اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 شلل الأطفال في اميركا
 

جوناس سالك

 

الصيف هو موسم النشاط والحرية لجميع الأطفال، موسم ليس فيه مكان للخوف في حياة الأطفال. ولكن في السنوات التي سبقت عام خمسة وخمسين، كان الصيف موسما للاختباء في المنازل، وذلك لانتشار فيروس يضرب العائلات في شمال أمريكا، فينتهي ضحاياه في المستشفيات بل وبالنسبة للبعض في أشد الأماكن ذعرا، الرئة الحديدية.

كان الخوف من الشلل يفوق كل شيء. وكان فصل الصيف سيء جدا للأطفال، الذين يمنعوا من السباحة حالما يسمعوا عن حالة شلل أطفال في المنطقة تقفل جميع المسابح. إذا تعرض المرء لآلام العنق، يعتقد الجميع أنه الشلل، أو ارتفاع الحرارة والدوخة  والإسهال وهكذا..

داخل مختبر صغير في طابق سفلي من مستشفى البلدية في بيتسبيرغ بينسلفانيا، يشن طبيب شاب حربا شخصية ضد هذا المرض. عام ثلاثة وخمسين كان الدكتور جوناس سولك وفريقه يحاولون التوصل إلى أهم اكتشاف طبي في القرن العشرين، هو لقاح يقضي على شلل الأطفال نهائيا.

كنا حيال مرض خطير، يقتل الناس من حولنا، هنا في الطابق الثالث من المستشفى الذي نعمل فيه، انتشرت أكثر من خمسة وعشرين رئة حديدية والناس بداخلها. كان ذلك مشهد مريع فعلا. كنا في كل صيف نستقبل آلاف الأشخاص بهذه الحالات.

كان الوباء كل فصل الصيف يجتاح القارة الأمريكية، ليصيب كل صيف المزيد من الضحايا.  شلل الأطفال مرض بالغ القسوة، ذلك أنه يستهدف الأطفال أولا. يضرب الفيروس النخاع الشوكي أولا ثم يتسلل إلى العضلات. ليضعف الأطراف إلى حد ليس له مثيل، ليتسبب أحيانا بموت مفاجئ.  أما سبل عمله وانتشاره، فمسألة غامضة.

ما يصيب الطفل المصاب بالشلل يؤثر عليه جديا، أذكر أن جواس كان يقول لا تأخذي الطفل إلى الصيدلية، فالعاملين هناك يمسكون الثلج بأيديهم، ما يعني أن أحدا ما كان يعرف كيف ينتقل هذا المرض.

الوقاية الوحيدة التي يلجأ إليها الطب ضد الوباء هو العزل. طوال السنوات الماضية من مواجهة المرض، لم يدرك العلماء شيئا عنه. لم يعرف أحد كيف كان ينتشر من حي إلى آخر، الشيء الوحيد المؤكد هو أنه مع وصول المرض، ينتهي الصيف. فتقفل الملاعب،  والمسابح والشواطئ وقاعات السينما. يطلب من الأطفال الابتعاد عن أصدقائهم، واللعب قريبا من البيت أو بداخله، تفاديا للفيروس.

إنه مرض شائع جدا، وقد بدأ ينتشر، حين أخذ يتنامى عدد الراشدين المصابين به، وبطريقة أقسى من الأطفال.

صيف عام ثلاثة وخمسين، أصيبت وينابيغ  ماناتوبا بأسوأ اجتياح للوباء يصيب أمريكا الشمالية. تعرض الناس للصدمة والرعب من الإصابة به.

عزلت في  مستشفى الملك جورج أعداد هائلة من الراشدين المصابين بالوباء، لدرجة أن الفريق الطبي كاد يعجز عن الاستيعاب، أرهقت الممرضات من ضغط المناوبات المضاعفة، جيء بالمتطوعين من الجيش لتقديم يد العون. لم يسبق للدكتور جون ألكوك أن رأى شيئا كهذا من قبل.

كان المستشفى يحوي أكبر عدد من المصابين بشلل الأطفال في البلاد، ما حطم جميع الأرقام القياسية.

الرئة الحديدية. لم يسبق لمستشفى الملك جورج أن احتاج لشيء كهذا بتلك السرعة. ولكن بما أن أكثر من نصف ضحايا الوباء تشل كليا، تصبح الرئة الحديدية الملاذ الأخير لأسوأ الحالات، كالمرضى الذين يشلون من العنق إلى أسفل، فيعجزون عن التنفس بمفردهم، وتمتلئ رئتيهم بالماء.

تضخ الرئة الحديدية الهواء إلى الداخل والخارج، فتجبر المريض على التنفس شهيقا وزفيرا. قد تبدو أشبه بأداة للتعذيب، ولكنها أنقذت حياة المئات من ضحايا الشلل، إلا أنها  لم تكن كافية.

بلغ سوء الحال أن كان المرضى يقفون بالصف، لندخل منهم الأسوأ حالا للرئة الحديدية.

وجهت المستشفيات نداءا عاجلا للمصانع في أمريكا الشمالية. فعملت مراكز التركيب على إنجازها بأسرع ما يمكن. اعتمدت مدينة وينابيغ على رحلات الطيران الملكي الكندي، لتأتي لها بالمساعدات.

في كثير من الأحيان كانت الرئة الحديدية تصل قبل ساعة واحدة فقط من المريض.

أصبحت وينابيغ في سباق مع الزمن، سباق لنجدة الأرواح. علما أن أنواع السباق كانت متعددة هناك، إذ برز لجوناس سولك منافسا.  كان اسمه ألبيرت سيلين، يحاول كل منهما أن يكون الأول في اكتشاف لقاح ضد شلل الأطفال. كان سولك وسيلين يختلفان في كل شيء تقريبا، فكان كل منهما يعتبر الآخر مخطئا.

هذا ما يحدث لعدد كبير من العلماء الذين يعملون على جانب من المرض فيرفضون التحدي أو أن يصدقوا بأن هناك شيء ما غير كامل، هذا هو هاجسهم.

سولك وسيلين، كلاهما محترف بارع عملا سنوات طويلة لترك آثار لهما في الأبحاث العلمية، كلاهما يتمتع بالكفاءة العالية، وكلاهما يحتاج إلى المال لتمويل أبحاثه.

كان يجب أن يثبتا بأن لديهما شيء يستحق التمويل، وكانت هذه مسألة بناءة من جهة ولكنها من جهة أخرى كانت تؤدي إلى المنافسة والغيرة والحسد ما شوه الأجواء بينهما.

مع استمرار محاولات سولك على الأرض، كانت طائرات المعونة تستمر بالوصول إلى وينابيغ. ذلك أن انتشار المرض الفتاك لا يتراجع، ورحلات المساعدات الجوية تذكر بحجم الكارثة.

كنت أنظر إلى السماء من الحديقة الخلفية لأرى طائرات الشحن قادمة وأدرك أنها مجموعة أخرى من الرئات الحديدية القادمة من مكان ما.

تزوجت إيفان من بيل هادسون في وينابيغ عام خمسين. عندما ضرب الوباء منطقتهم بعد ثلاث سنوات من ذلك، كانت إيفان في الخامسة والعشرين حامل في شهرها الثامن تعتني بطفلة في الثانية من عمرها. ما كانت هذه العائلة تعرف بأن طائرات المعونة هذه ستغير حياتهم.

استيقظت صباح يوم الاثنين، وحاولت الخروج من الفراش، ولكن ذراعي الأيمن رفض العمل كما يجب، فلم أتمكن من النهوض لأنادي أحد، ولم أتمكن من البلع. أخذت بعدها إلى مستشفى الملك جورج، حيث أبلغت بأني مصابة بالوباء ويجب أن أبقى. قلت في نفسي أن هذا كابوس مخيف يجب أن أستيقظ، يستحيل ذلك. مرت بضعة أيام كنت كلما استيقظ فيها أجد بأن هناك عضو آخر أعجز عن تحريكه. وعندما استيقظت يوما وجدت بيل، فسررت جدا لرؤيته. فقلت في نفسي، لا بد أني بحالة سيئة جدا.

لم تكن إيفان بحالة صحية سيئة فحسب بل كانت على وشك الولادة، ولكنها لا تستطيع أن تبلغ أحدا لأن حنجرتها أصبحت مشلولة.

كنت أعرف حينها بأن الجنين قادم، كنت أحسب لذلك منذ شهر، كما أني بدأت أشعر بالتوتر، خصوصا وأني عاجزة عن الكلام وإفهام أحد.

استمر مخاضها ساعة كاملة قبل أن يتنبه الفريق الطبي إلى ما يجري.

تلقيت مكالمة من المستشفى أبلغت فيها بما يجري فاتصلت بأحد السكان المجاورين الذي رافقني في الذهاب إلى هناك. جلسنا في قاعة الانتظار نحتسي بعض الشراب..

وبعد قليل من وصوله ولدت الطفلة.

نقل المولود الجديد مباشرة إلى مستشفى الأطفال المحلي،  حيث أعلن أنه بحالة جيدة.

صار على بيل أن ينشئ طفلين بمفرده، فزوجته ما زالت في رئة حديدية بعيدا عن الطفل.

لم أتمكن من رؤيته حتى بلغ ستة أشهر، ذلك أن حالات الشلل كانت تتوافد إلى المستشفى، فلم يقبل أحد بالمخاطرة، خوفا من يتعرض للإصابة.

في حين كان الضحايا مقفلين في مستشفى العزل، تسابقت العائلات الثرية للفرار والخلاص بنفسها.

أحيانا ما كان المرض يرافق بعض الراحلين ليصيب البعض ممن يحاولون الفرار .

أقامت المدن التي لم يصلها الوباء بعد، حواجز على مداخلها لإبعاد الغرباء عنها، يدفعهم إلى ذلك الخوف أكثر من غيره. كانت الأحياء تجرب كل شيء دفاعا عن نفسها، دون استثناء.

عملت الأرياف على رش الدي دي تي لقتل البعوض عله يحمل الفيروس. فنظفوا علب النفايات والخرب القديمة، ورغم ذلك استمر الشلل بالانتشار وقتل المزيد من الضحايا كل عام.

كنت أسمع أن الوباء يصيب الفئات الاجتماعية المتوسطة على اعتبار أن المناطق الفقيرة كانت تتعرض  للإصابة في الماضي، وربما أصبحت تتمتع بالمناعة، أو ربما كانت بعيدا عنه، لا أعرف.

عام ثلاثة وخمسين، وقع ضحية الشلل في وينابيغا ألفان  وخمسمائة شخص. قتل منهم واحد وتسعون. أما الذين كان على خط التماس ومن لم يصيبهم الوباء، كان هناك أمل واحد يتعلقون به.

كنت آمل أن يتمكن شخص ما من التوصل إلى لقاح يقضي على هذه الآفة.

ولكن هذا أمل ممزوج بالخوف،  حاول العلماء التوصل إلى اللقاح من قبل.

كنا نتساءل من الذي سيتوصل عشوائيا إلى اللقاح،  ما قد يقتل بعض الأطفال.

عام خمسة وثلاثين، قام الدكتور جون كولمور من جامعة تيمبل في فيلاديلفيا، بتلقيح اثني عشر ألف طالب مدرسة بفيروس شلل تم تعديله كيميائيا، فمات منهم ستة أطفال، وأصيب ثلاثة بالشلل. في العام نفسه ولكن في جامعة نيويورك للطب، قام موريس برودي المتخرج من جامعي ماغيل في مونتريال، أخذ عينات من لقاح زرعه في قرود مصابة بالشلل، وحاول قتل الفيروس بالفومينتا، ثم حقن نفسه بالمحلول، مع بعض المتطوعين.  

لم يصب جميع المتطوعين بالشلل إلا عدد قليل مات جزء منهم، كما أنه انتحر في وقت لاحق، اعتقد أن ضميره كان يعذبه لما فعل.

جوناس سولك يعرف القصة، كما يعرف أنه لا يستطيع ارتكاب نفس الخطأ.

جاءت المساعدة دون توقع من مختبر صغير في كندا، أثناء محاولة السيطرة على المرض.

=-=-=-=-=-=

ولد جوناس سولك وشلل الأطفال معا، كان في الثالثة من عمره عندما اجتاح أمريكا الشمالية أول وباء لهذا المرض عام ستة عشر، حين تعرضت مدينته نيويورك إلى أعلى نسبة من الإصابات المسجلة. وهكذا نشأ ليرى آثار تركها الشلل على أصدقائه وجيرانه. هذا ما دفعه مع فريق العمل للبحث عن لقاح ضده.

كنا نعي حجم الكوارث التي يخلفها، كنا ندرك أن كل عام يمر دون التوصل إلى اللقاح المطلوب، كان عاما آخر من الكوارث لعدد كبير من الناس، أي أننا لم نحتاج إلى مزيد من الدوافع لأنها كانت تحيط بنا.

هناك أدلة تؤكد بأن شلل الأطفال مرض بعمر الزمن، العثور على لوحة تعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد تصور أسقف مصري بساق ضعيفة، أهم دليل على ذلك.

تبين فيما بعد أن الفيروس يعيش في المياه المبتذلة وشبكات الصرف الصحي والمياه الملوثة، وهو يتناقبل عبر المواد الحية.

ما يؤكد بأن المناطق البدائية أو التي تفتقر للعناية الصحية كانت المناعة الطبيعية تجعلها أقل عرضة للإصابة بالمرض . ولكن مع تحسن الممارسات الصحية إلى جانب عادات النظافة السليمة، انخفضت  المناعة الطبيعية، ما ترك الناس عرضة للمرض.

صيف عام واحد وعشرين، خرج فرانكلين روزفيلت في إجازة إلى بيته في جزيرة كامبو بيلو الكندية. المؤسف هو أن هذا البيت الذي لاذ إليه مع العائلة هربا من الوباء، هو المكان الذي اكتشف فيه أنه مصاب شخصيا بالشلل. في التاسعة والثلاثين من عمره فقد القدرة على استعمال ساقه إلى الأبد. لجأ روزفيلت إلى برك ساخنة في جيورجيا لتخفف عنه آلام العضلات المشلولة. تحول هذا المنتجع إلى موطنا للأثرياء بعيدا عن  وطنهم. قرر روزفيلت شراء المنتجع لتقاسمه مع أمثاله من المصابين بالوباء نفس. عندما حلت سنوات الركود الاقتصادي، أصبح منتجع المياه الساخنة على حافة الإفلاس المالي. احتاج روزفيلت إلى المساعدة لجمع التبرعات الكفيلة بإبقاء المنتجح مفتوحا، فلجأ إلى شريكه في المحاماة بيزيل أو كونور، خبير العلاقات الخرجية في مدينة نيويورك.

كان يتمتع بشخصية نشيطة لا تعرف الكلل، تخرج من كلية هاربر للحقوق،  وقد أراد العمل في مجال الشلل ليس لأي سبب آخر إلا لإراحة الناس من هذه الآفة.

أطلق روزفيلت وأو كونور واحدة من أهم حملات جمع التبرعات المنظمة في تاريخ الإحسان، وقد سميت هذه المنظمة بداية بالجمعية لوطنية للأطفال المصابين بالشلل، وحملت فيما بعد لقب مسيرة القروش.

لنحارب الشلل اليوم، دع أمهات الشلل يعرفن أنك بانتظارهن.

كنا نعتمد على الخوف، وليس على القول: أترى هذا الطفلة الجميلة؟ عبر التبرع بقروش بإمكانك أن تساعدها على المشي من جديد، أو على إعادة الجمال إليها. لم يعتمد هذا الأسلوب بل كنا نقول أترى هذه الطفلة الجميلة، إن لم تتبرع بقروشك من المحتمل أن ينتهي بها الأمر مثل هذه تماما.

أرجو أن تساعديني، أرجو انضمامك إلى أمي، في مسيرة أمهات الشلل، أرجو المساعدة على الفور.

كانت تلك الحملة الإعلانية هي أشد ما رأيته قسوة في حياتي. لم أعرف يوما أي حملة في تاريخ الولايات المتحدة، قادرة على القيام بما قاموا به، من سحب الأموال من جيوب الناس، للأبحاث.

كان النداء قويا ولا يمكن مقاومته، فجمعت مبالغ طائلة. على مدار الخمسينات أصبحت مسيرة القروش منظمة غنية، حينها بدأ أوكونور يحول بعض أموال الإحسان من المعالجة إلى الأبحاث. فخصص جزءا منها للعلماء المنكبين على دراسة سبل التخلص من المرض.  فكان من بينهم جوناس سولك.

كان أوكونور يعلق آماله على ذلك الشاب لأنه كان يرى بأنه واقعي جدا، ومتحمس لمتابعة أبحاثه.

سبق لجوناس سولك أن تمكن من تطوير لقاح ضد الانفلونزا، ثم بدأ في مختبره التابع لجامعة بيتزبيرغ إجراء التجارب على فيروس الشلل، معتمدا على ما يعرف  بتقنية الفيروس القتيل.

كان يحاول إثبات إمكانية إيجاد المناعة، عبر لقاح نشط باستخدام الفيروس القتيل دون الحاجة للاعتماد على فيروس حي. ولكنه أراد التأكد أولا من أنها عملية آمنة جدا، وفعالة في آن معا.

كان جان شوان يعمل مراسلا علميا لدى صحافة بيتزبيرغ. وقد حاز على الإعجاب والاحترام لسولك من خلال مقالته الأولى. ثم تمكن من الدخول بحرية إلى مختبرات سولك. أدرك شوان جيدا ما هي وجهة العلماء.

يكمن خوفه من أن يفقد اللقاح التحكم بالفيروس الحي. ويصبح وحشيا كالحيوانات الغير أليفة، التي يمكن ترويضها، ولكنها أحيانا ما تعود إلى وحشيتها. لهذا كان يريد التأكد من أن الفيروس الذي يستعمله ملغوما، ولهذا طبق السوائل الملغومة على الفيروس، على اعتبار أن ذلك سيعزز المناعة المكتسبة، ويخدع الجسم بأنه يتعرض لهجوم من الفيروس الحي، ليعزز نظام المناعة لديه.

ولكن سولك وجد نفسه يسبح بعكس التيار. يعتقد غالبية العلماء بأن على اللقاح أن يعتمد على فيروس حي معدل، ما يعرض الجسم لما يكفي من المرض لمساعدته على بناء المضادات اللازمة. وكانت النظرة التقليدية تقول بأن الفيروس القتيل لن يكون أكثر من خدعة قصيرة المدى.

كان المبدأ السائد يقول بأن اللقاح الحي وحده يفي بالغرض، أما اللقاح الميت ففيه إضاعة للوقت، ولن يصلح أبدا.

أراد جوناس سولك أن يثبت بأن العلم التقليدي على خطأ. وهذا ما جعله يصطدم بزعيم المدرسة التقليدية للقاح الحي، منافسه القديم ألبيرت سيلين.

كان يعتمد على النظرية التقليدية التي تقول أن المناعة النهائية أو طويلة المدى تحتاج إلى لقاح بالفيروس الحي وليس بالفيروس الميت، ما كان يعتقد بأن سولك سينجح بذلك.

كما اعتقد بأنها يجب أن تعطى بالفم، لأنه شعر بأن الإصابة الطبيعية تأتي من الفم وليس عبر الأوعية الدموية لتهاجم الأعصاب.

لم يهاجم سيلين نظرية سولك العلمية فحسب، بل أطلق حملة لمحاصرته منعه من متابعة السباق في البحث عن اللقاح الفعال. ما جعل المنافسة بينهما تصبح شريرة.

لم يكن سيلين مجرد شخصية مزعجة بل كان يتمتع بنظرة ثاقبة وحس مرهف، لديه أصدقاء كثر في هذا المجال، ومعجبين.

ثم أدلى بخطاب في إحدى الاجتماعات الطبية، حيث قال بأن ما يملكه سولك لا يتعدى مجرد لقاح يعزز المناعة لدى من يملكون بعض المناعة أصلا. أذكر بعدها أني اتصلت بسولك لأعرف ردة فعله، فرد بالقول: ذلك اللقيط!(..) ثم أضاف إنه لا يعرف ما يقول.

كان جوناس بمفرده يعارض العديد ممن يتمتعون بالقوة الذين استمروا بالقول: إنه يتبع وجهة خاطئة، فلا بد من التوصل إلى لقاح حي، هذا هو الحل الوحيد للقاح. ما جعله يركز اهتمامه على الهدف، إلى جانب المحافظة على دعم الجمعية وتمويلها.

ولكن أوكونور لم يتردد في دعمه، بل حافظ على دعم سولك أكثر من أي وقت مضى، ذلك أنه أشد حرصا على التوصل إلى لقاح آمن يحمي من الفيروس. حتى بلغ الأمر حد إجراء المرحلة الأشد خطورة بالتجارب جميعها.

=-=-=-=-=

في ربيع  سنة اثنين وخمسين، بدأ منزل دي تي واتسون في ضاحية بيتسبيرغ بصناعة التاريخ، إذ أخذ جوناس سولك يجرب لقاحه على جسم بشري للمرة الأولى، وسط سرية مطلقة.

كان يصر على الاستعانة بالكتمان حتى يحصل على النتائج، فلم يشأ أن ينشر أملا مزيفا، أو أن يخيف الناس.

كان منزل واتسون يستخدم لاستقبال مرضى ما بعد الإصابة بالشلل للمعالجة. وكان سولك يقيس مقاومة أجسامهم ليرى ما إذا كان لقاحه سيمنحهم اندفاعا.

ما أن أعلن بأنه تمكن من تجريب اللقاح بفعالية وأمان على أكثر من مائة وثلاثة وستين  شخصا، اشتعل الحماس بالجميع فتوافدوا يريدون مقابلته للكتابة عن الأمر. ليجيب بالقول لا يمكن أن أستمر بالعمل إن لم يتركوني وشأني.

بدأ فريق سولك يتعرض لضغوط الاستعداد للخطوة التالية. أصبح لا بد من عمل جماعي واسع النطاق للتأكد من فعالية اللقاح وأمنه، ومهما بلغت سرعة العمل الذي يقوم به، لن يكون كافيا.

لم نحصل على اللقاح بعد، ما زلنا نعمل على التوصل إليه، كما سنستمر بالعمل بأسرع ما يمكن لتطوير اللقاح، بما يمكن من استعماله، لدى أكبر عدد ممكن من الناس.

كان سولك يعمل بجنون وكأنه محرك بشري. يكرس ثمانية عشر ساعة في اليوم طوال سبعة أيام في الأسبوع، وكان يسافر بالقطار ولا أعرف إن كان يخاف التحليق بالطائرة حينها  ولكنه كان يتنقل بالقطار من بيتسبيرغ إلى نيويورك ما يستغرق بين سبع وتسع ساعات. وكنت عندما أتصل به عند وصوله تجيب زوجته بالقول أنه ذهب مباشرة إلى المختبر.

أعتقد أني كنت أقوم بدور الأم والأب معا، وهناك مرات قليلة أسعى فيها لفرض ظروف الحياة عليه، ولكن باختصار شديد اعتدت على هذا النمط من العيش مع أني لا أعرف ما هو رأي الأولاد.

أعتقد أننا كنا كأطفال نشعر بالإحباط لغيابه المستمر، خاصة وأنه كان يغيب عدة أيام في بعض الأحيان، وعندما يعود كان يصل إلى البيت بوقت متأخر من الليل ليغادر في الصباح الباكر، أي أن التجربة معه كانت معدومة من حيث الخروج معه أو العب بالكرة، بل كان يبالغ بالتركيز على ما يفعله.

كنا نخرج للقيام بعمل محدد. وعندما يكون المرء بحالة كهذه، وهنا أتحدث عن تجربتي الشخصية، أن ما يحدث هو أن الأمر يستولي عليك، ولا بد أن أعترف بأني لم أعمل بهذه الجدية لا قبل ذلك ولا بعده طوال حياتي، أو أني ركزت إلى هذا الحد على ما كنت أفعله.

انشغلت الجمعية بأضخم عمل طبي في التاريخ، حين جرب اللقاح على ما يقارب المليوني تلميذ من مدارس الولايات المتحدة، وقف أوكونور وأموال الجمعية وراء هذه التجربة.  ولكن ألبيرت سيلين، الذي يحظى بدعم الجمعية نفسها، يبذل ما بوسعه لوقف تلك التجربة الواسعة النطاق.

بذل سيلين كل ما بوسعه لوضع العقبات في طريق  التجربة التي كانت تتم على نموذج اللقاح. كان يفعل ذلك بالتحدث إلى بعض زملائه، كما فعل مرة حين اتصل بالدكتور بول قائلا: لا أعرف لماذا تقبل بأن تتسرع بالعمل هكذا، كما بلغ سولك. كما حاول ذلك عبر اتصالاته بجمعية شلل الأطفال وخدمات الصحة العامة، في محاولة منه لوقف التجربة الجارية، لأنه يريد أن تتم التجربة أولا على اللقاح الذي يخصه.

أعتقد أنه يتميز بشخصية واسعة الاهتمامات، منافسة، ولا يقبل بالتنازل عن قناعاته لأي أسباب أو وعود تكتيكية.

أعرف أن والدي غضب جدا حينها عندما تبين له بأن اللقاح الذي توصل إليه لن يأتي بفوائد كبيرة فحسب، بل كان يعتبر تجربة هائلة،  هي تجربة مبدئية تطرح سؤالا حول إمكانية اعتماد فيروي غير نشط في التخلص من الفيروس الحي عبر اللقاح.

في ربيع سنة أربعة وخمسين، شارك مئات من العاملين في مسيرة القروش في تجهيز موظفي المدارس وأولياء الأمور والأطفال في أربعة وأربعين ولاية للتأكد مما إذا كان اللقاح ناجعا. ولكن قبل البدء بتنفيذ تجربة هائلة على هذا المستوى، كان الفريق يحتاج إلى مساعدة.

كانوا يحتاجون إلى كميات هائلة من الفيروس، لقتلها واستعمالها في اللقاح، وما كان العاملون في المختبر قادرون على إنجاز ذلك بمفردهم. وهنا تطوعت المختبرات في جامعة تورونتو الكندية لتقديم يد العون في تأمين كميات الفيروس اللازمة.

تعتبر مختبرات جامعة تورونتو من المراكز العاملة قديما في صناعة اللقاح والأدوية، كما اشتهرت بالتوصل إلى الإنسولين. هنا اكتشف الميديوم وان تسعة وتسعون، وهو عنصر تغذية يسمح لفيروس الشلل بالنمو في أجواء مصطنعة. سبق لجوناس سولك أن استعمل منتجات هذا المختبر في أعماله. وها هو اليوم يستعمل منتجات أخرى تم اكتشافها هناك.

إنها آلات للخض. عندما توضع الزجاجات المليئة بتلك الخلايا المغذية على هذه الآلات،  يحفز الخض عملية النمو.

كلما وضعت المزيد من الخلايا، ضمن فترات من الوقت، ستحصل على المزيد من كميات الفيروس. هذا هو مجمل المبدأ الذي تعتمد عليه آلية تصنيع الفيروس.

كان فرانك شيمادا المسؤول عن نوعية الفيروس الصادر عن المختبر، إذ كان يعمل أثناء تلك التجربة الأمريكية على إنجاز ما يمكن اعتباره قنبلة بيولوجية موقوتة. كانت مختبرات جامعة تورونتو تشحن إلى مستودعات الأدوية الأمريكية غالونات من فيروس الشلل الحي.

عادة ما كنا نشحنها بعلب تتسع لغالون واحد، إلى عربات محطة، نملأها تماما. كنا نفعل ذلك بين التاسعة والحادية عشر مساء، لتنطلق تلك العربات إلى هدفها عند منتصف الليل على أمل الوصول في الصباح الباكر، إلى حيث تبدأ عمليات المعالجة.

إذا فكرنا الآن بخطورة ما كنا نفعله، ضمن المعايير القائمة، يمكن أن تعتبر ذلك أشبه بالجريمة، وخصوصا مسألة التعامل  مع مثل هذه الأشياء.

كانت المخاطرة في كل مكان، فالآباء كانوا يقدمون أبنائهم كي يخضعوا لتجربة اللقاح، فالخوف الذريع من الشلل يدفعه إلى الخوض بالتجربة.

في السادس والعشرين من نيسان أبريل من عام أربعة وخمسين، تلقى الطفل راندي كارل من فيرجينيا البالغ من العمر ستة أعوام، أول حقنة في ذراعه، فكان أول طلائع لقاح الشلل. فكان واحد من مليوني طفل تحمل آلام الإبرة، على أمل تحقيق نتائج فاعلة، لصيف بدون شلل.

انتظار ما سينجم عن التجربة يستنزف الأعصاب جديا، رغم أني كنت أثق من أن النتائج ستكون إيجابية ولكن لا أحد يعرف إلا بعد أن تظهر النتائج.

تحول مركز التقييم التابع لجامعة ميتشغين في أن هاربر إلى مكتب رئيسي للتحليل. توافدت المعلومات حول النتائج من جميع أرجاء البلاد. لا بد من جمع  مائة وأربعة وأربعين مليون معلومة وحسابها ومعالجتها قبل صدور النتائج.

لم تكن معلومات على الكمبيوتر حينها، بل كانوا يعتمدون على بطاقات فيها ثقوب صغيرة يرمز كل منها لمستوى المناعة قبل التلقيح وما أصبح عليه بعد أسبوعين من اللقاح الأول أو ثلاثة أسابيع وما إلى هنالك من معلومات مشابهة.

كانت المعلومات بين أيدي تومي فرانسيس، زميل جوناس سولك السابق في جامعة هاربر. وهو الذي سيقرر ما إذا كان لقاح سولك فعال ضد الشلل. وكان العالم يترقب ذلك.

=-=-=-=-=

يوم الثاني عشر من نيسان أبريل من عام خمسة وخمسين، أقيمت احتفالات بالذكرى العاشرة لوفاة فراكلين  روزفيلت، وقد اختير هذا اليوم ليعلن فيه تومي فرانسيس النتائج. هل نجحت تجربة اللقاح؟ جاء الصحفيون والعلماء من جميع أنحاء العالم لمعرفة ذلك.

كان الجميع يعرف بأنهم ليسوا مدعوين بلا جدوى، بل كانوا مدعوين لاحتفال بالنصر.

لا شك أن السعادة كانت تسيطر على المقربين منه، فالمكان كان مزدحم جدا.

ما كنا نعرف بدقة ما سيجري، إطلاقا، كل ما عرفته هو أني جهزت ثلاثة أطفال، عملت على أن يرتدوا الملابس المناسبة ويبدو بملامح نظيفة وما شابه ذلك، ولكنا ذهبنا إلى هناك ندرك بأننا قد نعود باكرا.

كانت لحظات كهربائية يركز العالم كله الأنظار إليها.

سادت أجواء من التوقعات بين الحضور، وفي الطابق العلوي بالكاد كان الصحفيون يسيطرون على أنفسهم.

انتظرنا وصول النتائج على عربات هائلة الحجم. وفجأة بدأ أحد الرجال يوزعها فانهال عليه الناس وكأنهم قفير من النحل. 

في الطابق السفلي أصبح الدكتور تومي فرانسيس جاهزا لإعلان بيانه على الملأ، ليغير بذلك مجرى التاريخ الطبي.

كانت تلك لحظات درامية، أن يجلس المرء هناك ليصعد تومي فرانسيس إلى المنصة، ويدلي بأولى كلماته لجميع الحضور في القاعة التي كانت: لقاح الشلل ناجح، وهو آمن وفعال وقوي.

وهو فعال بنسبة تتراوح بين ثمانين وتسعين بالمائة ضد شلل الأطفال.

بدأ الجميع يردد بهذيان إنه ناجح وفعال وآمن. ما أجبرني على تغطية آذاني على الهاتف وأنا أبلغ الصحيفة بالنبأ.   هذا ما جرت عليه الأمور كان يوم تاريخي.

كانت أجواء حماسية ومع ذلك أعتقد أنها كانت تجربة مريرة.

يسرني جدا ما تم إعلانه اليوم ولكن هناك مسائل هامة..

بدأت الكلمة بالقول أني ما كنت لأفعل ذلك بمفردي، وأني أريد أن أشكر جميع الذين جعلوا اللقاح ممكنا، فبدأت أولا بأوكونور، ومدير الأبحاث العلمية في جمعية شلل الأطفال، ورئيس جامعة بيتسبيرغ، وعميد جامعة الطب ورئيس بيت واتسون العلاجي، إلى ما لا نهاية..

ولكنه لم يأتي على ذر الأشخاص الذين عملوا معه في المختبر. قد يكون الشكر مجرد أداء تقليدي يعرب عن الامتنان، وعدم الإراب عن ذلك يدل بكل بساطة، على أنه كان أسير الصدمة بعد.

كان من الخطأ ، عدم ذكر أسماء الأشخاص من على تلك المنصة وفي ذلك الوقت بالتحديد. ولا ألومهم على الشعور بخيبة الأمل، كان الجميع يتوقع أن يفعل ذلك ولكني أعتقد أنه استثناء ارتكبه جوناس سولك.

كان لهذا وقع الضربة القاضية، لأننا كنا متحمسين جدا في تلك اللحظة متأثرين للغاية، وما كان يقصده هو أن يبدو كعمل قامت به مجموعة من الجنود المجهولين.

سجل ذلك منعطفا تاريخيا ليس للعلوم وحدها بل ولجوناس سولك، كشخصية يحتفل بها. وكأن ذلك العالم الهادئ الصامت تحول فجأة إلى بطل شهير من أبطال هوليود.

كنت أتلقى أسئلة على غرار، من سيمثل دوره في الفيلم مارلوم براندو؟ تلقيت اتصالات من أستراليا، كما اتصل والد  جوناس يسأل إن كان يستطيع المشاركة.

في تلك الليلة ظهر جوناس على شاشة التلفزيون في مقابلة مع الصحفي إدوارد آر مورو، الذي حذر سولك من أن حياته ستتغير كليا.

افتتح ادوارد مورو البرنامج بالقول دكتور سولك، لقد اليوم تعرضت لكارثة مؤلمة، لم يفهم ذلك أحد فتابع يقول: لقد خسرت اليوم عدم شهرتك.

لم تخسر عائلة جوناس سولك في ذلك اليوم عدم شهرتها فحسب، بل جزءا من حريتها، إذ لم تتمكن من العودة إلى بيتسبيرغ، بل أجبرت على البقاء في ميتشيغان للتعامل مع الصحافة ومتطلبات الرأي العام.

لا شك أن الحياة قبل الشهرة كانت هادئة أما الآن فقد أصبحت تعج بالضجيج، أعتقد أن رؤية المسائل من الداخل يختلف عن رؤيتها من الخارج، أعتقد أن امرأة مثلي لن تتردد بالعودة إلى الوراء كي تنعم بسكينة العائلة المجهولة.

كان البعض يطلب منه أن يلامس الساعة أو شيئا منه، يبدو أنه تحول إلى ما يحتمل التأليه بالنسبة للبعض على مستوى مخيلاتهم وأحلامهم ربما.

لم يعجب ذلك العديد من الناس الذين كانوا ينافسونه أصلا، ولم يكن ذلك في صالحه، إذ لم تتأخر كثيرا الاتهامات التي كيلت إليه تقول أنه كان يتمتع بالحملات الإعلامية وأنه كان يسعى إلى الوضع الذي يعيشه لدرجة أنه أجل نتائج التجربة على اللقاح لجعل الناس من المحيط إلى المحيط يعيشون على أعصابهم وهم يترقبون النتيجة إلى ما هنالك.. جرته كثيرا هذه الاتهامات حتى شعر أنه بمفرده، ولم تكن تلك المرة الأولى.

بقيت عائلة سولك رغما عنها طوال أسبوعين من الزمن في قلب الإعصار. فانتقلت هذه المرة لتنزل ضيفة على الرئيس أيزنهاوزر في البيت الأبيض.  ولكن رغم استلام جان سولك لأكبر جائزة تقدير في البلاد على يد الرئيس، بدأت تظهر المشاكل، فبعد يومين فقط من مراسيم التهنئة، وصلت أنباء الكارثة.

أصيبت مجموعة من الأطفال، وتعرضت للموت، بجرعات من اللقاح، حينها أمرت الخدمات الصحية للولايات المتحدة بوقف التعامل باللقاح، لتتأكد مما يجري، أذكر أني تحدثت مع أحدهم فقال أن الأمر قد يتعلق بلقاح ساخن، وهذه مشكلة.

لم يكن ذلك النوع من الرجال الذين يتملكهم الرعب، أو يستسلم بسهولة، لم تتمكن منه تلك الأزمة بل تابع الأمر واتصل بالمعنيين قائلا أن الأمر قد يستمر على هذا النحو لبعض الوقت وفي هذه الحالة هذا ما يجب أن تفعله وفي تلك الحالة أيضا يمكن الإتصال بهذا الشخص طلبا للمساعدة، في تلك المنطقة، كان شخصية منظمة، سريع التصرف، كان مدهش فعلا.

كشفت التحقيقات بأن مختبرات كاتر في كليفورنيا هي السبب، إذ تم العثور على فيروسات حية في منتجاتها، ما يؤكد بأن كاتر اختصر عمليات معالجة الفيروسات الحية. تدخلت السلطات على الفور وصادرت اللقاح. ثم قامت الخدمات الصحية بمنع التعامل بلقاح الشلل المتوفر في الأسواق.

في كندا بدأت الحكومة الفدرالية تواجه مفارقة، فعلى وزير الصحة بول مارتن هناك أن يقرر ما إذا كان سينضم إلى قرار المنع أم لا. علما أنه الأكثر معرفة بشؤون الشلل، إذ أصيب ابنه وهو في الثامنة من العمر. كما أنه شخصيا ما زال يحمل آثار الإصابة.

كانت إحدى عينيه مصابة بالشلل كما أن ذراعه كان ضعيفا ذلك أنه شل نصفيا في صباه وبقي مستلقيا عاجازا عن المشي  طوال عامين من حياته.

أي أن بول مارتن متحمس جدا لإنقاذ الأخرين من هذا المصاب، ما جعله حيال أصعب قرار يتخذه في حياته. هل يبقى الطفل الكندي آمنا باستعماله لقاح سولك أو بمنع استعماله؟

تحدثنا عن القرارات الصعبة، وعن المشاعر الجياشة التي تملكته، وعن العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن خطأه، وكيف شعر بأن هناك أشياء لا يمكن التشاور فيها مع أحد ولا يمكن الاعتماد فيها على النصائح، هناك لحظات يكون فيها المرء بمفرده، وعليه اتخاذ القرار المناسب.

يسرني جدا أن أقول بأن مختبرات كانات العلمية في كندا، المختصة بشؤون اللقاح، تعمل اليوم لبذل كل ما بوسعها، لإنتاج أكبر كمية ممكنة كي تكفي لجميع أطفالنا.

كان مارتن يثق بأن مختبرات كانات في تورونتو لا يمكن أن ترتكب الخطأ نفسه الذي ارتكب في مختبرات الولايات المتحدة. وهكذا قررت وزارة الصحة بأن برنامج التلقيح في كندا، سوف يستمر.

إن كان البرنامج خطأ، تخيل عدد أرواح الكنديين التي كانت في خطر، ما يعني أن الكلفة البشرية كادت تكون هائلة.

أنقذ لقاح سولك في كندا الكثير من الأرواح. يمكن لسكان وينابيغ أن يتنفسوا الصعداء، فقد توقف الوباء. أما  في الولايات المتحدة فلقاح جوناس سولك يتعرض للانتقادات. 

=-=-=-=-

أثبتت التحقيقات بأن مختبرات كاتر في الولايات المتحدة مسؤولة عن مائتين وستين  حالة إصابة بالشلل مات عشرة منها. ولن يرفع قانون منع استخدام اللقاح إلا إذا أثبت مصنع آخر أنه لقاح آمن. ولكن يبدو أن الضرر أصبح واقعا بالنسبة لجوناس سولك ولقاحه.

لم يعد يتمتع بأي اعتبار أو تكريم من أي جهة كان. حتى أنه لم ينتخب عضوا في أكاديمية العلوم، كما انتشرت أقوال تدعي بأنه شخصية من صنع تقنيات العلاقات الخارجية لأوكونور، إلى جانب سبل أخرى من التنكيل به على مختلف أشكالها. هذه مسألة مؤسفة، آلمته جدا.

كنت أعرف أنها اتهامات باطلة يستحيل أن تصدق، فهو ممن يثابر على إنجاز عمله في المختبر  بعمل شاق.

وزيادة في عمق الجراح، أعيد تقييم لقاح سولك في الولايات المتحدة عام ستين، فاعتبرت باهظة الثمن يصعب استعمالها جدا. ليتم تطوير بديل عنها، فجرت التجارب على لقاح آخر توصل إليه منافس جوناس سولك  القديم ألبيرت سيلين.

فاقم سيلين من حجم المشكلة وقرر أن يأخذ لقاحه إلى الاتحاد السوفيتي لتجربته.

كان جميع أطفال الولايات المتحدة قد تلقوا حينها للقاح سولك، لهذا خرج سيلين يبحث عن مكان آخر لتجريب لقاحه، فطلب الحصول على متطوعين من البلدان الشرقية التي عانت بدورها من آفة شلل الأطفال. سرعان ما بدأت النتائج تنال المصداقية في الوطن. عام واحد وستين، منح إذن استخدام اللقاح في مدينة نيويورك. ثم بدأت تأخذ مباشرة مكان لقاح سولك، التي اعتبرت قبل ست سنوات فقط اكتشاف فريد من نوعه.

أغضبه ذلك جدا وقد شعر بأن كل النتائج التي تم التوصل إليها بشأن لقاح سولك، أصبحت لاغية، فبعد أن تم تفادي كل حالات الشلل في السابقة بدأ إعطاء لقاح سلين ولكن دون أن يعرف أحد أي لقاح وراء نجاة هذا الطفل أو ذاك وإلى من تعود المصداقية. كيف يمكن أن تحدد بعد ذلك أن لقاح الفيروس الميت لا يمكنه القضاء على المرض؟

اليوم رحل وباء شلل الأطفال إلى غير رجعة بعد القضاء على الفيروس تقريبا، رغم وجود مناطق موبوءة في أرجاء البلدان النامية، ولكن مجموعات الصحة العالمية تعمل على  تطهيرها. وهم يستعملون لقاح سيلين بتوصية من منظمة الصحة العالمية. ذلك أن لقاح الفم أرخص وسهل الاستعمال في الحقول. بدون أطباء وإبر، ليس إلا متطوعين وقطّارات.

أتمنى لو انتهى الأمر على غير ذلك وهذا هو حال أبي أيضا، ولكن بعد إنجاز اللقاح والتخلص من الشلل في العالم نشعر بالارتياح ونهنئ كل الذين عملوا عليه من جميع وجهات النظر.

عام ثلاثة وستين انتقل جوناس سولك غربا نحو لاهويا في كليفورنيا، حيث أسس مختبرات أبحاثه الخاصة بتمويل من بيزيل أوكونور في مسيرة القروش.

تحولت مختبرات سولك إلأى مركز لأبحاث السرطان، ومكان يحاول سولك فيه العثور على لقاح ضد الإيدز. انتهى زواجه من دونا بعد تسعة وعشرين عاما، ليتزوج من فرانسوا أوجيلو الرسامة والعشيقة السابقة لبابلو بيكاسو.

عام خمسة وتسعين مات مخترع أول لقاح ضد شلل الأطفال بمرض في القلب عن عمر يناهز الثمانين، أي أنه عاش أكثر من منافسه ألبيرت سلين بعامين. 

اختارت الولايات المتحدة لقاح سيلين ضد الشلل منذ أواسط الستينات، ولكن في كانون أول من عام ثمانية وتسعين، اقترحت السلطات الأمريكية إجراء تغيير في السياسة الصحية.

بدأنا نتلقى إصابات بشلل الأطفال في الولايات المتحدة تنجم تحديدا عن لقاح سلين. وهي ليست كثيرة ولكنها موجودة علما أنه لم ينجم عن لقاح سولك أي إصابة.

السياسة التي ستتبع الآن ستجعل عظام العالمين ترتعش في القبور، ذلك أنه سيتم أولا حقن لقاح سولك، ليتبع ذلك جرعة من لقاح سيلين بالفم.

إنها سخرية القدر من جهود عالمين متنافسين، عاشا حياة سباق لاحتلال المركز الأول، ليتعاونا بعد موتهما في حرب لا هوادة فيها ضد الشلل. كلاهما ساهم في جعل هذا العالم أكثر عافية وأمان. بما يمكن من وضع مستشفى الملك جورج  للعزل الصحي، على لائحة المباني القابلة للهدم. فهو رمز لن يأسف أحد على رحيله.

 

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster