اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 بعثات 1 - أنهر أمريكا الجنوبية.
 

انهار اميركا الجنوبية

 

الجزء الأول

  لأول مرة في التاريخ تنطلق بعثة استكشافية لعبور الأنهر الممتدة على طول القارة الأمريكية الجنوبية. من مار دي بلاتا في الأرجنتين صعودا نحو لاغوارا الكاريبية التابعة لفنزويلا. عبر الفريق ثمانية آلاف ميل من الأنهر الممتدة على طول ستة بلدان، ليؤكد انتشار شبكة واسعة من الأنهر الممتدة من الشمال إلى الجنوب لتربط القارة بكاملها.

          ضمت هذه المغامرة المدهشة كل من كونستنتين وبول وجورجيسكو، الأساتذة في جامعة سيمون بوليفار في كراكاس، مع المصور إدواردو مارتينس وماكسيمو دوتا، وطالب الهندسة خوسي أوسوريو. هذه هي قصة بعثتهم الاستكشافية.

          يوحي جمال القارة الأمريكية الجنوبية المدهش وثرواتها المعدنية الوفيرة بعدد من الأساطير والخرافات التي حيرت العالم منذ أيام الغزوات الإسبانية قبل خمسة قرون.

          عبر المغامرون الاسبان جميع الأنهر وفي مختلف الاتجاهات بحثا عن مدينة الدورادو الخيالية. اتجه الغزاة نحو المناطق الساحلية ليستقروا هناك بعد فشلهم في العثور على المدينة الأسطورية. أدى ذلك إلى ازدهار المدن الساحلية التي تحولت إلى مراكز أساسية لاستخراج المعادن الثمينة والأغذية والمواد الخام المصدرة إلى أوروبا.

          تعتبر هذه المدن عواصم رئيسية متسارعة الخطى، ترتكز فيها الحياة الاقتصادية والسياسية لعدد من البلدان. ما يبقي قلب القارة بغالبيتها قليلة السكان نسبيا.

          قد يستغرب المرء ولكن انطلاقة هذه الرحلة كانت من شاطئ البحر. تعتبر مورو دي بويرتو سانتو قرية صيد صغيرة تقع على شواطئ فنزويلا الكاريبية.

تهدف بعثتنا للت\أكد من أن كبريات الأنهر في أمريكا الجنوبية على غرار أورينوكو والأمازون  ولابلاتا هي أنهر قابلة للملاحة. نريد التأكيد بأنها قابلة للتحول إلى طرق تجارية، لهذا قمنا باختيار قوارب بحرية كهذه التي هنا.

 تختلف القوارب البحرية عن تلك الخاصة بالأنهر وذلك في أنها تتميز بكيل يشق عباب الموج، أما كيل الزورق هذا فهو يمتد نحو أربعة أقدام تحت سطح الماء، ما يعني أنه حيثما أبحر زورقنا يمكن أن يتبعه أيضا مركب نهري مسطح القاع يصل وزنه إلى ثلاثمائة طن.

تعرف أمريكا الجنوبية بأروع قنوات  الأنهر في العالم، إذ تمتد فيها ممرات مائية يبلغ طولها ثلاثين ألف ميل. تساعدنا هذه القنوات الطبيعية  من الوصول إلى أعماق القارة حيث تنتشر مساحات شاسعة، تكثر فيها الثروات الطبيعية البتول منذ ما قبل الغزوات الاسبانية، والتي حان الوقت للاهتمام بها.

حين قرر أشقاء جيورجسكو إعداد فيلم وثائقي يروج لفكرة استخدام الأنهر كبديل استراتيجي لبلوغ المناطق الغير مستكشفة في قلب القارة، ترددت كثيرا، وسألت نفسي هل نحن مستعدون لمواجهة التحدي؟ هل نحن قادرون على استكشاف هذه المناطق الشاسعة البتول دون أن نسبب مآس بيئية وعواقب ثقافية؟

          تعتبر هذه القارة آخر حدود العالم الذي ما زالت تحيى فيه ثقافة الهنود بانسجام مع البيئة الطبيعية، هذه ثروة يفترش ألا يتم تدميرها.

          بعد عام كامل من التحضير المكثف، حلت اللحظة الكبرى، حملنا المركب في سفينة شحن متجهة إلى بوينوس أيريس، كي ننطلق في رحلة نعبر فيها سبعة آلاف ميل نحو الشمال باتجاه حوض الكاريبي. من نقطة الانطلاق في ريو دي لا بلاتا في الأرجنتين.

          عمد المركب باسم أورينوكو تكريما للنهر الذي ألهم الأخوة جيورجيسكو للقيام ببعثتهم السابقة.

          بوينوس أيريس هي عاصمة كبرى ترتكز فيها القوى الاقتصادية والسياسية الأهم في الأرجنتين. تذكرنا مبانيها الفخمة بعظمة المدن الأوروبية القديمة.

          استمتع الفريق بمشاهدة مراسيم وطنية في ساحة مايو، فتعرفنا على ملامح الشخصية التي جلبت شهرة عالمية لهذه المدينة.

          الشعب الأرجنتيني مرح جدا، ومتعدد الأعراق، يمزج بسهولة بين التقاليد والحداثة. تحتل بوينوس أيريس  في بلاد التاغو وكارلوس غارديل، أقل من ثلاثة بالمائة من أراضي الأرجنتين، إلا أن ثلث السكان يتجمعون فيها، علما أن هذه الظاهرة في توزيع السكان تنتشر في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية.

          أصبح المركب جاهزا في ميناء بوينوس أيريس، بعد تحميل المعدات واللوازم، والحرص على عدم نسيان ما قد يصبح أساسيا فيما بعد. وبعد قليل أصبح المركب في طريقه نحو الهدف.

          يكمن الهدف الأول في الملاحة صعودا عبر نهر لا بلاتا، نتبع النهار حتى اندماجه بنهر برانا، ثم انطلقنا من هناك إلى مصب برانا.

          مرت الأيام الأولى دون مواجهة مشاكل كبيرة، فتملكن إحساس بالسكينة الداخلية الناجمة عن هدوء المناطق الطبيعية المحيطة في مناطق الأنهر بكاملها.

            سرعان ما شهدنا على الكفاءة الأرجنتينية في الاستفادة من ثروات الأنهر. أصبحت محطة أتوشا النووية على مرأى منا. وفي أعلى النهر وجدنا أنفسنا أمام مساحات من الأراضي الزراعية.

          تابعنا المسير حتى وصلنا إلى روساريو، المدينة الثانية من حيث الأهمية الثقافية والاقتصادية في البلد، التي كان لنموها وازدهارها صلة بوقوعها على ضفة نهر بارانا.

          يعتبر هذا النمو الإيجابي نموذجا لبقية أمريكا اللاتينية، إنه نموذج للفوائد الهائلة التي يمكن بلوغها عبر هذه الأنهر. هذا ما يمنحنا الأمل لما يمثله من سابقة هامة تؤكد أن بعثتنا عبر النهر لم تكن لمجرد مثالية عبثية.

          ما زلنا على مسافة ستة آلاف ميل من هدفنا المنشود، علينا المحافظة على معدل ملاحة يصل إلى ستة عشر ساعة في اليوم دون توقف. يبقى كونستنتين بحالة من الاستنفار الدائم، فقد علمته التجارب أنه رغم الهدوء الظاهري، يمكن للمشاكل أن تظهر في أي لحظة.

          فجأة أخذ الضباب يحاصرنا، لنجد أنفسنا في قلب عاصفة بمبير ، وهي رياح دافئة تصعد من سهول بامباس الأرجنتينية الشاسعة جدا.

          لا يمكن أن نفعل شيئا سوى ربط المركب والانتظار.

نهاية الجزء الأول

==-=-=-=-=-=-

الجزء الثاني

لم نسافر ليلا لأسباب أمنية، بل نبحث عن مكان آمن لقضاء الليلة فيه. لنتحرك مباشرة في صباح اليوم التالي.

          قطعنا في اليوم الثامن عشر ما يقارب الثمانمائة  ميل. أخذ المركب يجابه التيارات المتشابكة بين نهري بارانا وبراغواي.

          على بعد خمسة أميال من مصب نهر براغواي تقع بلدة أومايتا التاريخية، حيث تنتصب أطلال كاتدرائية عريقة هائلة، لتشهد على حرب وحشية مدمرة وقعت بين بلدان ثلاث.

          أوشكت براغواي عام ألف وثمانمائة وستون على التحول إلى أول بلد مستقل اقتصاديا في أمريكا اللاتينية. وقد توافق اكتفائها الذاتي اقتصاديا وسياسيا مع موقعها الاستراتيجي في قلب القارة، ما اعتبرته بريطانيا مصدر تهديد للبلدان المجاورة التي تسيطر عليها. فدفعت البرازيل والأرجنتين وأوروغواي لحمل السلاح ضد براغواي، ما أدى إلى نشوب معركة دموية شرسة. بعد ذلك أصبحت أمواتا بلدة هادئة. ما عاد سكانها يتذكرون هولات الحرب، مع أنهم يتمسكون بالأرض التي يحبها جميع أبناء براغواي.

          تسعى براغواي لاستعادة أمجاد الماضي، يحيا غالبية السكان هنا على ما تقدمه الطبيعة لهم. يشكل الصيادون تعاونيات على ضفاف نهر برميهو، للاستفادة من ثرواتها إلى أقصى حد. ولكن قلة الوسائل التكنولوجية تحول دون حصولهم على أكبر الغنائم.

          تعتبر أبقار الصادرات صناعة أساسية في أيدي كبار المزارعين وملاك الأراضي ومحور أساسي للاقتصاد هنا. ومع هذا لم يبق من أمجاد البراغواي إلا بعض الحكايات.

          يعتبر نهر البراغواي أساسي في هذا البلد، غذ يشكل مخرجه الوحيد نحو البحر، هذا ما نلحظه في الأنشطة لميناء أسونسيون، الذي يشهد تبادل ثمانين بالمائة من تجارة المستوردات.

أبلغنا بول جورجيسكو بالاجراءات المعدة لتمكين الفريق من متابعة الرحلة.

          تركنا المركب في ايد آمنة وخرجنا للقيام بجولة للتعرف على المدينة. كانت أسونسيون أول مدينة تشيد على ضفاف النهر قبل أربعمائة عام بمبادرة من الغزاة الاسبان. وما زالت تعكس آثارا واضحة لماضيها الاستعماري رغم انتشار المباني الحديثة مؤخرا.

          تم بناء أكبر محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية  بمساعدة البرازيل والأوروغواي، وذلك عبر سد إيتايبو.

          نشبت بين هذه البلدان قبل مائة عام حروب ضروس سفكت فيها الدماء، وقد تبين لها اليوم أن التكامل هو الطريق الأصح.

          على ارتفاع بضعة أميال من أعالي النهر تنتصب شلالات إغواسو بعظمتها الفريدة في العالم.

          بعد أيام قليلة تابع المركب صعودا نحو أعالي نهر براغواي، مع تقدمنا أصبحت الأرياف أقل كثافة بالسكان.

          وصلنا إلى ميناء أوليمبيا بعد عبور ألف ميل من الأنهر، كان هذا ميناء عسكريا قديما في مستعمرة براغواي، ليصبح اليوم بلدة هادئة. من المدهش إيجاد كنيسة رائعة البناء في مكان متواضع كهذا. يسكن البلدة أقل من ألف مواطن.

          عبرنا النهر لعدة أسابيع في سهول لا حدود لها. تقع في الجنوب منطقة غران بلاتانال هي مساحات شاسعة من المستنقعات والبرك التي تتوسط سهول توازي نصف مساحة فرنسا. أما غربا فتقع سهول تشاكو بوريال الممتدة على مساحات تقدر بستمائة ميل من النهر حتى سفوح جبال الأنديس. إنها أراض بتول تمتد أمام أعيننا  وكأنها بلا حدود.

نهاية الجزء الثاني

=-=-=-=-=-=

الجزء الثالث

باهيا نيغرا هي قاعدة عسكرية هامة على الحدود، وهي آخر محطة لنا في أراضي البراغواي. تأمين الوقود هو أهم عمل نقوم به في هذه المناطق القليلة السكان، فقد يؤخرنا نفاذ الوقود عدة أسابيع. على الدليل التابع لبحرية براغواي الذي رافقنا من أسونسيون أن يبقى الآن هنا عند دخولنا الأراضي البرازيلية. علينا منذ الآن الاعتماد على حس الفطرة لدينا.

          عززت البرتغال من توسعها في أمريكا الجنوبية في القرن الثامن عشر، فاستولت على أراض إسبانية ضمن ما يعرف بالتنمية، وهي كلمة تحولت إلى مرادف للغزو والسيطرة. تعتبر قلعة كوهيمبرا دليل واضح على الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، فهي من القلاع الأسطورية التي تنبع كالجزر في بحر من الأشجار.

          تقع محطتنا التالية على بعد أربعمائة ميل من هنا.

          عبرنا في اليوم الخامس والأربعين ألفين وثلاثمائة ميل تقريبا، حين وصلنا أخيرا إلى كاسيريس حيث انتهى الجزء الأول من رحلتنا عبر نهر لا بلاتا. سنصعد الآن عبر نهر الأمازون، ولكن علينا أولا نقل القارب عبر اليابسة  إلى نهر غوابوري.

          يشرف كونستنتين على جميع التفاصيل. أخرج مركب أورينوكو من المياه كالحوت النائم. هذه أولى رحلات اليابسة الثلاثة التي سنقوم بها.

          انطلق المركب محمولا ببطئ شديد لعبور مائتي ميل تفصلنا عن فيلا بيلا.  لا يوجد حتى الآن قناة تصل بين لا بلاتا والأمازون. رغم توفر دراسات مجدية لتشييد  قناة تربط بين النهرين لتشكل خطوة هامة على طريق التواصل بين أرجاء القارة عبر شبكة الأنهر فيها.

          تابعنا التقدم نحو أدغال ماتو غروسو التي لم تستكشف لعدة قرون، ما يجعلها من أصعب المناطق الطبيعية في العالم.

          وصلنا صباحا إلى فيلا بيلا دي لا سانتيسيما ترينيداد. تؤدي ظروف الشوارع الصعبة هنا إلى استخدام النهر في نقل البضائع إلى بلدتي غواياراميرين وبورتوبيلو.

          يرسو عدد من المراكب في ميناء فيلا بيلا، وهي تنتمي إلى أسطول صغير يتنقل عبر نهر غوابوري على مدار السنة. سنبدأ من هنا المرحلة الثانية من رحلتنا بعبور سبعمائة وخمسين ميلا على طول غوابوري.

          تعتبر هذه  من أهم مناطق مزارع الأبقار في البرازيل، أو ما يعرف بفازينداس. أردنا التعرف على الفازيناداس فتوقفنا عند إحداها على ضفة النهر.

          تغطي مياه الأمطار الموسمية مساحات شاسعة من الأراضي في ماتو غروسو، ما يجعل نشاطات العمل في مزارع الأبقار تعتمد على مواسم المطر. تنقل الأبقار في مواسم المطر في عوامات خاصة بالمواشي من مناطق الفيضان إلى أخرى آمنة.

يحول ارتفاع منسوب المياه دون وصول العوامات إلى الشواطئ، فتدفع المواشي نحو المياه.

          تمارس مصارعة الثيران في الزرائب. تخصا الثيران هنا لتسمينها. يعتمد رعاة الأبقار على براعة عالية في هذا العمل لتفادي معاناة الثيران.

          جاء رعاة البقر أو الغاوتشوس كما يسمونهم في سهول الأرجنتين كمهاجرين من من مزارع بعيدة تقع في جنوب البرازيل والبراغواي، بحثا عن حياة أفضل على الحدود. لا شك أنها حياة صعبة، تناسب رجالا أشداء.

نهاية الجزء الثالث

=-=-=-=-=-=-=-

الجزء الرابع

تعطل المركب بعد عدة أيام من الترحال دون توقف، فاضطررنا للتوقف في قرية برازيلية صغيرة لإصلاحه. أضعف الكاتم قاعدة المحرك، فاضررنا لفكه وتلحيمه. لم يبدد كونستنتين الوقت في البحث عن ميكانيكي، دون أن يدرك أن هذا قد يستغرق يومين وعبور مائة وثمانون ميلا للعثور عليه.

          تعتبر بيمنتيرا بلدة صغيرة في طور التوسع، هي نموذج لهذه المناطق النائية من البرازيل. تشجع الحكومة على هجرة المواطنين إلى هذه المناطق، يأتي الناس إلى هنا لوفرة الثروات الطبيعية التي تمزج بين مجالي الصيد والمزارع. تقوم الحكومة بتمويل المشروعين من خلال الإصلاحات الزراعية. ينتج المزارعين هنا محاصيل تقليدية كما هو حال الرز. تسود الشكوك حول جدوى هذه المشاريع رغم ضخامة المحاصيل فيها.

          زراعة أراضي الغابات المحروقة باستخدام الرماد كسماد للأرض هي تقنيات تحث على فقدان خصوبة الأرض، ما يؤدي إلى استخدام مناطق أخرى من الأدغال، حيث تتكرر التقنيات الهدامة نفسها.

          يحاط الإصلاح الزراعي بعدد من المشاكل. يتلقى هذا المزارع أجرا لقطع الأشجار. استأجر صاحب الأرض عددا من الرجال لإزالة الأشجار، وهم يحصلون مقابل ذلك على قطعة أرض صغيرة.

          يتولى رجال المناشير هذه المهمة، وهم يعملون بسرعة هائلة، إذ ينظف كل منهم مساحة لا تقل عن اثني عشر إكر يوميا.

          اصبح قطع الأشجار  دليلا يؤكد به الملاك بأن أرضه ليست تافهة، ولا يمكن انتزاعها منه. ولكن هذا يؤدي إلى كوارث بيئية حقيقية.

          تعتبر هذه الغابات جزءا من حوض أعالي نهر الأمازون، وهي مما تبقى من رئات العالم.

          من هذه المأساة أن عددا من المستفيدين من برنامج الإصلاح الزراعي يقتلعون أشجار الغابات، ثم يجبرون على بيع العقارات إلى كبار الملاكين، الذين يعززون مزارع الأبقار بكميات هائلة في المنطقة.

          يأتي إلى ماتو غروسو أعداد من المستوطنين الحالمين بحياة أفضل، لا تدوم طويلا، ما يدفعهم إلى مغادرة المنطقة هربا من الجوع والبطالة. فهل تتكرر هنا مأساة شمال شرق البرازيل؟

          كثرة الجراد هنا مدهشة فعلا. يعتبر وجودها دليل على عدم التوازن الطبيعي في البيئة. عادة ما يظهر الجراد في مناطق أخرى من العالم أثناء تشكل الصحاري.

          يشكل نهر غوابوري جزءا من شبكة نهر ا\لأمازون التي تعتبر الأطول في العالم. تتسبب الأمطار بنسبة عالية من هذه المياه التي تتبخر من مساحات النباتات الشاسعة في أدغال الأمازون. ما يعني أن قطع الأشجار سيؤدي إلى خفض منسوب الأمطار، وبالتالي شح المياه المتدفقة في الأنهر.

          الحدائق الغناء في نهر غوابوري جعلتنا نفكر بالخسارة التي قد تحدث. أنشأت الطبيعة هنا عبر حكمتها الفريدة  عالم من الروائع.

          ينبض قلب القارة الأمريكية اللاتينية بالنباتات والحيوانات المحافظة على حالتها البدائية. أكد الأوروبيون الذين جاءوا إلى هنا قبل خمسمائة عام أنهم وجدوا الجنة على الأرض.

نهاية الجزء الرابع

=-=-=-=-=-=-=-=

الجزء الخامس

تابعنا الملاحة على طول نهر غوابوري الذي يحد بين بوليفيا والبرازيل. سنتوقف ضمن محطتنا التالية في بلدة بوليفية نأمل التعرف فيها على أسلوب الحياة والتقاليد هناك.

          عند نزولنا من المركب تكررت أمامنا مشاهد مألوفة، رحب سكان البلدة فينا بود دافئ، وكأننا أصدقاء قدامى عدنا إلى الوطن بعد رحلة طويلة. هذه معاملة شبه عادية تميز قرى أمريكا اللاتينية.

          في قرية بيسو فيرمي الصغيرة والبعيدة عن بقية العالم، شاهدنال سيادة السلام والنظام. رغم الفقر هنا يعتني السكان هنا جدا بالنظافة الشخصية، وبصيانة المناطق المجاورة. لاحظنا ابتسامات الأطفال العريضة، وهم ينعمون بحياة هانئة وسط وفرة بيئية.     

غالبية سكان هذا الجزء من بوليفيا هم من أسلاف الطلائعيين الذين هاجروا إلى هنا مع بداية القرن الماضي للعمل في مزارع المطاط. لقد جاءوا من أعالي بوليفيا في زوارق ركبوها لعدة أسابيع  عبرت بهم مياه الأنهر الخطيرة. مات الكثيرون منهم على الطريق، كما توفيت أعداد أكبر وسط مزارع المطاط نفسها.

          لم تعد صناعة المطاط مجدية عام ألف وتسعمائة وعشرين، فغرقت هذه المنطقة وسكانها في النسيان. أما اليوم فأخذت الأمازون البوليفية تعود تدريجيا إلى صناعة الأخشاب. يتم تجميع الأخشاب في المنطقة، ثم تنقل من هناك بعوامات عبر النهر.

          لا بد من العناية بصناعة الأخشاب بحذر شديد،  فرغم أرباحا الكبيرة، إلا أن تأثيرها على البيئة سلبي جدا إذا تم بدون مسؤولية، ذلك ان مخاطر استنزاف الثروات قد يؤدي إلى أضرار  في البيئة لن تبرر الجدوى الاقتصادية المكتسبة اليوم.

          تتكرر هذه المأساة مرة بعد أخرى، عبر اقتصاد يعتمد على تصدير للثروات الطبيعية، دون اكتراث بوقعه على البيئة إلا بعد فوات الأوان.

          عثرنا عند أسفل النهر على نموذج لحسن الاستفادة مع الطبيعة. تقع منطقة فرسايس على ضفاف الغوابوري، تصنع هنا عوامات مسطحة القاع من الأخشاب المحلية تعرف باسم شاتاس، وهي تستعمل للملاحة في أنهر المنطقة الممتدة من بوليفيا إلى البيرو وسول إلى البرازيل.

          تصنع هذه العوامات من أخشاب الإيتاوبا المتوفرة بكثرة في المنطقة. يعتمدون في بنائها على تقنيات بسيطة وفعالة في آن معا، إذ أنها تنطلق من الاحتياجات والشروط المتوفرة في المنطقة.

          من أكثر النشاطات حماسا في هذا العمل لحظة إنزال العوامة بعد إنجازها  إلى المياه. يستدعي شكلها أن تشيد رأسا على عقب، ولكن حجمها الهائل وثقل وزنها وغياب الرافعات يجعل من المستحيل قلبها على اليابسة.

          عادة ما يغرق المركب عند انقلابه في الماء، أما الشاتا فالتعامل معها في الماء يصبح أسهل بكثير. حتى أن قلبها في الماء يبدو مدعاة لهو أكثر من العمل. بعد قلبه في الماء يجلب المركب إلى الشاطئ لإتمام العمل بالدلو.

          اكتشفنا هنا عالم من الابتسامات الساطعة وروح طلائع لا تنكسر وسط أبناء القرى البوليفية.

          غادرنا فرساي لمتابعة الملاحة مع أفضل التمنيات لهؤلاء الناس الذين يستحقونها فعلا.

نهاية الجزء الخامس

=-=-=-=-=-=-=-

الجزء السادس

مرت خمسمائة عام على وصول أول أوروبي إلى هنا، وما زال النهر وسيلة وحيدة لتواصل مجموعات هائلة من السكان في الأمازون البوليفية. بالقرب من فرساي استغلت إحدى العائلات تواجدنا هناك لتطلب منا سحبها إلى منطقة عائلتها. أدى الاعتماد على النهر كوسيلة نقل إلى تجذر استعمال الزوارق عميقا في التقاليد. عادة ما تشكل شبكة  الزوارق مشروع عائلي، تهتم فيه النساء بشؤون العائلة، بينما يعبث الأطفال بالمراجيح التي تصبح أسرة في الليل. يلعب البحارة الزهر في أوقات الراحة كما فعلوا منذ عدة أجيال.

          تستخدم بعض المراكب لنقل المواشي وحدها، فالحياة فيها أشد قسوة ومسؤولياتها أكبر. جاء قبطان هذه الشاتا من غواياراميرين، وهو يواجه قرارا صعبا. أصيبت البقرة بالمرض ولا بد من تضحيتها، يتم حفظ بعض اللحوم بالملح لغياب الثلاجات اللازمة.

تمكن شبكة نهر غوابوري الصهاريج الحديثة من الملاحة عبر النهر. ترفع هذه السفينة علما برازيليا وهي تمول المنطقة بالوقود. كما تنقل أنواع من الوقود  الآمن والرخيص من جنوب البرازيل إلى ولايات أكري وروندونيا وأمازونيا.

بدل أن تساهم الطرقات المشيدة على طول نهر الأمازون بحل مشكلة التنقل زادتها تعقيدا، وذلك لصعوبة تعبيدها  وصيانتها.

  لا شك أن شبكة أنهر أمريكا الجنوبية هي أشبه بطرقات طبيعية واسعة تمر من قلب القارة، التغاضي عن هذه الحقيقة يعني تجاهل الفوائد الناجمة عنها حتى اليوم.

في اليوم الحادي عشر من جولتنا عبر الغوابوري، وصلنا إلى أطلال قلعة برنسيبي دي بيرا، التي شيدت لحماية مناجم الذهب في غوابوري من هجمات الاسبان عام ألف وسبعمائة وخمسين.

عمل الاسبان على غزو هذه المناطق النائية لأكثر من مائة عام، لكنهم تكبدوا خسائر فادحة على يد الهنود الذي قاوموا بشراسة، إلى جانب الأدغال التي فرضت نفسها بقسوة. إلا أن البعثات التبشيرية تمكنت من الفوز بثقة السكان المحليين، كما نجحت في بناء إرساليات تحولت إلى مستوطنات بشرية هامة.

كانت إرسالية ترينيداد من أولى تلك التي شيدت هنا، وقد تحولت لاحقا إلى عاصمة لإقليم بيري، وقد صادف وصولنا مع بدء احتفالات بمرور ثلاثمائة عام على نشوئها.

          يغلب على هذه الاحتفلات طابع ديني هو أشبه بالمراسيم الرومانية، ولكنه منسوج بطقوس وثنية أصبحت جزء من الكاثوليكية.

تحاط السيدة العذراء هنا وهي رمز المسيحية بالكهنة والمداوين الهنود. كما تعكس الاحتفالات عدد من الأحداث التاريخية للمنطقة.

ترمز هذه الرقصة إلى وصول أولى الغزوات الأوروبية، والملتحين الذين اخترقوا المنطقة عبر النهر. ثم يتبعهم الهنود، السكان الأصليين هنا.

تمثل هذه الصورة جيش الغزاة الذي يحمي أعضاء العائلة الاسبانية المالكة.

          تنتهي المظاهرة بتمثال السيدة العذراء الذي جلب من بلدة مجاورة لزيارة الكنيسة أثناء الاحتفالات. بعد انتهاء المراسيم والطقوس الروحية تبدأ حفلة الرقص والمرح.

يستمتع البوليفيون برقصة الثور الخاصة بسكان السواحل في المناسبات الهامة، فهي ترمز إلى ضريبة الدم من قبل أسياد البلدة للآلهة المسيحية. جاءت الاحتفالات براقصين من منطقتي أورورو وتاهيرا الجبليتان.

تبلغ الحفلة ذروتها عند إفلات الثيران في الشوارع.

يقول المؤرخون هنا أن اليسوعيين كانوا أسياد هذا الحدث، وقد ورثوا مهاراتهم إلى الهنود. ولكن العشوائية تصبح قاعدة شاملة في مثل هذه المناسبات. فلا أزياء براقة لمصارعي الثيران، بل هي حفنة من المغامرين الساعين لتجربة حظهم. استفز الثور ونطح ضحية سيء الحظ. لكن هذا بالنسبة لهم جزء من الاحتفالات.

ذهبنا إلى أماكن وتعرفنا إلى شعوب ومررنا بتجارب لا ننساها. ولكن الرحلة لم تنته بعد. علينا أن نعبر ثلاثمائة ميل أخرى.

مع انطلاق مركب أورينوكو نحو هدفه النهائي، تنبهنا إلى أن حلمنا في رؤية قنوات تصل الأنهر  وتربط القارة فيما بينها أخذ يتحول إلى حقيقة واقعة.

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster