|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
ملفات الإف بي أي
جال فينسينت جيغانتي في شوارع قرية فانيج في نيويورك طوال ثلاثين عاما.
يرتدي روب حمام، يهذي بالتحدث إلى نفسه.أما الإف بي أي فاعتبرته أحد
أقوى زعماء المافيا في نيويورك، وتحديدا منها عصابة جينيفيس. فهل هو
مجنون فعلا؟ أم أنه اعتمد هذا الأسلوب للتستر على أعماله كزعيم لا
يرحم، استغرقت هذه الإجابة على السؤال، عدة سنوات.
=-=-=-=-=
لكل عائلة محورها، حتى عائلات المافيا، رئيس العصابة فينسينت جيغانتي،
رأس عائلة جينيفيس في نيويورك، كان محورها الرئيسي. أما السؤال
الأساسي، فهو هل كان مجنون فعلا؟ للإجابة على السؤال، كنا نجده في
الشوارع يتسكع كالمعتوه، ليس له صلة بالواقع، أما بنظر القانون، فكان
متآمر محترف، مسؤول عن الجرائم.
أنا جيم كالستروم، المسؤول السابق لمكتب الإف بي أي في
نيويورك. تستهلك عصابات الجريمة المنظمة جهودا كبيرة لضربها، والإف بي
أي تبذل كل ما بوسعها. كانت قضية جيغانتي، تعتمد على صلاحيته لتحمل
المحاكمة. فهل ينبع سلوكه الغريب من حالة جنونه، أم ضرب من العبقرية؟
(السيد المجنون)
لا يمكن لأي شخص يرى فينسينت جيغانتي أن يصدق بأنه يقود أكبر وأغنى
عصابات نيويورك، وهي منظمة لها تاريخ دموي حافل.
يعود تاريخ المافيا إلى القرن الثالث عشر حيث سادت الإقطاعية
مجتمع صقلية، حيث نظمت العائلات أنفسها للكفاح ضد وحشية الغزاة
الفرنسيين. ترمز كلمة مافيا إلى الأحرف الأولى من شعار الموت للغزاة
الفرنسيين، وهكذا تحولت الأحرف الأولى إلى تسمية أطلقت على هذه
العائلات، حتى أصبحت مرادفا، لرجال الكرامة.
عادت المافيا للظهور في صقلية القرن التاسع عشر كمجموعات إجرامية بحتة،
يستأجرها كبار ملاك الأراضي لقمع صغار الفلاحين. ثم أخذت هذه العصابات
تركز على سبل كسب أرباح غير مشروعة.
ثم انتقل جزء منها عبر موجات الهجرة التي توجهت إلى نيويورك في عشرينات
القرن الماضي. سكن المهاجرون في ظروف فقيرة جدا.
أدى التوتر الإثني السائد، إلى تعرض أبناء صقلية لضغوط متنامية، ما زاد
من حاجتهم لحماية المافيا.
ينتمي لويش شاليرو إلى الجيل الثالث من المهاجرين الإيطاليين، و هو
يرأس مكتب الإف بي أي في نيويورك. جعله العمل طوال ثلاثة وعشرون عاما
خبيرا بعصابات المافيا وبنيتها المعقدة.
عندما انتشرت أعمالهم في مدينة نيويورك تعرضوا للمجتمع التجاري الذي
أخضع في مانهاتن السفلية إلى أعمال الابتزاز والحماية. وهكذا انطلقت
عصابات كوزا نوسترا في أعمالها.
استغلت عائلات الجريمة قانون منع المشروب كي تقيم شبكة للتوزيع في
الجوار أولا لتنتشر بعدها في أرجاء البلاد. ثم نشأ بعد ذلك نوع من
التنسيق السري. تحالفت أعداد كبيرة من عائلات الجريمة في أرجاء القارة
الأمريكية، لتنسيق عمليات توزيع الكحول في بلد مستعد لدفع الثمن.
أعتقد أن هذا ما منح عصابات كوزا نوسترا الإيطالية موطئ قدم، في
المجتمع الأمريكي، ليس على المستوى التنظيمي فحسب، بل ومن حيث التمويل.
وهكذا انتقلوا من توزيع الكحول إلى مجالات متعددة أخرى.
لم توفر هذه العصابات من أعمالها الشرطة نفسها، وذلك سعيا لتحقيق
الكسب السريع وحماية مصالح الجريمة المنظمة. ما جعلها عرضة للنزاعات
والمواجهة. جندت مجموعات من القتلة للعمل في صفوف المافيا، وضمان
بقائها على قيد الحياة. عرفت هذه المجموعات بلقب عصابة الحبر القاتل،
التي أصبحت في الأربعينات تضم مئات المجموعات في جميع أرجاء البلاد.
في السنوات الأولى من عمر المافيا، كان زعماء العصابات الأقوى في
نيويورك أقام لاكي لوشيانو وفرانك كاستيلو قيادة مشتركة للمافيا،
يعالجون فيها المشكلات الناشبة بين العصابات المنتشرة في جميع أرجاء
البلاد.
اعتبرت نيويورك مقرا لأكبر خمسة عائلات للمافيا الأمريكية، التي تنطلق
منها لتوسيع الأنشطة عبر القارة الأمريكية، وما زالت هكذا حتى اليوم.
تتألف عائلات المافيا الخمس في نيويورك هي غامبيون وبنانو وأوكيزي
وكامبو وجينيفيس. تعتبر كل منها عضوا في اللجنة، وتعتمد على قاعدة لها
في مدينة نيويورك.
اللجنة المؤلفة من رؤساء العائلات الخمسة، هي أشبه بإدارة الجرائم
المشتركة، التي تعالج النزاعات بين العائلات وتتخذ القرارات الكبرى في
أعمال المافيا. لدى كل من هذه العائلات إدارة خاصة، تتألف من الرئيس
ونائب الرئيس، ومجموعة مما يسمى بالمستشارين، المسؤولين عن متابعة
تفاصيل العمليات الإجرامية.
الكابتن هو الأدنى رتبة في هيكلية إدارة العائلة. يتولى
الكابتن قيادة وحدات الجنود، والمسؤولين مباشرة عن المتابعة اليومية
لتنفيذ الجرائم. على من يصبح كابتن، أن يعرف بحكمته، يجند في صفوف
المافيا بعض عناصر حين يتأكد من التزامها المطلق في المجتمع السري.
عليه أن يتبع دون قيد أو شرط قوانين كوزا نوسترا، وهي عبارة إيطالية
تعني قضيتنا. عليه أن يضع مصلحة العائلة فوق جميع المصالح، وإذا طلب
منه القتل، عليه تنفيذ الأوامر بإخلاص.
وسط هذه المجموعة من المهاجرين القادمين من صقلية إلى نيويورك
والمتأثرين بمافيا كوزا نوسترا، نشأ فينسينت جيغانتي. جاءت عائلته من
نابولي واستقرت في مانهاتن. أنهى فينسينت جيغانتي الصف الثامن ليدخل
مدرسة التجارة، وسرعان من تخلى عنها. بعد أقل من سنوات عشر، تحول
فينسينت جيغانتي إلى كابتن في عصابة عائلة جينيفيس. أمضى فينسينت
جيغانتي سنوات طويلة من تاريخ المافيا الأمريكية. نقلت المافيا جزءا من
أعمالها إلى المجالات القانونية، التي تنافست العائلات للسيطرة عليها.
وكثيرا ما كان النزاع المسلح هو الحكم الأخير في هذه النزاعات. زرعت
العائلة التي انتمى إليها جيغانتي جذورها عميقا في المجتمع الأمريكي،
وكان رئيسها شارلز لاكي لوشيانو أول مسئول عن تنظيم المافيا في
أمريكا، وقد بقي زعيما للعائلة حتى سجن عام ألف وتسعمائة وستة
وثلاثين. أدى سجن لوشيانو إلى فقدان العائلة لزعيمها، فكان لفرانكو
كاستيلو، الذي عرف بلقب رئيس وزراء العصابات، أن تقاتل مع فينو
جينيفيس، للسيطرة على العائلة. فاز كاستيلو بالعائلة، ولكن جينيفيس أخذ
يتآمر للاستيلاء عليها.
حاز فينسينت جيغانتي عل شهرته الأولى عندما حاول عام سبعة
وخمسين أن يقتل فرانك كاستيلو. علم في أوساط المافيا أن جينيفيس قد
أمره بالسعي للتخلص من خصمه. أكد هذا إصرار جينيفيس على النيل من
كاستيلو، ويبدو أن الأخير قد فهم الرسالة، ما دفعه بعد إطلاق النار إلى
الإعلان عن رغبته بالتقاعد. وهكذا أصبح جينيفيس زعيم العائلة التي
ستحمل اسمه.
اعتقل فينسينت جيغانتي بتهمة محاولة القتل وأخضع للمحاكمة،
ولكن القضية أقفلت لغياب الشهود.
توحي الإصابة التي تلقاها كاستيلو بأنه ربما شاهد وجه القاتل،
ولكنه رفض التعرف على جيغانتي في المحكمة على أنه مطلق الرصاص. ما يؤكد
أن أهم القادة في المافيا، يحافظون على السرية المطلقة.
استمر جيغانتي في كسب الأرباح من العمليات الغير قانونية لصالح
العائلة. بعد عامين من اعتقاله وإطلاق سراحه بمحاولة القتل، أعتقل
بتهمة تهريب المخدرات، وحكم بالسجن سبع سنوات.
على المحكومين من رجال العصابات أن يؤدوا فترة السجن بصمت
مطلق. إذا أمضى جيغانتي فترة حكمة متحليا بالكتمان، سيتلقى مكافأة بعد
إطلاق سراحه. وبعد ذلك عليه أن يجد الوسيلة الملائمة لتفادي التعرض
ثانية للسجن.
كان سجين مثالي، يحترم اللياقة والأناقة ويقبل القيام بأي عمل.
كان التزام جيغانتي مثالي لدرجة أن بعض الضباط كتبوا فيه تقارير
إيجابية. وقد أطلق سراحه مبكرا من السجن الفدرالي نظرا لحسن سلوكه وهو
في الخامسة والثلاثين من عمره.
وضع جيغانتي خطة سرية أمل من خلالها ألا يعاود الدخول إلى
السجن أبدا.
لم يشأ أن يتراجع عن سعيه لتوجيه الضربة القاضية التي تجعل منه
رئيسا لعصابة العائلة. بعد إطلاق سراحه عام ستة وأربعين، أخذ سلوك
جيغانتي العلني يصبح غريبا، وأصبح الجميع يشاهده في شوارع قرية فانيج.
كثيرا ما رآه الناس يتجول في الجوار، عاكسا حالة من الضياع وعديم
السلامة العقلية. بعد فترة من مغادرة السجن سمع جيغانتي بتحقيقات جارية
تؤكد علاقته بعصابات الجريمة. اتهم عام تسعة وستون بمحاولة رشوة أحد
ضباط الشرطة في نيو جرسي. يقول الادعاء أنه عرض عليه المال مقابل
معلومات حول المراقبة والتحقيقات الجارية حول عائلة جينيفيس.
حين أصبح في الأربعين، لجأ إلى مصابه الصحي المزيف، وأخضع
لفحوص في مستشفى عقلي للمرة الأولى. ثم أخذ يعزز ملفاته الصحية دعما
لادعاءاته المزيفة.
أثناء فحوصه الجارية، طلب من أمه أن تملأ استمارة عائلية
مفصلة، فكتبت تقول أن ابنها كان طفل سعيد ينعم بالصحة والعافية. وذكرت
بعض المشاكل البسيطة في قدرته على الكلام. كان ملاكما دون أن يتعرض
لإصابات جسيمة.
خلال تحقيقات عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين، أكد طبيبه أنه غير
مؤهل لمواجهة المحاكم. وقد تحدثت عائلته عن حفنة من المشاكل العقلية،
تكمن في ثورات غضب سريعة، وخوف شديد من الظلام، وكان يتغيب عن المدارس،
ويعاني من صعوبة في التعلم. وقد أفادت هذه المبررات، لعدم مواجهة
المحاكم عام تسعة وستين.
في العام نفسه تعرض زعيم جيغانتي ورئيس عصابة جينيفيس لذبحة
صدرية أودت بحياته وفي السجن يواجه اتهامات بتهريب المخدرات. خلال
السنوات التالية غاصت عائلة جينيفيس بسرية مطلقة حتى أصبح من الصعب
معرفة رئيسها بالتحديد. رغم تمكن الإف بي أي من الكشف عن هوية زعماء
العصابة، إلا أنها عجزت عن إعداد قضية للمحاكم. إذ واجهت صعوبة في
العثور على الشهود، باعتبار أن حكم الموت يصيب جميع الذين يفشون بأسرار
العصابات. ما اضطر الإف بي إلى مواجهة الجرائم الفردية، حين عجزت عن
النيل من بنية العائلة بكاملها.
مع تقدم جيغانتي في بنية العائلة، أخذت الحكومة الفدرالية تجد
بعض السهولة في مواجهة العائلة. مرت عام سبعين قوانين نفوذ العصابات في
المؤسسات الفاسدة عبر الكونغريس الأمريكي، والتي عرفت بقوانين ريغو.
ساعدتنا هذه القوانين على معاملة العائلات على أنها مؤسسات إجرامية،
ومواجهتها ضمن، قوانين الجريمة. اصبح هذا أكثر فعالية إذا عدت إلى
أواسط السبعينات حتى الثمانينات، من حيث تعقب هيكلية العائلة وبنيتها
الكاملة.
ساهمت قوانين ريغو بإثبات تورط عائلات المافيا في مؤسسات
الجريمة المنظمة. ساعد ذلك في التثبت من أن ما يقوم به زعماء العصابة
أو أي فرد منها، يسعى إلى تحقيق الأرباح أو توسيع إطار مشاريع العائلة
الإجرامية وأعضائها ضمن هذا المجال.
كان إلقاء القبض على عائلة المافيا يتطلب إثبات قيامها بمجموعة
من جرائم الابتزاز أو التهديد أو القتل.
عام تسعة وسبعون أدخلت القوانين الفدرالية في دائرة الجريمة المنظمة
مباشرة. خصصت الوكالة فرق تعمل مباشرة على التحقيق مع العائلات الخمس
الكبرى. وأخيرا تمكن فريق تعقب جينيفيس من التثبت من أن فينسينت
جيغانتي قد صعد بسرعة على مسار العائلة.
تلقى العميل الخاص ريشارد لودوف تعيينا للتحقيق مع عائلة
جينيفيس الإجرامية.
بلغنا عبر المخبرين وعدد من الوكالات الأخرى لتبادل المعلومات، أن
فينسينت جيغانتي ينعم باحترام كبير وسط عائلة جينيفيس الإجرامية، وأنه
يسيطر على منطقة أسفل منهاتن. بما أنه يصعد سريعا عبر مراتب العائلة
التي يحظى باحترامها الشديد، بدأنا نخضع السيد جيغانتي لعمليا
المراقبة.
مع استمرار الإف بي أي بتعزيز ترسانة أسلحتها ضد الجريمة
المنظمة، أخذ جيغانتي يصعد من سلوكه المزيف، وانطلق في لعب دور المصاب
عقليا على المستوى العلني.
في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، أدخل خمس مرات إضافية
لتلقي العلاج النفسي.
تابعت الإف بي أي مراقبتها لجيغانتي، وأكد العملاء السريين أنه
يتردد على نادي المثلث الاجتماعي، حيث يجتمع أفراد عصابة جينيفيس
المعروفين.
كان يذهب إلى النادي يوميا، وكان يسكن في الجوار، وهو شخص يمكن
العثور عليه هناك، بعد الظهر وفي ساعات الصباح الأولى. وكان الجميع
يأتون إليه بدل ذهابه لرؤية الآخرين.
تأكد المحققون من علاقة جيغانتي بعائلة جينيفيس، علما أن الأطباء
وأفراد عائلته كانوا يتحدثون عن متسع ضئيل لعيشه. يقولون أن عالمه
يقتصر على المنطقة التي يسكنها، والكنيسة التي يزورها مع أمه. وأكدوا
جميعا أنه بالكاد يتحرك في المنزل ولا يستطيع الاعتناء بنفسه.
ولكن الإف بي أي والشرطة كان ترى جيغانتي مختلف يوما بعد يوم.
في بداية الثمانينات خاضت المافيا في الشمال الشرقي اشتباكات داخلية
أدت إلى مقتل عدة أفراد. نجمت النزاعات الداخلية ضمن العصابة إلى
عمليات قتل واسعة النطاق. واعتبرت الإف بي أي جيغانتي مسؤولا عن هذه
الاغتيالات، خصوصا تلك التي نفذت عقابا على انتهاك قوانين كوزا
نوسترا. اشتهر جيغانتي بتمسكه بالتقاليد. كان يصر على طاعة الأوامر،
وعند انتهاكها، كان يصر على العقاب.
بدأت الموجة بمقتل رئيس عصابة فيلاديلفيا أنجيلو برونو. رغم
خروج عائلة برونو من نيويورك، إلا أنها كانت ضمن عضوية اللجنة. غضب
جيغانتي لمقتل برونو على أيدي رجاله الساعين للسيطرة على العائلة. ما
شكل انتهاكا لقانون كوزا نوسترا. لا يمكن لأحد أن يقتل زعيما إلا إذا
قررت اللجنة ذلك. أثيرت شائعات تتحدث عن بدء جيغانتي شخصيا التحقيقات
في مقتل برونو.
انطلقت عمليات الانتقام بعد أقل من شهر واحد، حين عثر على جثة
تومي بانانا كابو نيغرو الذي اعتبر من قتلة برونو. أطلق النار عليه
خمسون مرة وطعن في الظهر. كانت الجثة في صندوق سيارة أحاط بها خمسة
وعشرون دولارا، وهي رسالة واضحة على أنه قتل لطمعه. تم العثور على جثة
في اليوم نفسه. وهي هذه المرة لفيد سولينو، الذي قتل برصاصة واحدة،
ورمي في منطقة نائية. يقال أنه ساهم أيضا بمقتل برونو.
استولى فيل تيستا على الزعامة مكان أنجيلو برونو، ولكن ولايته
كانت قصيرة. بعد عام واحد على اغتيال برونو انفجرت بتستا عبوة مزقته
عند باب منزله. وهكذا قتل زعيم آخر دون موافقة اللجنة، ما سيؤدي إلى
حفنة أخرى من الأعمال الانتقامية.
تبعه روكي مالينوشي حيث تم العثور على عبوة أطلقت في فمه. وهي
وسيلة تؤكد أنه قتل بالطريقة التي اغتال بها تيستا.
يتطلب ازدهار كوزا نوسترا التزام جميع أعضائها بالقوانين، دون
أي استثناء. يعتقد أن جيغوني قد أمر بقتل أحد أعضاء عصابته. كما قام
جيغانتي جيري تابا باغتيال عضوان من عصابة كولومبو دون إذن مسبق. عقابا
على عمله الغير قانونين تعرض للقتل بوحشية على يد أعضاء من عصابة
عائلته.
هل تحول جيغانتي إلى رئيس عصابات شمال شرق كوزا نوسترا؟ يقول
عملاء الشرطة الفدرالية في المافيا أن جميع الاغتيالات قد حصلت بأوامر
من جيغانتي.
ولكن المعلومات التي تصدر عن المجرمين المتورطين هي مشكلة
بالنسبة للمحاكم الكبرى. يمكن للمجرم أن يدلي بأي تصريح قد يخفف من
فترة الحكم عليه. تحتاج الإف بي أي إلى أكثر من مصادر المجرمين
الباحثين عن تخفيف الأحكام. كان جيغانتي يعرف هذا، لهذا حمى نفسه قدر
الإمكان.
يبدو أن جيغانتي قد أصبح الزعيم. ركزت الإف بي أي مزيدا من
جهود المراقبة على جيغانتي، ثم أدركت أن عائلة جينيفيس قد تسللت إلى
عدد من الصناعات الكبرى في نيويورك. من بينها تجارة اللحوم والحلويات،
وجمع النفايات، وشركات الشحن في المطار، وصناعة الأسماك البحرية.
عرف جيغانتي في الشوارع بلقب الشين، وهي تصغير لشينزينو، أو
فينسينت الصغير. يمنع رجال العصابات من ذكر زعمائهم بأسمائهم الحقيقية،
تفاديا لمراقبة الإف بي أي اللاسلكية، فهم يتحدثون عنه بالإشارة، ولمس
الذقن إشارة إلى اسمه.
يتطلب وصول الإف بي أي إلى شين كل الإمكانات والكفاءات
المتوفرة لديها. عليها أن تقيم محاورها الخاصة.
أثناء مراقبة أجهزة الإف بي أي في أحد الأيام ظهر أحد رجال
شين في الساحة. وقد أمسك بجيغانتي ليساعده على عبور الشارع. وعند
تعرضه لازدحام السير، تحول فجأة إلى حركاته السريعة سعيا إلى
الأمان. ثم عاد المساعد يتولى أمره على الجانب الآخر.
وكأن هناك اثنان من جيغانتي، الشخص المصاب عقليا الذي يظهر في
العلن، ورئيس العصابة الصلب الذي يدير عائلة جينيفيس. سرعان ما توصلت
الإف بي أي إلى ثالث.
كانت زوجة جيغانتي السابق وأبنائه الخمسة يعيشون في نيوجرسي
بينما كان يقيم علاقة شبه مستقرة مع صديقته القديمة أوليمبيا إسبيزيدو.
عادة ما كان يزورها ليلا، ليتصرف بشكل طبيعي قبل أن يعلم بوجود
المراقبة.
علمنا أنه يتردد باستمرار على منزل ريفي يقع في شارع سبعة وسبعين على
الجانب الشرقي من مانهاتن، حيث تبين لاحقا أنه يسكن هناك مع زوجة ثانية
له، على اعتبار أنه كان متزوج سابقا.
سرعان ما كشفت الإف بي عن جميع اتصالات شين، ما ساعد فريقها عل
مراقبة جيغانتي دون معرفته. ظهرت المشكلة الكبرى حين تمكن المفتش توم
برونو العامل في وحدات إن واي بي دي الداعمة، من التقاط صور عن بعض
أنشطة جيغانتي.
كلفت عام أربعة وثمانين بالانضمام إلى الوحدات الداعمة الخاصة بالجريمة
المنظمة، وهي وحدات تتألف من عناصر الإف بي أي وشرطة نيويورك المحلية،
وقد كلفنا بالتحقيق في جرائم عائلة جينيفيس. وبعد هذا كلفنا بالانتقال
إلى شارع سالفين حيث كان يسكن جيغانتي. كانت شقته تقع فوق متجر
للحيوانات الأليفة. وكان يملك ناديا اجتماعيا في المنطقة أيضا. عندما
يذهب إلى النادي الاجتماعي ترى أعداد من الناس معه في الصور. وتراه يقف
أمامهم ويدخل إلى هناك. وأحيانا ما كان يعبر الشارع ويذهب إلى متجر
الحيوانات، حيث نعتقد أن شين كان يقابل الجميع. لم يكن في متجر
الحيوانات الأليفة أي عمل يمكن رؤيته، فهو لا يحتوي إلا على صناديق
القطط على الواجهات لا أكثر.
أخذت أعداد كبيرة من الصور لجيغانتي وهو يمارس حياته الطبيعية دون أن
يعلم بأنه مراقب.
رأيت جيغانتي يخرج من مسكنه الرئيسي مع ابنه أندريو. تابعت مهمتي
بمراقبة الشارع. توجه أندريو نحو سيارته، بينما يقف شين عند الزاوية،
بعد أن خرج من مبناه وقف تماما عند الزاروي. ما أن وصل أندريو إلى
السيارة حتى انطلق بها، وبعد الانطلاق وصلت سيارة إلى هناك تدق
المزمار، فصرخ جيغانتي قائلا ما بك؟ هل أنت على عجل؟ عند حصول ذلك
أصبحت أنا في دائرة الضوء، فنظر إلي وأخفض رأسه على الفور ليلعب دور
المريض.
تمكن المفتش برونو من تحقيق نجاحات كبيرة أخرى. تمكنت الإف بي أي من
استئجار إحدى الشقق القريبة من المنزل الذي تملكه صديقة جيغانتي السيدة
اسبيزيدو. تمكن أحد العملاء من التسلل عبر الشقة المؤجرة في المبنى
المجاور حتى أصبح على مسافة خمسين قدم من المنزل الريفي للسيدة
اسبيزيدو، من حيث كان قادرا على رؤيتها مع جيغانتي بين الحين والآخر.
تولى أحد العملاء مراقبتهما طوال أربعة أشهر بين منتصف الليل
والثانية فجرا. مساعد المدعي العام إندريو وايزمان، الذي شهد لاحقا
على قدرة جيغانتي على مواجهة المحاكمة، سر جدا بنتائج المراقبة.
كان في الداخل، وهو في مكان لا يعتقد فيه أنه مراقب، يقوم بجميع
الأعمال العادية التي يقوم بها أي منا. يمكن القول أن الغير معتاد في
هذه المراقبة هو أنه لم يكن فيه أي شيء غير اعتيادي. أي أنه كان طبيعي
جدا. كان يتحدث مع الناس، ويعد النقود، وما كان يرتدي روب الحمام كما
يفعل في الشوارع. بل أعتقد أنه كان يفعل ذلك فقط عند خروجه من الحمام
ليرتدي روبا ناعما من أفضل الأنواع المعروفة، التي تختلف تماما عما
يرتديه وهو يدعي التسكع في الشوارع. وهكذا أصبح من الواضح جدا لجميع
العاملين على مراقبته أنه يبذل جهودا قصوى لخلق هذه الفكرة في العلن،
وهي فكرة مزيفة تختلف عن سلوكه في الحياة العادية.
تابع رجال المباحث مراقبتهم لسلوك جيغانتي العلني الغريب. فأخذت له
أعداد كبيرة من الصور، لينكب عليها الباحثون سعيا لمعرفة ما توحي به.
وتبين في النهاية أن جيغانتي كان الزعيم فعلا.
سجل حوار هام واحد بين أعضاء عصابة جينيفيس، قدم للسلطات
المزيد من الأدلة المتعلقة بدور جيغانتي في العائلة. انعكست في
التسجيلات حالات التذمر بين أعضاء معروفين في العصابة من شين. وقد راجع
مساعد المدعي الأمريكي العام جورج ستانلي تحضيرا لملف يساعد في رفع قضة
ضد جيغانتي.
تبين أنه يصر دائما على استجواب رجاله وملاحقتهم للتأكد من طبيعة
الأعمال التي يتورطون فيها. ويسعى دائما للحصول منهم على المال أو
دفعهم لتعزيز وسائل الكسب والأرباح، وتحديد الأموال التي ينالها من
عمليات المراهنة في نادي المثلث وما شابه ذلك.
أثناء محاولات الإف بي أي الكشف عن زيف سلوكه ومعرفة وجهه الحقيقي،
أخذت الصحافة تسميه العرّاب الغريب.
كان يخضع نفسه للفحوص في المستشفى سنويا، ضمن ما كان زملائه في المافيا
يسمونه ساخرين بالصيانة، وذلك للحصول على تاريخ صحي، يثبت من خلاله
أنه يعاني من بعض المشاكل العقلية. وقد استعان بالذين من حوله من
أصدقاء وأفراد العائلة للاستفادة من هذا التاريخ الصحي، ما يوحي لأي
شخص يلقي نظرة على ملفه الصحي، أنه أمام شخص يتلقى سنويا بعض العلاج
والمعاينة من الأمراض العقلية.
كان جيغانتي يتقن حماية نفسه، سواء كان ذلك في العلن أو في
الظل.
كان السيد جيغانتي بالغ الفطنة والذكاء يتقن إدارة أعماله، كان يحدد
لقاءاته مع أعضاء عائلة جينيفيس، وإذا كان هناك أنشطة لا بد من
متابعتها عبر أحد أفراد العائلة، كان يمرر الأوامر من خلال أِشخاص على
صلة مباشرة به. أي أن الوصول إليه كان محصورا. إذا أرادت العائلات
الأخرى اللقاء معه كانت على الأرجح تبعث له بالرسائل.
كان جيغانتي يتفادى الجلسات العادية أو الاجتماعات التي يعقدها رؤساء
العصابات الأخرى. كان يقبل بالاجتماع حين يتطلب العمل إشرافه المباشر.
وأحيانا ما يسير مع زواره على الأرصفة في الجوار، للتأكد من أن أجهزة
التسجيل لا تلتقط شيئا من حوارهما.
توقع جيغانتي ان يكون هاتف السيدة اسبيزيدو مراقبا. وهو على
حق. لهذا تفادى التحدث بالأعمال على الهاتف، وفضل استعمال الهاتف العام
لعقد لقاء في مكان ما.
لم تتمكن الإف بي أي من استخدام كلمات جيغانتي في القضية ضده.
لهذا يمكن القول أن غيره من رجال العصابات لا يتمتعون بهذا الذكاء. سمح
لأجهزة الإف بي أي بوضع أجهزة تنصت لتسجيل حوارات زعماء العصابات. مع
بداية عام خمسة وثمانين، ركزت الإف بي أي ضغوطها على أعداد كبيرة من
كبار المسؤولين في عائلات الجريمة المنظمة، وقد وجهت لهم الاتهامات ضمن
قانون ريغو، الذي وجد منذ السبعينات، وبدأ يخضع لامتحان حقيقي في هذه
الفترة تحديدا.
أدرك بعض رجال العصابات أن اثنان من كبار المسؤولين في عصابتي
لوكيزي وغامبينو سيتعرضان قريبا للاعتقال. وتساءلوا ما إذا كان شين
ضعيفا. وعلق أحدهم على ذلك بالقول أن سنوات الصمت الطويلة الماضية ستمر
دون جدوى إذا صدرت الاعترافات من أحد.
تم اعتقال عدد من زعماء العصابات في شباط فبراير من عام سبعين.
في اليوم التالي خضع جيغانتي للفحوص في المستشفى حيث بقي لمدة أسبوع
كاملا، ونجح بذلك من تفادي حملة الاعتقالات التي نالت من عصابات
نيويورك. وكان من بين المعتقلين بول كاستيلانو، زعيم عائلة غامبينو
الإجرامية. لم يتمكن القضاة من محاكمته، إذ قتل قبل أن يحظوا بهذه
الفرصة.
تعتبر مصادر كوزا نوسترا أن عمليتي اغتيال رئيس العصابة بول
كاستيلانو ونائبه تومي بيلادي، كانتا على صلة مباشرة.
كان جون غادي كابتن في عائلة غامبينو، يعمل تحت إمرة
كاستيلانو، وقد شاع في أوساط العصابة أنه المسؤول عن مقتله. بعد أقل من
أسبوعين على حصول الجريمة، تولى غادي علنا مسؤوليات رئيسه.
بعث فينسينت جيغانتي برسالة تهديد مباشرة لغادي، قائلا أن على
القاتل أن دفع ثمن جريمته، دون أن يذكر الأسماء. استغرق الأمر عامين،
ولكن عام سبعة وتسعين، قام جيغانتي بالانتقام لصديقه وشريكه في أعمال
الجريمة.
اعتمد جيغانتي على مستشاره بوبي مانا وعدد من أفراد عائلة
لوكيزي، للتآمر على مقتل غادي. سجلت خطة المؤامرة التي وضعت في مطعم
نيو جرسي، وبسبب التسجيل، تمكنت الإف بي أي من إنقاذ حياة جون غادي.
حين تكشف أي وكالة للشرطة في الولايات المتحدة عن مؤامرة قتل،
تجبر بحكم القانون على محاولة منع القاتل، لهذا اعتمدت الوكالة على
التسجيلات لتحذير غادي.
اعتمد جون غادي على إنذار الإف بي أي لتغيير برنامج تحركاته في
اليوم الذي اتفق عليه لتنفيذ الجريمة. وهكذا فشلت مؤامرة الاغتيال لعدم
توقع التغيير في تحركاته.
ولكن جيغانتي لم يستسلم، فطلب من كوموزو رئيس عصابة لوكيزي بأن
يشرف على ضربة أخرى. وهكذا تولى كوموزو ورجاله متابعة التفاصيل.
وهكذا كلف كوموزو أحد رجال عائلته المخلصين وهو ألديوركو، الذي كان
ممن يتمتعون بثقة جيغانتي أيضا، وقد استعان ألديوركو باتصالاته في
أنحاء أخرى من البلاد للحصول على عبوة تعمل بالتحكم عن بعد.
تم اعتقال غادي وسجنه قبل تنفيذ محاولة الاغتيال الأخرى. وهو
يمضي الآن حكما بالسجن المؤبد بتهمة الابتزاز والتهديد واستخدام العنف،
إلى جانب تهم قتل، تشمل كاستيلانا. في هذه الأثناء كانت الإف بي أي
تسجل حوارا لرجال شين وهم يخططون لاغتياله.
مع استمرار التحقيقات الجارية حول جرائم عائلة جينيفيس، تم
الكشف عن بنية الإشراف على الجريمة والفساد. تبين لهم أيضا أن الجزء
الأكبر من ارباح عائلة جينيفيس في مجال البناء تأتي من صناعة وتركيب
النوافذ. تمكنت عائلة جينيفيس من احتكار تركيب وإصلاح النوافذ في جميع
المباني الحكومية والعامة لمشاريع مدينة نيويورك.
بين لنا في تلك الفترة أن أموالا طائلة تستثمر في مجال البناء وتحديدا
منها في إصلاح وتركيب نوافذ المباني الحكومية، خصوصا أن المدينة كانت
على وشك الوقوع في أزمة للطاقة، ما يعني ان الوقت كان ملائما لزيادة
نشاط عصابات الجريمة المنظمة في هذا المجال. تبين لنا أن عائلة
جينيفيس، إل جانب عائلات أخرى للمافيا تتقاسم بعض الشركات التي تعمل
على صيانة وتركيب نوافذ المباني الحكومية.
جمعت هذه الشركان حوالي مائة وتسعون مليون دولار خلال عشرة
سنوات تمتد بين نهاية السبعينات ونهاية الثمانينات وذلك في نيويورك
وحدها، وتحديدا في مجال صيانة وتركيب نوافذ المباني الحكومية.
إنه عمل تقليدي لهذه العصابات التي اعتمدت فيه على الابتزاز
والتهديد، لتنتقل من أعمالها الغير قانونية إلى تلك المشرعة والقادرة
على احتكارها. بلغ الفساد زعماء النقابات، وفي هذه الحالة تورطت في هذه
المشاريع أعداد لا بأس بها من شركات المعادن وعمالها الساعين للعمل
ضمن القوانين. وهكذا تمكنت عائلتي لوكيزي وجينيفيس من تحسين مشاريع
البناء لديها باستقلالية. أدركت العائلتان مع بداية الثمانينات أن
الشراكة بينهما ستجني أرباحا أكبر.
تمكنت عائلة لوكيزي في هذه الفترة من إحكام القبضة على عدد
الموظفين المتعاقدين، بينما أخضعت عائلة جينيفيس مجموعة من المقاولين.
أدى التعاون بينهما إلى تحقيق المزيد من الأرباح.
استطاعوا من خلال إفساد بعض الموظفين المحليين من احتكار
العقود لأنفسهم واستثناء عدد من شركات المقاولات التي منعت من طرح
المناقصات.
أصبحت كافة مشاريع البناء الحكومية، وغالبية أعمال البناء في
المدينة، تخضع لفرض عمولة دولارين على كل نافذة تذهب إلى حساب عائلة
جينيفيس، بينما تحصل عائلة لوكيزي على عمولة دولار واحد، وربع دولار
إلى قابض العمولة، وخمسة وسبعون سنتا إلى الزعيم مقابل دوره العائلي في
إدارة النقابة. وهناك دولار واحد يستفيد منه موظف الإشراف على تشغيل
العمال الغير منتمين إلى النقابة.
أحيانا ما يؤدي عدم التعاون إلى عقوبة عنيفة. وهكذا قامت عائلة
جينيفيس بضرب أحد رجال النقابات لرفضه التعاون، وقد أصر أثناء التحقيق
أنه لم يتمكن من رؤية مهاجميه.
عام اثنان وتسعين تعرض أحد موظفي العقود لعملية اغتيال أودت
بحياته في لونغ أيلند، إثر خلاف له على العقود مع المافيا.
عملت الشراكة بين عائلتي جينيفيس ولوكيزي على أحسن ما يرام،
حتى تمكنت الإف بي أي من إقناع بيتير سيفينو من حمل جهاز تسجيل، وقد
كان سيفينو عضوا في عصابة جينيفيس متخصص في مجال النوافذ.
استطعنا إثبات تهمة قتل بحقه، ونحن على ثقة بأن أحدا من رجال العصابات
لا يريد الموت في السجن، لهذا عرضنا عليه تخفيف العقوبة مقابل تعاونه،
فقبل بذلك. وعمل طوال ثمانية عشر شهرا على تسجيل ما يقوله أفراد من
عائلتي جينيفيس ولوكيزي، المتعاونة في هذا المجال.
لم يتنبه جيغانتي إلى ما يقوم به بيتير سيفينو. كان مسرورا
بعمل سيفينو وسعيدا بعمولة أعمال النوافذ.
تولى سيفينو عد الأموال، وتوزيع الحصص، وتسليم عمولة كل جهة
لصاحبها. فسر الزعيم بعمله. إلى أن أخذ بعض أفراد عائلة جينيفيس يشكون
بسلوك سيفينو. حين تم العثور على جثة في قبو أحد المباني التي يملكها،
استغرب رجال جينيفيس ألا تحقق المباحث بمقتله جديا.
أدى ذلك إلى زرع الشك لدى البعض بأن العثور على جثة في قبو يملكه دون
إخضاعه للتحقيقات يوحي باحتمال تعاونه مع السلطات. ولكن أحدا لم يتأكد
تماما.
كان سيفينو مصدر أرباح طائلة لفينسينت جيغانتي، إذ يأتي بمئات الآلاف
من الدولارات شهريا لعائلة جينيفيس. وحين أبلغ جيغانتي باحتمال
تعاونه، فضل ألا يصدق، ثم رفض مبدئيا أن يتم قتله. تابع سيفينو حمل
جهاز التسجيل في محاولة للحصول على اعترافات الآخرين بالموقع الذي
يحتله شين في العائلة.
ولكن رجال جيغانتي ما كانوا ليقتنعوا بانتهاك القوانين التي
تتعلق بعد ذكر اسمه.
قال فينسنت متى يحين الوقت،
لا تأتي على ذكر اسمه.
حسنا لن أذكره فهمت. وطلب مني الذهاب إلى العمل.
قال فورا لا تذكر هذا الاسم كيف تتحدث هكذا. كان هذا دليل قاطع، رغم
عدم توفر الأدلة الدامغة، إلا أنه يؤكد التحدث عن شخص يثير الخوف، ولا
يمكن أن يكون مصاب عقليا.
سرعان ما تبين لجيغانتي أن سيفينو كان يتعاون فعلا مع السلطات. غضب
جيغانتي لهذه الخيانة فأمر على الفور باغتيال بيتير سيفينو.
تمكنت الإف بي أي حينها من إبعاد سيفينو عن أيدي رجال جينيفيس،
بعد أن تمكن من تقديم آلاف من ساعات الحوار المسجلة.
تمكن السيد سيفيو أيضا من تقديم معلومات تاريخية عن سبل تأسيس هذا
الفريق، وطبيعة العلاقة القائمة بينه وبين زعماء عائلتي لوكيزي
وجينيفيس، وما هو دورهم في هذه البنية. أوضح السيد سيفينو لنا أيضا عن
سبل تفاعل رجال هذه العائلات مع بعض الموظفين المحليين، الذين كانوا
يستخدمون لتشغيل الآلية بكاملها.
نجحت الإف بي أي في استخدام قوانين ريغو للإيقاع بزعماء عصابات
المافيا الكبرى في نيويورك. سرعان ما تبين لعدد من أعضاء هذه العصابات
أن السبيل الوحيد لتفادي الأحكام الطويلة في السجن يكمن بالتعاون مع
السلطات.
وكان من بينهم نائب رئيس عصابة غامبينو سلفادور سابي رومانو.
وأخيرا تم القبض على جيغانتي وتوجيه الاتهامات المتعلقة به ضمن قوانين
ريغو وعلى رأسها اغتيال ستة أشخاص، والتآمر على قتل ثلاثة آخرين، وما
لا يقل عن سبعة وعشرين عملية ابتزاز.
سرعان ما اتهم جيغانتي بأنه يرئس عائلة جينيفيس. ولكن جيغانتي
أصر على الاحتماء وراء ملفات أمراضه العقلية.
وجهت التهمة الأولى للسيد جيغانتي في أيار مايو من عام تسعين والثانية
في حزيران يونيو من عام ثلاثة وتسعين. والحقيقة أن قضيته كانت غير
اعتيادية إذ استغرقت عدة سنوات قبل أن تتولاها المحاكم. وأخيرا بدأت
المحاكم في حزيران يوينو من عام سبعة وتسعين، أما المشكلة التي منعت
محاكمته طوال سنوات فهي ما إذا كان قابلا لمواجهة المحاكم أم لا. حلت
هذه المعضلة أخيرا عام ستة وتسعون.
بعد سبع سنوات من اعتقاله أعلن القضاء الفدرالي أن فينسينت جيغانتي
قابلا لمواجهة المحاكم.
كان فينسينت جيغانتي في التاسعة والستين من العمر عندما حكم
عليه القضاة بتهمة التآمر على قتل ثلاثة من زعماء المافيا، ومن بينهم
غادي وسيفينو. كما تأكدت الاتهامات الموجهة ضده بعمليات الابتزاز
والعمولات المتعلقة بمشاريع إصلاح وتركيب النوافذ.
ولكن القضاء لم يتمكن من إثبات الاتهامات المتعلقة بارتكاب ستة
أعمال قتل.
بعد إصدار الحكم عليه أصر المحامون على أنه لا يصلح لتنفيذ
الأحكام، على اعتبار أن عجوز جدا وضعيف جدا ومصاب عقليا بما لا يمكنه
من فهم العقوبة.
خضع جيغانتي أثناء تنفيذ الحكم للإقامة في مستشفى ملحق في
السجن حيث أخضع لمعاينة عدد من الأطباء، وفحوص شملت تصويرا للدماغ، وهي
عملية تجري بالاعتماد على الأشعة لقياس تفاعل الدماغ الكيميائي.
كانت نتيجة تصوير عام واحد وتسعين طبيعية في البداية، وبعد ذلك
تبين أنها لا تصلح تقنيا للاستعمال في المعاينة. أما صورة عام ثلاثة
وتسعين فقد عكست بعض التشوهات.
ولكن واحد من الأخصائيين على الأقل، هو دكتور جونثان برودلي،
وصف هذه التشوهات بأنها ليست في مستوى ادعائه. يعمل الدكتور برودلي
طبيب للأمراض العقلية في مستشفى نيويورك، وهو أستاذ في جامعة نيويورك
الطبية. كما يقوم بعدد من الأبحاث المتعلقة بانفصام الشخصية.
كان السيد جيغانتي في الفترة التي أخضع خلالها لتصوير الدماغ، يستهلك
أدوية تؤثر على الدماغ، وبما أنها تؤثر على الدماغ تؤثر أيضا على
إفرازاته الكيميائية، التي عادة ما نعتمد عليه في صورة الدماغ.
كان جيغانتي يأخذ حبوبا للأمراض النفسية، وأخرى التوتر العصبي،
وثالثة مهدئة، ورابعة تساعده على النوم. هذا ما جعل الدكتور جوناثان
يشك في صور الأشعة، ما جعله يلجأ لفحص المريض.
عندما دخل إلى غرفة المراقبة التي عوين فيها، فوجئت جدا في البداية
بملامحه، فقلت في نفسي يا إلهي! لا شك أنه مريض فعلا. لا شك في أنه
مريض فعلا. دخل إلى الغرفة يرتدي روب الحمام وهو يرتجف ويتلعثم، وكان،
يوحي بالتحدث عن الله.
ولكن مع تقدم الفحوص، أخذ سلوك جيغانتي يثير بعض الشك.
من الأشياء التي صدمتني ولم أتنبه لها في البداية إلا بعد ثوان قليلة
هي أني حين مددت يدي لمصافحته، لم يصافحني. وهذا سلوك أوتوماتيكي،
غالبا ما يصافح المرء ألد أعدائه، حين يمد يده مصافحا، فيميل إلى
قبولها.
حين سئل جيغانتي عن أسماء أبنائه لم يعرفها، وحين سئل عن عنوانه، لم
يعرفه.
وهذه أشياء عادة ما لا ينساها الناس، فالدماغ عادة ما يعمل على مسألة
الحسابات، ما يجعله ينسى الذكريات الحديثة، ولهذا كثيرا ما يتذكر
غالبية المرضى أحداثا وقعت منذ زمن بعيد، رغم عدم تذكرهم الأحداث
القريبة. فلم يتجاوب في هذا المجال. حتى أنه سئل عن اسم رئيس الولايات
المتحدة ، وهو سؤال نطرحه كوسيلة عامة لمعاينة الحالة. فهز رأسه وحركه
بعدة اتجاهات وقال: يجب أن أعرف هذا، يجب أن أعرف هذا الجواب، إنه في
مكان ما.. ثم طرحت بعض الأسئلة الأخرى ليجيب عليها بالقول، يجب أن
أعرف الجواب فعلا. وأخيرا رد بالقول، بوش، جورج بوش. فقلت في نفسي، يا
إلهين لقد تذكر السؤال. لم تنجم صدمتي عن عدم معرفته للجواب الصحيح، بل
لأنه تذكر طرح السؤال عليه، رغم جميع الأسئلة المتشعبة الأخرى.
ثم ظهرت عدة مؤشرات أخرى، توحي لفهمه المسائل التجريدية، سأله الدكتور
جوناثان إن كان فخورا بأبنائه.
لا شك أن الفخر مفهوم تجريدي فعلا. ولكنه أجاب بالقول: نعم إنهم يعملون
جميعا، ولديهم أعمال مناسبة. ولكن هذا لم يكن جزءا من السؤال. الرد
بالعمل المناسب يعني أنه استطاع استخلاص فكرة، عما يكمن وراء السؤال
المحدد من فكرة مجردة، وبالتالي التمييز بين ما هو مناسب، وغير مناسب.
أذكر هنا أننا أمام شخص لا يعرف في أي شهر نحن، لم يكن يعرف أنه في
المستشفى.
أدت هذه المعلومات إلى استخلاص توصل إليه الدكتور جوناثان عبر
معاينته من أن جيغانتي لا يعاني من تورم في شرايين الدماغ أو تشوه في
الأنسجة أو انفصام في الشخصية.
الحراسة المشددة التي فرضت على جيغانتي قبل صدور الحكم عليه
وجد أن سلوك جيغانتي كان طبيعي. وقد أكد الحرس أنه كان يتبع سلوكا
يحترم فيه جميع العاملين في المستشفى. كما لم يتطلب أي مساعدة في
الحمام أو تغيير الملابس أو الطعام.
كثيرا ما ردد المحامون أنهم يعجزون عن التحدث مع فينسينت جيغانتي أبدا.
ولكنه حين كان في السجن تمكن من التحدث مع مستشار السجناء، كما تعامل
باستمرار مع زملائه السجناء ممن كانوا يقدمون له الخدمات اللازمة،
ليتبين في نهاية المطاف أنه كان يعرف كل شيء، كان يدرك أنه يخضع
للمحاكمة، ويعرف أن غروفانو هو الذي وشى به قائلا أشياء فظيعة عنه، كان
يعلم أن الحكم على وشك الصدور ويعرف ما هي التهم الموجهة إليه، وأنهم
يعملون على إثبات قدرته على تحمل الحكم، وهذا ما يتناقض كليا مع ما كان
يقوله المحامون.
اعتقد بعض أطباء النفس أن جيغانتي لا يتمتع بالصحة العقلية، وقال
البعض الآخر أنه مدع. بعد خمسة أشهر تخللتها عشرات الفحوص، أصدر القاضي
حكمه، وذلك بالقول: آخذين بعين الاعتبار قدرة المتهم على التواصل مع من
حوله كغيره ممن هم في سن التاسعة والستين ذوي العلم المحدود، لا يوجد
أي مخاوف تجاه قدرته على تحمل الحكم. وهو يفهم الإجراءات الأساسية
المتعلقة بالقوانين. وهو يدعي المرض لتفادي العقوبات التي يخافها.
المتهم قابل لتلقي الحكم والتعرض لقضاء عقوبة السجن المتناسبة مع
جرائمه.
وصف شاليرو الجهود التي بذلتها الإف بي أي والقضاء بأنها
تاريخية وشجاعة.
هذه معركة أمضيت فيها السنوات العسرين الأخيرة، ولا شك أن عددا من
العملاء الآخرين سيعملون عليها طوال السنوات الخمس أو الست القادمة.
إذا استمر بذل الجهود، وتقديم الموارد اللازمة، أعتقد أننا سنتمكن فعلا
من إضعاف نفوذ وأعمال كوزا نوسترا.
لا شك أن انتصار السلطات في قضية جيغانتي كان جزئيا، إذ عجز القضاء عن
إثبات تورطه في تهم الاغتيالات الستة. أما الهدف فقد تحقق بالكامل.
أصبح فينسينت جيغانتي في السجن، حيث يمضي اثني عشر عاما بتهمة التآمر
على القتل والابتزاز والتهديد، فحرم من السلطة المخيفة التي كان
يمتلكها.
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م