اتسمت أميركا اللاتينية، في سبعينيات القرن الماضي، بأنها منطقة
الديكتاتوريات العسكرية المدعومة من قبل الولايات المتحدة، وبأنها
منطقة اليسار الثوري المسلح المعروف بنهج حرب عصابات المدن ونموذجه
التوباماروس، خاصة بعد الانقلاب الدموي في أيلول 1973، الذي أطاح
بحكومة سلفادور أللندي
Salvador Allende
الاشتراكية المنتخبة في تشيلي. وفي الثمانينيات شهدت تلك المنطقة من
العالم مرحلة جديدة باتجاهها نحو الأنظمة الاجتماعية الديمقراطية،
لتنتهي في التسعينيات بمرحلة ثالثة بانتهاج النيوليبرالية بشكلها
السافر والمدمر. ومع مطلع الألفية الجديدة افتتحت فنزويلا مرحلة جديدة
في اتجاه أميركا اللاتينية نحو اليسار والاشتراكية.
فالاشتراكية، بصرف النظر عن جذريتها وعمقها أو سطحيتها وإصلاحيتها،
تلهم اليوم سياسات العديد من دول أميركا اللاتينية، وتحرك قطاعات واسعة
من جماهير هذه المنطقة وقواها السياسية: من كوبا الشيوعية، إلى فنزويلا
البوليفارية، إلى البرازيل البراغماتية، وبوليفيا الكاتارية،
والأرجنتين والأورغواي والباراغواي وتشيلي وباناما... وجميع قادة هذه
الدول، باستثناء كوبا، وصلوا إلى السلطة فيها وأقاموا اشتراكيتها
بواسطة صناديق الاقتراع.
وفي سياق نفس المرحلة، يتعرض المشهد السياسي في أميركا اللاتينية إلى
اختبارات سياسية جذرية بدأت منذ تشرين الثاني 2005 وستستمر حتى نهاية
2006. فعلى مدى 14 شهراً، منذ ت1 2005، بدأت دول هذه
المنطقة بسلسلة من إحدى عشرة حملة انتخابية رئاسية حاسمة. فهل من شأن
هذه الانتخابات الرئاسية أن ترسخ اتجاهها نحو المزيد من الاستقلال عن
هيمنة الولايات المتحدة، وستتجه بها أكثر فأكثر نحو اليسار
والاشتراكية؟
هندوراس وهاييتي
بدأ موعد هذه الحملات الانتخابية في تشرين الأول 2005 في كل هندوراس
وهاييتي. لم تسفر الانتخابات الرئاسية عن أي تغيير فعلي في هندوراس حيث
يتبادل السيطرة على الحياة السياسية، منذ انتهاء الحكم العسكري في
العام 1981، حزبان يمينيان: الحزب الليبرالي والحزب والوطني. وجاءت
نتيجة الانتخابات بأن حلّ مانويل زلايا
Manuel Zelaya
من الحزب الليبرالي مكان الرئيس السابق بورفيريو لوبو من الحزب الوطني.
ففي هندوراس الحركة الاشتراكية ضعيفة للغاية في مجتمع حوالي 80% من
سكانه من الفقراء المعدمين. أما في هاييتي التي تعيش حالة مستمرة من
الاضطرابات، بعد سقوط الرئيس أريستيد ومغادرته للبلاد، وعودة الحكم شبه
العسكري بمباركة من الولايات المتحدة، فما تزال الانتخابات تتعرض إلى
التأجيل تلو الآخر.
بوليفيا
وفي كانون الأول 2005 أتى دور كل من بوليفيا وتشيلي. جاءت الانتخابات
البوليفية بالهندي إيفو موراليس
Evo Moralis،
زعيم حركة ماس MAS،
حركة من أجل بديل اشتراكي
Mouvement pour une Alternative Socialiste،
رئيساً للبلاد من الجولة الأولى بغالبية تزيد على 54% من أصوات
المقترعين. وهكذا أصبح للمرة الأولى منذ غزو القارة الأميركية أحد
السكان الأصليين رئيساً لإحدى دول المنطقة. ففي بوليفيا التي يتجاوز
فيها عدد الفقراء نسبة 65%، يبلغ الهنود حوالي 60% من مجموع السكان
البالغ تسعة ملايين نسمة. ولهذا يعتبر موراليس أن حركته الاشتراكية
تنتسب إلى تراث قومي هندي يمثله المناضل الوطني الهندي توباكو كاتاري
الذي هزمه الأسبان في القرن التاسع عشر. وهذا ما يفسر تأكيد موراليس
أنه ليس كاستروياً، نسبة إلى كاسترو، ولا شافيزياً، نسبة إلى شافيز.
ولكن ذلك لا ينفي أبداً تمسكه بالمبادئ الاشتراكية على طريقة كاسترو
وشافيز، وسعيه إلى التنسيق العميق معهما.
تشيلي
وفي التشيلي فازت بانتخابات الرئاسة الاشتراكية ميشيل باشيليه
Michelle Bachelet،
كمرشحة للمحالفة المتكونة من الاشتراكيين والديمقراطيين المسيحيين
والراديكاليين، هذه المحالفة المستمرة في السلطة منذ سقوط حكم بينوشيه
Pinochet
الديكتاتوري في العام 1990. وغني عن البيان أن لهذه الحملات الانتخابية
الرئاسية المتقاربة في الزمان والمكان تأثيراً على بعضها البعض. فهل
ستشكل الاشتراكية عدوى لتعم نصف القارة الأميركية؟ هل تؤثر نتائج
الانتخابات في تشيلي وبوليفيا على انتخابات كوستاريكا والبيرو؟
كوستاريكا
يأتي دور كوستاريكا في شباط 2006، والبيرو في نيسان. يتواجه في
الانتخابات الرئاسية في كوستاريكا تاريخياً حزبان أساسيان: "حزب الوحدة
الاجتماعية المسيحية" (يميني) و"حزب التحرير الوطني الاشتراكي
الديمقراطي" (ليبرالي) الذي خسر للمرة الثانية على التوالي في انتخابات
الرئاسة الماضية. ولكن الانتخابات الماضية أظهرت تقدماً كبيراً لحزب
ثالث هو "حزب فعل المواطن" المعارض للعولمة النيوليبرالية وللاشتراكية،
والذي يلعب في الرئاسيات الحالية دوراً كبيراً من خلال المنافسة الجدية
التي يمثلها زعيمه أوتون سوليس
Otton Solis
للمرشح المنافس الأقوى الرئيس الأسبق لكوستاريكا أوسكار أرياس
Oscar Arias
من "حزب التحرير الوطني الاشتراكي الديمقراطي"، هذا بينما يتواجه في
هذه الانتخابات 14 مرشحاً للرئاسة. وتبين
استطلاعات الرأي حاليا بان أرياس يتصدر المنافسة بحصوله على 36% من
الأصوات، ولكنه بحاجة إلى ما لا يقل عن 40% لتجنب إجراء جولة ثانية من
الانتخابات. وعندما كان أرياس رئيساً، لم يكن حليفا غير مشروط لأميركا.
فقد عارض بشدة قيام الرئيس ريغان بتمويل عصابات الكونترا في نيكاراغوا،
وانتقد مؤخراً غزو الولايات المتحدة للعراق. وهو لا يساند اتفاقية
التجارة الحرة في أميركا الوسطى. كما أن اقرب منافسي أرياس، أوتون
سوليس، يعارض أيضاً اتفاقية التجارة الحرة.
البيرو
وإذا كان من غير المرجح حصول تأثير لانتخابات بوليفيا وتشيلي على
كوستاريكا، فالأمر يبدو بخلاف ذلك في البيرو. تمثل بيرو مجالاً لرد
الفعل الأكثر إثارة في المنطقة بعد الانتصار الذي أحرزه موراليس في
بوليفيا: فالمرشح الذي تشابه سياسته كثيراً تلك التي يتبعها موراليس
وشافيز هو أولانتا هومالا
Ollanta Humala،
المقدم المتقاعد ومرشح حزب "الوحدة من أجل البيرو"
Union pour le Perou.
أبرز منافس لهومالا، من بين 24 مرشحاً، لورد فلوريس نانو
Lourdes Flores Nano
مرشحة الحزب اليميني "الوحدة الوطنية"
Union Nationale.
قبل الانتخابات البوليفية قد حصل على 12% في استطلاعات الرأي، وبعدها
مباشرة، أصبحت النسبة 22%، وهي في ارتفاع مستمر خاصة مع دعوة هومالا من
أجل وحدة القوى اليسارية. قام هومالا في 3 كانون الثاني بزيارة إلى
كاركاس للقاء ضمه إلى شافيز وموراليس. وبدأت الصحافة في بيرو بتسميتهم
"ترويكا الانديز". وفي الاجتماع، قام شافيز بإطراء هومالا، وعرض مع
موراليس تقديم الدعم له. وقامت حكومة بيرو، في اليوم التالي، باستدعاء
سفيرها من كاركاس للاحتجاج على ما وصفته تدخل الرئيس الفنزويلي في
الشؤون الداخلية لبيرو.
كولومبيا
أما في
كولومبيا فليس من المتوقع حصول تغيرات في انتخاباتها في أيار، ومن
المرجح جداً أن يحرز الحليف القوي للولايات
المتحدة الفارو أوريب
Alvaro Uribe
انتصارا باهرا بعد موافقة المحكمة العليا الخريف الماضي على تعديل
دستوري يسمح للرؤساء بتولي المنصب لفترة رئاسية ثانية. وبين استطلاع
للرأي بأن أوريب يتمتع بنسبة دعم تبلغ 73%؛ في حين تبلغ نسبة اقرب
منافسيه 5%. ولكن السلطة في كولومبيا تواجهها حركة يسارية مقاتلة،
"الفصائل المسلحة الثورية الكولومبية"، تسيطر على منطقة واسعة من
البلاد، ولا يبدو أن بوسع الحكومة القضاء عليها. بل الأمر على العكس،
إذ قدم أوريب في الأشهر الأخيرة المزيد من التنازلات أمام هذه الحركة،
لجهة تبادل الإفراج عن المعتقلين لدى الطرفين والقبول بمنطقة فصل
منزوعة السلاح من الطرفين.
المكسيك
ولعل انتخابات المكسيك التي ستجري في تموز القادم هي الأكثر أهمية،
فنتائجها قد تقرر دفعة واحدة مجمل مصير أميركا اللاتينية، لا سيما وأن
عدد سكان المكسيك يقارب 100 مليون نسمة، فضلاً عن حدودها المشتركة
والشاسعة مع الولايات المتحدة. وتبدو المنافسة هنا متقاربة جدا،
واستطلاعات الرأي تبين بان المتصدر هو رئيس بلدية مدينة المكسيك،
اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور
Andres Manuel Lopez Obrador،
مرشح "حزب الثورة الديمقراطية". وقد يكون لنجاحه في الانتخابات نفس
تأثير نجاح الاشتراكي لولا في البرازيل. إن حلفاء أوبرادور يشبهونه
بمرشحي الحركة اليسارية في باقي من أميركا اللاتينية: سيتبع خطى شافيز
في إدارة عائدات النفط لإعادة تشغيل الاقتصاد، وسيقلد الرئيس البرازيلي
لولا في الحصول على إجماع مع اتحادات العمال في المكسيك؛ وسيتبع خطى
موراليس في بوليفيا في التوصل إلى اتفاق مع سكان البلاد من الهنود؛ ومن
الرئيس الأرجنتيني كيرشنر، سيتعلم كيفية مجابهة صندوق النقد الدولي.
وتستفيد حملة أوبرادور خصوصا نتائج سياسات الرئيس فيسنت فوكس تجاه
الولايات المتحدة في الشمال. ويركز منافسوه وأصدقاؤهم، ومن ضمنهم
الكنيسة الكاثوليكية، على توصيفه بالمتطرف.
البرازيل
ليس هناك من شك بأن الرئيس البرازيلي لولا سيعاني الكثير في الرئاسيات
التي ستجري في
ت1. فالفضائح التي تناولت حزب العمال البرازيلي تلقي بثقلها
لغير صالحه، ومع أنه لا يزال الشخصية الأكثر شعبية في البرازيل فإنه
يقف اليوم في موقع تراجعي. ومنذ توليه المنصب
عام 2003 تتبخر شعبيته التي كانت في يوم ما كبيرة. وحكومته لم تنفذ إلا
القليل من التغييرات الذي وعدت بها، وبدت متقلبة وعاجزة. ورغم انه
مازال يمتلك فرصة لقيادة حزبه، حزب العمال، لإحراز نصر في الانتخابات،
إلا انه هنالك نوع من الشك فيما إن كان سيدخل المنافسة على فترة ثانية
من أربع سنوات. وفي هذه المرحلة، على أية حال، يبدو الناخبون
البرازيليون منزعجين من السياسيين وان تقدير سياق الانتخابات مسالة ما
تزال مبكرة.
ستشكل انتخابات نيكاراغوا في ت2 فرصة لتوسيع مروحة الدول
المتجهة إلى اليسار في أميركا اللاتينية. لقد حقق الساندينيون بقيادة
أورتيغا نجاحاً كبيراً في الانتخابات البلدية لعام 2004، ولعل ذلك كان
من ضمن خطة التقدم على صعيد البلديات من أجل بلوغ السلطة المركزية في
الرئاسيات القادمة.
الإكوادور
ستجري انتخابات رئاسية مسبقة في الإكوادور ك1 2006 بعد أن
شهدت البلاد اضطرابات حادة أدت إلى عزل رئيس الجمهورية. وهذه ليست أول
مرة يتم فيها عزل رئيس الجمهورية في الإكوادور. فستة رؤساء تم طردهم من
المنصب منذ عام 1997، عن طريق الثورات الشعبية، الفوضى الدستورية أو
الفضائح. ولم يتم الإعلان رسميا عن أي مرشح لانتخابات هذا العام، ولكن
وزير الاقتصاد السابق رافاييل كوريا، وهو ناقد شديد لصندوق النقد
الدولي، وللتجارة الحرة وللولايات المتحدة، قد يكون احد المتنافسين.
وقد يجد نفسه في مواجهة مرشح آخر من الحركة اليسارية، ساعيا إلى إحراز
نصر على غرار ما حققه موراليس في بوليفيا، وهو أوكي تيتوانا، رئيس
بلدية كوتاكاجي، التي تحتوي على جيب هندي. وعلى العموم أن الانتخابات
ستنجلي على الأرجح عن رئيس يساري يتجه لمناهضة النيوليبرالية، كيلا
يلقى المصير ذاته الذي انتهى إليه أسلافه.
فنزويلا
ستقفل فنزويلا هذه السلسلة من الحملات الانتخابية الرئاسية في ك1
2006. بالطبع سيواجه شافيز نفسه ناخبي فنزويلا
في نهاية العام. وتزعم المعارضة أن نحو 40% من الناخبين صوتوا ضده في
استفتاء الإعادة في آب عام 2004. ولكن نقاد شافيز لم يكونوا قادرين على
تقديم أي بديل رزين للرئيس، ووضعوا أنفسهم في مواقف مذلة، من ضمنها
محاولة انقلاب فاشلة، وإضراب نفطي فاشل لمدة شهرين وسلسلة من الخسائر
في الانتخابات المحلية. وفي الفترة الأخيرة، انسحبت أحزاب المعارضة من
آخر انتخابات تشريعية، زاعمة بان الاستفتاء سيتعرض للتلاعب، وسمحوا
لحلفاء شافيز باحتلال جميع المقاعد في برلمان البلاد. وفي نفس الوقت،
دعم الرئيس وعزز من شعبيته، من خلال تطوير أدواته السياسية عبر حزبه
"الحركة من أجل الجمهورية الخامسة"، والحلقات البوليفارية التي تجمع
أكثر من مليون منتسب، ومؤسسات الديمقراطية التشاركية، وحرية الإعلام
المحلي، والتماسك بين الجيش والجماهير الشعبية، وعن طريق تمويل برامج
الحماية الاجتماعية الواسعة بمقدار 83 مليار دولار من مداخيل النفط.
وهو يمتلك سيطرة فعلية على جميع مؤسسات الدولة، من أصغر الدوائر
البلدية إلى المحكمة العليا. واحتمال خسارته في الانتخابات غير واردة.
.........................................
إن الأرض التي وصل إليها، في القرن الخامس عشر، كريستوف كولومبس
وأميركو فيسبوتشي لم يكن اسمها أميركا. كان لها اسم آخر هو أبيّا يالا
Abya Yala
أو تاهوانتينسويو
Tahuantinsuyo.
............................................
وصف الرئيس البوليفي المنتخب إيفو موراليس الرئيس الأميركي جورج بوش
بالإرهابي.
وأكد الرئيس البوليفي أنه سيحترم الملكيات الخاصة دون أن يتخلى عن
سياساته الهادفة إلى سيطرة الحكومة على أراضي البلاد، متعهدا بتأميم
موارد الغاز الطبيعي في البلاد.
كما وعد بدعم الزعيم الكوبي فيدال كاسترو في "نضاله ضد الإمبريالية",
وقال "كنت أحلم هذه السنة بدعم نضال فيدال والشعب الكوبي ضد
الإمبريالية، والآن أتيحت لي الفرصة للانضمام إليه في هذا النضال سعيا
إلى السلام والعدالة الاجتماعية".
ودعا الولايات المتحدة إلى رفع الحصار الاقتصادي عن كوبا، معتبرا أن
"النضال الحميد ضد الحصار الاقتصادي" سيحقق نصرا.
وحث الشعوب على النضال ضد السلطة الاقتصادية وضد الليبرالية الجديدة في
بوليفيا، وقال "حان وقت الخلاص ليس في بوليفيا فحسب وإنما في أميركا
اللاتينية برمتها".
--------------------انتهت.