|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
ذروة الوفاء
كانت تجلس يومياً منذ ساعات الصباح
الأولى عند محطة القطار الوحيدة في المدينة، تأخذ الخيطان من حقيبة
تحملها ثم تبدأ في حياكة كنزة جديدة بكل تركيز واهتمام، ولا ترفع رأسها
عن إبرة الصوف إلا عند وصول أحد القطارات، حيث تقف متفرسة في جميع
الوجوه، تبحث فيها عن ملامحه، وما أن يرحل الركاب كل إلى سبيله حتى
تعاود الجلوس على ذلك المقعد الخشبي لتتابع الحياكة حتى حلول الظلام،
فترحل.
لم تكن لتتأخر يوماً واحداً عن ذاك الروتين، تحمل خيطانها
وتجلس على ذلك المقعد الخشبي، وتبدأ في الحياكة منذ الصباح حتى المساء،
تنهض بين الحين والآخر متلهفة للتطلع في وجوه المسافرين فلا تجده
بينهم، فتعاود جلستها الهادئة حتى المساء، وتعاود الحياكة دون ملل أو
تعب.
وقد استغرب عمال المحطة أمرها خلال الأعوام الأولى، خاصة أنها أنت في
المساء تعاود جمع الخيوط التي كانت نسجتها طوال اليوم في مكب لم تستعمل
سواه على مدار الخمسين عاما التي شهدت ترددها على محطة القطار.
واحتار بالأمر أبوها، فحملوها إلى الأطباء النفسيين، إلا أن جميعهم
أثبت بالتقارير المكتوبة أنها بكامل قواها العقلية، وليس في الأمر إلا
أنها تنتظر شاباً وعدها بالزواج بعد أن يعود من السفر، وأكد لها إنه لن
يتأخر أبداً، بل سيعود قبل أن تنتهي من حياكة الكنزة التي بين يديها.
هذا ما كان يجعلها تعيد الخيطان إلى المكب مرة أخرى مساء كل يوم،
لتعاود الحياكة من جديد صباح اليوم التالي، حتى لا تنتهي من الكنزة قبل
أن يأتي، فقد وعد بأن يصل إليها ويعود حبهما ويتزوجا، وكانت تنتظر، فهي
تعرف أنه صادق في وعده وأنه لا بد سيعود.
ومرت الأيام، ومرت أكثر من خمسين سنة، وغزا الشيب رأسها، والتجاعيد
ملامحها، وانحنى ظهرها، وضعف بصرها حتى صارت تحتاج لمزيد من التمحص
والتفحص في الوجوه المسافرة علها تتعرف بينها على ملامحه دون جدوى.
لم تعتد ذلك أبدا، بل كانت تأتي بالحماس نفسه، ولم يتحكم بها الروتين
بل كانت تتسلح بالاهتمام ذاته، ولم ينتبها الملل أو التعب وتوهي
عزيمتها، بل كانت تنتظره بالشوق ذاته والحب ذاته… إلى أن أتى.
حين أتى، كان أخر المسافرين، نزل من القاطرة بمساعدة أحد الموظفين وطأت
قدمه الرصيف وهو يلتفت نحو مقاعد الانتظار، ويبحث في جميع الأركان علها
مازالت بانتظاره، لكنه لم يجدها هناك، لم يكن هناك سوى امرأة طاعنة
بالسن تحمل عكازاً، وقفت أمامه لحظة ثم عاودت الجلوس وتابعت الحياكة.
تعرف بها من حياكتها الهادئة، ومن لون الصوف الذي كانت تحمله، وقف
أمامها وكأن إحساسه وقلبه يدلانه، ثم ناداها باسمها وعرفها بنفسه، وأكد
لها أنه عاد كي يفي بوعده الآن بعد أن فشل في العودة من قبل.
بقيت جالسة تتأمله، وكأنها لا تصدق ما تراه، كانت تعرف أنه سيعود، وقد
عاد، كانت متأكدة أنه سيأتي قبل أن تنتهي من الحياكة، ولكن ما لم
تتوقعه أبدا أن يكون على هذا الحال، أين شبابه؟ أين وسامته؟ أين
ابتسامته العريضة؟ وإشراقة وجهه التي انتظرتها طويلاً؟ وهل أمضت كل
العمر من أجل هذا العجوز، وهل دفعت بسنوات شبابها من أجل حبيب على حافة
الموت؟
هذه الأسطورة، قد تجعلنا نفكر ملياً كيف نقضي سنوات العمر؟ ولكنها
تدعونا أيضاً لوقفة تأمل وجدانية كي نتساءل: ألا يستحق الوفاء منا وقفة
إجلال كهذه؟
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م