اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 رجل عظيم في جزيرة صغيرة
 

فيديل كاسترو

عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسون سادت البهجة في قلوب سكان جزيرة كاريبية يستهان بها، كانت في الماضي مستعمرة إسبانية، وبعد ذلك شبه مستعمرة أمريكية، ولم يعد لديها الكثير مما تفخر به. حتى أخذ شاب سياسي يدعو إلى الثورة بجرأة، كما دعا أيضا إلى العزة الوطنية في كوبا الثورة.

تمكن هذا الشاب ذو الأصول الريفية المتواضعة من مواجهة الولايات المتحدة، وتفادي وقوع حرب عالمية نووية، كما استطاع إقامة مجتمع قلب من خلاله الظروف السابقة رأسا على عقب إنه فيديل كاسترو.

كيف فعل ذلك؟

يعود بحارة إسبانيا اليوم باسم الصداقة إلى كوبا، أما في الماضي فسادت الحرب في جزيرة كانت تعتبر أراض إسبانية حتى عام ألف ثمانمائة وثمانية وتسعين، حين قاتل الكوبيين إسبانيا تحت قيادة زعيمهم التاريخي خوسي مارتي، وفي النهاية تمكنت الولايات المتحدة من فرض نفسها محل إسبانيا. يمكن أن نرى الآن على شواطئ سنتياغو بعضا من الأسلحة التي خلفتها البحرية الإسبانية قبل رحيلها منذ مائة عام.

جاء أنهيل، والد فيديل كاسترو إلى كوبا مهاجرا من إسبانيا، ويقال أنه كان أمي ولكنه بالغ الذكاء، فأنشأ مزارع لقصب السكر وتزوج من فتاة اسمها ألينا. تؤكد بعض المصادر أنه جاء من أصول متواضعة ولكنه تمكن فيما بعد من كسب أموال طائلة. وقد جاء إلى كوبا كجندي يقاتل في الجيش الإسباني ضد استقلال كوبا، وبعد ذلك بقي في الجزيرة ليصنع ثروة هائلة.

أي أن فيديل لم ينشأ وسط أبوين مثقفين، ولكنهما كانا يملكان ما يكفي من المال لتعليمه في المعاهد اليسوعية خاصة.

برز فيديل كاسترو في تلك المدارس بالرياضة والخطابية. وقد نشأ في مجتمع منقسم بين حفنة ضئيلة من الأثرياء البيض على وجه الخصوص وغالبية فقيرة غالبيتها من المواطنين السود هم أحفاد العبيد الذين عملوا في زراعة قصب السكر. ثم أخذ فيديل كاسترو يبرز كوطني إصلاحي أثناء دراسة المحاماة في جامعة هافانا. كافح مع الطلبة في سبيل الدستور، لم يكن بين حفنة من المشاغبين، بل من نخبة الطلبة الذي يعون مسئولياتهم التاريخية في مرحلة كان العنف خلالها جزءا من الحياة الجامعية، أكسبت الطلبة سمعة في النشاطية والكفاح ضد حكومات الفساد الوحشية المتعاقبة. ليؤكدوا بوضوح سعيهم للتغيير.

كان من الصعب تحمل الظروف الحياتية في مجتمع شكلت الدعارة فيه معضلة كبيرة كما هو حال الملاهي الليلية، وعجز الأطفال عن دخول المدارس. لم يتقبل الطلبة هذا الواقع، فنشأت مجموعات من الطلبة المهتمين.

ويقال أن فيديل كان يحمل المسدس باستمرار. وأن جميع زملائه أجبروا على حمل المسدسات ليتمكنوا من ممارسة حقهم في التعبير عن آرائنا في الحرم الجامعي. كما أنهم لم يكونوا معادين للشيوعية بكل معنى الكلمة، بل أملوا في بناء مجتمع اشتراكي أكثر انفتاحا وإنسانية. وقد أيد فيديل هذه الأفكار مثلهم جميعا، باستثناء تلك المجموعات التي أعلنت انتمائها إلى الحزب الشيوعي.

كانت تلك أوساط لمع فيها القادرون على القيادة والخطابة وفرض الاحترام وإبراز التزام سياسي أصيل. يبدو أن هذه هي الأوساط التي نشط فيها بسرعة كبيرة، وتحديدا في كلية الحقوق الهامة بحد ذاتها، والتي تدرب الطلبة على الخطابة والإقناع، كما أنها كلية تتمتع بتاريخ من الأنشطة السياسية التي تفوق غيرها. أي أن الظروف كانت مناسبة جدا له كما هو حال الزمان والمكان أيضا.

استمتع الأثرياء في كوبا بحياة مترفة. وقد توافدت موجات السياحة من الولايات المتحدة على وجه الخصوص طلبا لمتاع الحياة، بينما سيطر المستثمرون الأمريكيون على غالبية المصانع ومزارع السكر.

أسف فيديل لواقع بلده الذي اعتبره أسيرا لواشنطن، التي أصرت بدورها على إبقاء الأمور على حالها.

بعد إنهاء دراسته الجامعية فتح فيديل مكتبا للمحاماة وتزوج من ميرنا، وهي ابنة عائلة ثرية أخرى. وهكذا أصبح سياسي ناشئ يسعى إلى مجلس المحافظة في هافانا.

هذا يعني أن فيديل لم يختر حينها طريق التمرد، أي أنه ما كان ليبدأ حركة تنصب الكمائن وتقوم بأعمال مباشرة ضد سلطة الدستور في سبيل إعلان الثورة على نظام الفساد، بل له جذور ديمقراطية, ولكن عند وقوع انقلاب العاشر من آذار تغيرت الصورة كليا.

في العاشر من آذار/ مارس من عام اثنين وخمسين، استولى الجنرال فولهينسيو باتيستا على السلطة عشية الانتخابات، فاعترفت به واشنطن مباشرة. وكان باتيستا الشخصية المناسبة لحماية ما يعرف بجمهورية الموز، أي أنه كان يفخر بالفساد والعنف المعلن.

وهكذا عادت هافانا إلى حياتها المأساوية السابقة. يقول ويني سميث السفير الأمريكي في هافانا1959 عن هذا الواقع في إحدى المقابلات المسجلة أن هافانا: "كانت مدينة مفتوحة تسيطر فيها المافيا على الملاهي ولا شك أن باتيستا كان يتساهل مع الجرائم الأمريكية". وهكذا وصلت إلى السلطة حكومة عسكرية، قيدت الحريات المدنية، ولم يعد هناك وسيلة لتغيير الوضع إلا من خلال الثورة.

في السادس والعشرين من تموز يوليو من عام ثلاثة وخمسين قاد فيديل حفنة من الرجال في الهجوم على حصن المونكادا في مدينة سنتياغو. وهو يعقب على ذلك بالقول: "أردنا إثارة نهوض على المستوى الوطني لإطاحة باتيستا. وإن لم نتمكن من إثارة النهوض الوطني، وإن استطاع باتيستا الرد بقوة أكبر على مهاجمتنا لسنتياغو، كنا نفكر بالاستيلاء على الأسلحة وإعلان حرب عصابات من الجبال المجاورة".

قطعت وحدات باتيستا الطريق عليهم، وبالكاد استطاع فيديل النجاة بنفسه. لم يتحقق أي هدف عسكري، ولكنه برز كزعيم مناهض لحكومة الدكتاتور باتيستا الصديق المقرب لواشنطن.

لم يكن النجاح هو المطلوب من مهاجمة أهم حصن عسكري في كوبا بحفنة قليلة وغير مدربة من الطلبة بأسلحتهم الخفيفة، لكن فيديل أكد مكانته بعد ذلك مباشرة ومن خلال هذه العملية ضمن دائرة التقاليد التاريخية الوطنية.

وقد تمكن من تحويل هذه الهزيمة إلى نصر في صالحه. لهذا لا شك أنها كانت عملية سياسية بالغة الذكاء، إذ جعلت منه وممن معه رجال أعمال بطولية في عصر غير بطولي.

أسر المحامي الشاب بعد الهجوم على المونكادا وأخضع للمحاكمة حيث انتقد باتيستا في مرافعة بارعة أتى من خلالها على ذكر سان توماس أكوينياس ولوثر وميلوت ورجالات الثورتين الفرنسية والأمريكية.

تحولت هذه المرافعة فيما بعد إلى وثيقة سرية للثوار حملت عنوان: سيبرئني التاريخ.

اعتاد رفاق فيديل على تشبيه وثيقة سيبرئني بالكتاب المقدس، فقد تحولت فعلا إلى أول دستور لهم في المعارضة. تحدث فيديل في تلك الوثيقة عن مشكلة الفقراء، ومشكلة المدارس، ومشكلة أراضي الفلاحين التي كانت جدية فعلا، ومشكلة الإسكان وغيرها من المعضلات المعقدة.

تلقى فيديل حكما بالسجن خمسة عشر عاما. ولكن باتيستا أجبر تحت الضغط على إطلاق سراحه بعد عام ونصف العام. فقرر فيديل وشقيقه راؤول الخروج إلى المنفى وتحديدا إلى مدينة المكسيك حيث أخذت أفكار فيديل تكتسب القوة هناك. ولم يكن ليعرف بعد حينها بتأييده للاتحاد السوفيتي بعد.

وقد أكد ذلك نيكولاي ليونوف أحد موظفي السفارة الروسية 61-68 في مقابلة له قال فيها: "التقيت فيديل كاسترو لأول مرة صيف عام ستة وخمسين في المكسيك، حيث اجتمع بعدد من الثوار الكوبيون. كنت على ثقة تامة بأن فيديل كان زعيما لحركة وطنية ديمقراطية. ولم أعتبر في أي لحظة أنه ماركسي".

استعان فيديل كاسترو بيخت غرانما الصغير للنزول على أرض كوبا الباتستية عام ستة وخمسين. حمل اليخت على متنه اثنين وثمانين رجلا. وصلوا إلى الجزيرة بعد أسبوع من الإبحار وهم أقرب إلى الموت من شدة المرض.

اعتمد فيديل في مهاجمة الشرق الكوبي على ثقته بنفسه وبلده والرجال الذين كانوا معه. أما الأيديولوجية فكانت ثانوية. لم يثق الروس إطلاقا بهذه الدوافع.

استقبل جيش باتيستا وحدة فيديل بقصف مفاجئ، فلم ينجو من الموت أو الأسر إلا ستة عشر شخصا منهم فقط. ولكن فيديل جمع الناجين وكان من بينهم الطبيب الأرجنتيني الثوري إرنستو تشي غيفارا ولجأ إلى الجبال حيث تمكن خلال بضعة أشهر من تجنيد الفلاحين حتى أصبح لديه أكثر من مائة وخمسين رجلا، تملكتهم القناعة بأن النصر كان وشيكا.

يقول إنريكي سوتومايور، عضو الجيش الثوري الكوبي أن فيديل "تمتع بشخصية فاتنة، قادرة على إثارة التحريض بين الجميع، وقد ترك أثر إيجابي بين سكان الأرياف. وأقام صلة جيدة مع الفقراء في جبال سيررا مايسترا، بعد أن عرفوا فيه القائد الكفيل بفرص الإصلاحات الزراعية".

أعلن باتيستا للصحافة بأن كاسترو قد مات، فرد فيديل على ذلك بدعوة الصحفيين إلى قواعده للتأكد بأنفسهم. وهكذا تمكن من نشر أفكار الثورة بين السكان وعزز مكانته القيادية في العالم عبر كل السبل، وذلك بأساليب منطقية. وقد قال في تلك الفترة عبر تصريح علني له: "لا يوجد بيننا أفكار ماركسية أو لنينية، تكمن فلسفتنا السياسية في التمثيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاقتصاد المدروس".

تعتبر الثورة الكوبية من أولى الثورات التي اعتمدت على الإذاعة والتلفزيون في العالم. وكانت الإذاعة بالغة الأهمية لفيديل كاسترو، إذ استعان بها لقراءة كل البيانات العسكرية التي توضح للناس حقيقة ما يجري.

وقد نقل عن روبيرتو سالاس مصور فيديل الشخصي قوله: "أعتقد أنه لو لم يكن محاميا وقائدا للثورة لكان من أصحاب شركات الإعلانات في وول ستريت. لأنه بارع جدا في هذا المجال".

عمت الاضطرابات جميع المدن فخرج الطلبة في طليعة الاحتجاج لمناهضة باتيستا. ليتعرض الذين ألقي القبض عليهم للقتل أو التعذيب. توالت الضربات الواحدة بعد أخرى، فاستعانت الشرطة بخراطيم المياه والهراوات المؤلمة. ولكنهم حاولوا عدم الضرب على الوجوه كي لا تظهر أثرها على شاشات التلفزيون.

في هذه الأثناء تمكن ثوار فيديل كاسترو في الجبال من تمزيق وحدات باتيستا المدربة. حاول الجنرال قصف مواقع الثوار لإجبارهم على الاستسلام دون جدوى. فاندفع الثوار بقوة أكبر حين أعلنت واشنطن وقف بيع الأسلحة لباتيستا.

أدركت وحدات الطاغية أن لا جدوى من الاستمرار في محاربة الثوار، وأنهم جنودهم ففقدوا معنوياتهم في تلك الحرب عزز سمعة فيديل القائد المسؤول كما يسميه الكوبيون حتى اليوم.

فقد باتيستا السيطرة في هافانا مع بلوغ الثورة ذروتها، فتعرض كل مشتبه في تعامله مع حكومة باتيستا لظروف عصيبة. وأصبح من الصعب السيطرة على الناس الذين كانوا يرغبون في إخراج الأثاث من الملاهي وإحراقها.

كان هذا هو الحال عشية وصول طلائع قوات فيديل المتقدمة، والتي عبرت الجزيرة بكاملها وحظيت باستقبال المنتصرين وسط الفرح والبهجة العارمتين.

تأثر الجميع بالحماس الشديد الذي أثاره فيديل بسكان الأرياف، وبطريقة تحدثه معهم واختلاطه بهم، وتصفيقهم له، ومحبتهم له، كانت تلك مشاهد شبه خيالية ما زال البعض يتذكرها برومانسية تشبه الحلم، كان سكان هافانا بانتظاره، الشعب كله، كانت حشود هائلة تحتقن الصرخة في حلقها، وتقول فيديل!

ساد إحساس عارم من العزة الوطنية مع رحيل النظام السابق عن الجزيرة، فشعر الكوبي لأول مرة في التاريخ أنه سيدا يقرر مصيره بنفسه. لم تعد بلاده مستعمرة أوروبية أو تابعة للولايات المتحدة، شعر الكوبيون أنهم قادرون على إخراج الجزيرة من حالة البؤس لبناء مجتمع أفضل.

وكأن أحدهم كان يتوقع إعصار آت، ولكنه إعصار يتمنونه جميعا لأنه سيخلصهم من العفن والفساد.

سادت لحظات جميلة كتلك التي ترافق الثورات يتمتع فيها الجميع بالكرم. فاستضاف سكان هافانا الفلاحين القادمين مع فيديل، وأخذ الجميع يفكر بغد أفضل لكوبا. كانت لحظات جميلة فعلا، لم يفكر أحد بأنها ثورة شيوعية، بل تحدث الجميع فيها عن الحرية والإصلاحات الجذرية.

وصل فيديل كاستروا إلى العاصمة بعد أيام من رأس السنة الجديدة إلى جانب أخيه الأصغر راؤول. وقد تاقت الحشود لسماع أول خطاب لزعيم الثورة المظفرة.

وهناك حادثة يرددها كل الذين شاركوا في ذلك الاستقلال حين أطلق زوج من الحمام الأبيض قبل أن يبدأ خطابه كرمز لعودة السلام إلى كوبا. ولكن إحدى الحمائم عادت لتحط على كتف كاسترو، وبقيت هناك طوال فترة الخطاب. هذا ما جعل بعض الحاضرين يركعون على ركبتيهم على اعتبار أن الحمامة البيضاء هي رسول الآلهة أوشوم حسب بعض الديانات المنتشرة في كوبا، والتي تقول أن الحمامة البيضاء رسول يبعث لتكريس شخص ما.

ويقول فيكتور بيتانكورت كاهن ديانة فودو في كوبا أن هناك تنبؤات تؤكد حصول تغيير في صالح الناس. شعر الكثيرون بأن فيديل هو المخلص القادم، وقد قورن ذلك بمشاهد من الكتاب المقدس".

وقد أكد بعض الشهود أن هذه الحادثة كانت مجرد خدعة للتلاعب بعقول الناس، مع ذلك وحتى لو كان تلك خدعة فعلا فهي أشد إثارة للدهشة لأن فيديل وخلال عامين من انشغاله حرب العصابات في الجبل تمكن من تدريب تلك الحمامة على الوقوف على كتفه والاستماع إلى خطابه رغم ضوضاء الحشود.

في هذه الأثناء عزز فيديل مكانته الشخصية، واضعا ثقته بأخيه راؤول وتشي غيفارا وحفنة قليلة أخرى. أما كبار خصومه فقد وقفوا جانبا أو غادروا البلاد والعمل السياسي بمشيئتهم أو خوفا من ماضيهم. المهم هو أن فيديل سارع في تنفيذ برنامج الإصلاحات الاجتماعية الذي وعد به في دفاعه الذي حمل عنوان سيبرئني التاريخ.

جرى تأميم وتقسيم العقارات الكبيرة التي كانت في غالبيتها في أيدي الملاكين الأمريكيين، لتوزع بعد ذلك على الفلاحين. أرسل طلاب المدارس إلى الأرياف لتعليم الأميين القراءة والكتابة، ما أدى إلى حملة تربوية واسعة. هذا ما أزعج معارضي فيديل في الداخل والخارج، فاعتبروا ذلك من ضروب الشيوعية.

سادت العادة في واشنطن كقوة عظمى في القارة أن يأتي إليها الرؤساء الجدد في أمريكا اللاتينية لتقديم احترامهم وطلب بعض الخدمات. زار كاسترو العاصمة الأمريكية ولكنه لم يتسول المعونات. بل قال حينها بكل فخر واعتزاز "جئت سعيا للعلاقات الجيدة، والتفاهم الجيد، وللعلاقات الاقتصادية الأفضل".

رفض الرئيس أيزنهاور مقابلته، ولكنه التقى بنائب الرئيس رتشارد نيكسون. ولم يعجب نائب الرئيس بهذا الثوري المنتصر. وقد علق فيديل على تلك المناسبة بالقول: "شرحت لنيكسون الظروف الاجتماعية الصعبة التي تعيشها كوبا، من فقر وإجحاف وحدثته عن مئات الآلاف من العاطلين عن العمل والفلاحين المحرومين من الأراضي، والإجراءات التي يفترض أن نتخذها لحل هذه المشكلات، فاستمع نيكسون إلى كل ما أقوله دون أي تعليق، ولكن من المعروف أنه عند انتهاء المقابلة معي بعث بتقرير إلى أيزنهاور يقول فيه أن كاسترو شيوعي".

تحول الحصن الإسباني السابق لاكابانيا إلى موقع نزاع آخر. إذ كان هذا المكان هو الموقع الذي حوكم فيه المعادين للثورة ممن ارتكبوا جرائم دموية بحق المواطنين فسجنوا وأعدموا هناك.

استغل ذلك من قبل الولايات المتحدة لبث الرعب والخوف لدى المهنيين والمهندسين والأطباء وأصحاب الكفاءات الأكاديمية الأخرى، فغادروا إلى الولايات المتحدة قبل إغلاق الحدود. أدى ذلك إلى خسارة كوبا لكثير من المهارات بينما تعززت قوة اللوبي الكوبي المعادي للثورة في الولايات المتحدة.

وقد علق رتشارد نوسيو، مستشار الرئيس كلنتون للشؤون الكوبية على السياسة الأمريكية تجاه كوبا بعد ذلك بالقول: "النزاع القائم بين كوبا والولايات المتحدة بعد ثورة عام تسعة وخمسين، هو نزاع أيديولوجي، ونزاع مصالح. مصلحة الولايات المتحدة في بقاء كوبا ضمت فلكها، وأن تبقى كنوع من البلد الذي ندخل إلى دستوره نصا يمنح الولايات المتحدة حقوقا مميزة في كوبا".

عام ستون وصل إلى كوبا نائب رئيس الوزراء السوفيتي أناستاس نيكويان، فكان أبرز شخصية تأتي من موسكو، لتوقيع معاهدة لشراء ملايين الأطنان من السكر الكوبي. تم ذلك بعد أن ألغت الولايات المتحدة معاهدة شراء السكر مع كوبا.

وحين رفضت الشركات الغربية تكرير النفط المستورد من الاتحاد السوفيتي، أعلن فيديل تأميم عدد من هذه من الشركات الأمريكية ما أدى تفاقم العداء الأمريكي المباشر والمعلن تجاه الجزيرة بدأ بأوسع أشكاله عبر تفجير سفينة فرنسية تحمل ستة وسبعون طنا من الذخائر إلى كوبا.

ثم دأبت الولايات المتحدة على إرسال عملائها لحرق حقول قصب السكر، كما سحبت أذون بيع السكر الكوبي في الولايات المتحدة ضمن سعيها لخنق كوبا. وأخذت تبرز محاولات أمريكية لقتل كاسترو، وهي تشمل السم والسيجار المتفجر ومحلول يسبب له سقوط الشعر ولكنها فشلت جميعها.

عام واحد وستون أعدت الولايات المتحدة قوة ضاربة من المنشقين الكوبيين بقيادة السي أي إيه لاجتياح الأراضي الكوبية من نيكاراغوا. ولكن الخطة لم تنجح، ذلك أن فيديل سارع إلى خط الجبهة بنفسه ليتولى شخصيا مواجهة الوحدات الأمريكية وهي تلقى الموت أو الأسر هناك. تكللت عملية خليج الخنازير بالنصر لكوبا والهزيمة للولايات المتحدة.

وقد علق روبرت ماك فارلين، مسئول فريق الأمن الوطني للرئيس ريغان بالقول " سبب خليج الخنازير الكآبة لجميع الرسميين في الولايات المتحدة ونحن نتعاطف مع القوة المهاجمة التي استغلت من قبل الولايات المتحدة ولم تلق الدعم الكافي. كما سبب الإحراج لبلدنا".

عند تعرض كاسترو لهذا الهجوم الأمريكي سعى للحصول على حماية أعداء عدوه، بإعلان اعتناق عقيدتهم. وق قال في تلك المناسبة "لا بد من القول، وقبل أي شيء آخر، أننا ماركسيون لنينيون!.

معلق: بعد عام من ذلك أدت التهديدات الأمريكية لكوبا إلى وضع العالم على شفير الحرب، حين وصلت وحدات سوفيتية متنكرة بملابس السياح إلى هافانا لتنعم باستقبال شعبي واسع. حملت هذه الوحدات صواريخ نووية بقيت تحت سيطرة موسكو، لمواجهة احتمال اعتداء أمريكي مباشر على كوبا.

يعتبر نصب الصواريخ في كوبا من أشد المسائل تعقيدا. وتؤكد أحدث المعلومات الواردة في الملفات الروسية أن هذا اقتراحا بهذا الشأن قد صدر عن نيكيتا خرتشوف شخصيا.أي أنها مبادرة منه. حتى أنه قال مجازا للمقربين منه في قيادة الحزب أنه أراد بذلك "وضع قنفذ في بنطلون الولايات المتحدة".

مع وصول المزيد من الأسلحة السوفيتية بحرا شدد كندي حصاره البحري على السفن القادمة إلى كوبا. ما أعتبر حصار غير قانوني في أوروبا ومناطق أخرى من العالم الذي أصرت الولايات المتحدة على تحديه حتى بلغت حد التهديد بوقوع حرب نووية.

أمر كاسترو بإسقاط طائرات التجسس الأمريكية باستخدام الأسلحة المضادة للطائرات التي تحت إمرته. وقد قال في هذا الصدد "حذرنا منذ البداية من أن هذه الحرب قد تتحول إلى حرب نووية، يتم فيها القضاء علينا، وحيال تعرض البلد للاحتلال، بالكامل، كنا مستعدين للموت دفاعا عن البلد، أعلنت موافقتي على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، عند وقوع الاجتياح الذي تم التحدث عنه".

جلس كرتشوف للتفاوض مع كندي والتوصل إلى اتفاق معه من وراء ظهر كاسترو ودون استشارته.

أعيدت الصواريخ إلى الاتحاد السوفيتي مقابل تعهد من كندي بعدم الاعتداء على كوبا وسحب الصواريخ من تركيا.

احتج فيديل على هذا الموقف السوفيتي رغم الصداقة التي تجمعه بالكرملين، واعتبر أنه من الخطأ الشديد القيام بذلك دون معرفته، ودون احترام لوجهة نظر كوبا صاحبة المصلحة المباشرة في الأمر، وهذا ما لم يتقبله.

بعد ذلك كاد فيديل أن يتوصل إلى تفاهم مع الرئيس كندي، رغم أن هذا الأخير هو الذي أطلق عملية خليج الخنازير ضد كوبا. ويقال أن الفريقان قد حملا أغصان الزيتون وكان الصحفي الفرنسي جان دنييل مبعوث جون كندي حينها مع فيديل كاسترو، وأكد أن فيديل كان متحمسا ومنفتحا ومستعدا لبدء حوار، ولكن أثناء وجوده حينها مع كاسترو وصل نبأ اغتيال كندي، فقال كاسترو أن هذه هي النهاية والحقيقة أنها كانت نهاية حقيقية.

اعتبرت موسكو أنه لا بد من إعادة العلاقات مع حليفها الاستراتيجي إلى سابق عهدها. دعا السوفييت كاسترو للقيام بأول رحلة له إلى الاتحاد السوفيتي. تلقى هناك ترحيبا دافئا شملت رحلة صيد رمزية بصحبة خرتشوف.

أرضى السوفيت كاسترو لحاجتهم الماسة لدعمه الأيديولوجي، أرادوا فيديل إلى جانبهم، وقد أدرك ذلك. أصبح هناك واقع سياسي آخر، على اعتبار أن العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفيتي كانت حيوية بالنسبة لكاسترو في سعيه للتغلب على عواقب الحصار الأمريكي الجائر والمتنامي.

اشترى السوفييت السكر من الكوبيين بأسعار تفضيلية، وباعوهم النفط بأسعار مقبولة. كما جعل اعتماد الجزيرة على الدعم العسكري السوفيتي التماسك بين البلدين أمرا لا بد منه. وهكذا تمكنت كوبا من تعزيز صمودها في وجه الحصار الأمريكي. إلا أن هذا لم يشكل اختراقا كاملا للحصار الأمريكي المفروض على الجزيرة والذي عرض المواطن العادي لنقص في بعض المواد. إلا أن هذا النقص لم يحل رغم صعوبته دون تمكن الجزيرة من تحويل برامج الخدمات الصحية والتربية والتعليم والفنون والرياضة فيها إلى مصدر فخر واعتزاز للجزيرة تحسدها عليه بلدان أمريكا اللاتينية وحتى بعض البلدان الأوروبية أيضا.

عام خمسة وسبعون وجد فيديل كاسترو في اجتياح نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا لأنغولا بدعم من الغرب فرصة لتأكيد التزامه الثوري واستقلاله وإنسانية ثورته، فأرسل وحداته لدعم الحكومة السوداء في لواندا. وقد وقف في تلك المناسبة أما أعلى هيئة حزبية يقول:" ما نطلبه اليوم من مؤتمر حزبنا، هو الدعم الكامل لسياسة قيادة الحزب في تقديم المساعدات اللازمة عبر جميع السبل المتوفرة وبكل الطرق الممكنة لشعب أنغولا البطل.

شكلت التجربة الأممية لكوبا في القارة الأفريقية نموذجا يتحدث عن مدى استقلالية القرار الكوبي عن موسكو رغم ما أشيع حينها من اتفاق ضمني بين الطرفين في هذه المسألة، فقد بينت الملفات السوفيتية التي كشف النقاب عنها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تباينات طوال الحملة العسكرية على أنغولا إذ تؤكد الملفات أن مواقف الخبراء العسكريين السوفييت خصوصا كانت على خلاف دائم مع التدخل الكوبي في أفريقيا. ولكن الكوبيين أصروا على مواقفهم رغم غياب الدعم السوفيتي لهم في هذه الحرب المعلنة ضد التمييز العنصري والأبرتهايد.

يمكن التأكيد اليوم وبالكامل أن تاريخ جنوب أفريقيا كان ليختلف كليا لولا التدخل والتواجد الكوبي في القارة السوداء. لا مجال للشك بأن ذلك شكل ضربة عالمية قاسية. ولا شك أن كوبا بل فيديل كاسترو ما زال حتى اليوم يعتبر أن هذا هو أهم ما أنجزه حتى اليوم.

لعبت كوبا دورا أشد أهمية من حكومات قوى عظمى مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، عبر البدء بتوجيه أولى الضربات القاسمة لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية والهزائم التي أجبرتها على التفكك والانهيار.

ردت الولايات المتحدة على موقف كوبا بالتحريض على إثارة حالة الفوضى الناجمة على حملاتها الإعلامية وقوانين الهجرة المجحفة بحق كوبا والتي شجعت من خلالها مائة ألف مواطن كوبي على الهجرة الغير مشروعة إلى الولايات المتحدة عبر ميناء المريل. غادرت غالبيتهم عبر أسطول من الزوارق التي أرسلت من فلوريدا. وضع كاسترو عددا من السجناء والمحكومين من بينهم. ولكن هذا لم يحيد فيديل عن وجهته، كما لم تربكه الرئاسة الأمريكية الجديدة رغم حملاتها العسكرية المبكرة على حوض الكاريبي.

دخل رونالد ريغان وهو أشد مقاتلي الحرب الباردة سخونة إلى البيت الأبيض عام واحد وثمانين. فتعاظم التوتر، وعاد تعهد واشنطن بعدم الاعتداء على كوبا مرة أخرى إلى الجدال. خلال العام الأول من إدارته اقترح سكرتير الدولة للشؤون الخارجية ألكسندر هيغ التوجه نحو المصدر، كما أسماه هيغ، أي "التمرد الماركسي في القارة الأمريكية" عبر التحضير لهجوم على كوبا. والحقيقة أنه لم يتخلى عن هذه الفكرة لاعتبارها ممكنة بخسائر مقبولة، ولكنه رأى أن ذلك سيحول الأنظار عن تهديدات أكثر أهمية.

أخذ جدار برلين ينهار في أوروبا الشرقية، وأخذ السوفيت يواجهون المشاكل في عقر دارهم.

توجه ميخائيل غورباتشوف إلى كوبا لإبلاغ كاسترو بأن المساعدات السوفيتية ستشح في المستقبل. انهار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية أيضا. فاعتقد البعض أن مستقبل فيديل كاسترو واستراتيجيته قد أصبحا على المحك.

مع انهيار التحاد السوفيتي وقعت كارثة لا يمكن التقليل من أهميتها، وقعت كارثة اقتصادية وأخرى معنوية أيضا كان تأثيرها على المعنويات كبيرا لم ينجو منها أحد. ويبدو أن تعزيز التماسك والوحدة تتطلبا العودة وبأسرع ما يمكن إلى جذور كوبا وهويتها التاريخية، بالتأكيد على إبراز خوسي مارتي، البطل الوطني الذي مات في المعركة أثناء حرب الاستقلال على إسبانيا قبل مائة عام من ذلك، بعد أن قال أن كل ما فعله طوال حياته هو حماية كوبا من براثن الهيمنة الأمريكية.

تكونت لدى مارتي فكرة منسجمة عن هوية كوبا الوطنية، فيها الكثير من التناغم، وإذا تعمقنا اليوم في نظرية فيديل كاسترو السياسية سوف تجد أنها تشكل تجسيدا لما كتب وعاش وناضل ومات من أجله الأب الروحي لاستقلال كوبا وسيادتها الوطنية.

وحيال مرحلة جديدة من النضال، وجد فيديل في فتح الأبواب الواسعة لاستقبال السياح والاستثمارات الأجنبية أمر لا بد منه إذا أرادت كوبا الحصول على الحد الأدنى من العملة الصعبة اللازمة. تطلب ذلك جعل الدولار الأمريكي متداولا بطريقة مشروعة. أدى ذلك من سوء الحظ إلى خلق ظروف من التفاوت في الإمكانات المادية الآخذة بالتنامي رغم توفير الاحتياجات الأساسية والأولية من مواد غذائية وتربية وتعليم وعناية صحية لجميع المواطنين دون استثناء.

ولكن العدوانية الأمريكية استمرت حتى في عهد كلينتون المتساهل. وصلت علبة سيجار من فيديل إلى البيت الأبيض، ولكنها سببت إحراج سياسي، فأبعدت عن الرئيس وكأنها تحمل فيروس خطير.

انضم الملك والملكة الإسبانيان إلى الوفد المشارك في قمة عام تسعة وتسعين للبلدان الناطقة بالاسبانية والبرتغالية المنعقد في هافانا. عند الترحيب المسرف بهما، اتبع فيديل سياسية دبلوماسية جديدة لكبح المساعي الأمريكية الدائمة لعزله. لا شك أنه كان دائم الفخر بميراثه الإسباني.

استعان فيديل بنفوذ سياسي هائل نمّاه في العالم، لبناء تحالف ومراكمة الدعم، في مرحلة بدت فيه الثورة في حالة من العزلة التامة، وهنا تبرز براعته الدبلوماسية العالمية. تغلب فيديل كاسترو على أسوأ ما فعله خصومه الأجانب ضده. تغلب على ظروف انهيار الشيوعية، وما زال هناك بعد أربعة عقود من الحكم، وسط جدال يدور في الداخل والخارج حول فضائله وعيوبه. لا شك أنه شخص يمنح الأمل. هذا ما فعله دائما. قبل ظهور فيديل في الصورة السياسية الكوبية، لم يكن لدى الكوبيين كثيرا من الآمال.

لا بد في النهاية من القول أنه شخصية تهتم وتعمل جديا وبكل ما تملك على رفع طبقة المجتمع السفلي إلى أرقى المراتب من خلال إصراره على تطبيق العدالة الاجتماعية.

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster