع الجمهورية العربية المتحدة. بناءً على اقتراحنا أرسل سفير الجمهورية العربية المتحدة السيد كامل تلغرافاً إلى حكومته لتوجيه أي تأثير قد يكون لديهم على اليمن لحماية المواطنين الأمريكيين الموجودين هناك. كامل قال إنه يمكن أن يزور موظفون رسميون من الجمهورية العربية المتحدة المفوضية في تعزّ. المدمرة الأمريكية بيري على وشك الوصول إلى عدن قادمة من البحرين في 30 سبتمبر، يحاول البنتاجون التقاط أي بث من تعزّ.

المسئول اليمني زابارا تحدث تليفونياً مع الأمير حسن من نيويروك ليخبره عن طلب الحكومة الأمريكية تعلن أنها ضد التدخل الخارجي في اليمن، وتقديم الاعتراف بالأمير حسن كحاكم جديد لليمن. من الواضح أن حسن يخطط للعودة إلى المنطقة ليتنافس على الحكم (السيطرة). سوف نظل في استشارة دائمة مع السفارة البريطانية هنا. و لمعلوماتك فقد ذهب حسن لرؤية السفير ستيفنسون ومن المتوقع أن يقابل السكرتير المساعد والذي سيكشف عن موقف الحكومة الأمريكية، كما سيتقابل حسن مع اللورد هوم. نهاية.

 

الوثائق البريطانية التي تتحدث عن الدور الإقليمي لدول الجوار في انقلابات اليمن فهي متعددة ولكن القوانين البريطانية لم تسمح بالاطلاع عليها خصوصاً وأنه لم يمض على السواد الأعظم منها فترة الثلاثين عاماً التي ينص عليها القانون للسماح بفتح الوثائق والاطلاع عليها. ومع ذلك فقد تمكنا من الوصول إلى الوثائق الكفيلة بتسليط الضوء على هذا الجانب من تاريخ اليمن.

 

تأتي أولى وأبرز تلك الوثائق في 14 حزيران من عام 1974 لتبين أنه بعد محاولة انقلاب قام بها أتباع جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية، مدعومين من العراق وكشف هذه المحاولة حصل خلاف حاد بين الإرياني وعبدالله الأحمر قام على أثره الثاني بالالتحاق بقبيلته، وطالب الإرياني بالاستقالة بعد أن ظهر ضعفه بالطريقة التي تعامل بها مع الانقلابيين.

 

ثم يتابع السفير البريطاني في الوثيقة نفسها شرحه لتلك الوقائع فيقول إن الإرياني صنعاء في 13 حزيران رغبة منه في تجنب غزو القبائل صنعاء، وعقد اجتماعاً إثر ذلك مع كل من أحمد نومان عضو المجلس الجمهوري السابق، ووزير الخارجية، اتفق فيه على أن يقوم ضابط رفيع المستوى في الجيش اليمني اسمه إبراهيم الحمدي، بالتدخل بوضع القوات بين صنعاء وبين القبائل في الشمال، بالإضافة إلى الطلب من الولايات المتحدة الضغط على السعوديين إيقاف دعمهم للأحمر.

وتضيف الوثيقة بالقول إنه خلال عصر ذلك اليوم قام الحمدي بإعادة تمركز القوات شمال صنعاء وخلال المساء تحرك الحمدي من موقع تنفيذ أوامر رئيس الوزراء إلى موقف انقلابي وأخذ السلطة، حيث أعلن حالة الطوارئ ولكنه أبقى مجلس الوزراء على رأس عمله، وكان وزير الخارجية على اتصال بالسفراء الأجانب ليخبرهم أن النظام الجديد يتطلع إلى استمرار العلاقات الحالية القائمة على المصالح والتعاون المشترك.

خلال هذه الأحداث تمنى السفير أن تعود الأمور إلى طبيعتها، وأشار إلى أن هناك القليل من الحظر على دول أخرى ما عدا العراق وعلى الأغلب سيتعامل مع الانقلابيين اليمنيين الجنوبيين بشدة لكنه يشك في خضوع قبائل الشيخ الأحمر بسهولة، هناك إشارة إلى أن الحمدي أجاب السفير البريطاني بالموافقة على تأمين حفلة الاحتفال بعيد ميلاد الملكة البريطانية في السفارة باليمن.

تم استدعاء سفراء دول مجلس الأمن الدولي من قبل مجلس قيادة القوات المسلحة... حضر السكرتير الأول للسفير البريطاني كون السفير متوعك صحياً، ترأس الاجتماع الحمدي وفي الاجتماع كان ... من ضمنهم السفير اليمني في مصر.

كانت النقاط المطروحة أن انقلاب الجيش كان مفروضاً عليهم ولم يسعوا إليه، وإنهم يتطلعوا إلى عودة الحياة المدنية، وإنهم يتمنون المحافظة على علاقات حسنة مع كافة القوى الصديقة، ورداً على سؤال السفير الأمريكي فإن القوات المسلحة تسيطر على كل البلاد وإن القبائل لا تعارضهم، أيضاً رداً على سؤال السفير الأمريكي ستحترم كافة الاتفاقات الدولية، أملوا التوصل إلى تفاهم مع جمهورية اليمن الديمقراطي الشعبي من خلال مفاوضات ولم يبد تفاؤلاً بهذا الشأن، وإنه ستبقى أسماء ستة أعضاء لمجلس القيادة سرية في الوقت الحالي. وإن المطارات ستغلق مؤقتاً وستؤمن بعض التسهيلات لحاجات الإخلاء الطبية.

 

هنا تذكر الوثيقة بوضوح حجم القوة السعودية الضالعة في دعم الأحمر إلى مستوى يستدعي اللجوء إلى وساطة الدول الكبرى للضغط على السعودية كي تتوقف عن تقديم دعمها، ويبدو أن السعودية استجابت لتلك الضغوط بشكل فوري ولكن بيان اعترافها بانقلاب الحمدي قد جاء مشروطاً بعدم تدخل دول عربية أخرى بالشئون الداخلية لليمن.

 

هذا ما أشارت إليه وثيقة بريطانية أخرى تحمل تاريخ 14 حزيران 1974.

وهي مرسلة من جدة إلى الخارجية في باريس لتقول إنه تم إصدار مرسوم ملكي في السعودية الليلة الماضية يؤكد التزام السعودية سياستها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبلد آخر وأشار المرسوم إلى أن السعودية سوف لن تتدخل ولن تقبل أن يتدخل أحد أجنبي في شؤون اليمن الداخلية، معرباً عن أفضل التمنيات للشعب اليمني.

 

وبعد يومين فقط أتى التجاوب مع البيان السعودي من طرف إقليمي آخر حملته وثيقة بريطانية أُرخت في 18/6/1974 وقد وُجهت من عدن إلى الخارجية في باريس لتتحدث عن اجتماع تم بالسفراء الأجانب مع وزير خارجية اليمن الجنوبي، وأبلغهم أنهم ينظرون إلى الانقلاب في الشمال على أنه شأن داخلي...

 

تشير هذه الوثائق مجتمعة إلى أن الروح القومية المتنامية وما أحرزته الدول العربية الحديثة من استقلال دفعها إلى التطلع نحو التنمية والحرية والديمقراطية والاشتراكية وتحقيق الوحدة بين أفراد الأسرة العربية الواحدة وكل ما هنالك من شعارات أطلقت من قبل زعامات وأحزاب تلك المرحلة على اختلافها، جعلها تصطدم بمجموعة من العوائق التي تمثلت بشكل أساسي في السعي لإحراز هذه التطلعات عبر الاستيلاء على السلطة أو التوسع الجغرافي كل على حساب الآخر.

كانت تلك هي المنهجية التي اتبعها النظام الوراثي الهاشمي لاستعادة مجده على عرش سوريا عبر تغذية القلاقل والاضطرابات وإعداد الانقلابات، وهي ذاتها المتبعة من قبل القومية الناصرية لبلوغ الوحدة مع سوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر وغيرها، حتى على المستوى الشعبي فقد كانت تلك المنهجية هي نفسها من قبل الأحزاب القومية والاشتراكية والدينية التي سعت لبلوغ السلطة بمفردها أو مع حلفاء تعمل على تصفيتهم السياسية أو حتى الجسدية بعد بلوغها سدة الحكم.

وقد أثبتت المعطيات بأن السواد الأعظم من هذه التجارب على اختلافها قد باء بالفشل، وقاد رجالاتها وأتباعها إلى الهلاك الذاتي بعد استهلاك الآخر، والأسوأ من هذا وذاك أن الرموز والقيادات والزعامات التي وقفت على رأس تلك القوى بتنوعها، قد تخلت عنها حالما بلغت السلطة على المستوى الفردي واعتبرت أن دور تلك القوى قد انتهى ولا بد من إزاحتها قبل أن تطمح بالسلطة أو أن تلعب أي دور فيها مهما قل شأنه.

هذا هو حال الرموز التي بلغت السلطة بدفع من الموجة القومية كالقذافي في ليبيا والنميري في السودان والبعثيين في سوريا والعراق، فقد تخلوا جميعاً عن القوى التي قادتهم إلى سدة الحكم وتراجعوا تدريجياً عن تلك المواقف التي أوصلتهم إلى السلطة ليحولوا مواقعهم إلى حقوق مكتسبة بلغت بالكثير منهم أن جعل من جموريته الموروثة نظاماً وراثياً أحرزه بذاته وهو ملك لسلالته.

حتى الرموز التي جاءت تمثل أحزاباً ونظريات أيديولوجية، لم تنجُ من المصير ذاته، فقد أطيح بعبد الكريم قاسم بعد تخليه عن الحزب الشيوعي الذي جاء به إلى السلطة، وأطيح بصلاح جديد بعد استبداده بجميع القوى الديمقراطية التي أحاطت بإنجازاته الشعبية، وكان هذا هو مصير أحمد بن بللا في الجزائر والكثير الكثير من الرموز الاشتراكية التي توالت على السلطة في جمهورية اليمن الديمقراطية أو رجالات الحزب الشيوعي السوداني الذين استؤصلوا من المعادلة السياسية بعد لجوئهم إلى انقلاب كانوا يدينونه كوسيلة لبلوغ سدة الحكم.

أما العنوان التالي في هذا الملف فهو يركز على الوسيلة الرئيسية التي اعتمدت من قبل هذه الرموز الانقلابية للبقاء في السلطة بأي ثمن بعد أن جاء بها الدعم الشعبي والتفاعلات السياسية الداخلية إلى سدة الحكم في كل بلد على حداه، أو استعانت بدعم إقليمي ساهمت به الظروف التاريخية والروح القومية العاتية التي ألهبت المنطقة بعد مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار الأوروبي.

وقد أظهرت الوثائق التي توفرت في أرشيفات خمسة من الدول الكبرى عن تلك المرحلة، أن الوسيلة الرئيسة التي اعتمدتها تلك الرموز جميعها دون استثناء هي مهادنة الدول الكبرى والعمل على إظهار التعاون معها، بحجة تحييدها في البداية، وسعياً للحصول على ما يرون فيه ملاذاً آمناً من أياد الغدر التي أخذت تحيط بهم من كل حدب وصوب بعد أن أصبحت الانقلابات تقع بمعدلات فاقت الانقلابات أو ثلاثة انقلابات في العام الواحد كما حصل في إحدى الحقب التاريخية من حياة سوريا.

 

=-=-=-=-=-=-=-نهاية الفصل الثاني.

© 2008-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

الفصل الثالث

[محتويات]  [إهداء]  [تنويه]  [الصفحة الخلفية]  [تمهيد] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث]  [الفصل الرابع]  [الفصل الخامس] 
[خاتمة] 
[نص جريدة الأخبار] 

 

 

 
 
 
 


Hit counter
ابتداء من 28 كانون اول 2008

 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster