|
من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع | ||
|
|
|
خروتشيف
أعلنت صحيفة برافدا في أيلول سبتمبر من عام واحد وسبعين عن وفات نيكيتا
خروتشيف يوم دفنه فقط، وعبر ثلاثة أسطر فقط، لم ترد فيها معلومات عن
موعد ومكان دفنه، الذي لم يسمح للمواطن العادي أن يشارك فيه. لم يسمح
الكي جي بي إلا لأفراد العائلة وبعض الأصدقاء والأجانب في المشاركة.
يعتبر خروتشيف أول زعيم سوفياتي لا يدفن في الساحة الحمراء، فالحزب
الذي قام بخدمته طوال حياته، ما زال يرى أنه يشكل خطورة عليه.
كانوا يكرهونه ويحتقرونه، يدفعهم إلى ذلك الخوف والكراهية معا. وكان
بريجنيف والمكتب السياسي والنخبة السياسة كلها تكرهه، لعدة أسباب منها
ستاليتن، ولأنه حاول أن يحرمهم من امتيازاتهم، ولمحاولاته إصلاح بنية
وعمل الحزب. كانوا يريدون التخلص من كل ما يذكر به.
جاء خريتشوف من أصول فلاحية، إلا أنه حكم المسرح السياسي في روسيا
طوال أحد عشر عاما عبر سلوك خطير لا يمكن لأحد أن يتنبأ شيئا عنه.
كان من دعات التعايش السلمي بين الاتحاد السوفياتي والغرب، مع أنه وضع
العالم على شفير الهاوية حول مشكلتي برلين وكوبا. وقد تميز تاريخه
بالعديد من التناقضات.
كان مثل بعض حكام هذا البلد غارق حتى الذراعين بالدماء، فهو الذي وقع
أوامر الإعدام، واتبع ذات السلوك الذي تبع غيره من قادة هذا البلد.
كان شريك ستالين وخادمه الأمين في ارتكاب الجرائم الدموية، إلا أنه
أوقف الإعدامات وأطلق سراح المعتقلين، ودمر الستالينية.
إنه أول شخص يتحدث عن إمكانيات الديمقراطية في هذا البلد، لم يكن
لدينا ديمقراطية حينها، فقام بالخطوة الأولى، والأشد صعوبة.
رغم أنه كان شخصية لا تتمتع بمستوى تعليمي، وقد خرج من المدرسة في
الحادية عشر من عمره شبه أمي، ولم يتخلى عن تاريخه الفلاحي على
الإطلاق.
إحدى المشكلات الرئيسية التي اعترضته في قيادة بلد كبير مثل هذا هي
أنه لم يكن متعلما، كان تنقصه الثقافة الحقيقية.
جرد التاريخ السوفييتي من اسم خروتشيف، واليوم فقط أصبح بالإمكان
التحدث عن محاولة اغتياله. اليوم فقط يمكن للكي بي جي أن تكشف عمن
خانوا خروتشيف، الذي ما زال تاريخه بعد مائة عام على وفاته، يتميز
بالتناقض والغموض.
حتى بعد أربع سنوات من وفاة خريتشوف، لم يسمح لابنته رادا وعائلته أن
يرفعوا نصبا تذكاريا فوق قبره الذي لم يكن يحمل أي علامة فارقة، وهو
بعيدا عن أنظار الناس، في إحدى زوايا مقبرة نوفوديفيشي في موسكو.
صنع الصرح الذي بني له أخيرا من الرخام الأبيض والأسود، ليكون رمزا
للتناقضات المتعددة للزعيم السابق.
بقي الحزب الشيوعي يعامله كشخصية خطيرة حتى بعد إحالته على التقاعد،
رغم أنه في السبعين من عمره عاش في أحد المنازل تحت الإقامة الجبرية.
أطلقت عائلته مؤخرا هذا الفيلم النادر جدا عن آخر سنوات حياته. كان
جميع الزوار ملاحقين من قبل الكي جي بي، إذ كان بيته مراقبا.
قال خروتشيف لي يوما أنه يخاف أن يصدر صوتا في الحمام لأنهم يتنصتون،
لأنهم يبلغون مباشرة عن قيامه بقضاء حاجته.
تحول الزعيم السوفييتي السابق إلى شخصية منشقة، فقام خلال السنوات
الأخيرة من حياته بكتابة مذكراته، رغم إدراكه بأن الكي جي بي يستمع إلى
كل ما يقوله. استهلك ذلك خمس سنوات، يجيب خلالها على جميع الاتهامات
التي وجهت إليه من قبل الذين حلوا محله، قال فيها، دعوا الشعب يحكم
علي.
أسكن اليوم كالمتصوفين في ضواحي موسكو، ولا أكاد أتمتع بأي صلة مع
الناس، إلا الذين يحموني من الآخرين، ويحمون الآخرين مني. بالعودة إلى
السنوات الماضية، لا شك أني أدنت أكثر الأحداث عنفا في الحكم
الستاليني، وخصوصا تلك التي أساءت إلى مجتمعنا السوفييتي.
جاء خروتشيف من أصول فلاحية، حيث كان يعنى برعاية الخراف والأبقار.
عمل والده في حفر المناجم ضمن منطقة أوكرانيا. لحق نيكيتا والده في
الخامسة عشرة من عمره، حيث بدأ يعمل هناك في إصلاح المعادن، وقد انطلقت
طموحاته السياسية من هناك، حيث تحول إلى زعيم نقابي محبوب بين عمال
المناجم.
وبدأ منذ تلك اللحظة يترقى في المناصب الحزبية على اختلافها. بعد لقائه
بستالين تحول خروتشيف إلى جزء من النخبة الحزبية، ودفع ثمن ذلك بإخلاصه
المتفاني وعمله المستمر. شعر ستالين بارتياح أكبر حيال شاب أقل ثقافة
من عمال الحزب. كما شعر العضو الشاب بالإعجاب والدهشة حيال الزعيم
المحبوب.
لا شك أني أعجبت جدا بستالين، وذلك لاهتمامه الدائم ورعايته الفائقة
وعنايته بي. كل ما أراه وأسمعه من ستالين، كان يثير الحماسة بي، لقد
فكرت به مليا، بعد أن بدأت أعرفه أكثر وأكثر.
عين خريتشوف عام واحد وثلاثين، وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره رئيسا
لبلدية موسكو، كي يشرف شخصيا على بناء شبكة الميترو.
تم بناء الميترو بسرعة البرق وعلى حساب مئات الأرواح، في مرحلة كان
يموت فيها الآلاف وسط حكم ستالين، الذي كان يرى أن أعداء الشعب في كل
مكان، وقد ساعده على تحديد أسمائهم.
علينا أن نقاتل بحماس ضد أعداء الطبقة العمالية، هذا ما تسعى إليه
الطبقة العاملة والأمة. هكذا سنتخلص من المستغلين، بحيث يتمكن العمال
من الإمساك بزمام السلطة بين أيديهم.
أرسل الكثيرون إلى مخيمات العمل الشاق في سيبيريا من حيث لم يعد إلا
قلى قليلة.
جرت أعمال القمع بمبادرة من خروتشيف داخل موسكو ومن حلها حيث كان
مسئولا. فاعتقل بناء على أوامره اثنين وستين ألف عضو ناشط، تم القضاء
على الكثيرين منهم.
أما الذين كانوا خارج موسكو فتعرضوا إلى عذابات أشد، حيث فرض عليهم
ستالين العمل في مزارع جماعية، روجت لها الدعاية عبر الأفلام حينها.
أما الواقع فكان مختلف جدا، إذ كان يرسل المتمردون إلى معسكرات الأشغال
الشاقة أو يتضورون جوعا لطردهم من العمل.
المجاعة في القرى كانت سيئة جدا. أما سببها فكان إخضاع الفلاحين في
الأرياف وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية، على اعتبار أن
المزارع كانت صغيرة من قبل..
وهكذا منع الطعام عن الفلاحين لإجبارهم على الانضمام إلى المزارع، ما
أدى إلى موت الكثيرين نتيجة ذلك، وكثيرا ما كنا نرى الجثث المنتفخة
ملقاة في الشوارع، وصل الأمر ببعض الأمهات أن يمتن في سبيل أطفالهن.
توفي آلاف المزارعين في أوكرانيا نتيجة السياسة الجماعية، ترك
الكثيرين منهم يتضورون جوعا. يعتبر خروتشيف كعضو في المكتب السياسي
لحزب ستالين شريكا في هذه الجرائم، وقد تحدث لاحقا عن مستوى تورطه في
هذه الجريمة.
قال بأن توقيعه موجود على تلك الوثائق التي تحمل أوامر بمعاقبة الناس
ونفيها. فسألته لماذا وقعت على تلك الوثائق؟ سادت لحظة صمت قال بعدها:
كنت أعتقدت أحيانا أني أقوم بعمل صالح، بينما كان الخوف يسيطر علي في
الأحيان الأخرى، ولكن توقيعي لا يعني شيئا. فهناك توقيعات أخرى عديدة،
لأعضاء المكتب السياسي، أما السبب الذي يجعل ستالين يدفعك إلى التوقيع،
فهو أن يراقبك، ليرى ما هي ردة فعلك.
كان لغروتشيف أن يعرف ذلك، فهذا هو منطق كل الصراعات السياسية، فما كان
له أن يصل إلى قمة البنية الحزبية لو أنه انتقد القمع السائد حينها.
عام ثمانية وثلاثين عين خروتشيف أمينا أولا لأوكرانيا، وهو يحمل أوامر
بتصفية كل ما تبقى من مقاومة للمزارع الجماعية. فقضى على أعدائه كليا،
حتى استحالت رؤيتهم حسب تعبيره.
أرسل خروتشيف إلى أوكرانيا لفرض النظام ومتابعة الكفاح ضد أعداء
الشعب، ولم يقتصر ذلك على اعتقال قادة الحزب، بل اتسعت رقعة ذلك لتشمل
الفئة التالية. إنه متورط بجميع إجراءات القمع التي جرت خلال عهده.
بعد نشوب الحرب العالمية الثانية تولى خروتشيف مسئولية الدفاع عن
أوكرانيا. وبدأ بعيدا عن ستالين يطرح التساؤلات حول قيادته، بما أنه
كان يعمل في الخطوط الأمامية إلى جانب ليونيد بريجنيف، استطاع أن يرى
الأخطاء التي ارتكبها ستالين، وكان شاهدا على التضحيات الجسام التي
قدمها المواطن السوفييتي العادي نتيجة ذلك.
أعتقد أن خروتشيف كان يعلم بوجود أخطاء ما في مجتمعنا مذ كان ستالين
حيا، ما يميز خروتشيف أو أنه كان مقربا إلى البسطاء من الناس، كان
يلتقي بهم ويتحدث معهم ويتفهم معاناتهم. كان يتحدث بصراحة مع البسطاء،
بينما أقام ستالين جدارا بينه وبين الناس.
خرج خروتشيف من سنوات الحرب بطلا بعد أن قاتل جنبا إلى جنب مع الجيش
الأحمر للدفاع عن ستالينغراد. كرم بعد ذلك وعين رئيسا لوزراء أوكرانيا.
أثناء الحرب كانت ألمانيا تعزز الحركة القومية الأوكرانية، فأمر
خروتشيف بقمع الحركة القومية التي تهدد السيطرة السوفييتية. أطاع
الأوامر بكفاءة عالية، ولم يبد الطرفان أي نوع من الرحمة.
تميز خروتشيف هناك بالقسوة لأن القوميين قتلوا تسعة عشر ألف من
جنودنا، وتعرض الكثيرون للتعذيب على أيديهم، عندما كانوا يأسرون أحد
جنود الجيش الأحمر، كانوا يغلونه في الماء، يضعونه في الماء المغلي.
بحجة هذه الجرائم البشعة كانت الشرطة السرية ترتكب المجازر البشعة حتى
بمن تشتبه بهم. وقد اكتشفت قبورهم في وقت لاحق. لقب خروتشيف بجزار
أوكرانيا.
ولم يعرب عن ذنبه في ارتكاب هذه الجرائم إلا في فترة تقاعده. قبل موت
بفترة قصيرة، سأله الكاتب المسرحي ميخائيل شاتروف عما يشعر به حيال
تورطه في المجازر التي ارتكبها ستالين.
سألته حينها ما هو الأمر الذي يندم عليه؟ فأجاب: على الدماء، يداي
مضرجتان بالدماء، كنت أصدق كل ما يقوله لنا ستالين، هذا هو أكثر ما
يؤرق ضميري.
مع الإعلان عن بدء الاحتفالات بمناسبة الذكرى السبعين لولادة الرفيق
القائد ستالين، تجتاح أمواج الحب قلوب الملايين. هنا في مسرح بالشوي،
تحتشد الأمة لتهنئة جوزيف فيسيوناروفيتش ستالين.
عام تسعة وأربعين دعي خروتشيف إلى موسكو، حيث منحه ستالين شرف الجلوس
إلى جانبه، مع ضيفه الكبير ماو تسي تونغ في احتفال ولادته.
كانت شكوك ستالين في قمة شيخوخته تتزايد باستمرار بجميع من يحيطون به.
لدرجة أن عمليات التطهير نالت من أبناء عائلته وأعضاء المكتب السياسي.
استخدم خروتشيف كل براعته السياسية لتفادي مثل هذا المصير.
توفي ستالين عام ثلاثة وخمسون دون أن تتضح معالم خليفته. فكان من بين
المرشحين الأساسين خروتشيف وبيريا قائد جهاز الاستخبارات ومالينكوف. ما
كان أحدا منهم يثق بالآخر، واعتقد الكثيرون أنه أيا كان خليفة ستالين
عليه التخلص من منافسيه الآخرين. كان بيريا يتمتع بالإمكانيات والقسوة
المطلوبة.
كان يعلم أنه إما أن يصفي بيريا الجميع، أو أن يتمكنوا من اعتقاله.
كانوا جميعا معلقين بخيط واحد، والمقص بيد بيريا.
المناورة مع بيريا تشكل خطورة كبيرة على خروتشيف. بدعم من الجيش تمكن
من دعوة بيريا إلى اجتماع في البريسيديوم، وكان يحمل معه مسدسا إلى
اجتماع المواجهة مع منافسه الخطير.
وأخيرا جرى اعتقال قائد الشرطة السرية، وقتله رميا بالرصاص.
عندما توفي ستالين، فبدا موته في تلك الفترة كمأساة رهيبة، ولكني
أحسست بأن الآتي سيكون أعظم، لم أبك حينها على ستالين فقط ، بل كنت
أشعر بالقلق على الحزب أيضا، وعلى مستقبل البلاد. بدأت أشعر بأن بيريا
أخذ يصدر الأوامر إلى جميع الذين يحيطون به، وأن هذا سيعني بداية
النهاية، كنت أعلم منذ البداية أنه ليس شيوعيا، بل مجرد سفاح قاتل.
مات ستالين، ولكن الستالينية بقيت على قيد الحياة، فشركائه ما يزالون
في السلطة.
قرر خروتشيف أن يعتمد على شجاعته لمراجعة أخطاء الماضي، الذي كان جزءا
منه. فألقى بخطابه الرسمي في المؤتمر العشرين للحزب عام ستة وخمسين.
ولكنه بعد ذلك، وفي اجتماع مغلق بعيدا عن آلات التصوير، أدهش خروتشيف
الحضور بإدانة قائده السابق.
شعرت وكأن قنبلة انفجرت هناك. صعقت بذلك كأي شخص آخر هناك. لم يقبل
بما ورد أحدا من الحضور. كان ستالين بمثابة أب وقائد لنا، كان شخصا نجل
وننحني له احترما وتقديرا.وفجأة انفجرت القنبلة، عندما كشف خروتشوف
الحقائق المخيفة عن ستالين، والأشخاص المقربين إليه.
خلال بضعة أسابيع أطلق سراح الآلاف من سجناء ستالين، فاعتبر الكثيرون
تلك اللحظات أفضل أيام خروتشيف، ولكنه حصل بذلك على دعم شعبي هائل، وضع
أعدائه في حالة من الارتباك. ولتعزيز حماية نفسه، أمر الكي جي بي
بتنظيف الملفات من كل ما يمكن أن يورطه في جرائم ستالين.
عام سبعة وخمسين حاول ما تبقى من أتباع ستالين في المكتب السياسي
القيام بانقلاب عليه، فتمكن حينها من ردعهم ولكنه لم يعدم قادة
الانقلاب كما كان متوقعا، على اعتبار أن الإعدام لم يعد جزءا من الحياة
السياسية هناك.
ثم بدأ بتعزيز سلطته عبر مجموعة من الإصلاحات الداخلية المناهضة لسياسة
ستالين. أصبح الآن جاهزا لتطبيق نظريته في دولة العمال.
لم يكن والدي صاحب نظرية في الشيوعية، أو منظر من أي نوع، حتى أني لست
متأكدا مما إذا قرأ شيئا لماركس ولينين بعد عام تسعة وعشرين، ولكنه كان
يريد أن يعيش الناس في حالة من الرفاهية، ويحصلون على كل ما يريدونه.
حلم أي فلاح روسي هو الحصول على ما يكفيه للعيش، وهذا ما أراده طوال
حياته، أن يكون لدى المواطن ما يكفي من الخبز واللحم، ومسكن لائق.
غير خروتشوف مشاريع البناء جذريا، عبر إدخال نظام البناء الصناعي،
فأصبحت تلك الأبنية علامة فارقة لفترة حكمه.
فتح البلاد على مصرعيها وسمح للفلاحين بحرية الحركة، المحددة في عهد
ستالين، والباقية حكرا على قيادة الحزب وحدها.
بلغت ثقته بنفسه حدا جعله ينقل رفات ستالين من مقبرة لينين، إلى موقع
أقل أهمية تحت جدار الكرملين.
جرت عملية نقل رفات ستالين وسط ليلة مظلمة، بعد أن منع الجميع من
الاقتراب إلى الساحة الحمراء. والحقيقة أني ارتجفت رهبة عندما نقلت
رفات ستالين من قبره بتلك الطريقة. إذ أنهم لم يحملوها أفقيا أو عموديا
بل منحرف فبدا وكأنه يمشي على قدميه. شعرت في تلك اللحظة بأن ستالين قد
ينتفض ويصرخ بوجهه، ما الذي تفعله بجثتي؟ ثم أنزل رفاته بحذر إلى
القبر، وجرت بعدها تغطيه، وانتهى الأمر.
ولكن خروتشيف لم يتمكن من التحرر كليا من ماضيه الستاليني. منعت رواية
دكتور جيفاكو في روسيا للكاتب بوريس باستيرناك، الذي أرسلها كي تطبع
في الغرب، من حيث عادت عليه بجائزة نوبل. رغم أن خروتشيف لم يقرأ
الرواية، إلا أنه غضب بشدة.
عندما كان فلاديمير سيميكاستيني قائد منظمة الكومسمول يجهز نفسه لإلقاء
كلمة أمام الشبيبة الشيوعية، وجد خروتشيف الظروف مؤاتية لإدانة
باسترناك.
أخذ خروتشيف يملي علي بالقول: حتى النعجة لا توسخ حيث تأكل، وهذا ما
يفعله الآن باسترناك. فإذا ما كان يريد أن يتنشق نسمات الغرب، فالاتحاد
السوفييتي لن يعارض رحيله إلى هناك ليتنشق ذلك الهواء.
إذا كان هذا المهاجر الداخلي كما يسمي نفسه في الكتاب يريد أن يتنشق
الهواء الرأسمالي، سوف نرسله إلى الجنة الرأسمالية، حيث يمكنه أن يتحول
إلى مهاجر فعلا.
أصر خروتشوف على أن أدلي بهذه العبارات حرفيا، وهو يقول : لا تقلق سوف
تحبها الرئاسة جدا.
رفض باسترناك جائزة نوبل، ثم طرد من اتحاد الكتاب، ومات بعد ذلك بفترة
قصيرة.
أصر خروتشيف على أن يقوم المثقفون بخدمة الحزب وليس ما تنضح به
مخيلتهم. فقام بإهانة فنانين مستقلين على غرار بوريس جوتوفسكي، عندما
كان يزور معارض لأعمالهم.
ضمني إلى صدره مع أحد الزملاء عندما دخل إلى هناك. ثم قال، لا يمكن أن
أصدق، دعني أرى ماذا ترسم هنا. حين رأى اللوحات أصيب بالغضب، واحتقنت
ملامحه، وبدأ بالصراخ. فقال صورتي من بين أوائل الشخصيات، لماذا تسيء
إلى ملامحها مع أنك شاب وسيم في بداية عملك الفني بعد؟ ثم عاود الصراخ،
فقال: لست واحدا منا، لست فنان سوفياتي فعلا، اذهب إلى الغرب، سيحبونك
هناك، سيكتبون عنك الكثير، سنعطيك بطاقة ذهاب بلا إياب إلى الحدود،
يمكنك بعدها أن تستمر بمفردك.
كان ذلك أشبه بمسرحية تجريدية، ما كنت لأصدق ما يجري، كنا شبان بعد
شعرنا بالخوف ولم نستطع النوم. بدأنا نخاف بعدها من مجيء السيارات
السوداء لتأخذنا إلى مكان بعيد، كما جرى في أيام ستالين.
بعد أن عزز حكمه في البلاد، تحول خروتشيف إلى أول قائد سوفييتي يسافر
بهذه الكثافة إلى الخارج، فتمتع بالاتصالات والرعاية التي جاءت بها
ملامحه الجديدة كقائد دولة عالمي. كان يصر على تقديم الشيوعية بملامح
أكثر إنسانية.
اعتقد بأن الاتحاد السوفييتي يستطيع أن ينافس الغرب وفق شروطه، عام
تسعة وخمسون تحول خروتشيف إلى أول زعيم سوفييتي يسافر إلى الولايات
المتحدة ضمن زيارة رسمية.
رافقت سيارات الشرطة والهليكوبتر قطار الزائر، الذي مر في أبرز
المناطق والساحات، وسط حشود من الفضوليين المنتشرين على جانبي الطرقات.
كانت مسافة الطريق طويلة أثناء انتقالنا من المطار إلى واشنطن، وقد
وقف على جانبي الطريقي أعداد كبيرة من الحشود. كانوا صامتين جدا، أتذكر
ذلك بوضوح، انتشرت حشود صامتة على الطرقات.
كانوا ينظرون إلينا وكأننا من كوكب آخر.
رغم الهواجس المبكرة، فقد حقق في هذه الرحلة إلى جانب زوجته نينا
بيتروفنا وأفراد العائلة، نجاحا كبيرا في العلاقات الخارجية، أكد
خلالها أن الحوار بين القوى العظمى مسألة ممكنة.
وقام لاحقا بزيارة مجموعة من العاملين في عمل موسيقي جديد، ثم علق على
ما شاهده من تدريب على إحدى الرقصات أنها كانت مدهشة.
جاء من الولايات المتحدة الأمريكية بمعنويات مرتفعة قائلا بأنها فتحت
الباب واسعا أمام نوع جديد من العلاقات بين البلدين. إلى أن وقعت بعدها
حادثتين، وضعتاه في ظروف عصيبة جدا.
مع نهاية عام تسعة وخمسين أسقطت طائرة تجسس أمريكية من نوع يو اثنين
فوق المجال الجوي السوفييتي. رفض الأمريكيون الاعتذار بشأنها قائلين
أنها عبرت الحدود خطأ، ما أثار غضب خورتشيف الذي اعتبر ذلك خيانة
للثقة.
أشعر بالدهشة ولا أستطيع أن أفهم بعد. هل يريد الرئيس أيزنهاور أن
يزور بلادنا وينزل ضيف علينا؟ ولكن كيف يوسخ المرء حيث يأكل؟ لا يمكن
لأحد أن يوسخ حيث يريد أن يأكل. هذه مسائل أولية. كيف لهذا الرئيس أن
يوسخ في الاتحاد السوفييتي؟ وهو يسعى للجلوس على مائدة خروتشيف؟
تمتع خروتشيف بأسباب كافية للشعور بالثقة، فلديه من الدلائل ما يوحي
بأن الاتحاد السوفيتي متقدم على الغرب في الفضاء. عام واحد وستين اعتبر
جوري غاغارين أول رجل يحلق في المجال الجوي الخارجي.
حين انطلقت أول مركبة سبوتنيك، لم يتنبه أحد إلى أهمية ذلك الحدث. إذ
كان أول إثبات على أننا كنا متقدمين على العالم أجمع، بما في ذلك
أمريكا، هذا ما كان يريده والدي. كما أن والدي أحب الفضاء، فتحول إلى
لعبته المفضلة. لقد أحب رجال الفضاء، والتكنولوجيا الجديدة، فهذا هو
الأمر الذي جعلنا نتقدم على العالم أجمع. والأهم من ذلك هو أنه استخدم
التجربة في دعايته السياسية، كي يثبت بأن مجتمعنا متقدم على العالم.
ومتقدم على الجميع.
استخدم خروتشيف التكنولوجيا الجديدة لتوسيع القدرات النووية الروسية.
لقد اعتبر أن رهبة الأسلحة النووية ستضمن الحماية من أي اجتياح، كما
أنها وسيلة إعلامية هامة. ولم يتردد لحظة أثناء حواره مع الدبلوماسية
البريطانية في الحديث مبالغا عن الأسلحة السوفياتية.
كان يقول هل تعرف كم صاروخا سأحتاج لتدمير جزيرتكم؟ أما أنا فأعرف،
وقد يحدثهم بكل التفاصيل التقنية لإخافتهم. كان يشعر أننا بدون
الصواريخ يمكن أن نخدعهم. فاستمر في الحديث عن إنتاجية هذه الصواريخ
بالجملة.
كنت أعمل حينها في تكنولوجيا الصواريخ، فسألته: كيف تقول لهم أننا
نصنعها بالجملة وليس لدينا أكثر من ثمانية؟ كنت أشعر بالخوف الشديد فهو
لا يتوقف أبدا عن الكلام.
المبالغة والثرثرة هما ميزة خروتشيف الخطابية. وخصوصا على الساحة
الدولية. كان قادرا على القيام بتصرفات بعيدة عن اللياقة، كما أثبت في
الأمم المتحدة، عندما هددت إحدى الوفود بممارسة حق الفيتو ضد اقتراحه.
هذا هو موقفنا وهذا ما نعتقده بهذا الشأن.
حصل يوما عند مدخل ممثليتنا عند جادة بارك في نيويورك، أن رأيته حين
عاد من اجتماع للجمعية العمومية. حين قام باستعراضه الذي لا ينساه أحد.
فسألني: هل كنت في الاجتماع فأجبته كلا لم أكن هناك، فعلق على ذلك
بالقول: يا إلهي إنها فرصة لا تعوض فقدت مشاهد مضحكة. أعتقد أنه كان
يتصرف أحيانا كالممثلين.
ربما كنتم متقدمون علينا، في مجال الأبحاث الجارية في الفضاء الخارجي
على سبيل المثال. أما في بعض المجالات الأخرى مثل التلفزيون الملون،
فنحن متقدمون عليكم فيه. ولكن في سبيل أن نتمكن من الاستفادة معا ..
أترى أنك لا تتنازل إطلاقا؟
يقول أنكم لا تتقدمون علينا في هذا المجال أيضا..
انتظر. انتظر, انتظر حتى ترى نوعية الصورة.
تحولت برلين التي بقيت تحد إدارة الحلفاء منذ عام خمسة وأربعين، إلى
ثغرة وسط الستار الحديدي لعدة سنوات، يخرج منها سنويا الآلاف من
كفاءاتها العمالية البارعة. فكان الحل النهائي لخروتشيف أن رفع جدارا
هناك.
كان خروتشيف مندفعا، هناك قلة من الروس يتميزون بسلوك كهذا، وخصوصا
بين القادة الشيوعيين. وبالنسبة لبرلين أعني بناء الجدار هناك أثار
اعترافا حقيقيا بالفشل، مع أنه من الناحية الأخرى تمكن من تحقيق هدفه
الأسمى وهو وقف هجرة الأشخاص الأكثر تعلما في ألمانيا الشرقية. أي أن
هزيمته لم تكن هزيمة كاملة.
لم تكن دعاية مناسبة للشيوعية، ولكنها فلحت على المدى البعيد. فقد حال
خروتشيف دون الانهيار الاقتصادي لألمانيا الشرقية، ولكنه حشد قلة من
الأصدقاء في الغرب.
ولكن برلين كانت مشكلة صغيرة بالنسبة لما جاء بعدها. سبق للولايات
المتحدة أن دعمت محاولة لاجتياح كوبا عبر خليج الخنازير.
عندما جاء قائد الدولة الجديدة في المنظومة الاشتراكية لطلب المساعدات
العسكرية، رأى خروتشيف في ذلك فرصة للاتحاد السوفيتي كي يعزز امتداده
نحو الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
سرعان ما تنبهت حكومتنا إلى نمو متصاعد لحركة السفن السوفييتية
المتوجهة إلى كوبا.
قرر خروتشيف سرا أن يمول كاسترو بصواريخ نووية بعيدة المدى. ما شكل
مراهنة خطيرة.
..على مسافة تسعين ميلا من الحدود الدولية للولايات المتحد، يقف
خورتشيف مبتسما..
تبين لاحقا أنه اتخذ هذا القرار بناء على تقارير تسربت إليه من السي
أي إيه..
تبين لاحقا أن عميلا للاستخبارات السرية الكوبية تمكن من التسلل إلى
السي أي إيه، والحصول على بعض من هذه التقارير، التي يعتبر أحدها بالغ
الأهمية، لأنه يقول: بالحرف الواحد: إذا لم يتم انتزاع السلطة من فيديل
كاسترو في تشرين أول أكتوبر من عام اثنين وستين، سنجبر على اتخاذ
قرارات أشد قسوة. فاعتبر الكوبيون ذلك إعلانا للحرب، والاجتياح. فنقلوا
ذلك إلى الكي جي بي، وبالتالي إلى خروتشيف. وعندما عقد ذلك الاجتماع
أكد وزير الخارجية أن خروتشيف أبلغه، بأنهم سيجتاحون كوبا، ولا بد أن
يقوم بعمل ما لحمايتها، على أن يكون سريا لا يعلم به أحدا حتى يصل إلى
هناك، لهذا سوف أرسل هذه الصواريخ. فكانت هذه بداية لأزمة الصواريخ
الكوبية.
تأكد وجود الصواريخ وعززت الولايات المتحدة حصارها الكامل على كوبا.
أصيب بعض زعماء الحكومة السوفييتية بصدمة توازي صدمة باقي أنحاء العالم
لما فعله خروتشيف.
لم أكن وحدي جاهلا بما جرى، بل ولا حتى رئيس الكي بي جي الذي يفترض أن
يعرف كل شيء. لم يكن رئيس الكي جي بي يعلم بموضوع تحريك الصواريخ على
الإطلاق.
في حين كان العالم عرضة لنشوب حرب نووية، جرى تبادل الرسائل بين كندي
وخروتشيف بين كل ساعة وأخرى، الرسمية وغير الرسمية. حتى أن الرئيس
الأمريكي فكر بنقل عائلته إلى خارج واشنطن.
أما الأجواء في الاتحاد السوفييتي فكانت مختلفة.
لم نكن نعلم شيأ. في موسكو أرسل الأطفال إلى مخيمات الطلائع، وتابع
الناس حياتهم كأن شيئا لم يكن.
إنها مفارقة ساخرة، ولكني لا أعرف ما هو الأفضل، تلك الحالة من
الهستيريا والخوف الذي أصاب الأمريكيون، أم حالة السذاجة لدينا.
الرجال والنساء في أرجاء العالم يتعلقون بالأنباء. فلا أحد يعرف ما
إذا كان سيبقى وعائلته على قيد الحياة غدا في مثل هذا الوقت.
كنت أشعر بالقلق لأننا على وشك الخوض في حرب نووية. ولكن في الوقت
نفسه وأثناء الحديث مع كندي قلت له بأننا على اتصال به الآن، وقد
التقيته، ثم أعدنا قنوات الاتصال بيننا، وما علينا سوى التفاوض على هذه
المشكلة التي لن نجد لها حلا آخر وإلا سندخل الحرب. وهذا ما قمنا به
فعلا.
ما هي المسافة التي كانت تفصلنا عن الحرب؟
أربع وعشرون ساعة.
كاد خروتشيف عبر سلوكه المندفع، أن يثير حربا نووية، ولكنه انسحب في
النهاية، مكتفيا بوعد خاص من كندي بأنه لن يتم أي اجتياح لكوبا وأن
قواعد الصواريخ الأمريكية سوف تسحب من المناطق القريبة من الحدود مع
روسيا. ولكنه كان مجبرا على مواجهة زملائه في الكرملين.
دعى خروتشيف إلى عقد اجتماع حضره أعضاء البريسيديوم واللجنة المركزية،
وكنت أنا هناك. انتظرنا لبعض الوقت كالمعتاد، إلى أن ظهر خروتشيف تعلو
ملامح وجهه الاحمرار. فجاءت أولى كلماته على النحو التالي: أيها الرفاق
لقد خسرنا قضية لينين. ثم شرح وجهة نظر كندي، وتبع ذلك باقتراح لسحب
الصواريخ.
صباح يوم الأحد وصلت البيت الأبيض رسالة من موسكو. أعلن سكرتير
الصحافة سالنجير أن الرئيس خروتشيف، وافق على سحب الصواريخ من كوبا. ثم
قرأ رد الرئيس كندي على الرسالة السوفييتية.
طلبني كندي إلى مكتبه حيث قال أن الناس سيعتبرون ما جرى نصرا لي ولا
أريد أن يقال بأنه انتصار حققته، بل هو انتصار مشترك لي ولخروتشيف،
لأننا نجحنا معا في التوصل إلى حل نهائي لتلك الأزمة المخيفة.
رغم محاولات البيض الأبيض شكل ذلك مهانة مريرة لخروتشيف، لم يقبلها
حتى في مراحل أخرى من حياته.
لا بد من القول على الأقل أنها كانت ظروف شيقة من التحديات، وقفت
خلالها أكبر قوتين في العالم ضد بعضهما البعض، كل منا يضع اصبعه على
الزر، حتى اعتقدنا أن الحرب واقعة لا محال. إلا أن كلا الطرفان أثبتا
رغبة صلبة بتفادي نشوب الحرب، وأنه يمكن التوصل إلى حل بشأن أكثر
المسائل تعقيدا. كما جرى التوصل إلى اتفاق حول كوبا, وانتهت التجربة
بانتصار الحكمة والمنطق.
عام ثلاثة وستين كان خروتشيف منشغلا في الأمور الداخلية أيضا، إذ بدأت
اصلاحات الزراعية بتوسيع الأراضي الزراعية تعطي نتائجها. فكان الطعام
ضئيلا، ولأول مرة في التاريخ يجبر الاتحاد السوفيي على استيراد الحبوب
من الغرب. اعتقد الكثيرون أنه بالغ بتوظيف الإمكانيات السوفيتية في
إنتاج زراعي واحد، هو الذرة.
انتشرت نكتة تقول أننا يجب أن نمنع خروتشيف من الوصول إلى القمر كي لا
يزرع الذرة هناك.
ظهرت في أواسط الستينات نكات كثيرة حول خروتشيف بين الناس. كانت حزينة
ومضحكة في آن معا. برز استياء الناس داخل الحزب أيضا، إذ لم يكن الجميع
راضيا منه، وخصوصا بين صفوف الضباط، إذ يبدو أن غالبية تجاربه كانت غير
منتجة، وهكذا نشأت تدريجيا فكرة إزاحة خروتشيف عن قيادة الدولة والحزب.
وأصبح الوقت يسير في غير صالحه. ولكنه كان يمضي فترات أطول وأطول بعدا
عن العاصمة، لزيارة المزارع والمصانع التي أبقت على حلمه الشيوعي حيا.
وازدادت قناعته بضرورة إصلاح الحزب من الداخل، رغم الحفاظ على إخلاصه
لمفهومه عن دولة العمال.
ناقش أفكاره في التغيير مع الزوار الأجانب في موسكو.
سمعته يقول: أتعرف، لا بد من وجود سبيل لتقليص قوة الحزب الشيوعي،
لأني لا أعتقد أن الحزب الشيوعي يستطيع بمفرده أن يقود هذا البلد. وقد
صعقت جدا لما سمعته.
كانت تلك أول مرة أسمع فيها أن قائد سوفييتي يسعى إلى احتمال تقليص
سلطات الحزب الشيوعي في الدولة.
عام أربعة وستين قرر خروتشيف أن يفصل بين المنجل والمطرقة، وذلك من
خلال فصل أجهزة الحزب إلى دائرة صناعية وأخرى زراعية. ما عزز من مضاعفة
المعارضين له. أصبح الآلا يتردد بانتقاد العاملين في الحزب، لدرجة أنه
اتهم أحد زملائه بالقول أنه لا أحد. كما وصف آخر بالقول أنه ثعبان. كما
أنه عزز من أوضاع الشبان الأتراك المدينون له بالترقيات. ومن بينهم
ألكسندر شيليبين.
لا أريد أن أسمي أحد، ولكنه كان فظا مع بعض أعضاء البريسيديوم. كان
يكثر الترحال في أرجاء البلاد، بدل أن يواجه المشاكل الحقيقية، فهذه
مهمته الأساسية، هذه هي مهمة رئيس الحز الرئيسية، فهو أشبه بالأب
الصالح وبالقيصر.
في أيار ماي من عام أربعة وستين، لم يبقى في الكرملين إلا بعض من
مؤيديه، رغم أنه كان يستمتع بالدعم الشعبي الكبير، إلا أن كبار قادة
الحزب فقدوا الثقة في إصلاحاته، كما عزل الجيش عبر مجموعة من إجراءات
تخفيض الميزانية. حتى أن أعدائه كانوا يعتقدون أنه كان يسوق شخصيته بين
الناس على غرار ستالين.
كان خروتشيف شخصية ذكية، كان يجب أن يفهم بأن دوره في المسرحية قد
انتهى، وبما أنه أنجز أداءه الكامل وانتهى، كان يجدر به أن يغادر خشبة
المسرح.
صيف عام أربعة وستين أصبحت حياته معلقة بخيط رفيع، بعد أن فقد تأييد
أقرب المقربين إليه من حلفائه السياسيين.
والآن أصبح رفيقه القديم في الحرب ليونيد بريجنيف، يفكر بطريقة للإطاحة
به على الطريقة السوفييتية القديمة: بإسقاطه. فتطلع إلى قائد الكي جي
بي، الذي تأكد حينها بأن خروتشيف قد أوشك على السقوط بدون مقاومة.
تحدثت مع برجنيف وجها لوجه، فطرح السؤال بنفسه عما إذا أمكن التخلص من
خروتشيف بدون إزعاج. ولكن تصرف بجبن، لم يتمتع بالشجاعة الكافية
لمواجهته علنا، فبحث عن طريقة للإطاحة به دون أن يتورط بالأمر مباشرة.
قلت بأنه لا يوجد طريقة للقيام بذلك، وأن الكي جي بي ليست مستعدة
للقيام بعمل كهذا.
في حزيران يونيو من عام أربعة وستين، اتضح لخروتشيف أن حياته أصبحت في
خطر، فذهب في عطلة إلى بيته بيتسوندا الواقع على البحر الأسود. بعد أن
غادر بوقت قصير، أبغ ابنه سيرغي بمؤامرة الاطاحة بوالده.
لا أعتقد أن والدي حين غادر إلى بيتسوندا، كان يعلم بأنه سيجبر على
التخلي عن الحكم. كان يشكك جدا بتحذيراتي، ولكن تجربته السياسية توضح
له بأنه لا يستطيع تجاهلهم تماما. فذهبت إليه في بيتسوندا.أعتقد أنه
ذهب إلى هناك لأنه قرر ألا يزج بنفسه في المعركة.
ولكن المطالبين بالحكم لم يكونوا على معرفة بردة فعل خروتشيف تجاه
محاولة الإطاحة به. واستمروا بمعانقته في العلن،ويبدو أن برجنيف تحدبدا
كان يخاف أن ينكشف أمره.
جاءني بريجنيف صباح يوم إلى البيت، سألته عما جرى؟ فقال أن خروتشيف
على علم بالجمعية العامة التي نحضر لها، وسيعدمنا جميعا. قلت له أنت
مخطئ جدا، لقد تغير الزمن. فقال أنت لا تعرف خروتشيف، سوف يقتلنا
جميعا. وبدأ يرتجف حتى اغرورقت عيناه بالدموع.
وأخيرا قام البريسيديوم بدعوة خروتشيف إلى موسكو. حيث تلي عليه خمسة
عشر اتهاما، من بينها سوء إدارة البلاد. وانتهى التقرير إلى اقتراح
يدعو رئيس الدولة إلى لاستقالة.
كان بريجنيف رئيسا للبريسيديوم، فأعلن أن خروتشيف يرفض ترأس الاجتماع
وسأل عما إذا كان هناك من يرغب بفتح الحوار. فبدأنا نصرخ مطالبين
بإخراجه من الحزب، حتى أن أحدهم قال، فليخضع للمحاكمة. ولكن لم يحدث
شيئا من هذا القبيل. فجرى الإدلاء بمشروع الاقتراح، الذي يدعوه إلى
الاستقالة. فجرت الموافقة عليه بالإجماع والتصفيق الحاد.
قبل خروتشيف بالقرار المجمع عليه، واستقال، ولكنه بالمقابل لم يخضع
للمحاكمة أو السجن.
وأخيرا جرت إقالته بالسبل الديمقراطية التي أسسها. حتى بعد انتهاء كل
شيء، لم يصدق مستشاروه المقربين أنه سيغادر السلطة دون عراك.
أول ما قاله هو أن حياته السياسية قد انتهت. فسألته ألا تعتقد أن هناك
احتمال بأن يتغير شيء ما؟ عبر اجتماع اللجنة المركزية؟ فأجاب على الفور
كلا فهذا الأمر غير وارد على الإطلاق. ثم أضاف، يجب أن تعرف أني لست
متحمسا لهذا الموقع.
عندما أطيح به يوم الرابع عشر من تشرين أول أكتوبر، عاد إلى البيت
ورمى إلى بحقيبته، كان لديه حقيبة سوداء يستعملها دوما. ثم قال: انتهى
الأمر، أحلت على المعاش، لقد أقالوني. ثم توقف وتابع بعد قليل، المسألة
الأهم بالنسبة لي هي أني خرجت دون إراقة الدماء. لا يمكن أن تتخيل في
عصر ستالين، أن يزاح رئيس الدولة بمجرد عملية تصويت. حتى إن كان هذا كل
ما حققته، فهو إنجاز عظيم.
وانتهى عصر خروتشيف أخيرا بعد أحد عشر عاما. فأخرج من بيته، وحرم من
جميع الامتيازات, وعزل في بيت وحديقة خارج موسكو. فاعتقدت عائلته لعدة
أشهر أنه سينتهي إلى حالة من اليأس الشديد.
قال أن حياته انتهت، من الناحية لنفسية طبعا، لأن الأمر كان رهيبا
بالنسبة له، وكأنه شخص يعدو بسرعة فأجبر على التوقف فجأة. وكان التوقف
المفاجئ وفق تلك الظروف، صعب جدا عليه، لقد شعر بالخيانة فعلا.
لجأ إلى الفنانين الذين طاردهم وهو في الحكم، برزوا بين قلة كانت
مستعدة للصفح، وتمتعت بالشجاعة لأن تشاهد علنا مع خروتشيف.
كانت مأساة فعلا، لشخصية أنجبتها المرحلة الثورية، شخصية لعبت دورا في
تدمير تلك المرحلة، وحملت أثقال الستالينية وأعباءها. كانت مأساة شخص
حاول تغيير النظام من الداخل، وهو جزء من ذلك النظام.
نشرت مذكرات خروتشيف قبل شهر واحد من موته، نشرت في الغرب.
وهكذا عزكل خروتشيف كمنشق تماما كما عامل باسترناك أثناء فترة حكمه.
فمنعت مذكراته في الاتحاد السوفييتي.
كتب يقول أنه من حق كل مواطن سوفييتي أن يكتب مذكراته. بعد ثلاثة أشهر
مات الرجل الذي دفن الستالينية في فراشه.
ها هي أمامك، إنها وجهة نظري باختصار، وأعتقد أنها تستحق التقدير. لا
شك أن عصري قد مضى ورحل، لم يعد أمامي الآن إلا أن أتحدث عن تجربتي مع
أي شخص يهتم ويستمع. دع التاريخ يحاكمني، دع الشعب يقرر.
--------------------انتهت. إعداد: د. نبيل خليل
|
|
|
|
|
أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ / 2002-2012م