اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 جبل السلامة
 

شارلز داروين في شبابه

مات شارلز داروين عالم الطبيعة في العصر الفكتوري وصاحب فكرة تطور الأنواع عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين دون أن يدرك كيفية عمل نظرية الكبرى.

آمن بأن جميع الأنواع قد تطورت عبر ملايين السنين عبر عملية أسماها الاصطفاء الطبيعي.

أدت هذه العملية مع التنافس إلى نشوء البشر، وأشكال الحياة المتنوعة التي نرى من حولنا.

ولكن التطور عبر الاصطفاء الطبيعي يرتبط بالتوارث، الميراث الذي يمر من جيل إلى آخر، ولكن كيفية حدوث ذلك شغلت داروين طوال حياته.

عند قراءة كتاب أصل الأنواع اليوم سنجد عددا من المسائل المفاجأة بشأنها، أهمها سهولة قراءته، خصوصا وأنه كتاب علوم شهير، والمدهش فيه ما يبدو عليه من حداثة، ينطبق هذا على مجمل الكتاب باستثناء فصل واحد يتعلق بقوانين التوارث الذي يعكس عدم إدراكه النهائي لحقيقة الأمور.

يقول في إحدى صفحات كتاب أصل الأنواع لا أحد يعرف لماذا يتم توارث مزايانا أحيانا دون أحيان أخرى. ولماذا يرث الطفل أحيانا مزايا جده بدل مزايا والديه ولماذا يقفز عن عدة أجيال.

استغرق داروين في إعداد نظرية تطور الأنواع أكثر من عشرين عاما. وما زالت تعتبر من أهم النظريات في العلوم الحديثة، إلا أنها تعرضت لانتقادات شديدة مع بداية هذا القرن.

تبقى النظرية مجرد توقعات متضاربة في غياب آلية موضوعية لتفسير التوارث.

يكمن مفتاح معضلة داروين فيما نسميه اليوم بالجينات. لم يدرك داروين أن اثنين من معاصريه كانوا في تلك الفترة على طريق حل هذه المعضلة.

كان عقدي الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر بالغا الأهمية إذ عاش خلالها داروين في منطقة داون خارج لندن وعاش منديل في ديره، وعلى مسافة ما كان فريديريك ميشير يعيش في مختبرات توبيغن حيث عمل على استخراج الحامض النووي من خلايا الصديد.

يبدو من النظرة الأولى أن ليس لهذه الأشياء علاقة ببعضها البعض، حتى تبين لاحقا وبعد قرن وأكثر أن الثلاثة معا شكلوا قلب ما يعرف اليوم بالأحياء الحديثة.

استعان ميشير بالمجهر لاستخراج الصديد من جريح أصيب في الحرب الفرنسية بروسية، وتعريف الجزيء الذي نسميه اليوم دي إن إيه.

&#توصل غريغور منديل في أحد أديرة أوروبا الوسطى إلى نتيجة هامة حول التوارث في البزيلا.

تكمن مساهمة داروين في تقديم الفكرة الكبرى والتي تكمن بنظام قد يفسر تعقيد الحياة وكيفية بلوغه.

يحتل التغيير قلب نظريته، تغيرات تدريجية من جيل إلى آخر، وهي تنص على بقاء وازدهار الأقوى والأكثر تأقلما، وتوريث مزاياه الهامة لأجيال لاحقة.

ولكن كيف جرى توارث هذه المزايا من جيل إلى آخر؟

اعتمد آلية ينتج فيها الذكور والإناث بذورا في الدم تعرف باسم البراعم، وهي تمتزج معا كالسائل ليولد الطفل كنموذج عن أبويه. أي أنها فكرة الخلط.

لم تشكل له هذه أي معضلة ولكنه كان مخطئا. لنفترض أن أحد الأبوين يتمتع بمزايا متقدمة نجمت عن الاصطفاء الطبيعي. لو تم توارثها عبر المزيج، سيعني ذلك تكرار المزيج لدى الأجيال التالية. ما يعني أن آلية داروين ليست فاعلة.

استغرق الكشف عن آلية التوارث أكثر من مائة عام. إنها قصة أفكار كبرى، والمثابرة في تفاصيل أبحاث مجهدة. إنها قصة المنافسة بين الأفكار العلمية، ومفاهيم شغلت داروين الذي جعل من المنافسة ركن أساسي في مبادئ التطور، والمسابقة التي لم يتمكن دائما من كسبها.

إنها قصة غريبة، لأن عمل منديل اكتشف في القرن العشرين من قبل عدة أفراد مستقلين. ولا شك الآن في صحته مبدئيا، ولم تعتبر حينها مفاهيم تدعم نظرية داروين بل تم التعامل معها كبديل لطروحاته.

كان منديل راهبا وقد عين لاحقا رئيسا لدير أغوستينيان في برون، وهي مدينة مزدهرة كانت تشكل جزءا من إمبراطورية النمسا.

قام بين عامي ألف وثمانمائة وستة وخمسين وألف وثمانمائة وثلاثة وستين بزرع ما يقارب الثلاثين ألف نبتة. وزاوج بين أنواع أكدت بوضوح مواصفاتها الواضحة. وكان في كل مرة يعد المزايا التي تظهر في كل جيل بعد آخر.

قام بعمل يعتبر بالغ الأهمية في العلوم التجريبية، فقد طرح على نفسه سؤالا يدرك أنه يملك الإجابة عليه. فالعلوم هي فن ما هو قابل للحل، وإذا وضعت نصب عينية معضلة لا يمكنك حلها فهذا يشكل مضيعة للوقت. ولكن منديل تعمد قبول تحد البحث عن أنماط وراثية في نباتات أدرك بأن عناصرها الوراثية بسيطة جدا.

ما لاحظه منديل مثلا هو أنك إذا زاوجت بين ورود البزيلا الزهرية والبيضاء سينجم عن ذلك جيل كامل من الورود الزهرية.

هنا يطرح على نفسه سؤال يقول ماذا حدث للبيضاء؟

يتبع ذلك سؤال يقول ماذا لو زاوج وردتين زهريتين من هذا الجيل؟ هنا يأتي دور المسألة النسبية بالحصول على اثنتين من اللون الزهري وثالثة بيضاء. ولكن ما هو السبب؟ جاء رد منديل واضحا بالقول أن البيضاء قد تخفت بطريقة ما في الجيل الوسط، ولكنها بقيت هناك مستعدة للظهور مجددا وهذا ما نسميه اليوم بسيطرة الزهري وركود الأبيض.

يكمن مبدأ فكرة منديل في أن التوارث لا يعتمد على السوائل بل على الجزيئات. لهذا اشتغل على البزيلا وعلى نماذج مستديرة ومتجعدة منها. يكمن اختراقه الأكبر في مسألة قد تبدو بسيطة، وهي أنه عند تهجين بزيلا مستديرة مع أخرى متجعدة لا نحصل على بزيلا بجزئين، بل على حبة مستديرة. هذا ما يحدث أولا أما في الجيل التالي فنحصل مجددا على البزيلا المتجعدة دون تغيير. أي أن التوارث مسألة وحدات منفصلة تمر عبر الأجيال وتختلف عن تلك التي نشأت منها.

اكتشف منديل جانب أساسي في التوارث، يؤكد حقيقة أن المزايا الفردية، كلون الشعر أو العينان مثلا، هي عناصر تتوارثها الأجيال، لتعبر عن نفسها أحيانا عبر فرد محدد، لتعاود الاختفاء مجددا لعدة أجيال قادمة.

لم يكترث منديل بكيفية حدوث ذلك؟ وماذا يعني بالنسبة لتغير الأنواع مع الزمن.

أما بالنسبة لداروين فإن فهم طريقة عمل التوارث مسألة بالغة الأهمية.

بدأت فكرة داروين الخاصة بالاصطفاء الطبيعي عبر فكرتين أساسيتين. أولهما أن كل ينجب مثيله. أي أن البشر ينجبون بشرا والجياد تنجب جيادا. كما أن الجياد الكبيرة تنجب جيادا كبيرة والصغيرة تنجب صغيرة أي أن كل ينجب مثله.

رغم ذلك هناك بعض التنوع، تختلف حبات البزيلا في الصحن عن بعضها البعض. الاختلاف نفسه يترك إمكانية الاصطفاف، فالبعض في أجواء محددة يثبت كونه أفضل أداء، لهذا يبق صاحب الأداء الأفضل على قيد الحياة ليختفي الآخر. لو لم تختلف عن بعضها لما كان هذا النظام فاعلا.

ما كان على داروين شرحه لضمان عمل نظرية الاصطفاف الطبيعي هو سبب إنجاب كل لمثيله ومن جهة أخرى لماذا يختلف أبناء الجنس الواحد عن بعضهم،وهذه مسألة صعبة لم يكترث بها داروين. مع أنه كان يدرك أن نظرية التطور لن تعمل إلا إذا وجد تفسيرا لطريقة عمل التوارث.

ولكن عبقرية داروين تكمن في طرح أسئلة صعبة حول تعقيدات التغير البيولوجي.

لقد ولد في عالم يعتقد أن جميع الكائنات هي من صنع خالق يعرف كل شيء.

وهل يمكن بغير ذلك تفسير روائع تعقيدات الحياة؟

أو بحقيقة أن كل مخلوق في العالم يتأقلم مع ظروفه المحيطة بشكل رائع؟

لم يكن هناك مكان لاحتمال أي تفسيرات أخرى.

ولكن داروين كان يحاول الكشف عن المستحيل، بالكشف عن قوانين الطبيعة التي تفسر الظواهر المحيطة بنا، أو جبل الغير ممكن كما أسماه رتشارد داوكين.

يجب أن نتخيل جبل الغير ممكن كقمة عالية هائلة، وكأنها عمودية، يجلس على رأسها أكثر أعضاء الكائنات الحية تعقيدا وهي العين كما يعتبرها الكثيرون.

ومجازية القفز من أسفل الهاوية إلى أعلى القمة تكمن بظهور العين إلى الوجود عشوائيا بضربة حظ، هذا ما لا يمكن فعله كما لا يمكن القفز من أسفل الهاوية إلى القمة.

ولكن إذا توجهنا إلى الجانب الآخر من الجبل سنجد أنفسنا أمام منحدر تدريجي يسهل علينا الصعود من أسفل الجبل إلى أعلاه، بمجرد وضع قدم أمام أخرى، شرط امتلاك الوقت اللازم.

ما زالت فكرة تطور الحياة بشكل تدريجي ومؤكد عبر الاصطفاف الطبيعي نحو الأشكال المعقدة التي نعرفها اليوم، ما زالت تتمتع بنفس القوة التي امتازت بها قبل مائة وخمسين عاما.

ولكن كيف بلغ داروين حد الإخفاق حين حاول شرح سبل احتمالات عمل التوارث.

لنتخيل تشارلز داروين شابا في الثانية والعشرين من عمره منطلقا في مغامراته كعالم طبيعي على متن سفينته. بدأت أفكاره تتخذ شكلا لها انطلاقا من هذه التجربة.

خلال السنوات الخمسة التي جال خلالها في أرجاء العالم، وجد نفسه أمام تنوع هائل من المخلوقات الطبيعية. وعرف أنواعا جديدة لم يحلم بها، والأهم من هذا أنه أخذ يدرك التنوع الشاسع المتوفر ضمن تلك الأنواع.

أخذت محاولاته لتفسير طبيعة هذا التنوع وأسبابه وعواقبه تشغله طوال سنوات حياته.

تقع جزر غلاباغوس على مسافة خمسمائة ميل من الإكوادور، وقد التقى في تلك الأثناء بحساسينه الشهيرة التي لم يتنبه حينها إلى أنها من الحساسين.

لا شك أن داروين اعتبرها مسألة محيّرة. هناك مجموعة من العصافير التي قد تبدو متشابهة لا تختلف إلا بالأحجام المناقير، ولكنه وجد أخرى مختلفة كليا حتى أنها أقرب إلى عصافير الدّخلة منها إلى الحسّون، وهناك عصافير تشبه الشحرور الأمريكي وغيره. يعتقد أن داروين ما كان مبدئيا ليقدر أن هناك أشكال متشابهة فيما بينها نهائيا.

بعد عودة داروين إلى الوطن سلم العصافير إلى الفنان جون غولد، الذي اعتبرها سريعا كأنواع جديدة من الحسّون. إلا أن فكرة كبرى كانت على وشك التأسيس. ربما نشأت هذه العصافير من قريب مشترك بينها.

يكمن التفسير المنطقي لوجود تقارب كبير بين هذه الطيور التي تعيش في تلك الجزيرة المنعزلة، هو أن يكون لهذا جد مشترك انفصلت بعده إلى عدة أشكال خلال عصر جيولوجي حديث لتصبح أنواع جديدة. أي أن الأنواع لم تكن وحدات تاريخية ثابتة. بل ربما نشأت في عصر جيولوجي حديث.

تعتبر جزر غلاباغوس من بقايا أنشطة بركانية كثيفة. وقد خرجت من البحر قبل خمسة ملايين عام. وقد تبين لاحقا أن هذه الفترة لا تعتبر طويلة بمقاييس التطور. هل يمكن لإحدى الأنواع خلال هذه الفترة أن تتحول إلى عدة أنواع؟

لم تصدم فكرة احتمال تغير الأنواع وظهور مخلوقات جديدة من يؤمنون بألوهية الخالق وكمال خلقه وحدهم، بل أثار الحيرة في أوساط علماء العصر الفكتوري الذين كانوا يحاولون فهم حقيقة ما يجري في العالم.

يعتقد أن العلوم هي فن تصنيف العالم، هذا ما تفعله العلوم بتعقيداتها المختلفة، فهي تحاول وضع نظام لما يبدو في حالة من الفوضى. وهذا ما ينطبق تحديدا على علم الأحياء.

هناك مليارات من المخلوقات المختلفة من حولنا ومن طبيعة الإنسان أن يعمل على تصنيفها بالفطرة كجامعي الطوابع.

توصل عالم الأحياء السويدي لينيوس بآلية لتصنيفها بطريقة عشوائية بالكامل. فهي آلية تتألف من مجموعتين الكبيرة منها تسمى الضروب، والصغيرة منها تسمى الأنواع، ويبدو أنه تصنيف فاعل.

على أي حال هناك مسألة بدت شديدة الوضوح بالنسبة لداروين، دون اعتماده على أسلوب جمع الطوابع، فإما أن يحصل على الطائر البحري الأسود أو لا يحصل عليه، لم يكن هناك حلول وسط.

أما في نظرية التطور فهناك حلول وسط وهذا ما ركز عليه داروين أكثر من أي شيء آخر. إن كانت أشكال الحياة قابلة للتصنيف لماذا لا تصنف بسهولة لماذا تبدو الحدود شبه ضبابية؟ ثم توصل إلى فكرة مفادها أن الحدود شبه ضبابية لأن الأنواع ليست مطلقة بل يمكن أن تتغير من نوع إلى آخر.

ولكن هذه الاختلافات، والضبابية في الحدود بين فرد وآخر، يبدو أنها مصنوعة من اختلافات ضمنية، كتنوع بسيط في حجم الرأس، واللون، أو شكل الجناح. هذا التنوع المستمر كما يبدو، تتوافق كليا مع المتغيرات المكتومة التي تحدث عنها منديل.

ولكن داروين كان مراقب فذ، وقد أدرك أن التنوع الهائل الذي توصل إليه هواة تهجين الحمائم، قد تم بشكل تدريجي. كانوا يختارون الطيور الراغبين بتهجينها، بالتركيز على تفاصيل المزايا التي يريدون تعزيزها، مغفلين المزايا الأقل نموا.

يعمل هذا الاصطفاف الوحشي المزيف على منح هذه المخلوقات أشكالا أشد إثارة للدهشة. ولكن كيف؟ ما هي الآلية؟

يكشف القياس الدقيق للفوارق بين الأباء والصغار عن متغيرات طفيفة، وهي قابلة للتعقب عبر الأجيال. لهذا ليس من الصعب التعرف على أسباب اهتمامه بالتوارث كنوع من خلط المواصفات المختلفة. وليس من الصعب أن نرى المشاكل المتأصلة في الفكرة.

لو صدق ما يقال بأن التوارث يكمن في مزج سائلين معا، بحيث يصبح الأبناء محصول وسطي بين الوالدين بمعنى البنية الجينية، سيكون من السهل نسبيا أن نرى بأن نتاج التهجين المستمر يعني أن يتشابه الجميع فيما بينهم. عند ذلك لن يحدث التطور. عندما لاحظ داروين ذلك اعتقد أنه اضطرب جدا.

ما أثبته منديل هو أن التوجهات الجينية تنفصل عما تصنعه. وما نفعله بأنفسنا كثقب الأذن أو الختان أو ما شابه لا يؤثر بالجينات جديا. أي أن الفصل بين العناصر والنتيجة هو محور عمل منديل. ولكن داروين لم يتنبه إلى ذلك بل كان يعتقد أن ما تمنحه الحيوانات لأنفسها وصغارها وعاداتها وأفكارها يتم توارثها من قبل الأجيال التالية، هذا غير صحيح فهي تتوارث الجينات.

أيا كانت المزايا التي تحدد تصنيف الكائن الحي، تبقى بارزة إلى حد ما، ومنفصلة عن إنجاب كل لمثيله. أحيانا ما تظهر بعد جيل واحد، لتغيب في أحيانا أخرى عهدة أجيال.

أضف إلى ذلك بعض المتغيرات العرضية التي تضيف بعض الصفات. وعلينا أن نأخذ منطقيا بعين الاعتبار سبل تنوع وتغير وتطور الأنواع.

عند اتضاح أهمية هذه المسائل بالكامل، يبدو أن كل ما توقعه داروين حول المنافسة، والاصطفاف الطبيعي كان عقيما. أما كان لتفسير التطور أن يأتي بشكل أفضل عبر جينات منديل؟

استغرق الأمر منذ بداية القرن حتى طروحات داروين وأفكار منديل أواسط عقد ألف وتسعمائة وثلاثين لمحاولة إدراك إمكانية ربط الاثنين معا. وما فعلته النظريات الحديثة في تلك الفترة هو أن مبدأ منديل الجيني قد يشكل أساسا لمتغيرات التطور.

يكمن مفتاح النظرية الحديثة في التنبه إلى أن الجينات تعمل في الواقع بطرق بالغة التعقيد.

رغم عمل منديل على المزايا البسيطة كألوان أوراق الورود، وأشكال البذور، كان يدرك أن هذا المستوى من التبسيط سيزيد صعوبة عندما نحاول فهم قوانين التوارث على مستوى أوسع.

يكمن مفتاح الجواب على ذلك في نظرية منديل القائلة بأن غالبية المزايا تشمل أعدادا كبيرة من الجينات، يمكن إضافة مسألة أكثر تعقيدا من هذه وهي أن غالبية الجينات لها أكثر من تأثير واحد أي أنها متعددة الوظائف، وإذا قلنا أن لدى البشر مائة ألف من الجينات لا أحد يعرف ما هو عدد مزاياه، هنا نرى بوضوح مدى تعقيد هذه المسألة في الواقع الملموس، ومع ذلك يمكن الحصول على متغيرات تدريجية تماما كما قال داروين.

يعتقد أن مفهومنا الحالي لمسألة التوارث هو أن منديل كان محقا. ولكن الحياة في الواقع هي أكثر تعقيدا من ذلك. لم يتنبه أحد إلى الوقائع الأساسية لنظرية منديل والنصر الأكبر لأحياء الجزيئات يكمن في تحويل البنية الفكرية لمنديل حول هذه الجزيئات التي لم يكن لديه أي اهتمام بحقيقتها أو مكان وجودها لتحويلها إلى مركب كيميائي معقد اسمه دي إن إيه.

في الثلاثينات من القرن الماضي جمعت أفكار داروين ومنديل لينجم عنها ما عرف لاحقا بالنظريات الحديثة، التي تتحادث عن قوانين التوارث والتطور في آن معا. بقيت قطعة ناقصة من الأحجية تتعلق بفهم الآلية الفيزيائية التي تعمل من خلالها.

هنا دخلت الشخصية الحاسمة الثالثة لتعمل في نهاية القرن، وهو الكيميائي فيدريك ميشير.

أثناء عمله في كريات الدم البيضاء التي استخرجت من أحد المصابين في الحرب الفرنسية البروسية، أصبح أول من اكتشف ما نعرفه اليوم بالإي إن إيه. وكان أول من توقع أن تكون هذه الجزيئات الكبيرة على صلة بالطريقة التي يتواصل فيها التوارث عبر الأجيال. أدرك الجميع فيما بعد أن الدكتور ميشير كان شخصية بالغة الذكاء.

درست مادة الجينات في أول عام جامعي عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، ولم يقدموا لنا الدي إن إيه. لا شك أن الدي إن إيه كانت موجودة وقد عرفت حين ذلك على أنها مادة هيكلية تجمع الكروموسومات معا ويعتقد أن الجينات كانت من البروتين، لم يعرفها أحد. كانت الجينات مسألة غامضة تسبب الفوارق بين الأجسام بطريقة مجهولة كليا.

تسكن الدي إن إيه داخل النواة وهي ملفوفة بكثير من البروتين. ما علينا سوى شطر الخلايا وإخراج النواة واستخراج البروتين من الدي إن إيه. خذ ورقة نبات وضعها في أنبوب وعرضها للتجلد.

يمكن اعتبار الدي إن إيه من أكثر المواد الكيميائية شيوعا التي يمكن عزلها عن أي أنسجة، سواء كانت خميرة أو بزيلا أو بشرية أو أي من أشكال الحياة.

عند إضافة حامض الكربوليك لإعداد منها مستحلبا عبر مزج الكربوليك بالصاقل سيسهل نسبيا استخراجها

لأنها من الجزيئات الكسولة فهي تتحمل مختلف أشكال الضغط والغليان وما شابه من أنشطة تقتل كل البروتينات في الأنسجة. يمكن استخراجها بعد ذلك وكأنك تخرج خيطا من القطن أو النايلون لأنك بهذا في الواقع تخرج خيط نسيج الدي إن إيه.

يعتقد أن أبرز ما في الدي إن إيه هو أن هناك الكثير منها، فجسمك يحتوي مثلا على ملايين أميال الدي إن إيه، والمثير في الأمر هو أن ملايين الأميال هذه تخرج من ستة أقدام منها كانت في البيضة المخصبة التي ولدت منها. أي أن الدي إن إيه مركب كيميائي مدهش ومعقد، ولكنها في نهاية الأمر آلية لنقل المعلومات.

أصبح عزل الدي إن إيه اليوم عملية روتينية بسيطة أما فهم بنيتها وطريقة تقديم آليتها الفيزيائية في حصول التطور، شكلت أهم عملية اكتشاف فريدة عرفها علماء الأحياء في هذا العصر.

كان جيمس واطسون وفرانسيس كريك في بداية الخمسينات قد وصفوا بنية الدي إن إيه الثلاثية الأبعاد. لهذا فإن اعتبار الجينات اليوم نوع من الخيوط الوهمية يمكن اعتبارها نوعا محدد من العناصر الكيميائية. ومع نهاية الخمسينات أخذ الناس يفكرون بطريقة عمل الجينات، وأخذوا يفكرون بكيفية عمل وتوقف الجينات عن الحركة. إذا جمعنا هذه المسائل معا أي عمل وتوقف الجينات ورموز نشاطها، لدمج هذه الجينات الكلاسيكية مع نظرية داروين للتطور، سنرى من خلالها أننا أمام تفسير كامل للحياة ولا بد هنا من التصرف بنزاهة.

وقد وردت في نظرية واطسون وكريكس، عبارة شهيرة تقول أننا نأخذ بعين الاعتبار أنه قد يكون لهذه البنية أهمية ما للتوارث الطبيعي. وكانت هذه آخر سطور كتبت. إنها الحقيقة فما أن تنظر إلى تلك البنية حتى تقول أن هذه هي الصلة التي تثير الحماسة فعلا.

يمكن القول أن العجلة أكملت دورتها. يعمل الباحثون اليوم على وضع الخرائط وتصنيف الجينات البشرية الشاسعة، ولا يقل ما يبذل من جهود في هذا العمل وتفاصيله عما بذله علماء الطبيعة في القرن التاسع عشر من جهود في تصنيف مئات الآلاف من الأنواع التي يكتشفونها.

وقد شكل ربط الجينات بنظرية الاصطفاف الطبيعي واحدة من أهم إنجازات القرن العلمية.

هنا تصالحت نظريتا منديل وداروين، لتحتلا قلب الأحياء الحديثة من خلال تنامي فهمنا لآلية التوارث.

هذا ما يتوافق مع حقيقة أن الأرض أقدم بكثير مما تخيله أي شخص في عصر داروين. هذا ما يساهم في تفسير الظواهر بالنسبة لنا جميعا، ومدى تعقيد الأعضاء الحساسة التي يعتمد عليها جميعا.

عصور التطور هائلة، تبدأ بشكل بسيط من العين البدائية لتنمو وتتطور تدريجيا وتصعد خطوة بعد أخرى عبر السفوح، ما يعني أن العين تتحسن تدريجيا لتصبح أكثر تكاملا حتى بلوغ القمة.

وعند بلوغ القمة تصبح العين بالغة التعقيد إلى حد لا يمكن أن تصدق معه أنها جاءت بالصدفة. ولا شك أنها لم تأت بالصدفة، بل جاءت بعملية غير عشوائية خطوة بعد أخرى بتراكم الاصطفاف الطبيعي.

--------------------انتهت.

إعداد: د. نبيل خليل

 
 
 
 



 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster