|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
نهر أوكافانجو
كل الطرق تؤدي إلى الطاحونة، وكل الأنهر تصب في البحر، إلا هذا،
فأوكافانغو هو النهر الأفريقي الضائع.
إنه أطول وأعرض من نهر الراين، إذ يبلغ طوله ألف وثماني مائة كيلومتر
من منبعه وحتى مصبه؟ المشكلة هي أنه يتلاشى في رمال كالاهاري التي
تنهكها شمس أفريقيا الحارقة.
كان الاعتقاد السائد قبل مائة عام يرى من المستحيل أن يتلاشى نهر
كبير بهذه البساطة. اما اليوم فلم يعد هناك شك بأن البحر لا يستقبل ولو
قطرة واحدة من هذا النهر. فأوكافانغو العظيم يتلاشى ببساطة تامة بعد
ترحاله الطويل عبر البحيرات والمستنقعات وغيرها.
ينتظر السكان ممن يعيشون على ضفاف النهر، هطول المطر بفارغ الصبر لستة
أشهر كل عام، ليس هنا، بل في أنغولا البعيدة، لينساب النهر من جديد بعد
موسم الحر والجفاف.
هؤلاء هم أبناء الهام بوكوشو، أحفاد البشمان من الرحالة الذي كانوا
يوما يسكنون هنا. انهم مثل أجدادهم يجدون هنا كل ما يحتاجون إليه
للبقاء على قيد الحياة من مياه للشرب وأسماك ومواد لبناء منازلهم.
شيدت قراهم في الأراضي المرتفعة من المنطقة بين منعطفات النهر
المتعددة. في الماضي لم يكونوا على صلة كبيرة بالعالم الخارجي. تقول
أساطيرهم أن السماء حين خلقت شعب بوكوسو وضعه في قطعة من القش طويلة
وسط كالاهاري.
في مواسم العطاء يتقاسمون خيرات النهر مع الآخرين، خصوصا من الأسماك
التي تنتشر النسور بحثا عنها بين البحيرات المفتوحة.
سمكة واحدة من هذا الحجم تكفي النسر لغذائه طوال اليوم.
ليست الثديات الأفريقية أكثر ما يجذب هنا على ضفاف نهر أوكافانغو،
بل العصافير. لا يوجد في أي منطقة من العالم مجموعات أكبر من هذه
الطيور الملونة آكلة النحل القرمزي المنتشرة هنا.
حيثما يستمر النهر بالانسياب ويترك بعضا من ضفافه المبتلة من أيام
الفيض، تحتشد مئات العصافير على جدران الوحول تكافح للحصول على أفضل
مكان لأعشاشها، حيث تستطيع الحفر بأعماق تزيد عن المتر داخل التلال.
كالكثير من مجموعات الطيور غيرها، تنطلق خوفا من ادنى حركة تستغربها،
لتحول وتجول حول أماكن أعشاشها، لتعاود الاستقرار من جديد حيثما كانت
قد بدأت.
حتى لو كانت الأعشاش قد بدأت بمجرد علامات فإن الطيور تحلق خوفا دون
سبب واضح على الأقل.
الطيور الجثومة التي تبني أعشاشها بالقرب من أوكافانغو شبيهة جدا بهذه
من حيث إثارتها للضجيج إلا أنها أقل قفزا منها.
مجرد لحظات من التفكير تكفي لمعرفة السبب الذي يكمن وراء تصرفاتها
هذه.
لا حاجة للقول بأن الأنثى هي المسبب الداعي لمثل هذه التصرفات
الجنونية.
سنحتاج إلى الصور البطيئة كي نرى الحركات الشعائرية التي يمارسها
الذكر لدعوة الأنثى إلى عشه الجاهز.
بينما يقوم الآخرون بالإعلان عن عشهم الذي لم ينته بعد، أو ربما
بالإشارة إلى المكان الذي سيشهد بنائه أخيرا.
وحدها الذكور التي انتهت من بناء أعشاش واسعة تكفي لشخص آخر هي التي
تتمتع بفرصة جذب الأنثى.
نحو الجنوب الشرقي وفي منطقة تعرف بباندهال، يشهد أوكافانغو تعرجات
كثيرة تترك شبكة من توزع المياه. لقد عبر النهر حتى الآن ثلث مسافته
المحدد، ولكن سرعته من الآن فصاعدا ستبدأ بالتدني. لأنه في بانهاندل
ينساب فوق رمال صحراء كالاهاري، بعمق ثلاث مائة متر.
إلى جانب الرمال التي تحته هناك عقبة أخرى في طريقه. وهي الكميات
الكبيرة من أعشاب سريعة النمو. فيبدو الأمر وكأن كثبان الرمال الصلبة
وغيرها من العوامل الأخرى تبذل جهدا لإيقاف النهر هنا. ولكن المعركة
التي بدأت قبل آلاف السنين لم تنته بعد.
يجد النهر في الأفيال حلفاء له، إذ يتم تعقبها في مناطق أخرى من
أفريقيا، لهذا تجد في أوكافانغو مكانا آمنا تلجأ إليه، فيمنحها الماء
اللازم.
إنها تأتي إلى النهر كي تسبح، ما هو جزء هام من روتينها اليومي. قد
يبدو جلدها سميكا لا يمكن تحطيمه، ولكنه يتطلب الكثير من العناية. لن
تنمو أماكن حماماتهم المفضلة أكثر من اللازم.
فرس النهر حيوان آخر يتردد على طول نهر أوكافانغو. لقد أطلق عليه يوما
لقب فرس النيل، إلا أن الاسم أصبح باليا. فقد انقرضت من هناك منذ ما
يزيد عن مائة عام، ولكنها ما زالت هنا تترك مجرى النهر مفتوحا.
حركة فرس النهر ذهابا وإيابا تعتبر قوة طبيعية تبقي على أماكن غذائها
مغلقة أمام انتشار النباتات. فمنها من ينتشر بعنف شديد.
بعد عبور أوكافانغو لمائة كيلومتر في بانهاندل، وتخطيه جميع العقبات،
تصب مياهه في مساحات شاسعة من البحيرات الصغيرة والمستنقعات المترامية
الأطراف نحو الأفق البعيد.
هذه هي دلتا أوكافانغو، جنة العصافير على الأرض، مكان تحتشد فيه كميات
هائلة من طيور البط على وجه الخصوص.
يوجد ما يكفي من الغذاء هنا، كما أن أعدادهم الكبيرة تضمن لهم الحماية
من الحيوانات المفترسة.
هناك من يسعى لافتراسها حتى هنا فيما تعتبره جنة لها على الأرض. حين
ينزلق ذو الرأس الأسود عند الماء ترفع طيور البط رؤوسها أسيرة القلق.
ولكن زحافة النيل التي تدب بعيدا دون أن تقترب من جماعات البط كثيرا لا
تشكل حتى الآن خطرا عليها.
كان أسلافها مصدر إلهام لكثير من أساطير الدراغون، حين مر أوائل
الرحالة بهذه السحلية العملاقة.
خوضها يضلل بلا شك، فهي عندما تريد الهروب أو الانقضاض على فريستها
تتحرك بسرعة هائلة. تأكل زحافة النيل كل ما يمكن أن تعثر عليه، إلا أن
غذائها الرئيسي يعتمد على بيض الطيور التي تنشر أعشاشها على الأرض.
حين تفاجئه الزحافة يتصرف الزقزاق بطريقة وكأنه يستطيع إبعاد السحلية
عنه. إذا ما عثرت الزحافة على البيض يفترض أن تسرع في الرحيل، ولكنها
تبتعد متهادية لأسباب مجهولة.
إنها تمر عبر البط دون أن تسبب أكثر من مجرد القلق. وكثيرا ما لا تكون
الزحافات جائعة. رغم أن لديها القليل من الأعداء، إلا أن الإنسان
يتعقبها طمعا بجلدها وما تحتويه من عناصر لمركبات أدوية الشرق الأدنى.
أما الحيوان الوحيد الذي يمكنه أن يهدد الزحافة هنا فهو التمساح.
رغم أن بط الشجر قد رآها من قبل، ولكنه يرى في اقتراب فقرية كبيرة بهذا
الحجم ما يدعو للحيطة والحذر. فطالما تسلحوا بالانتباه سيعتدون بالأمان
منها.
تستقر على ضفة النهر طلبا للدفء، كحيوان كان على رأس شجرة عائلتها منذ
زمن بعيد. عاش التمساح في الأماكن الموحلة من العالم لما يقارب المائة
مليون عام، منذ الفترة التي كان يتقاسم فيها العالم مع الديناصورات.
بني البشر حديثي العهد بنظر التمساح نسبيا، فقد عاشت هنا على ضفاف
أوكافانغو لما يقارب المئة ألف عام، كرحالة من عشائر البشمان في بادئ
الأمر.
تعيش عشائر البا يي اليوم ومنذ ما يزيد عن مائتي عام باستقرار على ضفتي
النهر، وقد عودت نفسها على الإيقاع الغير اعتيادي للحياة هنا، بشقيها
النقيضين، نصفها المعطاء والغني بالأغذية ، ونصفها الآخر المتميز
بالجفاف والجوع والعطش.
الحياة في قراهم بهذه الفترة تعج بالمشاهد الخيالية. يحلم الغرباء في
العيش هنا كروبنسن كروز. حياة لا إحساس بالمسئولية فيها نرتمي بين
أحضان أمنا الطبيعة. ولكن لا بد أن يولد المرء هنا ليبقى على قيد
الحياة. قد تكون أشبه بالجنة للشبان من أهل هذه القرى، ولكنهم حين
يتقدمون بالسن سيأتي الواقع المر إلى بيوتهم .
لكنهم ليسوا متعلقين بمقاعد الدراسة على الأقل، وبقليل من الخيال
يمكنهم تحقيق المتعة عبر ابسط السبل.
اليوم وخلال النصف الأخير من العام، يمكنهم أن يلهون وهم على ثقة من
العثور على الطعام قبل النوم. انه موسم صيد الأسماك.
امرأة با يي، تتبع أسلوبها الخاص لصيد السمك من النهر، إنها أيام
سعادة وفرح لأنهم يحتفلون بموسم العطاء والخيرات.
حين يبدأ مستوى المياه بالانحسار مع اقتراب موسم الجفاف يصبح الصيد
أسهل. والأسماك التي لم تجد سبيلا لها إلى المياه العميقة تنتهي في
واحدة من سلال النساء هنا.
حين تقفل الدائرة بالكامل تعطي إحدى النساء إشارة فيرفعن السلال معا
ليرون ما بداخلها.
سيكون لديهن سمكا يأكلنه الليلة.
البلشون الأبيض يشترك أيضا بالوليمة. مع هجرة مئات الآلاف من الأسماك
نحو المياه الأعمق من أطراف المستنقعات الجافة.
أعداد الأسماك هائلة لدرجة أن الماء يعج بها على إيقاع النهر الخالد.
الأيام طويلة وحارة في دلتا أوكافانغو، ومع حلول الليل يشعر الجميع
بالإرهاق بين طيور وبشر من كثرة الصيد ووفرته.
تسمع في الليل أنشودة أخرى، مع نقيق الضفادع التي تبحث عن شريك لها.
على الشجرة إلى جانب النهر، تقف بومة أفريقية تترقب المشهد بانتظار أن
تظهر زعنفة على سطح الماء.
قد يوحي المشهد بالسلامة التامة، ولكن هذا ليس كل ما في الأمر. من بين
الزوار الذين يأتون للمشاركة في روائع الدلتا، هناك بعضا ممن يدركون
التهديد السياسي الذي يحوم حول الماء، التي يمكنها في المستقبل القريب
أن تتحول إلى مصدر ثروة هائلة لشعب جنوب أفريقيا.
هناك نزاع على هذه المياه بين أصحاب مناجم الألماس ممن يرغبون بها في
الجنوب الشرقي للبلاد، و أعداد السكان المتنامية، كما ومع كبريات مراكز
صناعة الألماس الجنوب أفريقية في المنطقة.
يبدو وكأن كل الجهود الدولية التي تبذل لحماية نظام اوكوفانغو البيئي
بالغ الأهمية هذا ليست كافية. صور كهذه قد تتحول في القريب العاجل إلى
الملفات التاريخية القديمة.
لا توجد كميات من الحيوانات الكبيرة في هذه المنطقة لتلفت انتباه
العالم، مقارنة مع سهول شرق وجنوب أفريقيا. البيئة متطلبة جدا
بأطرافها المترامية من المياه الضحلة، ونباتات البردي المنتشرة. ولكن
هناك سيد مالك للدلتا، إنه ظبي المستنقعات النادر والغريب جدا.
قدرته الفائقة على الغطس بهدف الاختباء وترك انفه فقط فوق سطح الماء
يجعل من الصعب جدا العثور عليه. يبدو أن هذا القطيع الصغير غير منزعج
من الهيلوكبتر التي ما كنا نستطيع تصويره أبدا بدونها.
أحيانا ما تخرج الفيلة للتجول بين المستنقعات، لا بد أنها تعرف الطرق
بين الأراضي الموحلة وغيرها ، يعودون من خلالها إلى المناطق الصلبة بعد
حصولهم على الغذاء.
حين تبدأ الأعشاب في دلتا بإنتاج الحبوب تحتشد ملايين من الطيور ذات
المنقار الأحمر، التي يعتبرها المزارعون وباءا ، ولكنها هنا اليوم كما
كانت في الماضي جزء من المشهد الطبيعي.
التوافق بين كميات الطعام الهائلة والمياه الغزيرة في الدلتا يأتي بها
كل عام.
إنها طيور جثوم صغيرة ومهاجرة تتبع نمو حبوب الأعشاب في أنحاء البلاد،
تصل مع ظهور الحبوب ولا ترحل إلا مع انتهائها وجفاف الأرض.
كثيرا ما يصر أحد الفيلة المتجولين بأن يستحم هنا دون أي مكان آخر، وفي
أشد البقع جفافا من النهر.
بعد المثابرة والإصرار يتمكن من تحقيق رغبته في نهاية المطاف.
هنا وعلى بعد ألف وثماني مائة كيلومترا من منبعه، لم يكن الأمر دائما
على هذا الحال. فقبل آلاف السنين، بدل أن يتلاشى النهر بهذه البساطة
كان يغذي بحيرة هائلة، على بعد ثلاث مائة كيلومترا إلى الجنوب الشرقي
من هنا. ولكن المناخ أصبح جافا، ومياه أوغافانغو انحسرت باكرا إلى أن
لم يعد بإمكانها أن تعبر الصحراء.
هنا تنساب آخر القطرات الغالية لأوكافانغو العظيم، بعيدا في رمال
كالاهاري، حيث ينتهي النهر الضائع.
أما بالنسبة للفيلة فهي لم تضع بالكامل. انها تدرك قدرتها في العثور
على مناطق مبللة في الأجزاء العميقة من النهر القديم. حيث ما زالت
بقايا أوكافانغو تنساب تحت سطح الأرض. انها تأتي إلى هنا كل يوم لتحفر
أخاديد جديدة في الرمال، أو لتزيد بعض الحفر القديمة عمقا، حتى تتمكن
من العثور على مخزون من المياه.
يحتاج الفيل الناضج إلى مائة لتر من الماء كي يستمر لمدة يوم كامل.
حين يتمكن الفيل من فتح مخزون المياه يظهر الجائع الأول. القرد الرباح.
مستغلا قدرة الفيل الهائلة على الحفر.
تأتي الأمهات بصغارها إلى هنا. إنه المصدر الوحيد لمياه الشرب على بعد
أميال من هنا. إنهم يتركون الصغار وحدهم في المنطقة القريبة، ولكن
يبقونهم تحت المراقبة لاحتمال تعرضهم للمشاكل.
لا يوجد عدوانية جادة هنا، سوى بعض الأذى الطفيف. ولكن الأم ليست
مستعدة للمراهنة. فهي مستعدة للابتعاد عن طريق صغيرها ، ولكنها ليست
متأكدة تماما منه.
لا يتطلب العثور على الماء بالنسبة لهذه القرود سوى التجوال برفقة
الفيلة في هذه المنطقة شبه الصحراوية. فإلى جانب الفيلة أنفسها، يعتبر
القرد الرباح الأكثر كفاءة للحفر بحثا عن الماء. ولكن ما الذي يدعوه
للحفر طالما أن هناك من يقوم بذلك نيابة عنه؟ حتى وإن لم يكن غاية في
الظرافة.
بالقرب من بلدة ماون الصحراوية يرتفع جسر تامالاكان، الذي يعبر المنخفض
الفارغ، حيث تنتهي مياه أوكافانغو الحالمة بالوصول إلى مياه البحر.
المياه التي لم تتبخر بفعل الشمس الحارقة لدلتا، امتصتها رمال
كالاهاري.
بعيدا خلف هذا الجسر، تقع المستنقعات الغنية وبعضا من جداول بانهاندل.
علما أن نهر أوكافانغو يصون الحياة أكثر من أي نهر آخر.
إنه أحد عجائب أفريقيا، ويستحق الحماية من أيدي التجار، أو مطالبة
السكان من أبناء البشر. ربما كان أوكافانغو نهر ضائع، ولكنه يعني خطا
من الحياة، لهذا كله فهو ينهي أيامه وسط غبار الصحراء. بعيدا عن البحر.
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م