|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
يوجز الفنان اللبناني رفيق علي أحمد, في مسرحية "الجرس", حواراً بريئاً
بين راعٍ لبناني ومسلح فلسطيني كان يهمُّ بإطلاق صاروخ نحو احدى
المستوطنات الاسرائيلية, فيتوسل الراعي المسلح أن يطلق صاروخه نحو
البلدة اللبنانية بدلاً من المستوطنة الاسرائيلية, اذ ان اصابة الأخيرة
بصاروخ فلسطيني سيرتد على البلدة اللبنانية بمئة صاروخ اسرائيلي, مما
يعني ان سقوط الصاروخ الفلسطيني على بلدة الراعي سينقذها من 99 صاروخاً
اسرائيلياً! هذا المشهد الذي لا يخلو من عفوية تعي تعقيدات الصراع
العربي - الاسرائيلي, يكاد ينطبق بمرارته وحرارته ودراميته على الداخل
الفلسطيني, انطلاقاً من توثين بعض الفصائل الفلسطينية "الجهاد"
الصاروخي, وانزالها اياه في خانة القداسة أسوة بـ"النضال" الصاروخي
الذي عاشه لبنان في سبعينات القرن الماضي, وأفضى في النهاية الى خروج
المقاومة الفلسطينية منه عام 1982.
واشكالية "الجهاد الصاروخي", أو ما بات يعرف بـ"عسكرة الانتفاضة", تطرح
على العقل السياسي الفلسطيني ثقلاً تاريخياً دامياً وخاسراً جراء
انجذابه الى فخ الخطابية ورومانسية الشعار, ولفظه الاستعداد لمراجعة
حقبات النضال الستينية والسبعينية, وتعريب قمحها عن زؤانها, على أن
مقاصد القول بمراجعة حقبات النضال السابقة, لا تخرج عن اعادة النظر
بالتجربتين الأردنية واللبنانية, حين سادت الحقبة "الوطنية"
الفلسطينية, ولترثها منذ عقد على الأقل, "الحقبة الإسلامية" بكامل
أوصافها ومصطلحاتها ومفاهيمها باستثناء الفارق الايديولوجي بينهما,
فضلاً عن متغيرات اصابت "حملة الرايات", إذ تحوّل الوطنيون الفلسطينيون
الى "اليمين", فيما نحا الإسلاميون نحو "اليسار".
والمفارق في اعادة عملية الاصطفاف الفلسطينية لم يكن أكثر من فعل
اصطفاف بشري لا يرتبط بأي اضافات على مستوى الفكر السياسي ولا على
آليات المواجهة مع اسرائيل, ولدى استحضار بعض المفردات والمصطلحات
الشائعة في الراهن الإسلامي الفلسطيني, ومقارنتها مع الماضي الوطني
الفلسطيني, ستكون النتيجة: "الانتفاضة" في مقابل "المقاومة", و"استمرار
الانتفاضة" في مقابل "ديمومة الثورة", و"صواريخ القسام" في مقابل
"العمليات الانتحارية", و"السلطة الفلسطينية نتاج أوسلو" في مقابل
"الأنظمة العربية نتاج الاستعمار".
هذه الركائز العنوانية التي تحرّك العقل السياسي الفلسطيني والقائمة
على تعاقد مفردات "الديمومة" و"الاستمرار" بما أدى الى جعل الوسيلة
النضالية غاية, بدل أن تكون وسيلة في خدمة الغاية, أنتجت عملياً جُبناً
فكرياً حال ويحول دون إعمال المراجعة في آليات العمل السياسي والعسكري,
اضافة الى استنساخ التجارب الفاشلة التي تبلورت مقدماتها في الأردن
وانتقلت بحذافيرها الشعاراتية والعملانية الى لبنان, وتالياً الى
الداخل الفلسطيني, وفوق هذا وذاك, أثمر الاقلاع عن الفكر النقدي
لمجانبة العقل السياسي الفلسطيني لمفهوم "الدولة" واصطدامه معها أينما
حلّ, وهذا ما تشي به سلبية العلاقة التي ربطت بين العقل الجهادي
الفلسطيني والرئيس الراحل ياسر عرفات, أو التي ربطت منظمة التحرير
سابقاً مع كل من الأردن ولبنان.
إذاً, مجانبة العقل السياسي الفلسطيني لمفهوم "الدولة" وعدائيته لها,
احدى ثمار غياب النقد الذاتي.,وفي حال ذهبت أوراق التاريخ الى استدعاء
التجربة الفلسطينية في الأردن, سيُلاحظ سريعاً ثلاث خلاصات, أولاها
مطلق العداء من جانب العقل السياسي الفلسطيني للدولة في الأردن,
وثانيتها اشاعة مفهوم "الساحة", أي تحويل الأردن "ساحة للثورة",
وبالتالي لبنان (من نتاجات تلك الحقبة ما غدا يعرف بـ"مسؤول ساحة
الأردن" أو مسؤول ساحة لبنان), من دون الالتفات الى ابتذالية هذا
المفهوم, وثالثتها اللامبالاة تجاه الخراب والدمار الناشئين عن توثين
المصطلحات وتأليهها.
في الحديث عن التجربة الأردنية, يتقدم تشخيص ذو دلالة للقيادي
الفلسطيني شفيق الحوت إذ يقول "ان المقاومة الفلسطينية أرادت أن تملك
قرار الحرب والسلم في الأردن (ولبنان), وهذا قرار سيادي لا يمكن أن
تقبله أي دولة". ("النهار" اللبنانية في 7-7-2004).
وانطلاقاً من هذا التشخيص يمكن تحديد مكمن الخلل الأول في نمط التفكير
السياسي الفلسطيني في تلك الحقبة, والمتحول على عجالة الى مقدمة اصطدام
بالدولة الأردنية, ومن ثم الاتجاه نحو اسقاطها وربما الحلول مكانها,
وهو ما تبدى واضحاً في بيانات لتنظيمات فلسطينية بعضها تلاشى تماماً,
كـ"الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين" المنشقة عن الجبهة الشعبية
التي اعتبرت في أحد بياناتها (5-4-1972) ان انهاض المقاومة الفلسطينية
من كبوتها وتجاوز أزمتها يشترطان "اسقاط النظام الرجعي (...) في الأردن
لما يمثله من عقبة أساسية في الطريق الى التحرير, من خلال تنفيذه
المخططات التصفوية الامبريالية (...)", ناهيك عن الموقف العدائي من
الدولة (النظام في التعبير السياسي الفلسطيني) الأردنية, كبيان "اللجنة
المركزية للميليشيات الشعبية" ( 8-6-1970) التي احتجزت أفراداً من
القوات الأردنية الخاصة ووضعت لاطلاقهم شروطاً تمس بناء الدولة
الأردنية وأمنها ومنها المطالبة بعزل بعض أركان الدولة مثل الشريف ناصر
والشريف زيد, وعلي بن نايف, وزيد بن شاكر, وسعد الدين قاسم ومضر بدران
وزهير الحسين. وكذلك الدعوة لإسقاط "النظام" الأردني كما في البيان
الموجه الى القوات العراقية من "اللجنة المركزية لمنظمة التحرير
الفلسطينية" ( 18-9-1970), لـ"المشاركة في المعركة والتدخل الفوري فيها
ومساندة قوى الثورة من أجل اسقاط حكم (...)", أو في البيان الصادر عن
"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" (13-9-1970) والداعي "جماهير شعبنا
البطل لأن تضع أيديها على الزناد لاسقاط الحكم العسكري".
هذه النماذج التي تتقاطع حول الدعوة لإسقاط النظام السياسي في الأردن
والتي أجّجت الصدامات المسلحة في وقت لاحق بين الجيش الأردني ومنظمة
التحرير استمرت على ثباتها من دون مراجعة في مرحلة ما بعد انتقال
الفصائل الفلسطينية الى لبنان و"تنظيم" العلاقة مع الدولة اللبنانية في
اطار "اتفاق القاهرة" عام 1969. مثل هذا المنحى السلبي من "الدولة",
أبكرت الفصائل الفلسطينية باتخاذه من الدولة اللبنانية ومؤسستها
العسكرية, ففي بيان صادر عن حركة "فتح" (26-10-1969) بعد حادثة دموية
في بلدة مجدل سلم اللبنانية الجنوبية, ورد انه "كنا نحسب ان رئاسة
الجمهورية (اللبنانية) ستحرص على تفهم الأمور وملابسات المجزرة التي
نفذتها الفئة العسكرية المشبوهة, إلا أننا فوجئنا بأن رئاسة الجمهورية
كان همها تغطية تحركات هذه الفئة المشبوهة".
هذا البيان صادر عام 1969, وهي السنة التي يؤرخ لها بعضهم بأنها بداية
الحرب الأهلية اللبنانية, وفي البيان قول صريح لا يخلو من رمي تهمة
الشبهة على الرئاسة اللبنانية والجيش اللبناني, وهذا ما يكمله بيان آخر
صادر عن "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" (30-5-1970), تُعلن فيه "الرفض
القاطع لفرض الوصاية على العمل الفدائي باسم التنسيق, واعتبار اجراءات
السلطات اللبنانية الرجعية الأخيرة محاولة لاحتواء العمل الفدائي كخطوة
على طريق تصفيته". وعلى هذه الحال, غدت السلطات اللبنانية مشبوهة
ومتآمرة ورجعية, وغير مأمون التعامل معها, ولذلك وفقاً لبيان "اللجنة
السياسية العليا لشؤون اللاجئين الفلسطينيين" في لبنان (24-12-1970),
تم الاتفاق بين الدولة اللبنانية والمنظمات الفدائية, على "أن يتولى
الكفاح المسلح (الفلسطيني), معالجة كل المخالفات المتعلقة بأمن الثورة
وسلامتها (داخل المخيمات الفلسطينية), وأن يتولى الدرك (اللبناني) الذي
سينشئ مخافر خارج المخيمات, وبالتعاون مع رجال الكفاح المسلح ملاحقة
القضايا التي لا تمس أمن الثورة".
الصورة السابقة كما يرسمها بيان "اللجنة السياسية العليا", لا تعني
أكثر من تقليص نفوذ الدولة اللبنانية على أراضيها, وقيام دولة داخل
الدولة في لبنان, وبطريقة أسهمت بعد سنوات قليلة (1975) في اندلاع
الحرب اللبنانية. وفي الانتقال الى الداخل الفلسطيني, لا يبدو مستقبل
العلاقة بين السلطة الفلسطينية والفصائل المسلحة حاملة نظرية الثورة
الدائمة بعيداً من حلقات الاصطدام بين الثورة والدولة مثلما كانت الحال
في التجربتين الأردنية واللبنانية, مع ملاحظة اعادة اصطفاف بشري وسياسي
بين الأطراف الفلسطينية المعنية. فحركة "فتح" التي شكلت عمود الصدام
بين الفصائل والدولتين الأردنية واللبنانية, باتت هي "الدولة" في
فلسطين, فيما حركة "حماس" تبدو مستعدة للاتجاه اليساري لدى الفصائل
الفلسطينية في تجربتها الأردنية, وفي الوقت نفسه, فإن فصائل اليسار
الفلسطيني, خصوصاً الجبهتين الشعبية والديموقراطية اللتين تصدرتا أواخر
العقد السادس من القرن الماضي مهمة رفض اقامة الدولة في قطاع غزة
والضفة الغربية, لم تعودا بعيدتين عن التوافق مع مرحلة ما بعد أوسلو,
بعدما كانتا تُطربان أنصارهما بالتحرير المنشود من النهر الى البحر,
وهو التطريب الذي بات احدى سمات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في هذه
المرحلة. وكعود على بدء, أي الى حقبة السبعينات, ينبغي استدعاء بيان
صادر عن الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين, يقول: "تتجه الامبريالية
الأميركية والصهيونية في هذه الآونة لوضع صيغة نهائية لانشاء دولة
فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني بهدف تصفية القضية الفلسطينية...
فالإمبريالية العالمية تتبنى اليوم مشروعاً لإقامة دولة فلسطينية في
الضفة الغربية وقطاع غزة" (30-10-1970).
وكما أصبح واضحاً في الراهن السياسي الفلسطيني, فإن حملة رايات الثورة
الدائمة من الوطنيين الفلسطينيين, غدوا في مقلب يتسع كثيراً لمفردات
العمل النضالي وآلياته, بعدما ضيّقوا طويلاً قواميس اللغة واختصروها
ببضعة شعارات سدّت الأبصار عن تململات "الجماهير" وسخطها على قليل من
الرصاص والصواريخ التي تنطلق باتجاه العدو, لترتد على "الجماهير" ذاتها
خسراناً مبيناً ودماراً فاحشاً, فضلاً عن احتراق قطرين عربيين من
الداخل. وإذ غادر هؤلاء الوطنيون مقاعد ليون تروتسكي وديمومة الثورة
احتلها الإسلاميون الفلسطينيون بحذافير خطابها وآلياتها, مع انزال
البعد المقدس عليها, من دون النظر الى حجم الخسائر التي ينتجها التطرف
في "عسكرة الانتفاضة", أو الى سخط "جماهير" بيت حانون وغيرها من "رجال
القسام", وأخيراً, من دون أن يقف "اليسار الإسلامي الفلسطيني" وقفة
مراجعة مع عقل سياسي فلسطيني يتوارث نظرية التناقض مع "الدولة" والسعي
للصدام معها طلباً لتحويل الأرض والناس "ساحة" لا مرجعية لها سوى
جنازات وقبور متحولة الى أوطان للموتى وأناشيد للشهداء.
--------------------انتهت.
الكاتب:
الحياة
المصدر: 23-01-2005
تاريخ
النشر:
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م