الرافعة
تعتبر الرافعات من أهم عناصر البناء
الأساسية، فهي تنقل الأشياء من نقطة ألف إلى نقطة باء. أصبحت آلية الرافعة ضرورية
لغالبية مشاريع البناء، فهو يعلو حوالي ثمانين مترا ويحمل عشرين طن تقريبا، مع أن
هذا الوزن يعتبر خفيفا في عالم الأثقال.
يمكن لرافعة بي تي سي أن
تحمل ألف وستمائة طن، أي ما يوازي مائتين وسبعين فيلا.
أما ضعف هذا الوزن
فتحمله رافعة هرقل آسيا اثنين العائمة.
تعتبر سايبان سبعة آلاف
أكبر رافعة عائمة في العالم وهي
متخصصة في أعمال البناء البحرية، وهي قادرة على حمل أربعة عشر ألف طن، وتستهلك مائة
طن من الوقود يوميا.
ليس بالرافعات وحدها تُحمل الأثقال، فحمل
مبنى بكامله يستدعي استخدام المِكباس الهيدروليكي.
كانت هذه القوة العملاقة
قبل عشرين عاما أبعد من الخيال، إلا أن ما شهده تصميم الرافعات من تقدم جعل
المستحيل ممكنا، بما في ذلك أجرأ وأهم المصاعد المجربة.
في العاشر من آب أغسطس
من عام ألفين، غادرت الغواصة النووية الروسية كي مائة وواحد وأربعين كورسك قاعدتها
لإجراء بعض التمارين في بحر بارين. بعد يومين من ذلك وقع انفجار غامض على متن
الغواصة فغرقت في قاع البحر، ليموت طاقمها المؤلف من مائة وثمانية عشر بحارا.
وضعت بعد ذلك خطة إنقاذ
شبه مباشرة، أخذت عدة خيارات
بالاعتبار، من بينها قطع الغواصة جزءان ورفع قسم واحد منها. كما طرح اقتراح بسحب
الغواصة إلى مياه ضحلة.
تفاوضت الحكومة الروسية
طوال فصل الشتاء مع المقاولين من أمريكا
والنرويج، ولكن السياسة والمال يعيقان التقدم. حتى ثبت لبعض الوقت أن كورسك محكومة
بالبقاء في قاع البحر.
في أيار مايو من عام
ألفين وواحد تم التوصل إلى اتفاق مع المقاولين الهولنديين، فقد تطلب تعقيد المهمة
خبرة مشتركة لاثنتين من عمالقة صناعة الرافعات وهما شركتي ماموت وسميث العالمية.
يستدعي مشروع بهذا المستوى من التعقيد عددا من المراكب الفريدة من أهمها ما يعرف
بجاينت فور، وهي سفينة يبلغ طولها مائة وأربعين مترا وعرضها ستة وثلاثين مترا،
تستخدم في الظروف العادية مركبا لنقل البضائع. لكن رفع كورسك عملية غير اعتيادية
تطلبت خضوع جاينت فور بكاملها لتعديلات جذرية أصبحت السفينة بعدها تختلف كليا، إذ
تحولت إلى رافعة عملاقة هائلة.
كانت المهمة الأولى تكمن
بفتح مُتّسع لبرج مراقبة كورسك أسفل المركب.
فتحت ثغرة هائلة في جاينت فور أكبر بقليل
من البرج نفسه بحيث يدخل في أسفل المركب.
تعززت بنية جاينت بالحديد المقوى.
هدف بهذا إلى تعزيز قوة البنية في جاينت
فور، لتحمُّل ثقل الشحنة المركزة من
قبل نظام الرفع أثناء عملية الإنقاذ.
يبلغ طول الغواصة مائة وخمسة وخمسون مترا
وتزن ثمانية عشر ألف طن وترسو على عمق مائة وستة أمتار تحت سطح الماء. يكمن التحدي
الهندسي في رفع الغواصة دون أن تتحطم تحت وطأة ثقلها.
تستعمل رافعة المد في المباني المقامة على اليابسة، لتحمل
هياكل هائلة كأسقف المباني، فهي تعتمد على رزمة من الأسلاك التي تعمل هيدروليكيا،
وهي تعمل بحركة إمساك فريدة تشبه تسلق الحبال يدا بعد أخرى.
يكمن
المبدأ برفع فإمساك وفتح فنزول رفع
فإمساك وفتح وهكذا دواليك، ضمن عملية تصعد فيها الأسلاك من خلال الرافعة، لدينا ستة
وعشرين من هذه الوحدات القادرة على رفع تسعمائة طن، ما يمنح جاينت فور قدرة على رفع
ثلاثة وعشرين ألف طن.
فتحت ستة وعشرون ثغرة في سفينة جاينت فور
لتثبيت رافعة المد، في هذه الأثناء استعان الغطاسين بمضخات الضغط العالي لفتح ستة
وعشرين ثغرة مقابلة في غواصة كورسك.
كان على ثغرات الجانبين
أن تنسجم بدقة فيما بينها.
صممت
جميع جوانب هذا المشروع بدقة لإنجاز
عملية الإنقاذ المحددة هذه ليتم إتلافها فيما بعد.
لا بد من إزالة الجزء المتضرر من الغواصة
قبل رفعها ليتمكن الفريق من حملها كشحنة متماسكة. عنى ذلك ضرورة نشر الجزءان
الداخلي والخارجي من البدن. صمم سلك نشر مميز جرب على نموذج حديدي من كورسك سماكته
خمسين مليمترا.
تستدعي خطة الرفع تثبيت
جاينت فور فوق الغواصة مباشرة. عند ذلك أنزلت حلقة ترتبط بأربع أسلاك إدخالها في
الثغرات وربطها بأربع مسامير.
شُدت الأسلاك بهدف توجيه
وحدة الإمساك. أنزلت مرسات الرفع من
جاينت إلى الغواصة. عند استقامة وحدة الإمساك بانسجام استعانت بالهيدروليك كي تفتح
وتتسمر داخل الغواصة كأنها أقفال.
يفترض برافعة المد أن
ترفع الغواصة بما لكل منها من اثنين وخمسين سلكا.
ما إن ترفع حتى يتم
ربطها وسحبها أسفل جاينت فور نحو حوض
جاف في مورمانسك.
سهلت صور الكمبيوتر رؤية
جدوى ذلك، ولكن أثناء سحب جاينت فور إلى موقع الكارثة على مسافة ثلاثمائة كيلومتر
إلى الشمال الشرقي من النرويج، أدرك الجميع أن الواقع يختلف جدا. مع نهاية أيلول
سبتمبر كان الظروف المناخية في المحيط القطبي تتفاقم، كما أخذ الوقت
ينفذ.
كان الجميع يدرك ذلك لهذا توترت أعصابهم
جميعا لإنجاز المشروع قبل حلول الشتاء.
تكمن
المشكلة الأخرى في التعرض للإشعاعات.
تكمن
تحديات هذا العمل في كونها غواصة تعمل بالطاقة النووية وما زالت جميع المعدات
العسكرية في داخلها. ولا أحد يعرف إن
كان المفاعل النووية ما زال يعمل. كان هذا هو سبب قلقهم.
حلت
مشكلة التعرض للتلوث النووية باتباع إجراءات سلامة بالغة الدقة. أخضع كل شيء
للمراقبة، الغواصة والبحر المجاور وكل ما يدخل في الماء.
كانت المخاوف في مكانها،
ذلك أن كورسك غواصة فتاكة قادرة على توجيه ضربات واسعة النطاق. من الأسلحة التي على
متنها ثمانية وعشرين طوربد، واثنان وعشرون صاروخا مضادا للسفن معززا برؤوس تقليدية
أو نووية.
مع
تقدم المشروع نمى الحوار بينهم وبين الروس والأخصائيين النوويين الذين جاءوا معهم
على متن السفينة، وقد استراحوا جميعا لأن الظروف لم تكن خطيرة، لأن المفاعل النووي
قد أقفل كما يجب، والرؤوس النووية لم تكن مجهزة ولا يمكن تجهيزها بما يقام به من
أعمال.
كانت الغواصة تقبع على عمق مائة وستة أمتار
تحت الماء فاستغرق الإعداد كثيرا من الوقت والصبر. كان ثقلها مميزا على الغطاسين
الذين عملوا على فتح الثغرات وتثبيت الرافعات.
عادة ما تستغرق عمليات
الإنقاذ أسبوعين، أما مشروع كورسك فاستغرق سبعين يوما.
أما العامل الآخر فيكمن
في ضبط كل من العاملين لمشاعره.
ركزوا كل شيء على أهمية العمل الذي أدرك
الجميع بأنه مميز، كما تملك الجميع شعور بأنها مقبرة للبحارة وأن رفع ركام كورسك سيعني حمل الجثث إلى
أصحابها، هذه هي المسائل التي فكروا بها باستمرار.
في الثامن من أكتوبر من عام ألفين وواحد،
رغم إخضاع جميع المعدات المتوفرة للتجربة، لم يتأكد أحدا من نجاحها، فلم يسبق لأحد أن نجح في
رفع غواصة تزن ثمانية عشر ألف طن من قبل. عند غرق الغواصة رست في قاع البحر مباشرة
حيث علقت بين وحوله اللينة اللزجة، كأنها حذاء عالق فيما يشبه
العلكة.
لو رفعت الغواصة عموديا لأدى انفصال العلكة
عنها إلى قوة متسارعة قد تؤدي إلى تحطم رافعات جاينت أربعة مباشرة. ما دفعهم إلى
رفع المؤخرة أولا كي يسمح بالمياه في الدخول أسفل السفينة ليلعب دورا أشبه بالزيت
الملين.
كان على جاينت فور أن تبقى ثابتة مستقرة
أثناء رفع الغواصة، ما جعلهم يعززونها بمجموعة من مخففي الصدمات عبر امتصاصها
وتمكين جاينت فور من التحرك صعودا وهبوط، ضمن الحفاظ على المسافة بين الغواصة
وجاينت فور.
جلس فريق الإنقاذ اثني عشر ساعة ينتظر
ويراقب ما يحدث.
تكمن المرحلة الأخيرة من
العملية في نقل الغواصة إلى حوض جاف في مورمنسك.
قدر المهندسون أن جاينت
فور ومن تحتها الغواصة لن تتسعان في أي من الأحواض العادية. فكان الحل في رفع جاينت
فور والغواصة معها.
شيدت لهذا الغرض وحده
اثنتين من عوامات التجسير العملاقة. ثبتت العوامتين على جانبي جاينت ثم مُلئتا حتى
أغرقتا جزئيا.
كانت المهمة التالية
تكمن بضبطها أسفل جاينت، وعند تثبيتها أفرغت من المياه لتتحول إلى نوع من التوازن
الذي رفع العوامة. استغرق إنجاز عملية الرفع تحت الماء أسبوعا كاملا. وهكذا أصبح
بإمكان جاينت فور والغواصة أن يدخلوا إلى الحوض الجاف بسهولة.
بعد إدخال الغواصة تم
تثبيتها على كتل. وهكذا أصبح عمل
جاينت فور منجزا.
أعلنت دقيقة صمت بحضور
فرقة من البحرية الروسية.
أبحرت جاينت فور عائدة
إلى روتردام، حيث أعيد تجهيزها لعملها المعتاد كسفينة لنقل البضائع. أما كورسك فما
زالت التحريات الخاصة بغرقها مستمرة، على أمل أن يُحل لغزها يوما ما.
عند التحدث عن الرافعات
الهائلة تصبح الكلفة هي الأساس. عادة ما يكون بناء المعدات بعيدا عن موقع البناء
أقل كلفة، ليتم نقلها وتركيبها هناك لاحقا. هذه هي حالة مباني النشادر التي هي قيد
الإنشاء في ترينيداد.
ومع ذلك كلما كبرت
المعدات كبرت الرافعة معها.
رافعة بي تي سي التي
تلقب أيضا بالتوأم، والقادرة في أحسن
أحوالها على رفع ألف وستمائة طن، أي ما يقارب وزن ألف شاحنة نقل.
يبلغ قطر قاعدة الرافعة
واحد وعشرين مترا ونصف المتر تدعمها أربعة وعشرين مضخة هيدروليكية. تعتد الحلقة
العليا بأربع مجموعات من العربات التي لا تختلف عن عجلات القطار التي تمكن الرافعة
من الالتفاف ثلاثمائة وستون درجة.
المقصود بالتوأم
العمودين الأيمن والأيسر.
تكمن فرادتها الفعلية في
أنه لا يوجد مثيل لهذه الرافعة بمعنى الكلمة في العالم أجمع. صممت جميع أجزائها
بحيث تصبح قابلة للشحن في مستوعب للشجن، أو أن تصبح مستوعبا بحد ذاتها.
هناك طلب كبير على
الرافعات الثقيلة في جميع أرجاء العالم، ولكن المشكلة تكمن في نقلها من مكان إلى
آخر، فهي هائلة جدا.
ليس من السهل تحويل الخرائط إلى واقع قائم.
بدأ البناء قبل انتهاء بعض التفاصيل الهندسية، لهذا كان لدى ماموث الهولندية عامل
ضغط إضافي. ما كان أحد ليتأكد من أنهم سيشيدون الرافعة بنجاح، ومع ذلك وقعت الشركة
عقدا ينص على تركيب الرافعة وتشغيلها في إدمنتون كندا.
نجحت الفكرة الجنونية
وبدأ شحن الرافعة عبر الأطلسي خلال خمسة أشهر فقط وذلك في مستوعبات شحن عادية.
عند وصول الشحنة إلى
كندا وضعت المستوعبات على متن قطار يتجه إلى إدمنتون ألبرتا.
ما إن وصل البي تي سي
إلى الموقع حتى بدأت عملية جمع أجزائه وتركيبه.
تحمل المستوعبات أرقاما تسهيلا للتركيب
فالمستوعب رقم واحد يصل أولا إلى الموقع فهو يحتوي على المعدات اللازمة لإفراغ بقية
المستوعبات، ويحتوي الثاني على
المولدات، ويحتوي الثالث على مكتب صغير يعد فيه بعض القهوة، والرابع فيه جرار
ويحتوي الخامس على أولى حلقات الرافعة.
تكمن المهمة الأبرز في عملية التركيب بخلق
التوازن اللازم للقاعدة، كما أن الحفاظ عليه مسألة هامة. يعكس الكمبيوتر قراءة
مستمرة لضغط رافعات الهيدروليك الأربعة وعشرين.
إلا أن التأكد من سلامة
فحص التوازن جعل المهندسين يتوصلون إلى حل يعتمد على تكنولوجيا متواضعة تكمن في
أنبوب ماء مرئي يعكس وضع الحلقة. فالمياه تحدد مستوياتها بنفسها.
استغرقت العملية بكاملها
بدءا من التحميل في هولندا حتى بدء التشغيل في إدمونتون ثمانية وعشرين يوما. علما
أن تركيب الرافعة التقليدية يستغرق ضعف هذا الوقت.
كان الامتحان الأول
لرافعة البي تي سي في عملية بناء
مفاعل كيميائي لصالح شركة شل الكندية، حيث كان أنبوب الحفارة يزن سبعمائة طن.
قلما تنقلب الرافعات رغم
ما تحمله من أثقال هائلة. ما يبقي الرافعة على استقامتها هو الوزن المضاد.
يفترض بالوزن المحمول أن
يتوازن مع الوزن المعلق في الخلف. فكلما ثقُل الحمل ثقُل معه الوزن المضاد. كما
تتغير آلية العمل مع تحرك الرافعة، فكلما ابتعد الحمل زاد الوزن
المضاد.
بالنسبة لرافعة بي تي سي
اكتشف المهندسون طريقة لتقليص الوزن المضاد.
عادة
ما يصل الوزن المضاد في رافعة كهذه إلى ألف وخمسمائة طن، ولكن الأسلوب الذي يلقب
هنا بالرافعة الخارقة، لا يحتاج إلا لألف ومائة طن. إلا أن توجيه الوزن المضاد إلى
مؤخرة الرافعة عند اللزوم يخلق نوعا من التوازن في الآلة يوازي خمسة عشر ألف
طن.
مع انتهاء مشروع إدمنتون، جرى تفكيك البي
تي سي ونقله في القطار عبر الأراضي الكندية إلى سان جون في نبو برونسويك. بدأت
الرافعة بالعمل مباشرة بعد أسبوعين فقط من وصولها.
جميع مشاريع البناء
المتعلقة في صناعة النفط والغاز شبه عملاقة، لا تختلف عن منئآت كيو أربعة آلاف.
عادت رافعة بي تي سي للانتقال مجددا ولكن جنوبا هذه المرة نحو براونزفيل تكساس
الواقعة على خليج المكسيك.
كيو أربعة آلاف هو مركب
خدمات صمم لأعمال البناء وتركيب المنشآت وعمليات الإنقاذ والترميم في صناعات الغاز
والنفط. تم إنشاؤه من قبل شركة كال دايف الدولية بمقرها في هيوستن تكساس، لتصل
قيمته إلى مائة وخمسون مليون دولار.
تكمن مهمة بي تي سي برفع
برج المركب المتعدد الوظائف. وهو يزن ستمائة طن، ويوازي ارتفاعه مبنى بعشرين طبقة.
عادة
ما يوقفون الرافعة مع هبوب الرياح، لا يمكن
المخاطرة بهذا النوع من المعدات، عامل الريح بالغ الأهمية لأن الأعمدة تتأثر
بالريح، قد يعتقد المرء بأن الرياح تعبرها ولكن الحقيقة أنها تتعرض لضغوط هائلة، ما
يجبرهم على رفعها إلى شعاع بخمسة وأربعين مترا وهي القدرة القصوى لهذه الأعمدة،
وهذه ظروف فريدة بالنسبة لهم.
يستغرق حمل الأثقال أشهرا من التخطيط
والاهتمام بجميع التفاصيل بحيث لا يوجد مجال للخطأ. يتم التأكد من كل شيء يوم
التحميل، من حمّالات ومحركات ومضخّات
والأهم من ذلك التوازن.
يتطلب تشغيل البي تي سي
جهدا من رجلين، أحدهما في الحجرة والثاني على الأرض، ومراقبة من عيون أربع.
الخبرة
هي الأساس في هذا العمل، ومع ذلك وضع كمبيوتر في الرافعة يكشف عن جميع التفاصيل
المتعلقة به.
يمكن
رؤية وزن الشحنة على شاشة الكمبيوتر، والقدرة القصوى للرافعة وطريقة عمل المحرك ورؤية المضخات
الهيدروليكية وغيرها.
عندما يصبح كل شيء في مكانه يحين وقت البي تي سي لإثبات ذاته.
عادة ما تميل الرافعة
الهائلة إلى بعض البطؤ، إذ يمكن لعملياتها أن تستغرق عدة ساعات.
مع انتهاء الأعمال تعود
اليد البشرية إلى دورها في توجيه البرج إلى موقعه.
يعتبر الزبائن أن أشهر
التحضير تستحق العناء.
عملت
الرافعة بطريقة رائعة. حتى أنها لم تتوقف. وبالنسبة للعاملين على رافعة ماموث
والطاقم بكامله، فهو رائع أيضا بسبب التنسيق والعمل الجماعي الناجح
جدا.
تتحدد قدرة جميع الرافعات المثبتة على
اليابسة باتساعها الجسماني وما يمكن نقله عبر الطرقات. لهذا تمتاز الرافعة العائمة
بالتفوق، فالمياه تستوعب كل الأحجام.
شيد جسر ميلينيوم غيتسهيد على بعد عشرة
كيلومترات أعلى النهر. لم يكن هناك وسيلة
لإيصاله إلى موقعه إلا آلة واحدة هي رافعة هرقل آسيا اثن تزن هذه الرافعة أكثر من عشرة آلاف طن، وهي
من أقوى الرافعات العائمة في العالم أجمع، وقد شيدت في سنغافورة عام ستة وتسعين،
وقد قامت بمجموعة من عمليات حمل الأثقال لحساب شركة سميث الدولية.
تم في نيو فنلند كندا
بناء مركب تيرا نوفا للإنتاج والتخزين والنقل العائم أو ما يعرف باسم إف بي إس أو.
صمم المركب لتخزين أقل من مليون برميل من النفط الخام، ما يجعله من السفن الهائلة.
كان وزن تيرانوفا في كندا ثقيل جدا كما أن
لها أبعاد كبيرة إلى جانب الوزن، لهذا كان عليهم استعمال قدرات هرقل بكاملها لتركيب
الوحدات على متن تيررانوفا.
تزن
الوحدات حوالي ألفي طن. ولكن رافعة هرقل آسيا لم تواجه أي عوائق لما لديها من قدرة
على حمل ثلاثة آلاف ومائتي طن.
تكمن
أهمية الرافعة في أنها تنسق بين قدرتها والمياه الضحلة المحدودة جدا، فهي تستطيع
الملاحة في أنهر لا يزيد عمقها عن ستة أمتار، هذا ما يمنحها تفوقا فريدا إلى جانب
وزنها الثقيل.
يعتقد المرء أن هناك احتمال بغرق السفينة
تحت وطأة هذه الأثقال.
يمكن أن تتخيل أن يكون لديهم حمل على
الرافعة يصل إلى ما يقارب ألفان وأربعمائة طن، يمكن للمركب أن ينخفض من الأمام،
لهذا يوضع في مؤخرة المركب كمية من المياه
حتى يميل إلى الخلف لتخرج المقدمة مجددا. إذا فعلوا ذلك في نفس الوقت بين
حمل وتوازن يمكن الحفاظ على توازن المركب.
يمكن لهرقل آسيا أن تتحرك بسرعة سبعة عقد
ونصف، وهي تعتمد على أربع دوافع بقوة ثمانمائة كيلوات.
يستعان
بالطاقة الكهربائية على خلاف السفن التي تستعمل الديزل في دفعها. لديهم ثلاثة
مولدات كهربائية تغذي النظام الأساسي لتوجيه الطاقة إلى الدوافع. يتم تبريد المحرك الكهرباء
بالهواء كما يبرد الهواء بمياه البحر المالحة. حيث تتولى الطاقة الكهربائية تحريك
الدوافع عبر لأسطوانة والموزع الذي يلتف بزاوية ثلاثمائة وستون درجة. لديهم محول في
كل من زوايا السفينة الأربع. لا ينفصل التوجيه عن الدوافع التي يمكن حرفها معا في
أي اتجاه. أي أن قدرة المركب على
المناورة ممتازة.
يمكن
توجيه القوة بكاملها نحو الوجهة التي تختار. إذا اتجهوا إلى الأمام لديهم أربعة
آلاف حصان تتجه إلى الأمام وهذا ينطبق على التوجه خلفا أو إلى أي من الجانبين.
تعتبر الدقة في المناورة عملا هاما أثناء
عمليات الرفع. يمكن تعزيز هذه الدقة بالتنسيق بين الإطار الرئيسي للرافعة وجناحها
المعلق، مع أن هذا يخفض قدرتها إلى النصف إلا أنه يزيد ارتفاعه من تسعين إلى مائة
وعشرين مترا، والأهم من ذلك تمكنها من تحقيق دقة أكبر.
تعمل أقسام هرقل آسيا باستقلالية ما يمكن
تصويبها في أبعاد ثلاث بما يساهم في التعديل أو التغير أو ما شابه، كما فعلوا أثناء
تركيب جسر ميلينيوم غيتسهيد في نيوكاسل.
شيد جسر غيتسهيد ليشكل جزءا من الاحتفالات
بالألفية البريطانية، إلا أن بناء جسر على بعد عشرة كيلومترات من موقعه النهائي قد
يبدو خيارا غريبا.
لم يكن هذا هو الهدف من المشروع عند
بدايته، كانوا سيبنون القوس الرئيسي
لنقله بعدها وتعليق الجسر منه على شكل جزء عائم. ولكن أثناء تنفيذ العقد
توفرت مساحة هائلة في الميناء عند
منطقة وارد إند على مسافة ستة أميال نزولا. كانت المساحة تكفي لبناء الجسر بكامله
هناك. اعتبر المهندسون ذلك أفضل من حيث الجودة وسهولة العمل والطلاء وغيرها من
الأعمال. ولكن تبقى مشكلة نقله ستة أميال عبر النهر. فلا يمكن نقله بالشاحنة. لهذا
كان عليهم العثور على رافعة عائمة على أن تكون هائلة تكفي لحمل شيء كهذا عبر النهر.
وجدت هذه الخدمة لدى هرقل آسيا القادرة على رفع ثلاثة أطنان ونصف الطن. والجسر لا
يزيد عن ثمانمائة وخمسين طن أي أنه لا يشكل أزمة من حيث
الوزن.
خصص الجسر لعبور المارة والدراجات، ولكنه
لم يكن جسرا عاديا، إذا كان يفترض به أن يفي بمجموعة من الشروط والمواصفات. أولها
أن يفتح الممر النهري ليمكن السفن من الحركة من تحته، وأن يكون منسجما من الناحية
الجمالية مع الجسور المحيطة دون أن
تفسد مشهد النهر. والأهم من هذا ضرورة تسليمه في الوقت المحدد، بإضافة إلى ضمان
الجودة من الناحية
الهندسية.
نجح مكتب غيفورد وشركائه
الهندسي الذي يقف وراء المشروع في تنفيذ الشروط المعلنة. فجاء المبدأ رائعا في بساطته.
هناك طريقتين لرؤية الفكرة إحداهما رمش
العين، الذي يتم صعودا وهبوطا، أو خوذة الدراجة النارية، التي لا تعتمد إلا على
مفصلين يوضع كل منها على جانب من النهر.
كان لا بد أولا من بناء الجسر ليتم بعد ذلك
تثبيته في موقعه.
شيدت ستة جسور فوق نهر
التاين لتجمع غيتسهيد في الجنوب مع
نيوكاسل في الشمال. افتتح جسر تاين عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين، وقد اعتمد
التصميم على ملامح جسر ميناء سيدني. ولكن سرعان وجدت أشهر ملامح الجسر منافسا لها.
بعد عدة أسابيع من
التأخير بانتظار شروط رياح ملائمة، أصبح جسر غيتسهيد ميلينيوم جاهزا للرفع. أقيم
جناح داعم للبنية للتأكد من عدم انهيار الأقواس على بعضها.
عندما
تعتمد الرافعة على عمودين عادة ما تميل إلى التحرك معها ما يدعو إلى إبقائها متباعدة لتكون رافعة
الجسر هي الأنسب بما لا يخضع طرفيه إلى أي نوع من الضغوط.
أصبح كل شيء جاهزا لعملية رفع الثمانمائة
وخمسين طنا. اعتبر المهندسون وسكان غيتسهيد أنها واحدة من عدة لحظات حاسمة.
بما أن اتساع الجسر مائة
وستة وعشرين مترا، كان من الضروري أن يلف تسعين درجة ليمكن من تسهيل الملاحة.
استدعت هذه التفاصيل استعانة رافعة هرقل آسيا بجناحها المحلق لدقة التحكم، ما يعني
أبعاد العمل الفعلية للمركب وصلت إلى مائتي متر.
جرى تخطي العقبة
الأولى، لتبدأ غدا رحلة العودة
الطويلة.
السابعة والثلث من صباح
تشريني بارد، قبل ساعتين فقط من موعد المد.
انطلقت رافعة هرقل مبحرة
عبر النهر.
عادة ما تتم الأحمال
الثقيلة في موانئ السفن، ومصاف النفط والمناطق النائية، أما هذه العملية فتتم أمام
أعين المارة.
كان مشهد مدهش توشك فيه الشمس على الشروق
في صباح يخلو من الغيوم. كانت قمة
الرافعة أعلى من المباني تتحرك بشكل خيالي عبر المباني أثناء القيادة على الطريق.
كانت شمس الصباح تلمع فيها تدريجيا. سمع الناس بما يفترض أن يستغرق ساعتين لجلب
الجسر. تبعوا الرافعة بالسيارة على ضفة النهر للتوقف بين الحين والآخر وللتفرج
وأملوا تجنب الكارثة. مع وصولهم إلى هذه المنطقة المجاورة احتشد الناس لمشاهدة
الحدث.
استغرقت الرافعة أقل من ساعتين لبلوغ
الهدف. التف الجسر تسعين درجة، وأنزل إلى موقعه، لتحل بذلك لحظة الحسم الثانية.
تخيلوا
بأن الرافعة ستضع الجسر على مسافة خمسمائة مليمترا، ليعتمدوا بعدها على أسلاك
الحمالة التي على الرافعة نفسها، لتقريب المسافة إلى مائة مليمترا، ويستعينوا أخيرا
بالمضخات اليدوية للتغلب على المليمترات المائة. لكن الرافعة حطت على مسافة خمسين
مليمتر فقط. وبعد أن شده بالأسلاك الخاصة أوقعه في مكانه كان عامل الرافعة رائعا،
بل فريدا.
لم
تدخل الحلقات في الأزاميل، يعتقد
أنها لم تنسجم بالحجم ما دفعهم إلى القيام ببعض الأعمال الآلية أثناء انتظار
الرافعة. كانت لحظة عابرة لم تكن لحظات مخيفة جدا، بل جرى كل شيء على ما يرام.
ثم
جاءت لحظة الحسم النهائية تطرح سؤالا حول عمل الجسر وفق الخطة. هل سيتمكن الجسر من
رفع نفسه؟
لم
يدركوا بداية أنه سيعمل بعد تركيبه. كان عليهم إتمام العمل المتعلق بالمضخات
الهيدروليكية واللوازم الكهربائية والمعدات الضرورية جميعها. ولم يدركوا حتى تلك
اللحظة أنه سيعمل حسب الخطة ما جعله يوما مخيفا. لأنها لحظات يجتمع كل شيء فيها
معا.
يعتقد
أن ارتياحا ساد عند رفع الجسر لأول مرة. جميل أن ترى الجسر في مكانه وبحجمه الهائل.
عندما رفع الجسر لأول مرة وشوهد عاليا في الجو، ساد ارتياح لتحقيق تمنياتهم
بالنجاح.
يستغرق
انفتاح الجسر أربع دقائق كاملة. يعتمد فتحه بثبات على ثلاث مضخات هيدروليكية ثبتت
على كل من ضفتي النهر.
لا بد للمضخات أن تدفع
بوتيرة سرعة واحدة، لأن أي تباين قد يسبب التواء في بنية الجسر.
ينتقل ثقل الجسر في مرحلة ما من الحركة إلى
الجزء الأعلى منه لهذا تتوقف المضخات عن الدفع لتبدأ بالإمساك. يفترض أن يتم على
جانبي النهر طبعا وفي الوقت نفسه، وإلا ستصيبه حالة من الارتجاج. ولا يمكن السماح
لبنية كهذه أن تشهد أي نوع من الارتجاج لأن ذلك سيؤدي إلى تحطمها. لهذا لا بد من
الاعتماد على آلية ناعمة وهذا ما حدث فعلا فهي تعمل على ما يرام.
يشكل الجسر الجديد جزءا بسيطا من التطور في
غيتسهيد، فهي تعد في المستقبل لتجهيز قاعة فنون دولية، ومركز للموسيقى، بمطاعم
جديدة ونوادي وقاعات سينما، وكأن المدينة تأمل وتعد نفسها لاستقبال السياح من جميع
أرجاء العالم.
أما بالنسبة لمستقبل
الرافعات الثقيلة فيبدو أن لا حدود لإمكاناتها. فهناك خطط لبناء رافعة أرضية قادرة
على حمل خمسة آلاف طن. فما أن تظهر الحاجة لبناء رافعة بهذا الحجم، ويظهر من يغطي
كلفتها، حتى يبدأ العمل مباشرة.
--------------------انتهت.
إعداد: د. نبيل خليل |