|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
سلفاتور توتو رينا
عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين أودى انفجار شديد بحياة المدعي العام
الأول لقضية زعماء المافيا الإيطالية، في عملية انتقامية أمر بها أشد
زعماء هذه المافيا وحشية في التاريخ. يطلق عليه البعض لقب "القصير".
أما أعداؤه فيسمونه "الوحش".
=-=-=-=-=-=
زعماء المافيا
يحمل بروز وانهيار سلفاتور توتو رينا قصة أعنف مرحلة في تاريخ الجريمة
الإيطالية المنظمة. اعتبرت المافيا في صقلية واحدة من عدة عصابات في
إيطاليا، إلا أنها بقيادة رينا حققت سلطات لا مثيل لها وأخضعت مستويات
عالية من الحكومة الإيطالية. ألغى رينا تقاليد المافيا وحطم قوانين
الصمت، بدفع المافيا من صقلية إلى الساحة العالمية. ولكن هذه الحملة
الدموية أدت إلى عواقب غير محسوبة تجسدت بأهم ملاحقة قانونية للمافيا
في التاريخ.
بدأت قصة توتو رينا في بلدة كورليوني الصغيرة، التي تكثر فيها المزارع
وتبعد ساعة بالسيارة عن مدينة باليرمو. انطلقت جذور المافيا ورينا
أيضا من هنا، حيث أرياف صقلية البائسة.
البحث عن جذور المافيا التاريخية في إيطاليا وصقلية، يدفعنا إلى التأمل
في البلدان المتعددة التي اجتاحت هذه الجزيرة، كفرنسا وإسبانيا
وفينيقيا، كما أن الجزيرة لم تشهد وسيلة لتعزيز القانون، أضف إلى أنها
تعتمد أسلوب حياة شبه إقطاعي. من هنا انطلقت المافيا ولا شك أن البلدان
التي تعاني من الجريمة المنظمة شهدت جذورا إقطاعية في تاريخها.
كانت غالبية الأراضي في صقلية ملك لعدد قليل من الملاكين بينما كان
الشعب من الفلاحين الفقراء الذين لا يملكون شيئا. أما أصحاب الأراضي
فكانوا يعيشون في المدن الرئيسية من صقلية أو في إيطاليا. وهكذا اعتمد
مدراء الأراضي على القوة لإدارة الأراضي في غياب أصحابها، وتحولوا
بذلك إلى جذور للمافيا.
تعقب ألكسندر ستيل في كتابه إكسيلينت كدافير، تاريخ المافيا في صقلية
بعد الحرب.
هذا جزء من العالم الذي صعبت فيه الحياة، وضعفت فيه قوة القانون
والسلطات، لهذا اعتاد الناس على حماية مصالحهم والدفاع عنها بأنفسهم،
وذلك بالاعتماد على العنف.
فهم رينا العنف في سن مبكر. ويقال أن مصيره قد تحدد عام خمسة وأربعين
وهو في الخامسة عشر من عمره، حين خرج مع أصدقائه ليلا وتشاجر مع أحد
الصبية فعالج الأمر بإطلاق النار على ساقه وتركه ينزف حتى الموت. أمضى
السنوات التالية في السجن. وعندما أطلق سراحه اكتشف أنه حاز على مستقبل
زاهر وسط مافيا كارليونز ما بعد الحرب. إنه توقيت محكم. الحرب العالمية
الثانية. حيث يتم التحضير لاجتياح إيطاليا، ومحاصرة دكاتورية موسوليني
الفاشية. ساعدت المافيا في تسهيل تقدم الحلفاء عبر صقلية. وهكذا جهزت
المافيا للتمتع بمستقبل أفضل بعد أن كان موسوليني يطاردها.
عندما استولى الحلفاء على صقلية، ركزوا جل اهتمامهم على تسليم السلطة
لأشخاص قادرين على بسط سلطة القانون دون أن يكونوا على صلة بالفاشية أو
بالشيوعية. وهكذا سلموا السلطات للمافيا في عدد كبير من مناطق صقلية.
لم تضح بعد ما إذا كانوا يقصدون ذلك أم أن المافيا كانت مستعدة لانتهاز
الفرصة الجديدة والعودة إلى مواقع السلطة.
بلغ الخوف حدوده القصوى من وصول الشيوعيين إلى التحالفات السياسية في
إيطاليا. كان الشيوعيون قوة محورية لها وزنها في الأصوات التي تحسم
السياسة الإيطالية. لهذا مارست الحكومة الأمريكية ضغوطا كثيرة على
الحكومة الإيطالية لمنع الشيوعيين من المشاركة في التحالف. هذا هو
الضغط الذي منح الجريمة المنظمة في الجنوب قوة سياسية هامة.
عندما أعلنت باليرمو عاصمة لصقلية التي تمتعت حينها بحكم ذاتي في
الدولة الإيطالية، تدفقت أموال طائلة إلى الجزيرة ولم تتخلف المافيا عن
اللحاق بها. شهدت باليرمو ازدهار عمراني فريد ما دفع المافيا إلى
العمل في العقارات على أوسع المستويات.
تعمل الدكتورة لويس شيلي في الجامعة الأمريكية في واشنطن حيث تدير مركز
الجريمة والفساد في العالم.
استولت منظمات الجريمة على هذه العقود وحققت الثراء عبر الإعمار، وذلك
من خلال دفع الرشوة للحصول على تلك العقود، لتحصل بذلك على تحويلات
بمبالغ طائلة من الدولة. فحققت ثراء فاحشا عبر تجارتها الفاسدة
ونشاطاتها في أعمال الشأن العام.
الأرباح والسلطة.. مع بداية الستينات تمتعت مافيا صقلية بثراء لم يسبق
له مثيل، ما أدى إلى نزاع على السلطة بين عائلات المافيا الكبرى. شكلت
هذه المعركة على السلطة أرضية مناسبة لنهوض توتو رينا.
جذبت حرب المافيا الداخلية إليها أنظار الأمة عام ثلاثة وستين، حين قتل
سبعة من ضباط الشرطة في انفجار سيارة. أدى ذلك إلى أول ملاحقة واسعة ضد
المافيا في التاريخ الإيطالي. اعتقل حوالي ألفي عنصر من المافيا، ومن
بينهم عدد من كبار الزعماء. فأجبر بعضهم على مغادرة البلاد، ومن بينهم
توتو رينا. في فترة اعتقال الرجل الثاني لمافيا كارليونز لوشيانو
ليجيو، الذي تمت تبرئته بعد فترة قصيرة، قررت المافيا أن تحل قيادتها
الأولى كي تعمل بصمت. شكلت قيادة مؤقتة من ثلاث زعماء للمافيا من بينهم
لوشيانو ليجيو. مع الوقت تحول اهتمام الرأي العام عن الموضوع، وتحول
معه اهتمام الحكومة بمطاردة المافيا. فبدأت المافيا في صقلية بإعادة
بناء نفسها تدريجيا.
تعرض لوشيانو ليجيو لمشاكل صحية وقانونية. ما جعله يتخلى عن المنصب
لصالح توتو رينا.
أعتقد أن ليجيو هرب من عيادة طبية في روما، ليعاد اعتقاله نهائيا عام
أربعة وسبعين حيث وضع في مخبأ ضمن ميلان بقي فيه تحت الحراسة
المشددة. رغم أنه لم يجرد من قوته رسميا، إلا أن سلطة العمليات اليومية
في كارليونز أخذت تنتقل تدريجيا إلى رينا، الذي تحول مع مرور الزمن إلى
الزعيم الفعلي للمافيا هناك.
رغم تحفظ المافيا على تجارة المخدرات رسميا إلا أنها استغلت فرصة نشوء
شبكة واسعة لسوق جديد في الولايات المتحدة، هو سوق الهيروين. أطلقت
عليه السلطات لقب اتصالات البيتزا. وجد رينا نفسه مرة أخرى في الوقت
والمكان المناسبين.
أعتقد أن تعبير اتصالات البيتزا كان سيء الطالع. تبين لغالبية
العاملين في هذه القضية حين حملت هذا اللقب أنها على صلة بصقلية لأن ما
حدث هو أن تلك المافيا استولت على السوق من المافيا الفرنسية في مارسي
وكورسيغا. وقد أثبتت التحقيقات بأن مافيا صقلية سيطرت على هذا النوع
الجديد من التهريب وشغلته بنفسها. وعندما حان وقت الاعتقالات واجتمع
قادة الإف بي أي والادعاء العام، طرحوا علينا سؤال يتعلق بما يجمع بين
هؤلاء الأشخاص المنتشرين حول الولايات المتحدة والعالم. تبين أنهم
يملكون محلات للبيتزا إلى جانب انتمائهم للمافيا وأصول غالبيتهم من
صقلية، حتى في بلدات صغيرة من وسط الغرب. وهكذا أطلق القاضي الأمريكي
رودي غولياني على العملية لقب اتصالات البيتزا.
برزت اتصالات البيتزا إلى الضوء بفضل علاقتنا مع وحدات الشرطة
الإيطالية، بعدما تبين لنا بأن عدد من الشخصيات المعتقلة لدينا بتجارة
الهيروين لا تنتمي إلى أي مجموعة من عصابات الجريمة الأمريكية
المنظمة، بل هي جزء من عصابات أخرى في أوطانها، وتحديدا في صقلية جنوب
إيطاليا. وهكذا تبين لاحقا انها ليست جزءا من لا كوسا نوسترا، بل هي
جماعات منفصلة تعمل في الولايات المتحدة، بدون موافقة مسبقة من لا كوسا
نوسترا أحيانا. أدركنا أنها عناصر مستقلة تماما انتقلت إلى الولايات
المتحدة سعيا وراء ما تحققه من أرباح في تجارة الهيروين حيث تعمل
باستقلالية تامة.
انتهزت مافيا صقلية فرصة انهيار الاتصال الفرنسي كي تلعب دور الاستيراد
والتكرير وتصدير الهيروين إلى الولايات المتحدة مع بداية السبعينات حين
بدأت تنظم نفسها. منحها الهيروين فرصة فريدة وجديدة لتحقيق الثراء
السريع.
تحدث مساعد القضاء الأمريكي السابق ريتشارد مارتين عن ملامح مافيا
صقلية المبكرة بالقول:
الظاهرة الشيقة في مافيا صقلية هو أنها كانت بالمقارنة مع المافيا
الأمريكية متخلفة جدا، إذ أنها اعتمدت التنظيم الريفي الذي له صلة
محدودة بأشياء نربطها تقليديا بالمافيا الأمريكية، كفساد العمل والبناء
والمجالات المشابهة. أي أن هذه المافيا لم تتورط في هذه الأعمال. ما
تغير في الموضوع هو تهريب الدخان، ومن ثم المخدرات، التي أعادتهم إلى
أساليب شبه إقطاعية في التنظيم، تعمل على الصعيد العالمي، وتجني
أرباحا بمليارات الدولارات. كان لهذا التغيير تأثير حاسم في بنية جريمة
صقلية المنظمة.
جنت هذه المافيا مبالغ أكبر من قدرتها على التبييض. هناك قصص تتحدث عن
شقة تم استئجارها لتخزين الأموال النقدية فقط. مرة أخرى عادت المافيا
للصراع على السلطة، ضمن حرب قادها هذه المرة رينا وعصابات المافيا في
كارليون.
لم يكن تورط رينا في تهريب الهيروين مباشرا، فبما أنه من كارليون لم
يكن على صلة طبيعية بمصادر المخدرات. لم يكن لديه قباطنة للسفن، أو
المختبرات اللازمة، أو الشبكة البشرية العاملة في الولايات المتحدة
لاستقبالها. فاقتصر ما فعله على التحكم بالعائلات التي تتمتع بتلك
الاتصالات، ليستبدلها برجاله، أو بإجبارها على العمل في إطاره بعد
التخلص من قادتها وإحلال ضباطه مكانهم. أي أنه استولى على هذا العمل
الذي لم يكن طبيعي في مجاله. ومع نهاية عام واحد وثمانين أو اثنين
وثمانين، عندما بلغت اتصالات البيتزا حدها الأقصى، كان رينا على رأس
المافيا في صقلية.
عزز رينا من سلطاته بعدة طرق، لجأ من بينها إلى عزل وإضعاف عدد من
زعماء المافيا في باليرمو، اعتبرهم خصومه الرئيسيين، من خلال عمليات
خطف لأشخاص يفترض أنهم يتمتعون بحماية زعماء آخرين، وعبر قتل رجال
الشرطة بدون إذن مسبق من اللجنة ما يثير غضب الزعماء ويهينهم، وعبر
إقامة روابط اقتصادية مع أشخاص من عائلات أخرى ما ينشئ التباينات
بينها.
ما يريده الزعماء مثل رينا العاملين في القمة هو الابتعاد كليا عن
النشاطات اليومية للعصابة. يعني ذلك جهل العاملين لديه كليا بحدود
تورطه فيما يفعلونه. لماذا يريد ذلك؟ يسعى الزعماء إلى إبقاء الأمر بين
أقل عدد ممكن من الأشخاص دون تتسرب إلى ما يمكن أن يورطها كزعماء
عصابات في أي من العمليات الإجرامية التي ترتكب على الأرض. عادة ما
تعتمد الشرطة استراتيجية تقبض فيها على الرؤوس الصغيرة لتضغط عليها كي
تقبض على الرؤوس الأكبر. أي أنهم يقبضون على صغار الزعماء ويستجوبونهم
للقبض على الكبار مثل رينا. ما يعني أنه إن لم يكن الزعيم الصغير على
علم بشيء، أو أنه ليس على صلة مباشرة بنشاطات الزعيم الأكبر، يمكن
للشرطة أن تخضعه للضغط دون أن تتوصل إلى أي نتيجة.
من هو الرجل الذي زرع كل هذا الرعب بين الكثيرين؟ حقيقة سلفاتور رينا
هي أكثر تعقيدا وإثارة مما تصوره أفلام المافيا التجارية في ملامح
العراب.
أعتذر عن لغتي البسيطة فأنا لم أتخط الصف الخامس ابتدائي في المدرسة..
رينا لا يتحدث الإيطالية جيدا، كما أنه لا يتحدث لغات أخرى. ولم يسافر
إلى خارج إيطاليا وصقلية، كما أنه لم يبذل جهدا في الاطلاع على الشؤون
الدولية البعيدة عن تهريب المخدرات. ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بذاكرة
هائلة، أي أنه يتذكر أسماء الأماكن والأشخاص وكل ما يحدث. كما يتمتع
بالقدرة على وضع خطط تسمح لرجاله بالتحرك والتسلل إلى عائلات يستولون
عليها. يقال أنه لا ينسى أي ضرر أو أي معروف. فيكافئ من يخدمه ويقضي
على من يضره. وهو يتميز بملامح قاسية تختلف كليا عن أفراد تخلص منهم في
اللجنة، استطاعوا الاختلاط بالمجتمع والظهور بملامح رجال الأعمال. وهذا
ما عجز عنه رينا ولم يحاول القيام به.
حين تسمع بشخصيات تتولى مخيلتك صنعها بملامح عملاقة. ولكن رينا لم يكن
ضخما بل كان صغير الحجم علما أنه تمتع بعضلات بارزة، أي أنه لم يكن
طويل القامة، بل يمتاز بعضلات مفتولة تبرر ملامح القسوة التي تؤخذ عنه.
اشتهر بين زملائه في المافيا بقسوته البالغة. علما أنه لا يميل إلى
العنف العشوائي، بل يتمتع بفطرة هي أشبه بحاسة فريدة للقضاء على من قد
يشكل خطرا عليه قبل أن يصبح الخطر أمرا واقعا.
سارت قوانين رينا بعكس تقاليد المافيا. كان قتل الأطفال والنساء بعضا
من أساليبه التي شملت خلق النزاعات بين العائلات وإثارة التباينات في
أوساط العائلة نفسها، إلى جانب تجارة المخدرات، كلها عناصر أضعفت مفهوم
التضامن وقانون الصمت التقليدي الذي حمى المافيا لفترات طويلة. رغم
ضياع أصول المافيا في صفحات التاريخ، إلا أن البعض يؤكد على الروابط
الدموية التي تميز المافيا، والتي تعززت عبر هجمات تعرضت لها صقلية على
مر السنين، ما أدى إلى تشكيل منظمات سرية للمقاومة تحكم الوطن بقوانين
خاصة. أدى تدمير رينا لهذه الأخوة الفطرية، التي حمت رجال المافيا لعدة
أجيال، إلى تغيير الطبيعة الأساسية للمنظمة. عبر الخوف والتهديد والقتل
والخيانة، تمكن رينا من فرض السيطرة. ترك تورط المافيا في تكرير
المخدرات وتسويقها أثرا سلبيا على الشعب الإيطالي. إذ قفز عدد الموتى
بسبب الجرعات الإضافية من ثمانية أشخاص عام أربعة وسبعين إلى الآلاف مع
نهاية الثمانينات، حيث بلغ عدد المدمنين في إيطاليا مائتي ألف شخص. ما
يعني أن مافيا صقلية قد ساعدت في خلق أزمة اجتماعية في إيطاليا.
بدأ أبناء العائلات الإيطالية فجأة مع أبناء وبنات كبار الموظفين ورجال
الأعمال يأتون بالحقن إلى المنازل حيث مات الصبية متأثرين بجرعات
إضافية. أصبح من الصعب على الحكومة أن تتجاهل ذلك. كما أن المافيا بدأت
تتخلص من ضباط الشرطة الفضوليين لحماية هذه التجارة، لتحول دون عثورهم
على مختبرات تكرير الهيروين لضربها. توج ذلك بأن عصابات كارليون بدأت
تقضي على بعض زعامات المافيا ومئات الرجال ممن يقفون خلفهم. وهكذا
انتشر في إيطاليا وعي إلى أن هذه المشكلة هي أكبر مما يمكن تخيله أو ما
يمكن تجاهله.
اقتصرت خطوات الحكومة الأولى على المحاولات، ولكن المخاطر السياسية
والعملية حالت دون تحقيق النجاح.
وسط أجواء من الخطر وتاريخ من المواجهات العنيفة جيء بأحد أبناء
باليرمو إلى تحقيق حول أعمال المافيا. قاد جيوفاني فالكوني نوع جديد
من التحقيقات سرعان ما لفتت أنظار الشعب الإيطالي وعناصر المافيا وتوتو
رينا شخصيا.
بدأ العمل كتحر في إفلاس المصارف يحقق في المحتالين منهم. لهذا استعمل
تقنيات المباحث المالية لمهاجمة المافيا عبر تعقب المال وإثبات أنه لا
يمكن لأفراد لا يعملون ولا يملكون مصادر دخل محددة أن يجمعوا ثروات
تقدر بملايين الدولارات التي مرت بحساباتهم وانعكست بأملاكهم. تمكن من
تعقب تحركات المهربين وربطهم بهؤلاء الأفراد، واستعراض التحويلات
المالية التي تثبت بأن المافيا في صقلية هي المسؤولة عن التهريب إلى
الولايات المتحدة.
كان من الصعب في تلك الفترة إجبار عناصر المافيا على الكلام، وحقيقة أن
المافيا بدأت تخوض حينها بتجارة الهيروين، جعلها تصبح على اتصال بأشخاص
خارج المنظمة هم أقل ثقة من العاملين فيها. لنقل أن عليهم مثلا رشوة
أحد موظفي شركات الطيران كي يوافق على نقل حقيبة من بلد إلى آخر. بما
أن الموظف ليس مجرم محترف من السهل إخافته، فعند اعتقاله تهدده بأن
يمضي بقية حياته في السجن، فتجده يتحدث إلى الشرطة ويخبرها بكل ما
يعرف. وهكذا استفاد من هؤلاء الأشخاص لتلمس نقاط الضعف في المنظمة
كوسيلة لاختراقها عبر عناصر توسعها. وقد سجل نجاح كبيرا في قضايا شهدت
بعض الأحكام المبكرة.
في الوقت الذي كان فيه فالكوني يتعقب اتصالات الهيروين من الجانب
المالي في صقلية، كنا في الولايات المتحدة نتعقب المهربين عبر شبكة
التوزيع من وإلى صقلية. عام اثنان وثمانون جاء فالكوني إلى نيويورك
فقدمت له مع زميلي وصديقي لويس فريج، وقد رأينا به شخصا يختلف عما كنا
نتوقع، إذ كان محترف بالغ الذكاء يتمتع بالتجربة ويعرف المنظمة أكثر
مما نعرفها نحن. كما رأينا فيه إمكانية تبادل المعلومات، وهكذا بذلت
جهود مشتركة لأول مرة لمحاربة هذه المنظمة.
تأسست مجموعة العمل الإيطالية الأمريكية لتبادل المعلومات والتعلم من
بعضهما البعض حول سبل اختراق عصابات التهريب المترابطة مع بعضها
بإحكام، والموجهة بسياسة على أرفع المستويات لتنسق أنشطتها بانسجام
بين الولايات المتحدة وإيطاليا. ما أدى إلى محاكمات ماكسي في إيطاليا
وتعقب قضية اتصالات البيتزا وبعض الزعماء في الولايات المتحدة.
كنا نتبع أنظمة مختلفة، فنحن نعتمد نظام مشفر. ولدينا ضغوط مختلفة حول
ساعة استخدام المعلومات لاعتقال شخص ما وساعة استخدامها في العلن.
التوصل إلى انسجام بين النظامين، والتوصل إلى توافق بين قوانين البلدين
في هذا المجال هو الجانب الأصعب في تسهيل التعاون بين الطرفين.
تجري غالبية التحقيقات لديهم من قبل القضاة وليس من قبل وكالات
المباحث ودعم القانون. هذه عملية قديمة وبطيئة جدا. أما في الولايات
المتحدة فوكالة المباحث تعمل باستقلالية، وهي تتمتع بسلطة البدء
بالتحقيق متى شاءت، ما يعني أنها لا تعاني من عقبات الآلية
البيروقراطية الإيطالية التي تقف عثرة في طريقها.
على مدار ثلاثين عاما من عمله مع الشرطة الفدرالية، احتل أوليفر بوك
ريفيل منصب نائب مدير المباحث المعني في شؤون التحقيقات المناهضة
للمافيا.
انعقد أول لقاء لمجموعة العمل مباشرة بعد اغتيال الجنرال دالاسياسا،
الذي كان بطل إيطاليا وأمين باليرمو. وقد قتل على يد المافيا ما شكل
مسؤولية ألقيت على عاتقنا عند اجتماعنا في كوانتيكو في تشرين أول
أكتوبر من عام اثنين وثمانين. أذكر الخطابات التي أعرب فيها الإيطاليون
عن حاجتهم للمساعدة، ذلك أن هذه المشكلة أخذت تعرض كبار ضباطهم للخطر.
والحقيقة أننا لم نكن أقل منهم قلقا وحاجة. وقد تمكن الدكتور فالكون
بفاعلية من الإعراب عن قلق إيطاليا حيال اختراق نظامها، وعن حاجتها
الماسة لتحرير نفسها من هذا التهديد.
رغم ردة فعل المافيا العنيفة بدأت التحقيقات على جانبي الأطلسي تحقق
الإنجازات. شهد عام أربعة وثمانين اختراقا هائلا باعتقال توماسو
بوشيتي، أحد كبار زعماء المافيا في صقلية، الذي دفعته كراهيته
لسلفاتور رينا لاتخاذ قرار مدهش.
عمل بوشيتي في المافيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فشهد تغيرها
على ممر السنين. وعندما اشتعلت الحرب بين فصيلتين من المافيا، تحالف مع
الفريق الخاسر، ورغم أنه حاول مغادرة باليرمو والسفر إلى أمريكا
الجنوبية هربا من الحرب، فقد قتل العديد من أفراد عائلته. لهذا عندما
استعيد إلى إيطاليا عام أربعة وثمانين، خاف أن يتعرض المزيد من أفراد
عائلته للقتل، فاعتبر أن المافيا خانت مبادئها، وبالتالي فإن أفضل
طريقة لحماية نفسه وعائلته هي التعاون.
ولكن بوشيتي أراد التحدث لشخص واحد، هو ابن صقلية جيوفاني فالكوني. رغم
أنهما لم يتعارفا إلا أن شهرة فالكوني جعلته معروفا في المافيا، بأنه
لن يتراجع أبدا، فهو ممن ينجزون العمل كاملا.
منذ بداية العلاقة طلب بوشيتي السجائر من فالكوني على اعتبار أن
السجائر ممنوعة عن السجناء، فقدم له سيجارة، ثم أعطاه ما تبقى من سجائر
في العلبة المفتوحة التي معه. وقد شرح بوشيتي فيما بعد لفالكوني أنه لو
قدم له علبة مقفلة لاعتبر في ذلك بعض المهانة، ولكن بما أن العلبة كانت
مفتوحة اعتبرها هدية مقبولة. قد يبدو الأمر عادي ولكنها طريقة قاس بها
كل منهما الآخر وتفهم فالكوني من خلالها من هو بوشيتي، وما هي خلفيته
الثقافية وأي سلوك يجب أن يتبعه.
كان أول عضو في المافيا يقبل بالشهود أمام المحاكم الإيطالية ضد
المافيا. والأهم من ذلك أنه تعرف على أكثر من أربعمائة عضو في المافيا،
ورسم هيكلية للمنظمة بكاملها. وحدد أعضاء اللجنة وشرح طريقة عملها.
وشرح الأسلوب التي تعتمده البنية لجعل أعضاء الهيكلية مسؤولين قانونيا
عما يفعله جنودهم. ومن خلال بوشيتي تمكن فالكوني من رسم بنية تحدد
مسؤولية هؤلاء الأفراد عن إصدار الأوامر بقتل المئات من عناصر المافيا
ورجال الشرطة والقضاة والسياسيين على مدار السنوات العشر الماضية. أي
أن اعترافاته مكنت من فتح ملفات المنظمة وإعادة تشكيل بنيتها الكاملة
للمرة الأولى.
قدم بوشيتي للمباحث أول نظرة لها على بنية المافيا. وشرح كيف أن أصغر
جندي في الشارع هو جزء من فريق يرأسه الكابتن، الذي يقدم تقريره لقيادة
العائلة. وكان هناك زعيم يترأس العائلة إلى جانب مستشار أو اثنين.
تنقسم العائلات الثلاثين التي تحكم باليرمو إلى عشر دوائر في كل منها
ثلاث عائلات. تنتخب كل من الدوائر ممثلا ينوب عنها في لجنة قيادة
المافيا المسؤولة عن تحديد السياسة وحل النزاعات والاتفاق على تنفيذ
عمليات اغتيال هامة. رغم أن الفكرة تعكس بنية ديمقراطية، إلا أن بوشيتي
أثبت في الواقع أن السلطة كانت تفرض من قبل من يستولي على الحكم، أي
توتو رينا. وهكذا تمكن المدعي العام لأول مرة إثبات صلة مباشرة بين عمل
المافيا وحكم "الوحش".
قبل اعترافاته في إيطاليا لم يتمكن أحد من أن يثبت للمحكمة بان المافيا
كانت موجودة، ولها بنية ومنظمة إجرامية. أما بعد اعترافاته فلم يعد يشك
بذلك أحد.
أدت اعترافات بوشيتا إلى توجيه ضربة مؤلمة لمافيا صقلية، التي اعتقل
منها المئات. تبع البعض نموذجه وتحولوا إلى شهود لدى الحكومة.
كانت زيارة باليرمو أثناء محاكمات ماكسي أشبه بزيارة مدينة تحت الحصار.
فقد جيء بوحدات لدعم الشرطة من جميع أنحاء إيطاليا، لتعزيز القوات
العاملة في صقلية. أخضع القضاة والمحققين لحماية مستمرة من قبل
الحراسات الشخصية. لم يكن من السهل زيارة شارع يسكنه أحد القضاة لأن
الشارع بأكله كان مقفلا.
ولكن سلفاتور رينا لم يشعر بالقلق. سبق له أن هزم الجهود الحكومية من
قبل، ولا شك أنها ستهزم من جديد.
ولكنه لم يتنبه إلى ما حدث في فترة ملاحقة فالكوني للمافيا، حين احتشد
الشعب لتأيد محاربة المافيا، بعد أن ضاق ذرعا بما يحدث، وبأشخاص مثل
رينا، بعد أن فقد الإحساس التقليدي تجاه المافيا التي تساعد الفقراء
على حل مشاكلهم وتقديم المعونات لهم في أوقات الحاجة. لم تعد المافيا
بهذه الملامح بل أصبحت تعتبر منظمة إجرامية لا تساعد إلا زعمائها وربما
عدد من كبار المسؤولين الحكوميين في إيطاليا.
شيدت الأقفاص للمتهمين من الزجاج المقوى كما تعززت بمئات الحراس. أي
أنها كانت ظروف أمنية مشددة لمحاكمة عناصر المافيا، الذين بصقوا طوال
الوقت بوجه السلطات ووجهوا الشتائم لها، حتى أن أحدهم خاط شفتيه معا
ليؤكد أنه لن ينتهك قانون الصمت. ومع ذلك اعتبرت هذه هجمة ساحقة
للحكومة على الجريمة المنظمة، وكان الفضل في ذلك لتوماس بوشيتي. يربط
الكثير من المعلومات التي خرجت من هناك العديد من الشخصيات الحكومية
والصناعية في إيطاليا بعصابات المافيا. لهذا أعتبر ذلك منعطف تاريخي
هام.
عجت الصحف الإيطالية بقصص واعترافات حول الموضوع. أي أنه كان برنامج
متكامل لإعلام الرأي العام حول ما تفعله المافيا في المجتمع الإيطالي
وتأثيره عليه. كما أن الحكم على جميع المتهمين في تلك المحاكم أثر على
طريقة عملهم في صقلية.
عام سبعة وثمانون تبين بأن محاكمات ماكسي شكلت نصرا ساحقا. فقد ثبتت
التهم على أكثر من ثلاثمائة مجرم من أصل أربعمائة وخمسين متهما. إلا
أن رينا الذي بقي فارا منذ هربه من السجن عام تسعة وستين، تلقى حكم
غيابي بالسجن المؤبد مع عدد من كبار قادة المافيا. ما كان مستحيلا منذ
بضع سنوات أصبح اليوم واقعا.
حافظ سلفاتور رينا على ثقته بنفسه بعد أن تأكد من دعم بعض الأطراف
المؤيدة للمافيا للاستئناف. ألغيت بعض الأحكام بعد أن تعرضت اعترافات
بوشيتي للشك والريبة. في هذه الأثناء بقي رينا يتمتع بحريته بعيدا عن
أيدي السلطات والقانون.
ما حصل بعد محاكمات ماكسي غريب جدا لأنه يشير إلى ما سارت عليه الأمور
في إيطاليا حينها. انتهت المحاكم بتحقيق نصر ساحق، ومع ذلك قرر مسؤول
دائرة المباحث في باليرمو التقاعد بعد المحاكمات. وقد أكدت له المصادر
الحكومية بأن جيوفاني فالكوني سيأتي بديلا عنه مسؤول عن الدائرة لضمان
استمرارية التحريات عن المافيا. ولكن إثر ذلك عين بديلا عنه قاض يوشك
على التقاعد، ليس له خبرة في تعقب المافيا، بينما رفض منح هذا المنصب
لفالكوني. هنا عثرت إيطاليا على مجموعة من المدعين المستعدين والقادرين
على مطاردة المافيا. ولكن بدل منحهم مواقع مسؤوليات كبيرة، والمزيد من
المصادر لتعزيز ما يقومون به، تعرضوا للإدانة العلنية واخضعوا للتحقيق
بعد أن وجهت لهم اتهامات عشوائية. وكادت حياتهم تصبح شبه مستحيلة.
وهكذا توقفت التحقيقات كليا تحت إدارة هذا المسؤول الجديد.
أصيب فالكوني بالإحباط. رغم أن عمله توقف أثناء محاكمات ماكسي، يبدو
أن دروس محاكمات الستينات قد نسيت. لم يعد رينا والمافيا يخافون من
الحكومة، أو من فالكوني. حين علم بأن فالكوني قد دعي للعمل في روما مع
وزير العدل الجديد، اعتبر نقله من باليرمو بمثابة فشل ذريع. ولكن
فالكوني أثبت في روما أنه أخطر على المافيا من أي وقت مضى، حين بدأ
بالتحضير لهجوم أوسع ضد المافيا عندما رفضت محكمة العدل الإيطالية
العليا التراجع عن الأحكام التي صدرت عن محاكم ماكسي، خاتمة بذلك مصير
مئات المساجين من رجال المافيا. هنا فشلت استراتيجية رينا، وليس
فالكوني.
أصيب عناصر المافيا بالغضب الشديد وتحولوا إلى ما يشبه الوحوش الجريحة
بعد تثبيت الأحكام.فصبوا حمم غضبهم على أصدقائهم في الحكم الذين تخلوا
عنهم، وأصروا على جعلهم يدفعون الثمن.
بدأ رينا حملته الدموية الجديدة باغتيال سلفاتوري ليما في آذار مارس من
عام اثنين وتسعين، وهو أقوى السياسيين في صقلية، وأحد أقرب أصدقاء
المافيا في الحكومة. كان ذلك بمثابة تحذير من رينا للحزب الديمقراطي
المسيحي الذي لم تعد سياسته في التعايش مع المافيا حينها قابلة سياسيا
للتطبيق، بعد أن رفض دعم المافيا في وقت هي بأشد الحاجة إليه.
بعد أقل من ثلاثة أشهر اتخذت المافيا خطوة أخرى في معركتها ضد الحكومة،
ثبت أنها أكبر خطأ ارتكبه توتو رينا.
تلقي جيوفاني فالكوني تهديدا بالموت كجزء من عمله، أعلنه في مؤتمر عقده
في روما قبل موته بأسبوعين. ولكن التهديد لم يخيفه، بل أصر على
الاستمرار في هجومه رغم أوامر رينا بقتله.
كلما انعقد اجتماع بيننا كنت أدعوه جانبا للتحدث عن أمنه الشخصي، فيؤكد
لي بأنه يتخذ الاحتياطات اللازمة وأنه يتمتع بالحراسات الشخصية
اللازمة، وأن لديه فريقا من المتفرغين لحمايته، وأنه يبذل كل ما بوسعه
لوقاية نفسه لعلمه بأنه مستهدف ولكن عليه الاستمرار في التقدم.
كان يعرف كل من يدرك ما يفعله وما أصاب رئيسيه اللذان قتلا، أنه عرضة
للخطر على الدوام. كانت تحميه الحراسات الشخصية وسيارات المرافقة، وهو
يسكن في شقة أشبه بالبونكر. بينما تخضع أبواب مكتبه لمراقبة دائمة
بالكاميرات لمعرفة من يدخل إليه. ولكنه كان يفلسف الأمر ولا يقبل
بالتشاؤم. كان يدرك بأن العدو يتعقبه، ولكنه مستعد لإنجاز ما يمكن
طالما استطاع ذلك.
خططت المافيا لهذه الجريمة بحذر شديد. استأجرت أشخاص في روما يتصل
احدهم عبر الخليوي لحظة خروج فالكوني من مكتبه، فينتظره شخص في المطار
ليتصل بأناس في باليرمو يؤكد لهم بأن الطائرة انطلقت الآن وهي متوجهة
إلى باليرمو. ثم وضعوا أشخاصا خارج المطار لإعطاء إشارة بوصوله. وعلى
مسافة أميال من المطار وضع رجال المافيا كميات من المتفجرات في أنابيب
الصرف الصحي تحت الطريق العام، وبناء على إشارة تصدر من شخص آخر يتم
تفجير هذه العبوة الهائلة جدا.
رغم القضاء على جيوفاني فالكوني باستعمال العنف، بقي سلفاتور رينا حر
طليق.
كانت وحدات الشرطة تبحث عن هذا الرجل لفترة تفوق العشرين عاما. لم يعثر
عليه أحد رغم المكافئات التي وضعت لمن يشي به دون جدوى. مع أنه يسكن في
باليرمو. ولكن يبدو أن لا أحد يستطيع العثور عليه أو اعتقاله. ما أثار
تساؤلا حول ما يحدث في صقلية بين رجال الشرطة ورينا في ذلك الوقت.
المدهش في الأمر هو أن رينا استطاع النفاذ من هذه العملية العالمية
والبقاء على قيد الحياة وهو فار، يعقد الاجتماعات مع شخصيات هامة،
ويتابع سير العمليات حول إيطاليا وصقلية دون مصاعب تذكر. وقد أوضح
بوشيتا أننا إن لم نعتقل رينا لن نتمكن من توجيه ضربة للمافيا. اغتيل
فالكوني في نهاية يوم تذكاري من عام اثنين وتسعين. كنت حينها أشارك
بزفاف أحد أصدقائي حيث يفترض أن أكون إشبينه، فتلقيت مكالمة هاتفية من
لويس فريج الذي سمع النبأ. أغضبني الخبر وأحزنني جدا مع أنه لم
يفاجئنا. سبق وفكرنا أنه باستلام الموقع الذي احتله قبيل عام في روما
بعد مغادرة باليرمو سيترك أثرا على العدالة الإيطالية ككل. كاد ينجو من
المافيا، ولكنه سافر ذلك السبت إلى باليرمو لزيارة زوجته التي تعمل
قاضية هناك، على أن تكون هذه واحدة من آخر زياراته. لا شك أن المافيا
كانت تعرف ذلك وقد رسمت خطة لقتله. أعتقد أنه يجب أن يبقى نموذجا
للبطولة ليس كرجل قانون فحسب بل وكإنسان أيضا. إذ أن حياته أثبتت بأن
جهود إنسان واحد يمكن أن تؤثر على حياة الناس. كان شخصية فريدة، تؤمن
بالعدالة فعلا.
جاءت ردة فعل الرأي العام على مقتل فالكوني بمستوى الكارثة الوطنية،
فاجتاح البلاد إحساس الصدمة والغضب العارم. بدا وكأن رينا والمافيا
يفوزان بالحرب.
أوقع الناس الملامة على الحكومة جزئيا، فاعتبر ذلك بمثابة حافز وشبه
تمرد شعبي في باليرمو وعدة مدن في صقلية وإيطاليا بكاملها. خرجت مثلا
عدة مظاهرات في باليرمو نفسها، كما علقت بعض النسوة شارات بيضاء كتبت
عليها الشعارات تدليها من النوافذ والشرفات حيث تضع الغسيل. كانت هذه
بمثابة احتجاج على أعمال القتل. وقد أعلن أن علامات الاحتجاج هذه
ستستمر حتى يؤتى بقتلة فالكوني إلى منصة العدالة.
أعتقد أن بوشيتي حزن وتأثر وتفاجأ جدا. لأنه كان يعتقد بأنهم سينالون
منه قبل فالكوني. أظن أنه لم يتوقع أن يعيش ليرى كل الذين شهد ضدهم.
أعتقد أنه خاف مع موت فالكوني أن تضعف قدرة الحكومة جديا على مواجهة
المافيا. وقال بوشيتي أن الوقت حان كي يتحدث عن مستوى تورط المافيا
الذي لم يشر إليه من قبل.
عاود بوشيتي التحدث إلى المدعين العامين حول عناصر المافيا الذين على
صلة بالسياسيين في صقلية، بطريقة لم يشأ التحدث بها عام أربعة وثمانين
لأسباب شرحها لفالكوني بالقول أنه يعتقد بأن المجتمع الإيطالي أصبح
مستعدا لاستيعاب هذه المعلومات.
كانت اعترافات بوشيتي الجديدة مدهشة، إذ نالت من مجلس النواب ومكاتب
رئيس الوزراء أندريوتي لسبع دورات متتالية. لمتابعة عمل فالكوني ضد
المافيا عين مدع عام آخر مكانه.
باولو بورسيلينو هو صديق الطفولة الذي عمل مع فالكوني طوال سنوات من
التحريات حول المافيا. شاطر باولو قرار فالكوني الحاسم بكسب المعركة
والتأييد الكامل للشعب الإيطالي. ولكن بعد شهرين فقط عند وصوله إلى
مدخل بيت أمه هز انفجار عنيف أرجاء باليرمو. شهدت إيطاليا مراسيم دفن
أخرى، ضمن موجة أشد غضبا مما سبق. تعرض رجالات الحكومة الذين شاركوا في
جنازة حراس بورسيلينو لهجمات الحشود الغاضبة. كما احتجت خدمات الحرس
الشخصي على غياب جهود الحكومة لحمايتهم. وطالب الرأي العام برد أشد
وقعا ضد المافيا. فأرسل سبعة آلاف من جنود الجيش إلى صقلية كي تثبت بأن
الحكومة هي سيدة الموقف وليس المافيا. صدرت قوانين جديدة أنشأت برنامج
لحماية الشهود في إيطاليا، ما شجع المئات من عناصر المافيا للشهود لدى
الحكومة.
في الخامس عشر من كانون الثاني يناير من عام ثلاثة وتسعين، قامت الشرطة
بقليل من الاستعراض باعتقال سلفاتور توتو رينا الذي عبر شوارع باليرمو
بدون مقاومة. وقد ادعى أولا أنه مجرد مزارع يقوم بزيارة المدينة. ولكن
سرعان ما تأكد للجميع أنه الوحش. في شباط فبراير من عام تسعة وتسعين
حكم على سلفاتور توتو رينا بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل باولو
بورسيلينو، بالإضافة إلى قتل جيوفاني فالكوني وعدد آخر من جرائم
المافيا. تلقى رينا عدة أحكام مشابهة. ورغم أن سراحه لن يطلق بعد الآن
إلا أن المافيا ما زالت على قيد الحياة.
تشهد المافيا في صقلية اليوم مرحلة من محاولات إعادة التنظيم. تؤكد
المعلومات التي جمعت مؤخرا أن بعض عملياتها ضربت جديا. كما يعتقد بأن
تجارة المخدرات بين صقلية والولايات المتحدة قد انقطعت على الأقل. ولكن
المافيا عززت نشاطاتها في بعض المجالات التقليدية. تؤكد الأبحاث التي
جرت مؤخرا بأن تسعين بالمائة من أصحاب المتاجر والأعمال يستمرون في
أجزاء من صقلية بدفع نقود الحماية ولكنهم ينفون هذه الحقيقة أمام رجال
المباحث والتحريات. لا يمكن القول أن المافيا قد هزمت.
ما يجب أن نفهمه عن المافيا هو أنها منظمة مستقلة منفصلة للجريمة
المنظمة، لا تكترث على الإطلاق بالقوانين والأعراف. وهي تقدم نفسها على
أنها منظمة لعمل الخير تحل محل غياب السلطة ورجال القانون. وهذا غير
صحيح، لأنها تخضع الفقراء، وتستعملهم وتأخذ أموالهم. وعندما يزعجها أحد
ويخترق أعرافها تقتله.
مع حلول القرن الجديد يبدو أن المافيا تعاني من التراجع ليس في صقلية
وحدها بل وفي أمريكا ومناطق أخرى تتمتع بالقوة فيها. اعتمدت الحكومة
تقنيات جديدة لوضع زعمائها خلف القضبان. ومع ابتعادها عن الجذور
التقليدية فقدت الكثير من مصادر قوتها كالروابط بين مجموعات المافيا،
إلى جانب ظهور عدد من المتعاونين مع الشرطة. وهذه مسألة تناقض الأعراف
التقليدية. وقد مكن ظهور العناصر المتعاونة مع الشرطة بجعل المافيا
تدمر نفسها بنفسها.
أثر انتهاء الحرب الباردة على عصابات الجريمة الروسية المنظمة، وهذا
ينطبق أيضا على العصابات الإيطالية. إذ أن أمريكا لم تعد تكترث بإبعاد
الشيوعيين عن السلطة وما شملته تلك التجربة من حد فاصل. كما يبدو أن
سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفيتي قد ساعدا على انهيار الجريمة
المنظمة، إذ لم نعد بحاجة إلى قوة المافيا اللازمة للحفاظ على التحالف
السياسي في السلطة.
كان لاغتيال فالكوني وقع شديد على المجتمع الإيطالي ليفهم كلفة الجريمة
المنظمة. ولكن هذا ما كان ليحدث لو لم تسقط المنظومة الاشتراكية.
تعتمد الجريمة المنظمة على حاجة الناس للخدمات الممنوعة التي تقدمها،
أي أننا مسؤولون عن الجريمة المنظمة. المواطن في كل بلد تنتشر فيه
الجريمة المنظمة هو المسؤول عن تواجدها.
يؤسفني جدا أن تصنع الأفلام وأجهزة التلفزة من الجريمة المنظمة أبطالا
لها، أو إضفاء صبغة الفكاهة عليها. مع أنها لا تثير لضحك أبدا. عجز رجل
الأعمال عن القيام بعمله أو مقتل أطفال وأقارب أي شخص لا يسر أحد.
تمتع سلفاتور رينا بحريته لعشرين عاما، وهو يثق بأن المافيا ستضمن له
تلك الحرية، وأنه لن يتعرض للخيانة من قبل المؤمنين بأن المافيا تدافع
عن الفقراء ممن يحاولون استغلالهم. ولكن مسعاه لبسط السلطة دفعه لتدمير
هذا الاعتقاد إلى الأبد. هل ستعود المافيا في صقلية إلى عصرها الذهبي؟
أكدت التجارب الحديثة أنه بالإمكان القضاء على الجريمة المنظمة، طالما
استمرت قوات الأمن بالمكافحة، تلبية لمطالب الناس. معكم روبرت ستاك،
شكرا على مرافقتكم.
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م