اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
   

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 الابعاد التربوية والنفسية والاجتماعية لثقافة التسامح
 

 

ان الحديث عن "التسامح" وثقافته، هو حديث ينبع من العقل الفردي وينتهي بالعقل الجمعي، أي بمعنى آخر، يبدأ بالانسان الفرد وينتهي بالمجتمع الكبير. وجوهر هذا النمط من الحديث ، هو النضج الانفعالي والتوازن الفكري ، والايمان الذي يستمد قوته من التقوى والعمل الصالح للفرد داخل الاسرة والمجتمع. يقول الشيخ محمد عبدة  ( ان الشيء الذي تميز به الاسلام عن غيره احترامهُ للعقل ودعوته للنظر والتفكير، وحثه على العلم والتعلم واشادته بالعلماء واصحاب العقول وحملته على الجمود والجهل، وتمجيده للقراءة والكتابة والقلم ، منذ أول آيات انزلت من القرآن ).

لذلك .. وقبل ان نبدأ بالحديث عن الابعاد النفسية والتربوية والاجتماعية لثقافة التسامح، لا بد لنا ان نوظف عقولنا وأفكارنا وعلومنا وبقلوب صافية ونقية، لفهم المعاني الحقيقية لهذه الثقافة وما يمكن ان تحققه في مجتمعاتنا العربية من  خيرٍ وحبٍ وسلامٍ ورفاهيةٍ  وتقدم.

ويتساءل الفيلسوف الفرنسي فولتير قائلاً : ( ما هو التسامح؟ انه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية ، اننا جميعا من نتاج الضعف ، كلنا هشون وميالون للخطأ، ولذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل).

وهذا شاهد آخر يدّعونا الى إعمال الفكر والعقل والعاطفة عل  حدٍ سواء للتعامل مع الحياة . فمن منا لايخطأ ، ومن منا لا يضعف امام هزات الحياة ومشكلاتها.. ولكن كيف نتعامل مع أخطاءنا؟ وكيف نتعامل مع الآخر الذي تسببنا في إيذاءه نتيجة أخطاءنا؟ كلنا يتذكر قول الرسول الكريم محمد (ص) : "كل إبن آدم خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون" ، وما التوبة؟ أليست هي دعوةٌ الى الباري تبارك وتعالى بقبول التوبة من جُرم أو ايذاء أو خطيئة؟ ولكن كيف يقبل الله تبارك وتعالى التوبة ، دون طلب الاعتذار من الشخص الذي تعرض للايذاء أو الالم. إن جوهر الاديان السماوية وفي مقدمتها الاسلام ، يدّلنا في هذا المضمار ، الى آلية عقلية وسلوكية في آن، تقول ان النفس اذا ما ارتكبت خطيئةً، تخاصمُ ذاتها ، لذا  فأن أول سلوك نلجأ اليه هو التصالح مع النفس قبل ان نتصالح مع الاخر، واذا ما تم التصالح مع النفس ومع الآخر، فأن الدعوة للتوبة الى الله تصبح حقيقة لا مرّدَ لها، لان الغاية الالهية  القصوى لخليفة الله في الارض ، الانسان،  هي ان يحيا حياة كريمة وسعيدة وهانئة ، ولا سعادة طبعاً لفردٍ أو جماعة مع وجود العنف والعدوان والتطرف ، لان الميل الى العنف هو المنبع الاساس للخطأ والايذاء ، ولا يمكن للتوبة ان تتحقق إلا بالاعتذار والتسامح حيث تتحول الرذيلة الى فضيلة ، وهذا ما يتطابق مع المقولة المشهورة "الاعتراف بالخطأ فضيلة". وما يؤكد ان الخطأ فينا جميعا، قول عيسى (ع) : (من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر) . لذلك ، وقبل كل شيء ، علينا ان نتعلم كيف نعترف بأخطاءنا ، وكيف نُصارح ذواتنا، لا أن تأخذنا العزة بالاثم، ونعاندُ بضراوة وقوة غير مكترثين بأخطائنا ، تاركين عقولنا تعاني من موروثات سرعان ما تتراكم لتخلق لنا التوتر والقلق والسوداوية في المزاج والتي تنعكس خارج نفوسنا على شكل آليات دفاعية نفسية لاشعورية في مقدمتها التبرير والاسقاط. وهنا تتعقد الامور ويبدأ التسويف على حساب النفس والعقل ، إذ نبدأ بصب جام غضبنا الذي  هو حصيلة صراعاتنا وازماتنا غير المحلولة ، على غيرنا، على الآخر، أياً كان هذا الاخر، شخصية فردية أم معنوية، فنكيل التهم ونمعن بالايذاء ونلجأ الى التعميم ، فتخجل منا نفوسنا ، وتتحول حياتنا الى دائرة من الخصام مع النفس ومع الاخر ، دائرة تبقى تدور وتدور ولا يمكن إيقافها الا بكسرها في أحد أطرافها، وهذا يعني التنفيس والمصارحة ونقد الذات حيث الاعتذار وطلب العفو والمسامحة. وهنا، وهنا فقط، نصل الى الدرجة التي يمكن ان يرضى عنا الله تبارك وتعالى ، ونعيش بهدوء وسلام ومحبة.

والسؤال الذي يؤرقني دائماً، ونحن نعيش في عالم اليوم الذي يشهدُ أبشع أنواع الظلم والايذاء والعنف والعدوان حيث تناقصت قيمة الانسان الذي جعله الله في أحسن تقويم ، الى أدنى الدرجات في تاريخ الانسانية، السؤال ، هو، أين نحنُ من قيم السماء في العدالة والتسامح والصفح التي ظلّ الخالق يأمرنا بها على مدى أكثر من عشرين قرناً من الزمان؟ لماذا لم نستطع أن نحول قيم الفضيلة والمحبة والتسامح الى آليات عملية سهلة التطبيق في مجتمعاتنا العربية الاسلامية؟ صحيح ان الكتب والصحف والرسائل التي نتداولها منذ قرون وبكل لغات العالم، تزخرُ بالحديث عن هذه القيم، ونحن نتداولها ببغاوياً ونُنظر فيها بأحلى الكلمات وأجملها لكنها مع الاسف ، ظلت حبيسة هذه الاوراق ، دون أن تتحول الى برامج تدريبية ومناهج للعمل الدؤوب على تطبيقها عمليا على مستوى السلوك والتصرف.

وقد تنبهت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم التابعة للامم المتحدة، الى موضوع ثقافة التسامح فأصدرت في 16 تشرين الثاني من عام 1995، إعلاناً يتضمن المبادئ الاساسية للتسامح كثقافة تربوية ونفسية وإجتماعية . وقد أصبح هذا اليوم ومنذ المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، يوماً عالمياً للتسامح. ولكن، كم منّا يتذكر الاحتفال بهذا اليوم؟ القليل القليل يستثمر هذا اليوم ليعلن بكل صدق ومحبة وايمان أهمية التسامح في حياة الافراد والشعوب.

ان الحديث عن التسامح ، هو حديث عن القوة والايمان والعزيمة والتقوى، وهو ليس حديثاً عن التنازل أو الضعف أو التهاون ، كما يحلوا للبعض أن يفسره! إنه يعني الاقرار بحقوق البشر جميعا فوق سطح الكوكب ، وكذلك الاقرار بالاختلاف وبالارادة وحرية الاختيار. والتسامح ، هو نقيض التحيز والتطرف والتعصب  والاستبداد ، وهو في الوقت نفسه صنوان التعددية والديمقراطية والحرية، وهو القيمة الاساسية التي تنبثق عنها حقوق الانسان في كل زمانٍ ومكان. والتسامح بعيد كل البعد عن الظلم الاجتماعي ، وهو عكس الخنوع والاستكانة، لانه يمثل بحقٍ ، حق الانسان في التمسك بعقيدته بشكل عادل ومتساوٍ ودون تمييز، وهو في جوهره ، الاساس العقلاني الممكن لتحقيق العدالة الاجتماعية والسلام في المجتمعات الحديثة.

لقد خلقنا الله جلّ وعلى، شعوباً وقبائل لنتعارف مع بعضنا البعض، لا فرق بيننا كبشر أسوياء على اساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس أو المعتقد السياسي، أو الطبقة الاجتماعية. والاختلاف بين البشر على أساس هذه المتغيرات لا يمنعنا أبداً  من أن نعيش معاً ، متحابين متوافقين، نسعى جميعاً لتحقيق السعادة  والرفاهية والازدهار. ولا نستطيع ان نحقق هذه الاهداف إلا بتوافر القدر الكافِ من التسامح بين البشر وان اختلفوا بطبيعتهم البشرية التي خلقهم الله بها.

ومن المؤسف حقاً ، وعلى الرغم من قوانين السماء ومواثيق الارض، فأن ثقافة اللاتسامح ، هي الثقافة السائدة بين بني البشر. ومن ينظرُ اليوم الى العالم وهو قرية صغيرة ويتصفح المواقع المختلفة على شبكة الانترنيت، يجد العجب العُجاب من أشكال العنف والتطرف والتحيز والغُلو، قتلٌ، دمارٌ، إنتهاكٌ، سلبٌ، خطفٌ، نفاقٌ ، كذبٌ وغير هذا  الكثير. ومن يراقب بمنظار صغير ، عالمنا العربي من شمالهِ الى جنوبهِ ومن شرقهِ الى غربهِ، وبعقلٍ متفتحٍ وروحٍ أمينةٍ صادقة، يجد أن مظاهر التعصب موجودة في مجتمعاتنا ولا يمكن إنكارها، مع ضعفٍ واضحٍ في ثقافة وتقاليد الحوار الديمقراطي الهادف، وانتشار للافكار الاحادية غير المتسامحة والتي يدّعي أصحابها ، انهم هم وحدهم الذين يمتلكون مفتاح الحقيقة وليس سواهم، وتلك كارثتنا الكبرى التي تقف حجر عثرة امام التغيير او حتى الاصلاح.

ويرتبط "التسامح" بالسلام إرتباطاً وثيقاً، فالاول وممارسته فعلياً على مستوى الافراد والجماعات ومن ثم المجتمعات والدول، يؤدي الى الثاني ، ويُهيأ الى كافة أنواع التقدم الاقتصادي والاجتماعي للشعوب.

وتشير المادة الاولى من إعلان المبادئ بشأن التسامح الذي اعلنتهُ اليونسكو ، الى أن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير الثري لثقافات عالمنا ولاشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وانه الوئام في سياق الاختلاف ، وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وأنما هو واجب سياسي وقانوني أيضاً . والتسامح ، هو الفضيلة التي تيسِر قيام السلام ، وهو الذي  يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.

إن القارئ لهذه المادة وغيرها من مواد المبادئ ، يجد أننا امام مهمة كبيرة ، آلا وهي مستوى النظرة الى التسامح كمصطلح ، فهو ليس كلمة أو مفهوماً فقط له دلالاته ومعانيه على مستوى اللفظ او في سياق الحديث ، بل هو ثقافة متكاملة تتجاوز  المعنى النصي للمفهوم الى معنى المعنى كما يُطلق عليه في دراسات التحليل النفسي وعلم نفس اللغة.

إذَن  نحن أمام ثقافة تحتاج توعية وتثقيف على مستوى الافراد والمجتمع فضلاً عن انها ثقافة تحتاج  الى تبنيها ، الدول والحكومات والاحزاب التي تستلم السلطة في هذا البلد او ذاك .. وتحتاج هذه الثقافة الى منهج عملي وفكري متكامل يتم تطبيقه بشكل يتناسب مع ظروف المجتمع وتطلعاته من جهة وطبيعة قطاعاته وشرائحه وطبقاته من ناحية أخرى. ولا يمكن ان يتم هذا إلا من خلال هيئة نزيهة ، محايدة ومستقلة تتبنى التأسيس والتطبيق لثقافة التسامح، تكون مؤمنة بشكل كامل بهذه الثقافة وعلى درجة عالية من المرونة والانفتاح لتستطيع تنفيذ برامجها التوعوية والتثقيفية في داخل المجتمع بشكل سلس وايجابي مع الاخذ بنظر الاعتبار القدرة على مواجهة العقبات والصعوبات أثناء التطبيق  وكيفية معالجتها والتعامل  معها.

إن الخطوط العريضة لوضع المنهج المتكامل لهذه الثقافة ، لا بد أن تتضمن برامج متعددة يتم تطبيقها على قطاعات مختلفة داخل المجتمع وضمن سقوف زمنية محددة ومن خلال فرق عمل تطوعية تؤمن بهذا المنهج وتسعى لتطبيقه بروح مخلصة وامينة بعيداً عن البغضاء والكراهية ، وذلك من خلال المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية والمحاضرات والبرامج التلفازية والملصقات والبوسترات، والاهم من ذلك كله ، ورش العمل التدريبية التي تتوزع بملاكاتها على مساحة الرقعة الجغرافية لهذا البلد او ذاك وبالتعاون مع المهتمين والمتخصصين في نفس الموقع الجغرافي لتأمين القناعة والإرادة الفاعلة في الطروحات والبرامج التدريبية التي يقوم بها المدربين.

وإنطلاقاً مما تقدم يتضح لنا أن ثقافة التسامح تنطوي على العديد من الابعاد التي تستهدف التغيير في القناعات وإزالة بعض الافكار المستمدة من موروثات معرفية قديمة وإحلال الجديد مكانها والمبنية  على أساس التسامح والعفو والتصالح من اجل السلام، والابعاد التي تتضمنها ثقافة التسامح كثيرة منها: إجتماعية ، نفسية، تربوية ،سياسية ، دينية، إقتصادية وغيرها. وسنحاول ان نركز في هذه المقالة ان نتناول ثلاثة أبعاد رئيسة فقط هي التربوية والنفسية والاجتماعية، تاركين المجال للاخرين من الكتاب لتناول الابعاد الاخرى. وسنعتمد بشكل أساس في تناولنا لهذه الابعاد على مبادئ اعلان اليونسكو:

1- الأبعاد التربوية :

يعدّ التعليم المجال  الرحب والواسع والاساس للانطلاق نحو تعزيز ثقافة التسامح ، خاصةً في مجتمعاتنا العربية الاسلامية لاختلاف المرجعيات في وضع مناهج التعليم وتأثرها بشكل مباشر بالضغوط والبرامج السياسية السائدة. لذا فأن مسألة اعتماد اساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، يعدُّ مطلباً ضرورياً يتضمن في البدء اسباب اللاتسامح كثقافة سائدة تتناقض مع جوهر الديانات السماوية ومن ثم البحث في جذور ثقافة العنف والتطرف وهي الثقافة الاشد عداءاً لثقافة التسامح. ان السياسات والبرامج التعليمية وعلى مختلف مراحل التعليم ، بدءاً من رياض الاطفال وحتى الجامعة، بحاجة ماسة الى تضمينها برامج تعزز من التضامن والتفاهم والتسامح بين الافراد وكذلك بين المجموعات الاثنية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية وفيما بين الامم.

إن التعليم هو مصدر الثقافة ومنبعها وهو الذي يبني الفرد تربوياً وعلمياً ومعرفياً إضافة الى المصادر الاخرى التي تتلخص بخبرات الحياة وتجاربها والاعلام والتثقيف الذاتي. ولا تتحدد المعرفة التي نحصل عليها من خلال التعليم بالمنطقة او الحدود الجغرافية التي يعيش فيها المتعلم ، بل تتعدى هذا الى مساحات اوسع وأكبر  لتشمل الكون والعالم والانسان في كل مكان. لذلك يجب القول بأهمية ان تكون برامجنا التعليمية شاملة وعالمية ولا تتحدد بالموقع الجغرافي لهذا البلد او ذاك حصراً. فقد لا يعاني مجتمع ما، من وجود  أعراق واثنيات وأديان وأجناس متعددة، كما يعاني مجتمع آخر من هذه التعددية . ولكن  لا يعني هذا أن نجعل من البرامج التعليمية  للبلد الذي لا توجد فيه تعدديات عرقية ، متحددة ومقتصرة على توجهات  أحادية ، لأن الفرد هو أبن العالم وليس فقط أبن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا بد من توسيع مداركه ورؤيته الى اكبر وأوسع من منطقته وحدوده الجغرافية.

تقول أحدى فقرات اعلان المبادئ بشأن التسامح  بخصوص فقرة التعليم والتربية : "إن التعليم في مجال التسامح يجب ان يستهدف مقاومة تأثير العوامل المؤدية الى الخوف من الاخرين واستبعادهم ، ومساعدة النشئ على تنمية قدراتهم على استقلال الرأي  والتفكير النقدي والتفكير الاخلاقي".

وتتعهد الامم المتحدة في المجال التربوي بمساندة ودعم تنفيذ البرامج التعليمية في حقول التسامح ، وحقوق الانسان واللاعنف. وهذا يعني بطبيعة الحال الاهتمام بموضوع اعداد المعلمين والمدرسين والتدريسيين الجامعيين وتحسين أدائهم في هذا المجال، فضلاً عن العمل على تضمين المناهج الدراسية والكتب المدرسية وغيرها من المواد  التعليمية، المبادئ الأساسية لثقافة التسامح والسلام ونبذ العنف والتطرف، بهدف تنشئة أفراد منفتحين على ثقافات  الاخرين، ويقدرون الحرية حق قدرها ، ويحترمون كرامة الانسان والفروق بين البشر، وقادرين على درء الصراعات والنزاعات او حلها بوسائل غير عنفية.

2- الابعاد النفسية :

واذا كانت الابعاد التربوية كما اسلفنا، والابعاد الاجتماعية ، كما سنأتي على ذكرها لاحقاً، تتضمن برامج تثقيفية وتعليمية وتربوية، فأن الابعاد النفسية لثقافة التسامح تمثل الحُضن والملاذ الذي تنطلق منه التطبيقات التربوية والاجتماعية كونها تمثل الاستعداد النفسي للفرد في تقبل هذه الثقافة وبالتالي الايمان الكامل بها وتسخير كل الطاقات والقابليات والابداعات الذاتية في سبيل تحقيقها. ان البناء النفسي للانسان يبدأ من السنين الاولى للحياة . وتعدّ مرحلة الطفولة المبكرة ، المحطة الاولى لبناء الضمير الانساني ومنظومة القيم الفاضلة ، وكلما يأتي بعدها من مراحل هو تعزيز وتكثيف للمحطة الاولى. وتبنى الانا الاعلى في شخصية الانسان ، اي الضمير ، من الام بدءاً ثم الاب  ، ثم الاقربون. وهؤلاء ، هم اللذين يزرعون البذرة الاولى لقيم الفضيلة والاخلاق الطيبة ، فيتعلم الطفل الصدق والشجاعة ، والشكر والمحبة والتعاون وحب الناس وغيرها. وتتحول هذه القيم عبر مراحل النمو الى منظومات عقلية راسخة يصعب زعزعتها في المستقبل، لذلك فان البناء النفسي السليم في هذه المرحلة من مراحل النمو ، يعوّل عليه كثيراً في بناء ركائز الشخصية ومكوناتها. فاذا تعلّم الطفل منذ الصغر ، الثقافة الاحادية في الفكر، والخوف والتحيز والتطرف الى فكرة دون اخرى فضلاً عن الاتكالية في أخذ المعلومة واعتناقها على انها الوحيدة دون ترويض فكره أو عقله على أن هناك غيرها من المعلومات التي قد تتناقض معها، ينشأ الطفل ويكبر أسيراً لمجموعة من هذه المنظومات الفكرية الراسخة ، متبنياً إياها دون نقد أو تمحيص او تفكير أكثر بمصادرها ومنابعها. ومن هنا يبدا التطرف والذي يمهد الى ثقافة العنف واللاتسامح. وينعكس هذا بطبيعة الحال على الجماعات ومن ثم المجتمع ، فتنشأ ثقافة الحرب والتعدي والايذاء للاخر دون شعور بندم او وخزة ضمير.

إن تهذيب النفس الانسانية وتنقيتها من براثن الفجور والرذيلة ، يدفع الانسان الى السلوك الذي يعتمد التقوى. وأكثر ما يرتبط بالتقوى،  التي هي إحدى ركائز الايمان ، هو العمل الصالح ، ولا يمكن للعمل ، الذي ارتقى بمعناه الباري تبارك وتعالى ورسوله الكريم محمد (ص) الى مستوى العبادة، أن يكون صالحاً وكريماً الا من خلال النظرة الشاملة للوجود والكون والعالم والانسان ، على انه كله من خلق الله، إذن  يتوجب علينا ان نحترم بعضنا بعضاً ونتعاون من اجل الخير والفضيلة.  وتلك هي ثقافة التسامح التي تؤدي دون شك الى ثقافة السلام في مواجهة ثقافة العنف والعدوان.

3- الأبعاد الإجتماعية :

وإذا كان التعليم هو انجع الوسائل لمنع اللاتسامح ، كما تقول مباديء إعلان التسامح الصادر عن  اليونسكو ، لأنه الخطوة الأولى في مجال التسامح من حيث تعليم الناس حقوقهم و حرياتهم التي يتشاركون فيها مع بني البشر أجمعين كما خلقهم الله ، فان التسامح ضروري بين الأفراد وعلى صعيد الأسرة و المجتمع المحلي . وان جهود تعزيز التسامح و الانفتاح و التضامن و التعاون ، ينبغي أن تبذل في المنزل ومواقع العمل وفي كل مكان إضافة للمدارس و الجامعات . و يمكن لوسائل الإعلام بكل أشكالها ، ووسائل الاتصال بكل امكاناتها المفتوحة أن تضطلع بدور هام وبناء في تسهيل ونشر ثقافة الحوار والنقاش بهدف نشر قيم التسامح وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات و المنظمات و التكوينات و الإيديولوجيات غير المتسامحة .

إن التسامح أمر جوهري في العالم الحديث ، وهو أمرٌ جوهري وضروري لنا في عالمنا العربي الإسلامي ،لأننا أبناء دين التسامح والمحبة والسلام ، لكننا اليوم وكما هو  حالُ غيرنا من أبناء شعوب الأرض ، أصبحنا بعيدين عن هذهِ القيمة الإنسانية العظيمة .إن العالمَ بأسرهِ اليوم يعاني من تصاعد حِدةِ عدم التسامح و الصراعات والنزاعات ، وربما كان من أسباب ذلك هو المبالغة في النظرةِ المادية للعالم والوجود حيث الاقتصاد المبني على أسس التنافس و الفردية وتحقيق الإرباح على حساب الجوانب الروحية والمعنوية في احترام خصوصيات الفرد و الجماعة . كذلك فان السرعة المتزايدة في الحركة والتنقل وأثار العولمة بكل إشكالها و حركات الهجرة وانتقال السكان والتوسع الحضري و تغيير الأنماط الاجتماعية ، كل هذا يساهم بشكل أو بأخر بتعظيم مباديء اللاتسامح و يفضي إلى التنافس غير المشروع بين الدول ليهيأ للحروب و الاقتتال . لذلك فنحن جميعا، اليوم و أكثر من أي وقتٍ مضى ، بحاجة ماسة إلى ثقافة التسامح ، لأنها الحل الوحيد الذي يمكن أن يفضي إلى السلام ، و يدحض أكاذيب المتطرفين . إن هذه الثقافة اليوم ، هي الأمل الذي يرنوا إليه الخيرين و الطيبين من أبناء شعوب العالم ،  ليحيوا حياة حرة كريمة و متفائلة بعيدة عن الخصام و الاقتتال و الحرب .

              أن روح التسامح تعتمد في الأساس على المحبة ، والمحبة نسغٌ ينبعُ من روح الفرد ، و الخالقُ الباريء في جبروتهِ وجلالهِ، محبة، إذن دعونا نزرع بذرةَ المحبة  بيننا أفراداً و شعوباً و أمماً ، لنحصد ثمرة التسامح في شجرةِ السلام ...

--------------------انتهت.

د. الحارث عبد الحميد حسن (إستشاري الطب النفسي )

  الكاتب:

مجلة المعرفة

  المصدر:

2005

  تاريخ النشر:

 
 
 
 



 

 

 

 

 المحتويات

 الرئيسية

 أعد حديثاً

 تكنولوجيا

 إنسانيات

 علوم

 رياضة

 أي قانون

 منوعات

 عالم البيئة

 فرضيات

 منتدى الحوار

 مؤلفات

 خريطة الموقع

 ذاكرة كالحلم؟؟

 ...

 
 

 ابحث في الموقع


 
 

 أبواب إضافية

 دليل الصحافة العربية

 لحظات في صور

 نشاطات مختلفة

 فلسطين - فنزويلا

 تعلم الإسبانية

 المعتقلون الخمسة

 صفحة توفيق شومان

 صفحة حسني الحايك

 متفرقات مقتبسة

 روابط مختارة

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster