اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 مصر، العصر الذهبي
 

توت أنخ أمون

عام ألف وثلاثمائة وسبعة وعشرون قبل الميلاد، أعلنت مصر القديمة الحداد.

بدأ العمال والحرفيين في وادي الملوك استعداداتهم لبناء المدفن.

لقد مات الفرعون توت عنخ آمون وهو في التاسعة عشر من عمره.

تم حفر قبره ليضم أربع غرف صغيرة فقط، أي أنها صغيرة بالمقاييس الملكية، ولكن محتوياتها على مستوى الملوك. يحمل العرش صورة للملك الشاب وزوجته في إطار من الذهب. أما قبره الذي يتوسط ثلاثة، فهو مغطى بذهب يزن أكثر من طن.

يعتبر القناع الذي كان يغطي وجه موميائه أحد أجمل الأعمال الفنية التي أنتجها حرفي من المعادن الثمينة.

كنوز توت عنخ آمون، هي الوحيدة التي بقيت على حالها في وادي الملوك. وهي دليل قاطع على ما عاشته مصر من رخاء في عصر الذهب الخرافي.

دفن فراعنة مصر لأكثر من أربعمائة عام في وادي الملوك. وكانت قبورهم تحفر في الصخور الصلبة، أما المدفن فكان يسمى ببيت الذهب.

أدى لمعان الذهب الدافئ وعدم تدميره، إلى اعتقاد يقول بأنه من لحم آلهة الشمس را، وأنه يحتوي على قوة خارقة.

كان الفرعون يعتبر ابن الشمس، وأنه إله حي.

اعتبر تكريم الفرعون بالذهب، على أنه من لحم الآلهة، اعتقد المصريون بأنهم سيضمنون للفرعون حياة أبدية.

ولكن هذا ما كان ليحدث، بعد أن تمتلئ هذه القبور بالذهب كانت غالبيتها تفتح في العصور القديمة، لتزال موميائها.

تستلقي اليوم في المتحف المصري في القاهرة، بقايا لبعض من أقوى الفراعنة. تحوتموس الأول، وتحوتموس الثاني وتحوتموس الرابع، سيتي الأول، ورمسيس العظيم. ولكن قبر توت عنخ أمون الصغير، قد ضاع كليا مع اسمه الذي غيبه النسيان.

عندما اكتشف القبر أخيرا عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرون، اعتبر ذلك الاكتشاف الأثري الأهم عبر التاريخ، ما جعل توت عنخ أمون الاسم الأشد شهرة في التاريخ المصري.

جاء كنزه ليكون شاهدا على الثراء المدهش وقوة الحضارة المصرية خلال عصر الذهب. حسدت مصر على ثرائها، وقد تعززت بمخزون لا مثيل له من الذهب، الذي تستخرجه من المناجم الواقعة إلى الشرق من وادي النيل، وتحديدا من نوبيا، أي السودان، حيث كانت تنتشر كالغبار.

صنعت التماثيل للآلهة من الذهب والفضة، وزينتها بالحجارة الكريمة على أنواعها. هذا ما ورد في إحدى كتابات توت عنخ أمون.

بنيت سفنا جديدة لتعبر المياه، وغطيتها بالذهب كي تنير مياه النيل. كان توت عنخ أمون واحدا من أربعة عشر ملكا ينتمون إلى السلالة الثامنة عشر. عام ألف وخمسمائة وخمسين قبل الميلاد قام مؤسسها أحموس الأول بافتتاح المملكة الجديدة، ليطلق بذلك أعظم امبراطورية شهدها العالم.

امتد تأثير مصر في قمة عظمتها نحو الشمال حتى بلغ سوريا، ونحو الجنوب حتى بلغ وسط السودان.

ولكن قبل تولي أحموس الملك، لم يكن هناك إمبراطورية، حكمت مصر طوال مائة عام من قبل الأجانب.

جاء هؤلاء الأجانب أصلا من كنعان، وهم يسمون بالهكسوس، الذين أقاموا السلطة لأنفسهم على دلتا النيل، ما منحهم سلطة التحكم بالطرق التجارية عبر الأبيض المتوسط. تفوق الهكسوس بامتلاكهم تقنيات عسكرية أفضل.

لقد صمموا نوعا من الفؤوس القتالية الحادة جدا.

كما صنعوا أقواسا مصنوعة من الخشب والقرون والأوتار، التي تقذف السهام عبر مسافات ابعد.

ولكن سلاحهم الأقوى كان شيئا جديدا، هو وسائل التنقل.

استخدم الهكسوس عربات تجرها الجياد للحركة السريعة لنقل جنودهم وأسلحتهم الفتاكة.

كانت مصر تدفع الجزية للأجانب، ولكن بممانعة متنامية.

نهضت في طيبة عائلة من الحكام المحليين لتعامل نفسها وكأنها من ملوك مصر الحقيقيين، حتى انتهى بها الأمر بالتمرد. وكان من بينهم الملك سيكينير طعا، الذي دفع ثمن ذلك غاليا.

تمكن الدكتور محمد صالح مدير المتحف المصري في القاهرة، من إثبات حقيقة دامغة وهي أنه عندما كشف عن مومياء سيكينير طعا الذي مات في ساحة القتال ضد الهكسوس عثر فيه الجسم على العديد من أثر الإصابات والجروح. ما يؤكد أنه مات بعد نزاع مرير، حتى أن الوجه تعرض لإصابات ما كان ليتعرض لها إلا بالأسلحة التي جاء بها الهكسوس إلى مصر للمرة الأولى.

يعتبر فأس الهكسوس المميز من بين الأسلحة التي تسببت في الإصابة. شفرته الضيقة والكويلة تساعد على تحطيم العظام.

بعد أن أهين على الأرض المصرية بوجود حكام أجانب، قام سيكينير طعا بقيادة أول تمرد ضد الهكسوس.

بعد موته تولى ابنه كحموس قيادة المعارك.

عثر على لوحة صخرية حفرت للذكرى. وهي تتحدث عن الكراهية المريرة بين كحموس وملك الهكسوس إيبيبي.

لن أدعك وشأنك ما دام أمون العظيم حيا. يعد المصري أعداءه بالقول: لن أدعك تدوس الحقول دون أن أتعقبك. يا ضعيف القلب، أيها الآسيوي البائس، لا بد أن أشرب النبيذ من كرومك، وأدمر موطنك، وأقطع أشجارك.

كان موطن الهكسوس القلاع الحصينة في دلتا النيل التي تعرف بأفاريس. من هناك حكموا مصر لمائة عام. وهكذا اختفت أفاريس دون أن تترك أثرا، تماما كما أصاب قبر توت عنخ أمون.

عبر نهر النيل مصر منذ آلاف السنين، قبل أن يتوزع على فروع تشكل معا ديلتا النيل بسهولة الخصبة والغنية.

هناك شيد الهكسوس عاصمة لهم.

ولكن موقعها الرئيسي بقي مجهولا لعدة قرون من قبل علماء الآثار المعاصرين.

اختفت أفاريس بعد أن غطاها الطين لآلاف السنين، حتى عام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين، عندما بدأ فريق علماء الآثار النمساوي بقيادة مانفريد بيتاك من جامعة فينا، بأبحاثه في منطقة عرفت بتل الضبع.

عادة ما يقصد بكلمة تل الربوة التي تعود إلى مجمع سكاني قديم.

جمعت القطع الفخارية من مئات الحفر الغارقة في تل الضبع، لتساعد بيتاك للتعرف من خلالها على أفاريس. يدرك الخبير في الآثار أن تل الضبع ليست مصرية. كما أن معابدها ومبانيها شبيهة بتلك التي عثر عليها في كنعان وسوريا.

عثر ضمن محتويات القبور على أسلحة وفخاريات من نوع الهكسوس، عام ألف وتسعمائة وتسعون عثر بيتاك على أهم أثر على الإطلاق، وهو بقايا قصر محصن.

كان القصر محاط بجدار عملاق، وهو مثقل بالتحصينات وقد أقيم في موقع استراتيجي على ضفاف نهر النيل.

يعتقد بيتاك أن هذا الموقع كان قصرا محصنا لملك الهكسوس إبيبي.

كان كحموس قد هدد بمهاجمة أفاريس وإخراج الهكسوس من هناك. وما أن أوشك على الوفاء بتعهده حتى جلس إبيبي ليضع خطة بالغة الدهاء.

كانت مملكة الكوش تمتد فوق ما يعرف اليوم بشمال السودان، وعاصمتهم كيرما.

عام ألف وخمسمائة وخمسة وخمسون قبل الميلاد، توجه رسول من أفاريس نحو الجنوب عبر الصحراء إلى كيرما، يحمل مهمة سرية. ولكن رحلته قد انقطعت.

عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعون، قام جون وديبورا دارنيل في المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو، باستكشاف الصحراء الواقعة على مسافة قصيرة إلى الشمال الغربي من مدينة طيبة القديمة، فالتقيا بطريق للقوافل وقد أصبح ناعما بعد قرون من الاستعمال.

وصلوا عبر الطريق التي سلكت إلى هضبة تعرف بجبل جاوتي.

ما جعل الهضبة غير اعتيادية هي الكتابات، فالمكان مليئ بالكتابات المنحوتة. كتب بعضها على أيدي المسافرين الذين جلسوا يستريحون من عناء السفر فصاغوا دعاء إلى الآلهة، أو مذكرات عن بعض الأحداث والمناسبات. إلا أن بعضها لا يتعدى الأسماء والرتب، على طريقة "فلان مر من هنا" ولكن بأسلوب عمره أربعة آلاف عام.

يعتبر بعضها من الروائع الفنية فعلا.

اكتشفت عائلة دارنيلز شبكة من الطرقات الصحراوية التي تسير نحو الشمال والجنوب عبر كينا بيند النيل، لتتصل بطرقات أخرى نحو الواحة العظيمة في الغرب وإلى نوبيا في الجنوب.

كانت سلسلة من مواقع المراقبة المعززة برجال الشرطة تحمي الطرقات. ما قد يبدو اليوم كومة من الركام، كان في الأصل زوجا من الأبراج يبلغ ارتفاعه ثلاثون قدم. كانت الأبراج تلعب دورا هاما في الحرب ضد الهكسوس.

تقوم الأبراج بحماية عربات القوافل التي تذهب إلى جبل جاوتي، علما أن هذه المنطقة تقع على الحدود مع طيبة، وتحديدا الحدود الشمالية لمحافظة طيبان. يبدو أن هذه الأبراج كانت تستخدم في عصر كحموس لحماية عربات القوافل، كما تستخدم مراكز استراحة للشرطة الصحراوية التي تتولى حماية المدخل الصحراوي الضيق، كما يسميه المصريون. المدخل الخلفي لطيبة.

المدخل الخلفي لطيبة بالنسبة للهكسوس هو الطريق إلى الكارثة.

سعى إيبيبي إلى هزيمة كحموس عبر التحالف مع ملك الكوش، وفتح جبهة ثانية على الحدود الجنوبية مع مصر. ولكن خطته باءت بالفشل بعد أن تم القبض على رسوله في الصحراء وهو في الطريق إلى كيرما.

مات كحموس قبل أن يتم طرد الهكسوس، فألقيت المهمة على كاهل شقيقه أحموس، وهو مؤسس السلالة المصرية الثامنة عشر.

كان أحموس أول فرعون يحكم مصر في عصر الذهب وقد أصر على تحرير مصر.

بعد أن حسم أمره على ضرب الأعداء بأدواتهم، قرر أن يستعمل بعضا من الأسلحة المتفوقة التي جاء بها الهكسوس، وهكذا سرعان ما بدأت الجياد التي تجر العربات المصرية تظهر في ساحات المعارك.

ولكن تفاصيل الشخصية التي هزمت الهكسوس بقيت غامضة، لولا المنحوتات البارزة التي ظهرت بالقرب قرية صغيرة اسمها الكاب في مصر العليا.

وسط إحساس من الفخر والاعتزاز قام أحد جنود الجيش الفرعوني، الذي سمي أيضا أحموس، بكتابة مذكراته على جدران قبره.

يعمل فيفيان ديفيس أمينا للآثار المصرية في المتحف البريطاني، وقد عرف في أحموس رجلا لم ينشأ من الجندية ليصبح أدميرالا فحسب، بل منح أوسمة عالية تكريما لشجاعته.

يكمن التكريم الرفيع الذي يتلقاه الجندي في مصر القديمة بمنحه ذهب الشرف من قبل الملك. وقد منح هذا الرجل ذهب الشرف لسبع مرات متتالية. أي أنه كان بطلا عسكريا في عصره. وهو يظهر في الرسومات مرتديا ذهب الشرف بفخر مع سوارات مصنوعة من الذهب الخالص.

بدأ أحموس احترافه العسكرية في معركة أفاريس عام ألف وخمسمائة وثلاثين قبل الميلاد.

ترد قصة عن مناوشات في الماء بالقرب من أفاريس، حيث أسر أحد الأعداء وكرم بأول وسام شرف الذهب.

كان سوار الذهب يمنح عند مقتل أحد الأعداء. وقد كتب أحموس يقول: لقد أصبت شخصا وقطعت يد الآخر".

كان قطع الأيدي في مصر القديمة وسيلة لإحصاء الإصابات. أما الأسرى فكانوا يعتبرون من الغنائم. وقد كتب في هذا الصدد يقول: لقد اشتريت من أفاريس رجلا وثلاث نساء، أعطيت لي من جلالته عبيدا.

ولكن المقبرة تسجل أكثر من انتصارات الجندي وحدها.

أهم ما ورد في سجلات القبر من معلومات هو أنه تم الاستيلاء على أفاريس، أي أن الملك أحموس تمكن من التغلب على الهكسوس.

أدى طرد الهكسوس إلى إعادة توحيد مصر تحت حكم ملك مصرب لأول مرة منذ أكثر من قرن.

ولكن الملك لم يكتف بذلك، فتمادى بالتحديات متخذا خطوتين حاسمتين.

قاد الملك أحموس جيوشه عبر الصحراء ليفرض حصارا على موطن الهكسوس في شاروحين، جنوبي كنعان. ثم أقام بعد ذلك تحالف قوي.

كانت المتاهة والوثاب الذكر من أشهر الرموز في الميثولوجيا القديمة.

وهما تأتيان من قصر كنوسوس في كريت، الوطن الأسطوري للملك مينوس. والوحش الخرافي المينوتاور.

كانت مملكة مينوس البحرية تسيطر على بحر إيجه. وكانت جزيرة كريت مركز تجاري هام يحقق الثروات من تجارة النبيذ وزيت الزيتون، كان جعل سفنها تعبر البحر الأبيض المتوسط ذهابا وإياب.

عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعون، أثناء حفريات قصر أقامه الملك أحموس في أفاريس بعد أن طرد الهكسوس، اعلن مانفريد بيتاك وفريقه عن اكتشاف مدهش.

لقد عثروا على بقايا من لوحات مينوس الجصية، كانت الأولى التي يتم العثور عليها في الأراضي المصرية.

وكان من بينها قطعا جصية شبيهة جدا بأخرى تظهر على جدران قصر كنوسوس في كريت.

تعني هذه الرموز تحديات جسدية وسيطرة الإنسان على الحيوانات. إنها طقوس شعائرية غنية بالمعاني لدى المينونية، خاصة وأنها كانت على صلة وثيقة بالبلاط الملكي المينوني، الذي كان يعتمد رموزا عمرانية أخرى في قصوره. يوحي العثور على مثل هذه الأعمال في القصور المصرية بالعلاقة الوطيدة القائمة بين البلاطين. ولكن أي نوع من الروابط كانت تلك؟ يعتقد بيتاك أن القوتين أقامتا تحالفا متقدما ربما تعزز عبر الزواج الملكي.

اعتبرت المينونية في ذلك العصر القوة الطليعية في البحر. ما يعني أن التحالف معها سيضمن لمصر الدفاع عنها.

مقابل ذلك كانت المينونية تبلي بلاء حسنا، ذلك أن سفنها كانت تعود إلى الوطن محملة بعطاءات من عصر الذهب. كان الذهب في العصور القديمة من أهم الأشياء المطلوبة بعد وسائل الترف. كانت مصر تعتبر امتلاكه من الأولويات، ولكن الاحتياطي الأكبر كان في نوبيا.

بعد أن ضمن الملك أحموس حدوده الشمالية توجه جنوبا لينتقم من حلفاء الهكسوس القدامى، وذلك في مملكة الكوش.

كانت تلك إمبراطورية قوية تمتد حدودها من جنوب الحدود المصرية عبر مئات الأميال داخل السودان. كانت عاصمتها كيرما أقدم وأكبر مدينة في أفريقيا بعيدا عن مصر.

تحولت كيرما اليوم إلى أطلال، ولكن معبدها الهائل ما زال بحالة جيدة، إذ تبلغ مساحته ثلاثة آلاف وخمسمائة قدم مربع، وهو يعرف محليا بلقب ديفوفا.

يمكن من خلال جدرانه الخارجية التي استنزفها الزمن، يمكن أن ترى بأن معبد ديفوفا كان يطل على جميع المناطق المحيطة به.

عام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعون، بدأ شارلز بونيت، مدير بعثة الآثار السويسرية في السودان، في البحث عن ديفوفا، كجزء من خطة للبحث عن كيرما.

فتح طريق جانبي فردي نحو سلالم تؤدي إلى غرفة صغيرة، هي المعبد الداخلي.

عثر بونيت بالقرب من مذبح شيد من الرخام الأبيض على عظام ماعز وخروف، ما يوحي أنها كانت تستخدم لتضحية الحيوانات.

ديفوفا، التي يبدو اسمها غريب بحد ذاته هو اسم نوبي يعني مرتفع من صنع الإنسان. من المحتمل أن يكون المذبح هناك هو مركز الطقوس الدينية. ويعتقد أن الكاهن كان يقتل الخرفان كجزء من تقديم القرابين.

هناك سلالم تنطلق من الغرفة إلى السقف حيث كانت تتم شعائر احتفالية بإله الشمس. على ارتفاع خمسين قدم تصبح على مرأى من مشهد يشرف على مدينة مدهشة.

لا شك أن مشهد مدينة كيرما كان مخيفا في قمة مجدها عام ألف وخمسمائة وخمسين قبل الميلاد. فهناك جدار ارتفاعه ثلاثون قدم يحيط بمنازل وحدائق النبلاء، وبلاط الملك وقصره والمجمعات الدينية. اعتبر معبد ديفوفا رائعا حتى بالمقاييس المصرية، إذ زين بألوان يغلب عليها البياض وامتاز ببوابته العالية التي يزيد ارتفاعها عن خمسة وستون قدم.

نمت المدينة وازدهرت لوقوعها على ضفاف النيل حيث تحكم الخطوط التجارية المتوجهة بين الشمال والجنوب. لم تثرى المدينة بالذهب وحده بل وعبر تدفق البضائع الهامة كالعاج والأبنوس والبخور والحيوانات البرية والعبيد، كلها من قلب أفريقيا إلى مصر وما وراءها.

وكانت كيرما في ذلك الوقت تعتمد على المهارة العالية للحرفيين لديها.

من بين الأشياء الغريبة في كيرما كيفية تمكن مملكة آلاف الأشخاص من العيش وسط ما يبدو أنه صحراء قاحلة.

لمعرفة ذلك قام ديريك ويلزبي مع فريق له من المتحف البريطاني في الكشف على مساحة سبعمائة ميل مربع تقع إلى الجنوب من المدينة، لم يسبق لها أن استكشفت من قبل. وقد عثروا هناك على أربعمائة موقع قديم، يعود غالبيتها إلى عصر كيرما.

أثناء التدقيق في إحدى الخرائط عثروا على قناتين قديمتين من النهر، تبين لاحقا أنهما جفا منذ ذلك الحين.

يوحي ذلك أن هذا كله كان على ارتباط بشبكة من المؤن القادمة إلى كيرما نفسها التي تقع على مسافة خمسة وخمسين كيلومترا إلى الشمال، وهناك في كثير من هذه المواقع أعداد كبيرة من المستودعات، التي قد تصمم لجمع هذه المنتجات وتخزينها قبل أن ترسل إلى المركز الإداري في كيرما.

تمكن ديريك ويلزبي من تحقيق اكتشاف هام آخر، وهو احتمال أن تكون الطبيعة قد أسهمت بقسط من الإساءة لمدينة كيرما ومملكة كوش.

عام ألف وخمسمائة قبل الميلاد بدأت قناتي النيل بالجفاف، ما أدى إلى بدء انخفاض مخزون الغذاء أيضا. في تلك الفترة من الأزمات، وصل تهديد سوداوي آخر من الشمال.

أصبحت الحملة المصرية التي بدأت أولا بالملك أحموس لإخضاع الجنوب في عقدها الثالث.

سبق لنوبيا السفلية أن سقطت قبيل سنوات بعد مقاومة ضئيلة. ولكن المقاومة بدأت تتزايد في أعماق البلاد.

جرى ترفيع رتبة الجندي أحموس الذي قاتل بشجاعة بارزة في أفاريس، حتى حمل لقب محارب الحاكم الرسمي، وأصبح يقاتل في جيش الملك تحوتموس الأول.

عام ألف وخمسمائة قبل الميلاد تقريبا، انطلق الفرعون إلى قلب أراضي الكوش، نحو الشلال الثالث للنيل، لشن معركته النهائية والحاسمة. اشتبك تحوتموس بالعدو بقيادة زعيم النوبيا، وذلك على مسافة أميال قليلة من كيرما.

كتب أحموس في مذكراته يقول: أطلق جلالته السهم الأول ليصيب به صدر ذلك الخصم. وأضاف: بعد ذلك استدار الأعداء هاربين، ثم تعرضوا لمذبحة دموية، أخذ فيها العديد من أتباعهم عبيدا".

ما زال السهم في صدره بعد. عُلق زعيم النوبيا رأسا على عقب في مقدمة سفينة تحوتموس، ليكون عبرة لمن يعتبر. بعد ذلك قام الفرعون بسلب عاصمة الكوش وأحرقها كاملة. وثق هذا النصر لاحقا عبر منحوتة صخرية علقت فوق قبر ليس بعيدا من كيرما.

لقد هزم زعماء النوبيا، ولم يبق أي منهم حيا. تعرض رماة سهام النوبيين لمذبحة، فشردوا في السهول، وملأت أحشاءهم الوديان، وسالت دماءهم كالمطر.

بعد غزو الكوش وضعت مصر يدها على أغنى حقول الذهب في القدم. صبت كميات هائلة منه في كنوز الفراعنة إلى جانب البضائع الأفريقية الثمينة.

تبرز لوحات القبور أبناء نوبيا وهم يحملون الجزية على شكل ذهب إلى مصر. كان الذهب يوزن بدقة في الموازين، ويسجل على أيدي الكتبة.

هناك منحوتات من عصر تحوتموس الثالث، ابن حفيد فاتح الكوش، تؤكد أنه خلال ثلاث أعوام منفصلة من فترة حكمه استوردت تسعة آلاف دبن من ذهب مناجم نوبيا، أي ما يقارب ألفي رطل، وهي كمية تساوي اليوم ملايين الدولارات.

أصر المصريون القدامى على توسيع إمبراطوريتهم فاتبعوا سياسة تسعى إلى التطبيع.

جيء بأبناء حكام نوبيا إلى مصر كرهائن فأسكنوا في القصر وتلقوا العلوم مع أبناء فرعون، وتعلموا هناك اللغة المصرية، وارتدوا الملابس المصرية، حتى لقبوا بالأسماء المصرية أيضا. بعد تنشئتهم عادوا إلى بلادهم ليقدموا الخدمات في الحكومة الاستعمارية.

كان الضابط الأهم في نوبيا هو نائب ملك الكوش.

وكانت مهمته تكمن في الحرص على استمرار تدفق ثروات نوبيا إلى مصر، وكان ذلك محدد في اسم وظيفته: المشرف على أراضي الذهب.

كان ميريموس من أشهر نواب الملك، وقد عمل أكثر من ثلاثين عاما تحت إمرة الملك أمنحوتيب الثالث، بدءا من عام ألف وثلاثمائة وتسعين قبل الميلاد. هناك صورة له منحوتة فوق صخرة كبيرة في تومبوس.

وضعت أسماء سيده في شكلين بيضاويين برز تحتهما اثنين من أسرى نوبيا يرمزان إلى السيطرة المصرية.

كوفئ ميريموس على خدماته بقبر في طيبة، تضمن ثلاثة حجارة صلبة منحوتة، ليشكل ذلك عملية دفن بارزة لشخص من العامة. وكان ذلك تعبيرا عن التقدير الذي يكنه له الملك.

قام سيده أمينحوتيب الثالث، الفرعون التاسع في المملكة الجديدة، بحصاد السواد الأعظم من عصر الذهب. عند موته عام ألف وثلاثمائة واثنين وخمسين قبل الميلاد، عرف أمينحوتيب بلقب شمس مصر المشرقة، وربما كان حينها أغنى رجل في العالم.

لم يكن لثروات بلاطه أي مثيل في القدم.

طوال فترة حكمه التي دامت أكثر من أربعين عام، حول أمينحوتيب جذريا ملامح وادي النيل.

فقد بنى معبد جديد ورائع في الأقصر، وأضاف أقسام كبيرة إلى معبد أمون را في الكرنك، وأقام مئات التماثيل التي شملت كولوسي الميموني في طيبة.

كانت ثروات مصر محسودة في جوار الأبيض المتوسط، كما كانت سمعة الفراعنة هي الأرقى.

كان الملوك الأجانب يكتبون إليه راجين الحصول على الذهب.

" أيها الملك العظيم، يا ملك مصر، أخي، الذهب في بلادك أشبه بالغبار، ما على المرء إلا أن يجمعه، فلماذا تتمسك به جدا؟ أنا الآن منشغل في بناء قصر جديد، فابعث لي بكل ما أحتاجه من ذهب".

ولكن في العصر الامبراطوري دخل إلى مصر كميات ذهب أكبر من التي خرجت منها. حتى أنه وصل إلى أيدي من عملوا في خدمة الفرعون.

كان من أهم طموحات النخبة المصرية القديمة امتلاك قبر جيد يسمونه بين الخلود، ترسم عليه مشاهد ملونة.

فوق إحدى تلال الضفة الغربية للنيل في طيبة، يقع مدفن كبير الخدم الملكي سويم نيويت، الذي خدم ملكه أمينحوتيب الثاني، فكوفئ بالذهب.

تعتقد عالمة الآثار بيتسي برايان من جامعة جون هوبكينز في بالتيمور ماريلاند، أنه كان ثري إلى حد يمكنه من استئجار مجموعة كبيرة من الرسامين والمتمرسين لتزيين قبره.

يمكن للمعلم أن يرسم جدارا بكل حرية، أما التلامذة فيتبعون الخطوط المتساوية لضمان تناسق الأحجام.

حتى حينها كان بعض المبتدئين والخبراء يتمتعون بمهارة أكثر من بعضهم الآخر. نجد خلف القبر منطقة كانوا يستخدمون فيها حديثي العهد في الفن. وربما بعض المبتدئين أيضا .

هناك تلامذة بلغ بعضهم المرحلة الأخيرة من الفنون. رغم قيام التلامذة والمبتدئين بممارسة فنونهم مع النخبة والأثرياء، إلا أن الفراعنة كانوا يسمحون للأساتذة وحدهم بالعمل في قبورهم.

كان قبر سيتي الأول أكبر المدافن في وادي الملوك.

يعتبر هذا المدفن واحد من قلة أنجزت بالكامل، وهو يتألف من عدة غرف تتصل فيما بينها عبر مجموعة من الممرات التي تؤدي غرفة القبر الواقعة على مسافة ثلاثمائة قدم من المدخل.

كان حفر المدفن يستغرق حوالي العامين، كما يستغرق تزيينها فترة أطول. وكانت توكل لنخبة محترفي النحت والفنون مهمات دائمة لبناء المدافن الملكية، نتيجة الجهود الكبيرة والمهارات الرفيعة المطلوبة في هذا المجال.

على مسافة أميال من وادي الملوك تقع قرية محاطة بالجدران سماها المصريون القدامى بمكان الحقيقة، وهي تعرف اليوم بلقب دير المدينة. سكن في هذه القرية البناءون والنحاتون والنجارون الذين توارثوا المهارات أبا عن جد.

كان العمال هنا مثقفون على خلاف العادة، لهذا كانوا يحفظون سجلات على ورق البردي والفخاريات والصخور الكلسية لكل شيء بدءا من أسعار الطعام إلى المهمات الموكلة.

تؤكد السجلات أنهم كانوا ينعمون بالوفرة وذلك من خلال أحجام ونوعية مقابرهم.

ولكن رغم الازدهار المنزلي، كان الأفق يتلبد بغيوم عاصفة. فبعد موت سيتي عام ألف ومائتين وتسعة وسبعين قبل الميلاد، أدارت الآلهة التي دعمت مصر طويلا، الظهر للمملكة الجديدة.

بدأ الحثيون يهددون الإمبراطورية المصرية من الشمال. عام ألف ومائتان وأربعة وسبعون قبل الميلاد لاقى رمسيس الثاني، خليفة سيتي، الأعداء في قادش السورية.

احتفل بهذه الواقعة على جدران المعابد المصرية كنصر عظيم حققه الملك الجديد، مع أنه كان في أفضل الأحوال مأزقا انتهى بتوقيع أول معاهدة سلام عالمية في التاريخ. فقد تحولت معركة قادش إلى بداية النهاية للعصر الإمبراطوري.

والأسوأ من ذلك هو أن الذهب القادم من نوبيا بدأ ينضب. إذ أن المتغيرات المناخية جعلت الصحراء أشد قسوة ما زاد من صعوبة عبورها. لم يتمكن آخر عظماء الفراعنة للمملكة الجديدة، رمسيس الثالث، من التبرع إلا بمعدل تسعة ديبين سنويا لمعبد الكرنك. وهو مبلغ ضئيل جدا بالمقارنة مع العطاءات السخية لمن سبقوه.

ولكن بعض المصريين وجدوا وسيلة سهلة للحصول على الذهب. أخذ العمال الذين خدموا فراعنتهم بإخلاص نهارا ينهبون قبور الملوك ليلا.

ترد في محاضر بعض المحاكمات القديمة قضية اعتراف مدهشة لعامل بناء اسمه أمينبنوفير يقول فيها:

" فتحنا القبرين الخارجي والداخلي، لنعثر على مومياء الملك النبيل، حيث وجدنا كميات كبيرة من الحلى الذهبية تلتف حول عنقه.

سرقنا العديد من الأشياء التي وزعناها على بعضنا البعض، فحصل كل منا على عشرين ديبن من الذهب، وقمنا بعد ذلك بحرق المومياء.

خاف آخر ملوك العصر الذهبي الملك رمسيس الحادي عشر على سلامته حتى بعد الموت، فغادر طيبة عام ألف وسبعون قبل الميلاد قبل انتهاء أعمال قبره.

ولم يعد الفراعنة بعد ذلك يدفنون في وادي الملوك.

المفارقة في الأمر هي أن التهديد الأكبر للقبور لم يأت من اللصوص، بل من الحكومة المصرية. عندما أصيبت الحركة السياسية والاقتصادية بالاضطراب، انهارت السلطات المركزية، فانقسم البلد إلى جزءين.

بعد أن قلت مصادر الذهب أصبحت المقابر الملكية تشكل مصدر إغراء لا يقاوم.

بحجة حماية الميراث المصري من اللصوص، كانت المومياء الملكية تجلى الواحدة بعد الأخرى من قبورها، لتتعرى من الذهب وغيره من الكنوز الثمينة لتدفن بعد ذلك في مخبأين سريين.

بقيت هناك ثلاثة آلاف عام حتى اكتشفت في نهاية القرن التاسع عشر وأخذت إلى متحف القاهرة.

لم ينج من ذلك إلا فرعون واحد.

منح مدفن توت عنخ أمون المنسي فكرة واضحة عما كانت عليه مصر من وفرة وثراء في عصر الذهب.

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster