اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 وصفة للكوارث
 

ثاليوميد

 

جشع، وعجرفة، وأكاذيب وانتفاع، ونكران. هذه قصة ولادة أكثر من اثني عشر ألف طفل حول العالم بدون أذرع، أو سيقان، أو أي أطراف على الإطلاق.

استغرق الأمر عدة سنوات قبل اكتشاف الكوارث التي تنجم عن دواء ثاليدومايد. ولم يبدأ العمل في البحث عن سلامة الأدوية حتى السادس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر من عام واحد وستين.

يتردد الناس اليوم أثناء الولادة قبل تناول الحبوب، ولا ألا تذكر أننا السبب في ذلك؟

وصفة للكوارث

هذا ما كانت عليه ستولبيرغ، إحدى المناطق العمالية جنوب  ألمانيا عام ثلاثة وخمسين.  من هنا أطلقت شركة  شيمي غرونينتال بعد الحرب العالمية الثانية،  للعمل في مجال الصيدلة وتعنى بالصابون وأدوات التجميل.

ازدهار أسواق المضادات الحيوية بعد الحرب هو الذي جلب غرونينتال إلى الصناعات الصيدلية، فأنتجت المضادات الحيوية لصالح شركات الأدوية الكبرى. فتبين لها أن السبيل الفعلي لكسب المال يكمن في التوصل إلى دواء صناعي وامتلاك الحق في توزيعه عالميا. فالسباق جار في هذا المجال.

اعتمد فريق الباحثون على حفنة من العلماء، على رأسهم الدكتور هينريك موكتير، الذي سبق أن ترأس فريق آخر أثناء الحرب، كان يعنى بالبحث في شؤون الفيروس بالقرب من كراكاو البولندية. 

أمضى الكثير من الوقت أثناء الحرب العالمية الثانية في الاستخبارات كطبيب عسكري. كما أنه كان محط شبهات من قبل الحكومة البولندية لتورطه في جرائم الحرب، ولكنهم لم يعثروا على أي إثبات ضده. ولكني متأكد فعلا أنه يعاني من اضطرابات نفسيه، ما كان يجب أن يعمل إطلاقا في الصناعة الصيدلية.

طور فريق موكتير نوع جديد من الأدوية الصناعية يسمى ثاليدومايد. وقد وزع تحت اسم ألماني هو كونتريغان. وهو مهدئ آمن يستعمل بدل مخاطر البربيتوريت.

تكمن المرحلة الأولى للتأكد من أي مهدئ  في تجريبه على الفئران. عندما لم تستسلم الفئران للنوم كما كان متوقعا، اخترعت غرونينتال فحوصها الخاصة لإثبات فعالية المهدئ المكتشف حديثا.

مزج فريق غرونينتال الدواء بطريقة تختلف عن الأخرى في كل مرة. دون فهم مسبق لمفعوله المأساوي الهائل.

أعتقد شخصيا أن استخلاصات غرونينتال  الكيميائية كانت مهتزة. وأنها كانت تنتج بعض الأدوية بطريقة غير دقيقة نسبيا. فأحيانا ما كانت الفئران تنام عميقا، بينما لا يحدث ذلك في أحيان أخرى. لذا أعتقد أن إجراءاتهم كانت ضبابية فلا يدركون جيدا ما كانوا يفعلون.

يحصل موكتير مقابل التوصل إلى صانع الأرباح هذا، على  حصة من المبيعات.

أعتبر أن موكتير هو المسؤول الوحيد، كان يجبأن يعرف تماما بأن كوارث كهذه ستنجم عن ذلك الدواء. يفترض به أن يتخطى الاهمال الذي يميز الصناعات في ذلك الوقت.

أطلقت غرونينتال حملة دعائية هائلة وسط غياب الرقابة على هذا النوع من الأدوية حينها. بعث أكثر من ألفي مريض رسائل للأطباء، فكانت الإجابة أن كونترغان دواء آمن. لحظات من الانسجام التام جعلتنا نتمنى أن تؤدي الحبة الثانية واجبها، ونغض في نوم عميق. كونترغان.

لا شك أنها كانت واحدة من أقسى حملات بيع الأدوية، والفريدة في كل الادعاءات التي كانت تعلنها، علما أنها لا تعتمد على أي أسس علمية على الإطلاق. حتى أنها ليست علمية بالكامل.

لم تكن آن وارين على علم بأي خطر وهي ألمانية تزوجت من جندي كندي استقر في ألمانيا بعد الحرب.

عندما كنت حامل، انقلب علي الليل والنهار، أي أني كنت أنام طوال النهار وأصحو طوال الليل. فذهبت إلى الطبيب وأنا في الشهر الثالث أو الرابع من الحمل، لست متأكدة. فوصف لي ثاليدومايد،  لأتناول منه ملئ ملعقة فيساعدني على النوم طوال الليل. ولكن بعد مجموعة ملاعق عدت إلى حالتي الطبيعية.

أعلنت ديستيليرز كوربوريشين العاملة في تصنيع المشروبات الروحية اهتمامها بالدواء. ذلك أن قسم الكيمياء الحيوية لديها أراد جزءا من المفعول. أعرب أحد المتحمسين في الشركة عن إمكانية أن تحل هذه المادة محل الكحول كمهدئ  نموذجي.

قامت ديستيلير بشراء الثاليدومايد معلنة قبولها بأبحاث غرونينتال، دون أن تتنبه إلى أن ادعاءات السلامة، عارية عن الصحة. في نيسان أبريل من عام ثمانية وخمسين، بعد حوالي ستة أشهر من تسويق الدواء في ألمانيا، سمح ببيعه في بريطانيا وهو يحمل لقب ديستافال. وتكررت التجربة الألمانية فانطلقت حملة دعائية هائلة، دون أن يكون البحث بالمستوى المطلوب.

