|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
باريس
في الرابع عشر من تموز يوليو من عام ألف وسبع مائة وتسع وثمانين, انتفض
آلاف من أبناء باريس بغضب عارم ضد حكامهم.
واستمرت المعركة طوال اليوم.
أصبح مصير الشعب الفرنسي ومصير السلطات الملكية يتأرجح على كفتي
ميزان.
أحداث ذلك اليوم الدامية غيرت فرنسا إلى الأبد.
يوم الرابع عشر من تموز يوليو من عام ألف وسبع مائة وتسع وثمانون,
خرجت حشود باريس الغاضبة إلى الشوارع. وكان جل غضبهم يرتكز على
الباستيل, أشد السجون الملكية خوفا.
برز في ذلك اليوم من بين الحشود رجلان من عامة الشعب. كان أحدهما من
النبلاء البيروقراطيين العاملين في خدمة الملك.
وكان الآخر من صانعي الساعات. وقد ساهم كل منهما في تقرير مصير فرنسا
عبر ذلك اليوم دون معرفة ذلك.
وعاش أحدهما ليتحدث عما جرى.
بيرنارد دي لاوني كان حاكم سجن الباستيل, حيث أمضى كل حياته هناك. بما
أنه ولد في الباستيل, ورث المنصب عن والده. لم يبرز دي لاوني بأي موضوع
على الإطلاق, إلا في مسألة واحدة, وهي أنه يعجز عن حسم أمره.
عمل جان بابتيست هومبيرت من سكان باريس, في صناعة مجوهرات الملك, لهذا
تمكن من الحصول على بيت يأوي أليه وطعام يكفيه, ولكنه ضمنا كان يلوم
الحكومة الملكية لكثرة المشاكل المنتشرة في فرنسا.
صيف عام ألف وسبع مائة وتسع وثمانين, عمت الفوضى في مدينة باريس, التي
أهلكتها الضرائب والعوز, فخرج الناس إلى الشوارع بحثا عن الطعام.
تحول التمرد من أجل الخبز إلى تمرد شامل يوم الثاني عشر من تموز يوليو
وانتشرت أعمال السلب في أرجاء المدينة.
سحقت مجموعات الشرطة الصغيرة. فشكل بعض مواطني باريس فرق من المليشيا
للسيطرة على التمرد. استولوا على الشوارع مسلحين بالسيوف والرماح.
سارع جان بابتيست هومبيرت بالانضمام, وتخلى عن تجارته استعدادا
للمراهنة على حياته في شوارع باريس.
يوم الأثنين الثالث عشر من تموز يوليو تجول في الشوارع طوال النهار
والليل, وهو مسلح بالسيف, على اعتبار أن الأسلحة النارية لم تتوفر في
دائرته.
انتهزت أعمال السلب فرصة الأوضاع المتدهورة, لهذا كان دور هومبيرت
بالغ الأهمية.
مع نهاية عام ألف وسبع مائة وثمانين اقترحت الحكومة تخفيض سلطات
الملك. دعم سكان باريس الجائعين موقف الحكومة على أمل أن تأتي لهم
تحديات العرش بالغذاء.
حكم لويس السادس عشر فرنسا طوال أربعة عشر عاما. حيث تمتعت الملكة
ماريا أنطونيتا بحياة من الرفاه على اعتبار أن هذا من حقها الطبيعي.
كانا يعيشان وسط بلاط استعراضي في فيرساي, على مسافة ثمانية عشر ميلا
من باريس.
كانوا ينعمون بالمأكل والمشرب في حين كان الشعب يعاني من جوع سافر.
تطلع البرلمان والشعب إلى ردة فعل حاسمة من الملك. بينما كان لويس
يفضل لعبة الانتظار. فبقي في فيرساي مع بلاطه وأرسل مزيدا من القوات
إلى باريس.
حسم لويس أمره بمواجهة التمرد في البرلمان والشوارع. لا يمكن لأحد أن
يضع الشروط على الملك. فإذا لم يتمكن من فرض السلطة عبر الأوامر
الملكية سوف يلجأ لاستخدام القوة.
يوم الرابع عشر من تموز يوليو كانت وحدات الملك بعيدة عن باريس.
صباح ذلك اليوم كان جان بابتيست هومبيرت يقوم بواجبه بعد, وكان متعبا
من دورياته التي استمرت طوال الليل.
ساد إحساس بأن الأوامر القديمة فقدت سلطتها, وما كان أحد يعرف ماذا
سيحل محلها.
كان ذلك يوم الثلاثاء, حيث ذهب القليل من سكان باريس إلى العمل, بما
في ذلك هومبرت.
بعد أربع وعشرين ساعة من القيام بالواجب, سلك هومبيرت طريقه إلى
البيت. فرأى جميع مواطني باريس يجتمعون لمناقشة خطوتهم التالية.
انتشرت شائعات عبر الشوارع تقول أن قوات الملك في طريقها إلى باريس
لتحل المليشيات وتعيد سلطة العرش.
ماذا يجري؟ ما الذي جرى؟
جرب مواطنو باريس طعم السلطة ليومين, ولم يكونوا مستعدين للتخلي عنها.
وأخذت أصداء كلمتين, لم يجرؤ أحد على قولهما من قبل, تترددان في أرجاء
المدينة: "إلى السلاح, إلى السلاح!!"".
حشود هائلة, قاربت الثمانين ألف شخص, انطلقت نحو المستودعات حيث يمكنها
العثور على أسلحة: لس إنفاليد.
كان لس إنفاليد مستشفى عسكري هائل يقع على الضفة الشمالية من نهر
السين.
تم بناؤه لمعالجة المصابين أو المحاربين الفرنسيين القدامى.
أكثر من اثنين وثلاثين ألف بندقية كانت مخزنة في طابق تحت الأرض هناك,
ما يكفي لتسليح جيش بكامله.
وكانت الحشود تصرخ: " سلاح, سلاح, أعطنا سلاح".
رفض حاكم لس إنفاليدس أن يرضخ لماطلبهم بقوله:
"لا أستطيع أن أعطيكم أسلحة, بدون أوامر من الملك".
وكإجراء احتياطي أمر عشرون من المحاربين القدامى بتعطيل البنادق, عبر
فك الطوارق منها. ولكن المتقاعدين عدلوا مواقفهم, فاستغرقهم الأمر أكثر
من ست ساعات لتعطيل عشرين بندقية.
كانت الحشود تفوق بكثير ما يملكه حاكم لس إنفاليد عددا. فما كان
بإمكانه سوى الوقوف هناك ليتفرج على الثمانين ألف شخص وهم يدافعون
بالقوة إلى المستودعات لمصادرة البنادق. ولكنهم لم يعثروا على ملح
البارود أو طلقات لأسلحتهم.
انطلقت الحشود تبحث عن الذخائر.
لم يكن هناك سوى مكان واحد في باريس يمكنهم فيه العثور على ملح البارود
وما يلزمهم من ذخيرة: الباستيل.
على الطريق التقى هومبيرت ببعض الفارين ممن أكدوا بأن جيوش الملك تتجه
نحو باريس.
تركت الحشود لس إنفاليد خلفها وانطلقت إلى الضفة الأخرى من نهر السين
متوجهة إلى الباستيل.
يتمتع الباستيل بثمانية أبراج تتواصل فيما بينها عبر جدار بسماكة خمسة
أقدام.
يعتقد الكثيرون أنه مكان للتعذيب يرسل الملك سجنائه إلى هناك حيث تختفي
آثارهم بالكامل.
وبالفعل يوم الرابع عشر من تموز يوليو عثر على سبعة سجناء في الباستيل,
كان أربعة منهم مزورين أما الخامس فكان جوليوس القيصر, أو هذا ما كان
يعتقده.
حين سمع الحاكم دي لاوني عما جرى في لس إنفاليد, سارع في بدء العمل.
فوضع حراسات لمراقبة مواطني باريس المتمردين.
في طريقه إلى الباستيل كان صانع الساعات متشوقا للعثور على الذخيرة في
الباستيل, فحسم أمره لشراء المسامير.
في هذه الأثناء, كان الجنرال دي لاوني يعمل على تحسين دفاعاته.
أصدر أوامر لقواته بإخراج ملح البارود ووضع المدافع في مواقع لإطلاق
النار.
كان دي لاوني واثق من نفسه.
البنادق في مواجهة المدافع. والغريب أنها لمواجهة صانع الساعات ورفاقه,
الذي سبق لقلة منهم أن استخدموا البنادق, كما لم يسبق للبعض الآخر أن
سمع إطلاق النار في حياته. وهذا هو حال دي لاوني أيضا.
اتجه هومبيرت والحشود المرافقة له إلى شارع سان أنطوان. فظهر مشهد
الباستيل أمام أعينهم.
كان دي لاوني يعلم أن هناك طريقا واحدا للوصول إلى الباستيل, فما أن
رأى الحشود تقترب حتى أمر برفع الجسر المتحرك .
في تمام الواحدة, كان الآلاف من أبناء باريس يحاصرون الباستيل. توترت
أعصاب المائة وأربعة عشر جنديا الذين في داخله وهم يحملون أسلحتهم.
تابعت الحشود تقدمها نحو الباب الرئيسي الأول للمبنى.
أصبح الحاكم آخر حماة السلطات الملكية في المدينة. ولكنه أسير عدم
قدرته على حسم أمره.
فهل يفتح الأبواب ؟ أم يفتح النيران؟
في محاولة أخيرة يائسة للحؤول دون سفك الدماء, دخل وفد إلى الباستيل
لإقناع الحاكم بتسليم ملح البارود الذي في الباستيل.
طلب دي لوني وقتا للتفكير بالأمر. وأكد للوفد أنه لن يفعل شيئا يسبب
أذى للناس. وأقسم ألا يفتح رجاله النار إلا إذا تعرضوا للهجوم أولا.
ولكنه رفض أن يسلم حبة ملح بارود واحدة.
خارج جدران الباستيل كانت الحشود تنمو وتتزايد.
واستمر الاجتماع لفترة طويلة. فجدد المحتشدون هجومهم خوفا من تعرض
الوفد للاعتقال. حتى خرجت الأمور من بين أيدي الجميع.
تمكن مواطنان من قطع سلاسل الجسر الخارجي.
اعتقد الجميع أن الحاكم قد استسلم, فتقدمت الحشود إلى الداخل, إلا أنهم
ارتكبوا خطأ جسيما. فأطلق بعض الجنود النار.
تذكر صانع الساعات ذلك الحدث بالقول: "كان حادثا مفجعا. قتل رجل مسكين
وأصيب آخر ولكن أحدا لم يتنبه للأمر".
"لم يعرف أحد من بدأ بإطلاق النار. ولكنا سارعنا جميعا للتغطية."
بعضهم لم يتمكن من الوصول إلى منطقة آمنة, ولكن خلال دقائق كان البلاط
المواجه للسجن الملكي, مدرج بدماء عناصر الكمونة.
حتى تغير كل شيء منذ تلك اللحظة.
جاءت الحشود أولا لتبحث عن ملح البارود, أما بعد ما جرى, فقد خرجوا
لإراقة الدماء.
كانت البنادق غير فعالة في مواجهتها لجدران الباستيل ومدافعها. ولكن في
الثالثة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم,وصل ثلاث مائة مواطن مسلح
للمساعدة في الاستيلاء على الباستيل, كان من بينهم اثنين وستين جنديا
فارا من جيش الملك, يوجهون سلاحهم في الاتجاه المعاكس.
سجل وصول القوات الفرنسية منعطفا هاما. تحول المتمردون إلى جيشا, وشكلت
المليشيات حصارا. أما داخل جدران الباستيل, عادل المتمردون الأسلحة عند
الجسر المتحرك الثاني الذي أصبح العائق الأخير في طريق النصر.
لم يكن دي لاوني قد تلقى تدريبات كقائد عسكري, وكان عاجز تماما عن
التعامل مع الحشود الغاضبة.
كانت الحشود قد تعرضت لخسائر جسيمة, ولكن وصول المدفع منحهم الفرصة لرد
الضربات.
لم يثق جنود الباستيل كثيرا بحاكمهم. فقد كتب أحدهم فيما بعد يقول:
"كان رجل لا يعرف الشجاعة, فمن عادته أن يستمع إلى نصائحنا ويتصرف على
العكس مباشرة قبل أن يغير رأيه".
مع تقدم ساعات الظهيرة أصبح المهاجمون أكثر إصرارا على تحطيم السجن
والنيل من حاكمه المتعجرف.
علم دي لاوني انه يواجه الهزيمة.
كان يعلم أنه إذا ما سقط الباب الثاني سيتم سحق وحدته الصغيرة بكل
سهولة.
لم يعد دي لاوني يفكر بحماية الباستيل بل بحماية نفسه فقط. كان يعرف أن
وحدته لن تتمكن من المقاومة لفترة أطول. فقرر الحاكم اللجوء إلى
المراهنة.
ما زال يملك مستودع ملح البارود. فكان عليه أن يبلغ الحشود أنه إذا كان
لا بد من موته فسيأخذ من يهاجمونه معه. فقام بصياغة تحذير نهائي للرعاع
المحتشدين في الخارج يقول: " لدينا عشرون ألف رطل من البارود, سوف نفجر
الحصن والمناطق المجاورة له, إلا إذا قبلتم باستسلامنا. من
الباستيل,الساعة الخامسة من مساء الرابع عشر من تموز يوليو من عام ألف
وسبع مائة وتسع وثمانين."
حين علم ظباطه بأمر استسلامه رجوه أن يغير رأيه, فتجاهلهم دي لاوني
تماما. وجعل جنوده يوقعون على الهدنة.
بهذا الخصوص كتب هومبيرت يقول:" ظننا في البداية أن الأعلام البيضاء
كانت خدعة فتجاهلناها".
ولكن عندما ظهر دي لاوني بنفسه استقبلته الحشود عند الأبواب المقفلة.
خرجت عبارات التهديد من فمه كالرصاص. تضاعف غضب الحشود الناجم عن قتل
رفاقهم, بعد ما سمعوه من محاولة تهديدهم بالاستسلام.
" لا شروط, انزل الجسر بلا شروط"!
إنه أول قرار هام يتخذه في حياته, وعليه التفكير مرتين بشأنه, فإما أن
يستسلم ويعيش ما تبقى من حياته بعار الهزيمة,أو أن يستمر بتهديده ويموت
محاطا بدماء الآلاف ممن سيثقلون ضميره.
فقد الحاكم أعصابه, وتبين في نهاية الأمر أن تهديده كان مجرد خدعة.
فاستسلم.
وانتهى حصار الباستيل.
كان صانع الساعات بين أوائل من دخلوا إلى السجن. فسارع إلى تجريد
الحراسات من أسلحتهم ووضعهم تحت المراقبة.
استولت الحشود على مستودع ملح البارود, إلى جانب سبعة من سجناء الملك.
لم يصب أي من جنود دي لاوني بجروح بينما قتل جندي واحد. أما المهاجمين
فكانوا أسوأ حظا إذ قتل منهم ثلاثة وثمانين وأصيب خمسة عشر آخرين.
سلم الحاكم نفسه. وأخرج من الباستيل تحت الحراسة لتتم محاكمته في فندق
دي فيل.
بالنسبة للحاكم ورجاله أثبتت شوارع باريس أنها أشد خطورة عليه من الذين
هاجموا الباستيل. فقد كتب أحد رجال دي لاوني بهذا الشأن يقول:" كانوا
يقذفوننا بالحجارة. وكشفت النساء عن أنيابهن وهن يلوحن بقبضاتهن
مهددين. لم أكن أعرف كيف سأموت ولكني كنت واثقا من أن نهايتي أصبحت
وشيكة.
كان الحاكم يصرخ باكيا: " دعوني أموت. فاستجابت الحشود لما طلبه على
الفور.
دي لاوني كان أول الضباط الذين ماتوا على أيدي الناس ولكنه ليس آخرهم.
طالب الناس بقطع رأسه وبأن يعرض أمام العامة كخائن.
في اليوم نفسه سالت دماء دي لاوني في شوارع باريس. أثناء ذلك كان الملك
لويس يتمتع بالصيد في فيرساي, في هذا اليوم الحاسم من تاريخ فرنسا. كتب
لويس معلقا على ذلك في مذكراته كلمتين فقط: "لا شيء".
بعد سقوط الباستيل, تقدم مقاول بعرض لهدم السجن. فقبل عرضه وبدأ العمل
مستعينا بثماني مائة شخص بين رجل وامرأة مستخدمين الرفوش والمعاول.
استخدمت حجارة الباستيل لبناء جسر جديد فوق نهر السين في باريس. بينما
تحولت قطع أخرى إلى آثار للذكريات.
واحتفل سكان باريس بسقوط سجن باستيل السيئ السمعة والصيت.
جان بابتيست هومبيرت, إلى جانب تسع مائة وأربعة وخمسين مواطنا آخر,
حصلوا على لقب غزاة الباستيل.
تحول سقوط الباستيل إلى رمز للثورة الفرنسية. توج الكلام بالعمل وبعد
أربعة أعوام من ذلك تمكن الشعب الفرنسي من إسقاط العرش وقتل آلاف من
رجاله.
وسجن الملك والملكة وأبنائهم.
في كانون الثاني يناير من عام ألف وسبع مائة وثلاثة وتسعين, قطع رأس
الملك لويس السادس عشر في ساحة الثورة وسط باريس.
فوضع بموته نهاية لمئات السنين من الحكم الملكي في فرنسا.
اختفى هومبيرت من صفحات التاريخ وعاد إلى عمله في صناعة الساعات.
ضمن ما ورد عنه بخصوص أحداث الرابع عشر من تموز يوليو كتب يقول: " لم
أكن أسعى في كل ما فعلته إلى المجد أو إلى المكافأة, بل أعتقد أني لم
أقم سوى بواجبي, وأنا أشعر بالسعادة والسرور لأني تمكنت من مساعدة
فرنسا على استعادة حريتها"
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2006م