ما تخلفت غرونينتال وديستيلر عن القيام به هو إجراء مجموعة من التجارب على الفئران الحوامل. بالإضافة إلى تجربة تبين ما إذا كان الثاليدومايد يعبر حدود الرحم وصولا إلى الجنين. هذه تجربة معروفة جدا، وكثيرا ما تمارس.

في هذه الأثناء نمت كميات البيع في ألمانيا بشكل ملحوظ. بينما ظهرت أولى مؤشرات بروز المشكلة في مجلة طبية بريطانية تسمى لانسيت، حيث يحذر أحد الأطباء من استخدام هذا الدواء لفترة طويلة، معربا عن قلقه من أضرار تصيب نظام الأعصاب الخارجية.

أجمع الذين يستعملون الدواء من رجال ونساء، أنهم يعانون من وخز خفيف في الجلد، أو بعض الحكة. لا شك أن هذه مؤشرات سيئة. علما أن ليس لهذه المسألة أي صلة بالتشوه الخلقي، ولكنه يوحي بأن هناك مشكلة جدية يعاني منها نظام الأعصاب الرئيسي. من هنا بدأ العلماء يشيرون إلى وجود أخطار كامنة، ما قلص من مدى الاستعمال. هنا بدأت غرونينتال تعمل على إخفاء جميع هذه الأدلة.

دفعت مبالغ كبيرة لكل طبيب يعرب عن قلقه. وتلقى بعضهم التهديدات، أو شهر بهم، ووصفوا بأنهم من الشيوعيين.

في حزيران يونيو من عام تسعة وخمسين، وصلت ملاحظة إلى إدارة الأدوية والمواد الغذائية في كندا، أن وليام إس ميريل، سيخضع للمحاكمة الطبية بسبب الثاليدومايد في كندا. إنه فرع من شركة ريشاردسون ميريل الأمريكية الكبرى التي تملك وكالة بيع الثاليدومايد في أمريكا الشمالية. تتمتع شركة ميريل على خلاف غرونينتال وديستيلير، بتاريخ طويل من الصيدلة.

تولى الدكتور فرانك لو في إدارة الأدوية والأطعمة الكندية مهمة تحليل الثاليدومايد. يحتاج لو إلى مزيد من الأبحاث فطلب من مصانع وليام إس موريل المزيد من المعلومات عن الدواء الجديد. الدكتور ليونارد بوغسلي هو مسؤول الدكتور لو ونائب رئيس إدارة الأدوية والأطعمة الكندية، أي أنه نائب الدكتور كلارينس موريل. بوغسلي أبلغ لو بأن أصحاب الشركة أصدقاء لنا ممن يمكن الاعتماد عليهم، والمسألة التي تطرحها ليست ذات أهمية.

كانت العلاقة ودية جدا.

وظف الدكتور جون مورفي مديرا طبيا في إدارة الأدوية والأطعمة الكندية.

اعتبر الأمر أنه بين أيدي مجموعة من الأصدقاء القدامى، الذين يثقون ببعضهم البعض.

خلال ستة أسابيع، حصلت ميريل على إذن لتسويق ثاليدومايد في كندا. أما الولايات المتحدة فكانت أشد حذرا، على اعتبار أن الدكتور فرانسيس كلسي من التابعية الكندية. قامت باحثة في إدارة الأدوية والأطعمة الأمريكية بتوقيف طلب ريتشاردسون ميريل بعد أن قرأت رسالة أحد القراء في مجلة لانسيت الطبية البريطانية، حيث أعربت إحدى الطبيبات عن قلقها بشأن عوارض جانبية عصبية، ووخز في أيدي وأرجل مريض لديها. وهي تتساءل هل نلقي اللوم على الثاليدومايد؟

رغم عدم السماح ببيع الدواء في الولايات المتحدة، وزعت آلاف النماذج على الأطباء لتوزيعها.

يتحدث المحامي الأمريكي آرثر رينز عن ذلك بالقول:

أطلقت ريتشاردسون ميريل حملة إعلامية هائلة لهذا الدواء، حيث يشهد بصلاحيته أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسة عشر طبيبا كباحثين في العيادات.

في آذار مارس من العام نفسه كتب الدكتور كليرنس موريل من إدارة الأدوية والأطعمة الكندية، يؤكد له أن مرض الأعصاب الخارجية ليس جديا.

في الأول من نيسان أبريل من عام واحد وستين، انتشر الثاليدومايد في الأسواق الكندية، تحت لقب كيفادون. في ذلك الوقت ولد مئات المشوهين خلقيا في ألمانيا.

في ميندين الواقعة غرب ألمانيا، قام كارل شولتز هيلين بزيارة لشقيقته التي أنجبت طفلة، يديها أصغر من المعتاد، وليس فيها إلا ثلاثة أصابع. وبعد ستة أسابيع أنجبت زوجته طفل ذكر يعاني من التشوهات نفسها.

وجدتها مضطربة جدا في المستشفى، أما أنا فلم أعد أرى بعد ذلك إلا أيدي وأذرع. جلت متسكعا في مدينتي هامبورغ وأنا أعاقب نفسي بفكرة تقول أن لي طفل ذكر لن أتمكن من مصافحته على الإطلاق.

رفض كارل شولت هيلين القبول بتشوه ابه الجيني. فذهب إلى جامعة هامبورغ لمقابلة الدكتور  فيدوكيند لينز، أخصائي الأطفال، على أمل أن يقنعه في دراسة الأسباب.

عندما ذهبت إلى لينز للمرة الأولى، عرضت عليه صورة أشعة قائلا، هذا ما يبدو عليه الطفل. فاستأذن لحظة وذهب إلى الغرفة المجاورة، ليجلب صورة أشعة أخرى لمشكلة مشابهة، وقال، ربما كان ابنك. أرسلت له الصورة عبر البريد، في اليوم نفسه عبر طبيب يسكن بالقرب من مدينة هولزميندين.

لم يقتنع الدكتور لينز بالأمر، فقرر البحث والدراسة بعد تلقيه الدعم والتشجيع. ما اكتشفه مع شولت هيلين في ذلك الصيف، هو أن عدد من الأطفال ولدوا يعانون من الفوكوميليا، أي أنهم ولدو دون نمو الأذرع والسيقان  كما يجب.

يوم السابع والعشرين من حزيران يونيو من عام واحد وستين، ولد راندي وارين في ألمانيا، ثمرة زواج أني وارين من جندي كندي.

  طوال الأيام العشرة التي قضيتها في المستشفى، كانت القابلة تأتي أحيانا للمتابعة، لتقول في إحدى المناسبات. يا للطفل المسكين، يا للطفل المسكين، فسألتها لماذا ما به؟ فقالت لا شيء. وأثناء خروجي طلبت من زوجي أن نذهب كي نرى الطفل. ولكنه حاول تأجيل الأمر قائلا لنذهب أولا إلى المنزل كي تستريحي. ولكنا ذهبنا إلى حيث الطفل في مستشفى الأطفال، حيث طلبت رؤيته. أخذتني الممرضة إليه وفكت رباطه، فما أن رأيته حتى أخذت بالبكاء.

طلب ريتشاردسون ميريل في الولايات المتحدة من أحد الأطباء بأن يكتب مقالة يصف الثاليدومايد فيه بالمهدئ الآمن والفعال الذي يمكن للحوامل استعماله. كما اتصلوا بطبيب ولادة من سينسيناتي أوهايو لينشره باسمه. فنشرت المقالة البحثية في مجلة الولادة والأطفال.

تقدمت شركة كندية أخرى هي إف دبل يو هونور بطلب لتوزيع الدواء تحت لقب تاليمول. وحصلت على الموافقة بأقل من شهر واحد. أصبح هناك شركتان توزعان الدواء في كندا. أما في ألمانيا فهناك مؤشرات لما يشبه الوباء، ولكن أحدا لم يجد الحلقة المفقودة.

عملت الدكتورة إليزابيث هيلمان في مركز التحكم بالسم في مستشفى مونتريال للأطفال. وقد تذكرت أنها ناقشت مواصفات الثاليدومايد مع زوجها الطبيب أيضا.

كانت نماذج الثاليدومايد لدى الجميع، كنت حامل في تلك الفترة ولكني لا أعتاد تناول أي نوع من الأدوية أثناء الحمل، لهذا أعتقد أني امتنعت عن تناوله. علما أن بعض صديقاتي تجرعنه، حتى أني أعرف أطباء أطفال كانوا يتعاملون به.

مارس الدكتور كلاود مورفي الطب العائلي في وينابيغ، حيث يتذكر جيدا حملة التسويق الجريئة التي تحدثت عن المهدئ الآمن لنوم عميق.

وزعت النماذج على الجميع، والحقيقة أن الكيفادون والتاليمول وزعت على مساحات شاسعة، بكميات تفوق جميع الأدوية الأخرى التي أتذكرها. حتى أنهم بعثوا لي بعلبة بلغ عدد الحبوب فيها أكثر من ألف حبة، ما يوحي بأن المصنع يتوقع البيع بكميات هائلة.

أما في ألمانيا فكان الدواء يخضع للفحص والتدقيق. إذ بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن عوارض جانبية تظيم الجهاز العصبي. فأعرب لينز عن شكه بأن يكون للثاليدومايد، صلة بحالة التشوه الخلقي.

بما أنه لا يملك سياره، أخذته إلى عدد من العائلات، حيث تفحص صندوق أدوية العائلة، ليجد مرة بعد أخرى أن كونترغان موجود فيها جميعا.

هذا النوع من الدلائل يؤكد بالدليل القاطع أن تناول الثاليدومايد يمكن أن يؤثر سلبا على  الأعضاء في لحظة نموها الجنيني.

اتصل لينز هاتفيا بموكتير في غرونينتال، ليقترح سحب الدواء من الأسواق فرفض اقتراحه على الفور. فقرر لينز أن يشارك عدد آخر من الأطباء في رأيه. فبدأت التحركات السرية المشبوهة لغرونينتال.

مع نهاية تشرين الثاني نوفمبر أعلنت شركتي استيراد المهدئ في كندا أنهما سترسلان مندوبين إلى ألمانيا للبحث في أسباب القلق لدى الدكتور لينز.

في تلك الفترة أعربت للدكتور موريل عن ضرورة أن أسافر شخصيا أو أن يرسل صيدلي آخر في إدارة الأدوية والأطعمة الكندية إلى هناك، ولكنه لم ير ذلك مناسبا. على اعتبار أنه يستطيع الثقة بما سيحملونه معهم.

يبدو أن الدلائل كانت مخيفة، ولكن إدارة الأدوية والأطعمة الكندية، قررت أن تثق بشركات الأدوية من حيث السلامة والأمان.

وأخيرا جرت مواجهة في وزارة الصحة الألمانية بين لينز وشولت هيلين من جهة وغرونينتال من جهة أخرى.

انتهى اللقاء بإعلان شركة غرونينتال أنها غير مستعدة لسحب المهدئ من الأسواق. كانت رحلة عصيبة في تلك الليلة من دوسيلدوف إلى البيت في هامبورغ. تابعنا الحساب في تلك الليلة ونحن نقول بأن ما يتراوح بين طفلين أو ثلاثة سيخسرون صحتهم. ما جعل الأمر عاجل جدا.

اقتصر تنازل غرونينتال الوحيد على كتابة عبارة على العلبة تحذر من تناوله من قبل النساء الحوامل.

قامت بذلك حفنة من الناس الجشعين الذين يجهلون ماذا يفعلون. ولم يدركوا حقيقة الصناعة التي يعملون فيها. لا بد من التكرار هنا أن الشركات المتورطة لم تكن من تلك التي لها خلفية في الأبحاث العلمية والصيدلية من أي نوع كان.

يوم الأحد السادس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر من عام واحد وستين، بلغت أسباب قلق الدكتور لينز إلى الصحافة الرئيسية، فكان ذلك يوما حاسما في تاريخ الثاليدومايد. فوافقت الإدارة التنفيذية لغرونينتال، باستثناء الدكتور موكتير، على سحب الدواء من الأسواق نتيجة التقارير الصحفية المغرضة، التي تستخف من وجهة نظرهم، بالمناقشات العلمية.

اعتبر الدكتور موكتير على حد علمي أن في ذلك خسارة شهرية تفوق الثلاثين ألف مارك. كانت تلك حصته على الأقل عام واحد وستين. وكان هذا مبلغ طائل في ذلك الوقت.

بعد أيام سحبت ديستيلر الدواء من بريطانيا. أما في كندا فتم تجاهل التحذيرات وبقي الدواء في الأسواق.

=-=-=-=-

شهد كانون أول ديسمبر من عام واحد وستين سحب الدواء من التداول في أسواق بريطانيا وألمانيا لتستمر كندا في بيعه. يذكر الدكتور روس شابمان مسؤول مختبرات دائرة الأدوية والأطعمة الكندية حوارا جرى بينه وبين نائب المدير الدكتور ليونارد بوغسلي على مائدة غداء جمعتهما.

تلقى اتصال هاتفي من شركة ماريل، يقال فيها أن الدكتور لينز في ألمانيا الغربية يعتقد أن هناك صلة بين الثاليدومايد وتشوهات جادة في الأجنة لدى عدد من الحوامل في ذلك البلد. وأكد ماريل أن هذه المسألة لم تتأكد كليا بعد.

دعا الاتصال الهاتفي إلى عقد اجتماع بين شركتي الدواء وإدارة الأدوية والأغذية. ولكن شركتي الدواء أقنعتا أوتوا بأن التحذير وحده سيكون كافيا.

لم يكن لديهم معلومات محددة ولكن ما جرى يوحي باحتمال وجود صلة بين الدواء وحالات الولادة المشوهة. فاتفقنا في الاجتماع على ضرورة نشر التحذير فورا على جميع المراجع الطبية، وذلك بإبلاغ الأطباء الذين يصفون الدواء بضرورة عدم وصفه للحوامل من باب الاحتياط.

يوم الخامس من كانون أول ديسمبر سحب الثاليدومايد من أسواق ألمانيا وبريطانيا. أما كندا فاستمرت ببيعه، ولكن مع التحذير. أرسلت شركات توزيع الأدوية رسائل إلى الأطباء تؤكد فيها بأن الثاليدومايد دواء آمن، ولكنها تطلب منهم عدم وصفه للحوامل. لم يتنبه الجميع إلى فحوى الرسالة، فاستمر العديدون بوصف الدواء.

لننتظر كي نرى. هذا ما كنا نفعله. كنا ننتظر كي نرى.

ولكن الأدلة تتراكم ضد هذا المهدئ الغريب. أواسط كانون ديسمبر نشرت مجلة لانسيت الطبية البريطانية مقالة كتبها الدكتور وليام ماكبرايد،  أخصائي الولادة في سيدني أستراليا، الذي تحدث عن أدلة للتشوه، فكتب عن الصلة بين التشوه الخلقي وتناول المهدئ أثناء فترة الحمل. قبل خمسة أشهر من ذلك، بعث بالمعلومات نفسها إلى لمجلة لانسيت، التي رفضتها في ذلك الحين. حاول في الوقت نفسه أن يحذر ديستيلرز، الشركة التي تبيع الدواء في بريطانيا وأستراليا، ولكنها تجاهلت تحذيره.

في بداية كانون أول ديسمبر تلقيت اتصالا من زميل في العمل، يعتبر عالما شهيرا. فأدركت للمرة الأولى بأن الأرانب النيوزيلندية البيضاء، تتعرض لمثل هذه التشوهات عند إعطاء الحوامل منها الثايليدومايد. أبلغت فحوى الرسالة إلى موريل، فقال متسائلا: ما الذي يمكن أن نفعله بذلك؟ فنحن لا نعرف المصدر، ولا نعرف مدى دقته، قد يكون مدعيا لا يمكن أن نتصرف بناء على شيء كهذا. وافقته الرأي وأضفت أن لا بد من توثيق المعلومات، فقبل.

بعد أربعة أسابيع من سحب المهدئ من ألمانيا، أجرى باحثوا غرونينتال دراسة للتأكد مما إذا كان الثاليدومايد قادر على اختراق جدار الرحم إلى الجنين. فثبت أنه قادر. كان يجب إجراء هذه التجربة من قبل.

مع بداية العام الجديد تحقق الدكتور لينز من حوالي ثلاثة آلاف حالة ولادة مشوهة في ألمانيا بسبب الثاليدومايد.

كما بدأت حالات التشوه نفسها تظهر في كندا أيضا.

أذكر أني ذهبت مع مجموعة من طلاب الطب لرؤية طفل مصاب بالفوكوميليا، والصدمة التي تركها بهم جميعا، في فترة لا يعلم أحد فيها بعد بأن المهدئ هو السبب، إلى أن اكتشف الأمر لاحقا.

ظهرت دلائل يصعب تجاهلها يوم العاشر من شباط فبراير من عام اثنين وستين، على صفحات مجلة لانسيت. كانت تلك المرة الأولى التي يتعزز فيها تقرير طبي بحالات محددة، تعزز احتمال الصلة بين المهدئ والفوكوميليا.

رغم ذلك استمرت شركات الدواء في الدفاع عنه، كما بعث بعض الأطباء  برسائل تقول أنه لا يوجد صلة مؤكدة تربط بين المهدئ وحالات التشوه الخلقي.

بعد أسبوعين من ذلك تصدرت صفحات التايم مقالة بعنوان كوابيس حبة المنوم، ما ضاعف المشكلة.

سرعان ما تحولت هذه المشكلة مباشرة إلى مصدر للقلق، لدرجة أني كنت أعمل بالتوليد في المستشفى حيث أعرف العاملين جيدا، فذهبت إلى هناك لأقول بأننا قد نواجه مشكلة جادة.

تحدثنا في الأمر ضمنا فيما بيننا حول ما يجب عمله وارتأينا أن أوتاوا ستعالج الأمر وتمنع بيع الدواء. رغم إدراكنا بأنه لا يمكن إيقاف الدواء بسرعة، وأنه قد يستمر في الأسواق.

واستمر في الأسواق. رغم التقرير الذي ورد على صفحات التايم، لم تفعل أوتاوا شيئا.

في الثامن والعشرين من شباط فبراير، وصلت إلى أوتاوا دلائل غير قابل للتفنيد، عبر مجلة لانسيت التي صدرت في بداية الشهر، ووضعت على طاولة الدكتور كلارينس موريل عبر البريد الخاص. لم يعد بإمكان مدير الأدوية والأغذية الكندية أن يتجاهل الصلة بين الثاليدومايد وحالات التشوه الخلقي. بعد أيام قرر الدكتور موريل سحب المهدئ من الأسواق، بانتظار التحقق منه. ولكنه لا يتمتع بالسلطة قانونيا وعليه أن يطلب من الشركات بأن تسحبه طوعا. لم يقبل الدكتور موريل بأي مسؤولية لبقاء الثاليدومايد في صيدليات كندا، بعد ثلاثة أشهر من منعه في ألمانيا.

تكمن مهمة المؤسسة في جعل المصانع تخضع لهذه القوانين، لا أكثر ولا أقل، على المصنع نفسه أن يتحمل المسؤولية كاملة تجاه منتجاته.

=-=-=-=-=

ولد بول مورفي يوم السادس والعشرين من آذار مارس من عام اثنين وستين، في وينابيغ.

والده الدكتور كلاود مورفي هو طبيب عائلة، الذي تأخر ليتنبه إلى كوارث الثاليدومايد، ولكنه لم يكن مستعدا للصدمة التي تلقاها مع ولادة ابنه.

لاحظت ملامح الذعر عندما نظرت إلى وجه الممرضة، ففتحت الباب ودخلت إلى الغرفة، وتأملت في الوضع بنفسي، فوجدت أمامي ذراعيه وساقيه الصغيرين، وجسمه الصغير جدا بالمقارنة مع الرأس، فطلبت الكلاب وسحبت الرأس الذي خرج بعد الجسد. بعد ولادة بول شعرت باهتزاز شديد. بعد تلك اللحظة بالذات جاء طبيبها المعتاد. فالتقيت به واصفا له ما جرى، وما هي إعاقة الطفل، في الأطراف أعني الذراعين والساقين، فأجابني بالقول: إنه ذلك الدواء اللعين.

في مستشفى سان مييشيل في تورونتو، كان لدى الدكتور جيمس سوربرا مريضة تتشوق لإنجاب طفل مهما كلف الأمر، ولكنها تعاني من التوتر وتواجه مشاكل في الحمل. فوصف لها تناول الثاليدومايد لتهدئتها.

اعتقدنا أننا محظوظون جدا على اعتبار أنها تمكنت لاحقا من الحمل. ولكنها لم تعلم بأنها حامل إلا بعد ستة أسابيع من بدء الحمل. أي أنها كانت في مرحلة الحمل دون أن تتوقف عن تناول الأدوية. ورغم أنها توقفت لاحقا، ولكن الأذى كان قد وقع.

ولد الدكتور سوربرا طفل الثاليدومايد.

شعرت بالأسى الشديد جدا، ثم فكرت أنه إذا كان لا بد توجيه الملامة، يجب أن ألوم نفسي. لأني وصفت لها الدواء. ربما كنت بريئا ولكني وصفت لها الدواء، لهذا أفضل إلقاء الملامة على نفسي لأني جزء مما جرى.

رغم منع الدواء غي نيسان عام اثنين وستين، استمر الطلب على هذه الحبة الشعبية المهدئة في كندا. استمر الصيادلة ببيع الدواء. حتى صدر تحذير يدعوهم لإتلاف جميع النماذج. وأمرت أوتاوا الأطباء بالتوقف عن وصف الدواء.

كان الصيادلة يدركون بأنه دواء فعال. لهذا كان بعضهم يحتفظ بكمية منه تحت الطاولة لأولئك المرضى. لهذا قرر الدكتور موريل أنه لا بد من الخروج لزيارة تلك الصيدليات، فبعث بمفتشين عن الدائرة لملاحقة كل أثر للدواء في الصيدليات.

تعرض الدكتور موريل لانتقادات صحفية لعدم اتخاذ إجراءات مسبقة، أي أنه تحول أيضا إلى  ضحية للثاليدومايد.

كانت تلك فترة مدهشة من المعانات المؤلمة. أعرف أنها تسببت بعذاب الضمير للدكتور بوغسلي والدكتور موريل. أذكر أني كنت خارجا من مكتبي في إحدى الأمسيات، حيث كنت أتأخر لإنجاز بعض العمل المتأخر، وعندما خرجت من المكتب نظرت إلى الممر لأجد شخصا يبتعد أمامي، وكان يمسك بيداه خلف ظهره، وهو يمشي ببطء، كان الدكتور موريل يمشي في الممر.

يجب أن أقول بأننا جميعا ندين بالوفاء للدكتور كلسين لأنها حمت أطفالنا من ذلك الخطر..

في آب أغسطس من عام اثنين وستين، تنفست الولايات المتحدة الصعداء.  تلقت الدكتورة فرنسيس كلسي في إدارة الأغذية والأدوية جائزة من الرئيس كندي، لأنها حمت الأمريكيين من هذا الدواء المخيف. ولد في الولايات المتحدة حوالي عشرة أطفال ثايليدومايد، رغم تلقي الأطباء آلاف النماذج. جرى تفادي كارثة أكبر لأن الدكتورة كالسي رفضت الموافقة على الدواء.

حطم الثاليدومايد ثقة المواطن بسلامة الدواء. لتنتهي بذلك مرحلة من السذاجة، وتحل محلها أخرى من الريبة والشك.

وصف رئيس الوزراء ولادة أطفال تناولت أمهاتهم مهدئ الثايلودمايد بأنها كارثة ولا بد من التعامل معها على هذا النحو..

وصار على أوتاوا أن تعالج بعد ذلك عواقب تلك الكارثة.

=-=-=-=-

في هميلتون أخذ توأم سيتل ينمو ويكبر. تعلم بيتر وبول على المشي، يعاني أطفال الثاليدومايد من مشاكل في الأذرع والسيقان، لدى والدتهما ماكسين ساتيل، أربعة أطفال آخرين يجب أن تعنى بهم.

لم يكن لدينا ضمان صحي أو تأمين طبي في ذلك الوقت، ما يعني أن على المرء أن يدفع كل شيء من جيبه الخاص.

وهكذا بدأ الكفاح للحصول على التعويضات. تكمن المهمة في تحديد المسؤولية تجاه الكارثة. قررتماكسين وزوجها الملاحقة القانونية لشركة ريتشاردسون ميريل للأدوية.

أعتقد أنه الإحباط الناجم عن تربية هذين الطفلين، والنظر إليهما كل يوم، لأدرك بأن هناك شخص عديم المسؤولية، تسبب بهذا التشوه. فقلت في نفسي أن شخصا ما قصر في واجبه، لم أقصد مقاضاته فحسب بل أردته أن يعرف إلى أين انتهى بنا الأمر، وأننا نتألم بشدة، أردت أن يعرف ما سيفعله بهذا الشأن.

بعد ذلك أعرب عدد آخر من الآباء عن اهتمامه بالفكرة، فاتخذ سبعة منهم في البداية إجراءات قانونية. ولكنهم واجهوا المصاعب في العثور على محام كندي يقبل بتولي القضية.

على المحامي أن يقوم بكثير من الأبحاث والدراسات والمسؤولية على عاتقنا. كان هذا أحد الأسباب. كما أن الكلفة كما أعتقد كانت عالية جدا، لا يستطيع أحد تحملها. المحامون هنا في كندا يعملون بأجر محدد، لم يسبق لأحد أن عمل على نحو آخر. أما السبب الأكبر فهو أن أحدا لا يريد لمس القضية، لأنهم يخافونها.

اثناء انشغال بعض الأباء بمتابعة الجانب القانوني لصالح أبنائهم، لم تبادر الحكومة بتقديم أي مساعدة للعائلات. بدل ذلك، انشغلت أوتوا في بناء المراكز التي تقدم أطرافا صناعية، لأطفال الثاليدومايد.

أجبرت على استعمالها من سن السابعة حتى السادسة عشر، حتى انتابني شعور بأني لن أصبح إنسان كامل إلا إذا استعملتها.

ولد راندي وارين في ألمانيا ليسكن اليوم في كندا، وهو يتذكر جيدا سنوات الجراحة التجريبية.

أعتقد أن الحكومة كانت تعتقد أننا إذا حصلنا على الأذرع والسيقان، سننضم إلى المجتمع بسهولة وتحل مشكلة ضحايا الثاليدومايد كليا.

كانت حياة العديد من العائلات تدور حول أطفال الثاليدومايد. بينما تابعت الملاحقة القانونية مجراها. تم الاتفاق مع محامين من الولايات المتحدة، ولكن القضية لم تصل إلى المحاكم. عام ثمانية وستون وافقت شركة ريتشاردسون ميريل على دفع تعويضات لحفنة من ضحايا المهدئ الذين يلاحقونها قانونيا. كانت تلك واحدة من أكبر الاتفاقات في التاريخ. تضمن الاتفاق بندا يمنع العائلات من التحدث عن الاتفاق علنا. في وينيبيغ، يتذكر الدكتور مورفي يوم جرى التوقيع على الوثائق.

استغرقت العملية بكاملها ما لا يزيد عن ثلاث دقائق، حتى انتهى الأمر بكامله. لم يقع أي جدال أو محاكمات. اقتصر الأمر على اتفاق مشترك اختتم ببعض التوقيعات. وفي الختام كانت الملاحظة الوحيدة التي سمعتها من المحامي التابع لشركة ريتشاردسون ميريل، وهو يعلق على ذلك بالقول، لم يسبق لي أن رأيت مبالغ طائلة كهذه تنتقل بدقائق معدودة.

فاز فريق كريغ سبينينبيرغ ودون تريسي القانوني بهذه القضية، ولكنه من تمثيل أي عائلة أخرى. تقدم سبينينبيرغ باقتراح لشركة الأدوية.

قال لأحد نواب الرئيس في شركة ميريل، عليك أن تعالج قضايا باقي الأطفال. فأجابه بالقول أن المسؤولية تجاه المساهمين أكبر.

 في هذه الأثناء رفع كارل شيلت هيلين قضية في ألمانيا عام خمسة وستين على تسعة من مدراء شركة غرونينتال، لإهمالهم الذي أدى إلى جرائم بشعة أضرت بأجسام البشر. وكان هدف شيلت هيلين الوحيد هو الحصول على تعويض عن الطفل الذي يمثله.

ملحق إخباري:

تجري التحقيقات ببطء شديد، مع أن قضية الثاليدومايد تثير الجدال العنيف على جميع المستويات..

بدأت المحكمة في أيار مايو من عام ثمانية وستين. دعي أكثر من ثلاثمائة خبير للشهود وقدمت أكثر من ألفي وثيقة مكتوبة. جرت المحاكمة في قاعة واسعة. افتتح دفاع غرونينتال دفاعه بالقول أن الجنين غير موجود قانونيا لهذا لم ترتكب أي جريمة بحق أحد. بعد عامين ونصف العام جمدت المحاكمات، وتم التفاوض على التعويض.

 لا بد من تحديد مواصفات طفل الثاليدومايد، فهم لا يعانون جميعا من تشوه في الأطراف، فبعضهم ولد بدون آذان، أو يعانون من مشاكل في العيون. وأخيرا أقيم صندوق بقيمة مائة مليون مارك، للعائلات الألمانية، تلقى الأطفال منه دخلا شهريا مدى الحياة.

أما في كندا فقد وكلت عائلات كيبيك المحامي الأمريكي أرثر رينز.

رفض العديد من أطباء كندا الاعتراف بأنهم وصفوا الثاليدومايد، بعض من في كيبيك، حتى من صيدليات ردوا على ذلك بالقول أنه لا يوجد سجلات تثبت ذلك، أي أن الناس رفضوا تحمل المسؤولية المعنوية، بغض النظر عن المسؤولية القانونية، لإثبات بأنهم باعوا الثاليدومايد لأم خلال فترات الذروة من الحمل. فتحول الأمر إلى قصة تحريات تثبت كل السجلات.

لم يعد بإمكان شركة ميريل أن تجادل في أن الثاليدومايد يسبب التشوه الخلقي، ولكنها تستطيع الجدال فيما إذا تناولت الأم الدواء فعلا أم لا. بعد أشهر من العمل الشاق لإثبات أن موكليه تناولوا الدواء فعلا، تمكن رينز من التوصل إلى اتفاق بالتراضي، اعتبر أيضا واحدا من أضخم الاتفاقات في هذا المجال. ولكن المحاكم تصر على سرية المبالغ التي دفعت.

كان طلب السكوت عذرا مناسبا لعدم التعامل بالثاليدومايد، ذلك أن الحكومة يمكن أن تعتقد باستمرار أن التراضي كان هائلا. لمنع احتمالات نشر المعلومات اتفق على أنه اتفاق مغلق. لا يعرف الناس بأن الاتفاق بالتراضي كان يجري في كل مكان، لم تدفع فيه بالضرورة مبالغ طائلة. بل كانت تتراوح بين عشرة آلاف دولار ومليون ومائة ألف دولار، ما على البعض إلا أن يتناول ثلاث حبات من الثاليدومايد ويبقى على قيد الحياة دون أن يضطر للعمل في حياته.

يستغرق الأمر مزيدا من الوقت للحصول على أي تعويض في بريطانيا. عام ثلاثة وسبعين أي بعد سحب الدواء من الصيدليات في هذا البلد، رفضت الشركة تقديم أي مساعدة مالية. مثل ديفيد مايسون مجموعة من عائلات أطفال الثاليدومايد في السعي للحصول على تعويضات لهم. يتعامل ديفيد مايسون الذي واجه ديستيلير كوربوريشين  في الفنون وهو والد لويس.

قلت لها لا شك أنك تعرفين عما نتحدث هنا لويس، أعني موضوع الثاليدامويد، فأجابت طبعا أبي تريد مساعدة جميع الأطفال، ثم التفتت إلى الحديقة وهي تتابع، لو لم يعطي هؤلاء الناس أمي تلك الحبوب لكنت أعدو الآن وألعب مع كلير وليندسي وديفيد، وما كنت أجلس هنا معكم أليس كذلك؟

سيد نيدر، كيف حالك؟ يسرني اتصالك جدا..

هدد مايسون وأشهر الذين استعملوا الدواء في أمريكا رالف نيدير،  بشن حملة عالمية لمحاصرة منتجات ديستيلر، إذا رفضت التوصل إلى اتفاق عادل مع أطفال الثاليدومايد. نجح التهديد مع الشركة التي وافقت خلال أيام على تعويضات بقيمة ثمانية وعشرون مليون جنيه إسترليني لضحايا الثاليدومايد الأربعمائة وخمسين في بريطانيا. 

عام ثمانية وثمانين، أصبح المائة وخمسة عشر طفل الثاليدومايد في كندا راشدون. والحكومة ما زالت ترفض الوفاء بتعهداتها للتعويض على الذين عانوا. تولت وار أمبس في كندا قبول التحدي والبدء بالأبحاث اللازمة لمعرفة أسباب كل هذا التأخير. وأخيرا عرضت الحكومة ثمانية ملايين دولار كي توزع على ضحايا الثاليدومايد انطلاقا من نسبة التشوه لديهم. وكان راندي واران عضو في لجنة المتابعة.

اعتبرت دائما أن المبلغ ليس كافيا. خاصة وأن الجزء الأكبر كان من حق المشوهين بالأطراف العلوية والسفلية إلى جانب تشوهات أخرى، ما يعني أن هذا التصنيف يصيب ثلاثة أرباع المجموعة، أي ثمانية وعشرون ألف دولار للكل مصاب،  ما يوازي ثمن كرسيين كهربائيين وعربة للتنقل. لا أعتقد أن أحدا كان يعرف جيدا كيف يمكنه التعامل مع المشكلة، الفريدة جدا من نوعها في التاريخ.

=-=-=-=

غير الثاليدومايد موقفنا حيال الأدوية، وهز ثقتنا بشركات الأدوية، ومنحنا صورة واضحة عن حساسية الجنين. سحب الدواء الذي تسبب بهذه التشوهات الخلقية من الأسواق في الستينات، ولكن إنتاج الدواء والبحث عن سبل أخرى لاستعماله لم تتوقف أبدا. بل استمر استعماله بعد خمسة وأربعون عاما من اختراعه لأول مره. وافقت الولايات المتدة على دخول الثاليدومايد إلى أراضيها في تموز يوليو من عام ثمانية وتسعين. ولكنه يحمل اسما جديدا، هو الثلاميد، وهدف جديد، هو معالجة الجذام. يدرك علماء اليوم أن الدواء يوقف نمو الأوعية الدموية في خلايا سريعة النمو، وهذا جزء من سبب الإقبال عليه. يخضع الثاليدومايد اليوم لتجارب تمكن من استعماله في خمسين مرض مختلف، من بينها السرطان والإيدز.

أعتقد أنه سيتم غض النظر في المستقبل حين يتبنوا بأن الثاليدومايد يصلح جدا لعدة استخدامات. حتى أنه سيوصف لمعالجة مسائل أقل من تلك الحالية، أي أنه لن يستخدم كدواء للحالات القصوى، كما يفترض أن يكون، بل سيتحول إلى أول الخيارات من الأدوية.

أعمل الآن في أفريقيا  حيث أعلم بأنه يستعمل في علاج الجذام وأمراض أخرى أيضا. ربما كان نافعا لسنا متأكدين من ذلك بعد، ولكن لا بد أن يكتشف ذلك شخص ما، بعد أن يعطيه دواء لعروسه الحامل في مكان ما من العالم. أعتقد أننا سنواجه المزيد من أطفال الفوكوميليا، وأتمنى أن أخطئ التقدير.

هذه تمنيات راندي وارين أيضا، الذي يحاول كمنسق لجمعية ضحايا الثاليدومايد في كندا، أن يتخطى الظروف العصيبة بأفضل ما يمكن. بدل مقارعة السيلجين وهي الشركة الجديدة للثاليدومايد، قامت جمعيته بخطوة أكثر جرأة وقررت العمل معها. وافقت سيلجين بخطوة غير اعتيادية على انتاج شريط فيديو يستعرض كل الذين تناولوا هذا الدواء في الولايات المتحدة.

مرحبا أنا جيسيل كول، رئيسة جمعية ضحايا الثاليدومايد في كندا. جئت اليوم لأتحد عما جرى..

اقتنعت سيلجين بضرورة تذكير الناس بالوتيرة الممكنة حول مخاطر هذا الدواء إذا تناولته المرأة الحامل.

عليك الابتعاد عنها لتوفري على نفسك ملايين المشاكل الناجمة عن الثاليدومايد، والتي تواجه الجنين أثناء الحمل وبعده. تعتبر هذه المشاكل تهديدا للحياة بكاملها.

بالنسبة لهذا الدواء تحديدا هناك حركة تاريخية على ارتباط بالوثائق والأدبيات والتحذيرات المرفقة بها، ما يدعو إلى التوجه إلى البيت وقراءتها بانتباه ذلك أنه دواء مختلف وفريد يحتاج إلى بعض الانتباه. على أمل أن يساعد ذلك بعض الناس على فهم المزيد مما يتعلق بتاريخه. وقد لا يحدث ذلك، فالناس لا يقرأون ما يكتب على الأدوية بل يكتفون بالزجاجة ويتخلصون من العلبة على الفور دون قراءة التوجيهات، هذا ما يكون عليه السلوك البشري أحيانا.

ما زال بول مورفي يفكر بعواقب استخدام الثاليدومايد. فهي  مشكلة  تعيش فيها زوجته جوي وابنته بريتني على الدوام. أما والد بول فلم يعد يرى الأمان بأي دواء.

لا أعتقد أن هناك أي دواء كامل. بما في ذلك الثاليدومايد، حتى وإن تأكد بأن هناك استعمالات مفيدة لهذا الدواء، حينها أعتقد أن التحكم باستعمال الأدوية مسألة مبررة.

كان الدواء يستعمل في كندا طوال خمسة وعشرين عاما مضت على أسس تجريبية. يمكن أن نجد في أي وقت ما أن هناك مائتي مريض في كندا يتناولون الثاليدومايد كجزء من برنامج استعماله الطارئ.

إن كان لا بد من استعماله يجب أن يصدر بإذن وتحت المراقبة والتحكم الشديدين، كما علينا أن نتابع العوارض الجانبية. فأنا على ثقة بأننا لا نعرف كل المساوئ التي تنجم عن استعمال الثاليدومايد،  ولا أحاول السخرية هنا، إنه درس تاريخي. لقد كذبوا علينا مرة بعد أخرى. قد يحصل على اذن بالبيع ولكن على الناس في هذا البلد أن يسعوا لتحليله من جديد كي نتمكن من دفن هذا الدواء إلى الأبد.

عانى قلة من الذين تعرضوا لفضيحة الثاليدومايد من أي عواقب تذكر. حتى أن تهمة الإجرام التي وجهت ضد الدكتور هينريك موكتير، أسقطت في نهاية المطاف، واستمر بالعمل في شركة غرونينتال إلى أ، تقاعد. في أوتاوا تقاعد الدكتور كلارينس مورال بعد عامين من فضيحة ثاليدومايد.

ما زالت غرونينتال تنتج اليوم الثاليدومايد للدراسات والأبحاث. أما شركة ديستيلر فقد تخلت عن أ‘مال الصيدلة. في كندا والولايات المتحدة لم يعد هناك أي وجود لريتشاردسون موريل وإف دبل يو هونور لاندماجهما بشركات أخرى، ولم يعد للشركات الجديدة أي ارتباط بالثاليدومايد.

على المستوى الحكومي أصبح برنامج الموافقة على دخول الأدوية في كندا على توافق أكبر مع النظام الأمريكي. فهناك اتصالات أفضل بين البلدين، كما أن الموافقة على الأدوية حول العالم أصبحت أشد صعوبة.

على العلماء الذين اخترعوا الدواء أن يخضعوا للمحاكمة بتهمة سفك الدماء والتعدي على الكائن البشري، أمي تعرضت للاعتداء بسبب هذا الدواء.

أعتقد أن الدواء كان أشبه بسر مخيف وقذر. لا أحد يتحدث اليوم عن الأطفال الذين لم يولدوا، أو الذين ماتوا في عامهم الأول. أربعين بالمائة منا عاشوا وبلغوا الثلاثين. يفكر الناس مليا اليوم قبل تناول الأدوية أو التدخين أو الشرب أثناء الحمل، لاحتمال أنهم قد يضروا بالجنين ولكن ألا تذكر أننا السبب في ذلك؟

تعذب أبي وأمي كثيرا لأن أحلامهما تمزقت. أما أنا فأنظر إلى نفسي في بعض الأحيان لأشعر وكأن شبح يطاردني أينما حللت.

 

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster